المطاردة
مسرحية من فصل واحد
١
(المسرح خالٍ تمامًا. يدخلُ شابَّان في ميعة
الصبا. يرتدي أولهما قميصًا أبيض وبنطلونًا رماديًّا قصيرًا،
وحذاءً من المطاط، ويرتدي الآخر قميصًا أحمر، وبنطلونًا أزرق
وحذاءً من المطاط. سنُطلق على الأول «الأبيض» نسبةً إلى قميصه
والآخر «الأحمر» نسبة إلى قميصه أيضًا، ينظران فيما حولهما
باستطلاعٍ واهتمام.)
الأبيض
:
مكان مناسب وبه كل ما نحتاج إليه.
الأحمر
:
إنه مكان على أي حال ونحن في حاجةٍ إلى مكان.
الأبيض
(كمن يتذكَّر)
:
يخيَّل إليَّ أننا لعبنا فيه من قبل.
الأحمر
(هازئًا)
:
دائمًا تقول ذلك.
الأبيض
:
أو لعله قريبُ الشبه منه.
الأحمر
:
المهم أنه مكانٌ صالحٌ للعب.
الأبيض
:
هذا هو المهم حقًّا.
الأحمر
:
وهو بعيدٌ فلن يَهتديَ إليه.
الأبيض
:
أرجو ذلك.
الأحمر
:
لعله يجد ما يشغله عنَّا.
الأبيض
:
لعله.
الأحمر
:
كأنه لا هَمَّ له إلا التَّطفُّل علينا.
الأبيض
:
لو نُوفَّق إلى تجاهله!
الأحمر
:
كيف وهو لا يتركنا لحالنا؟
الأبيض
:
فلنلعب.
الأحمر
:
فلنلعب.
الأبيض
:
لنلعَب لعبة الأحلام.
الأحمر
:
إنها مضجرةٌ وخيرٌ منها المُلاكمة.
الأبيض
:
المُلاكمة رِيَاضةٌ عنيفةٌ فلنَجْرِ في الهواء
الطلق.
الأحمر
(ساخرًا)
:
أنت جبان.
الأبيض
(باسمًا)
:
أنت حيوان.
(يتوثَّبان لبعضِهما في تحدٍّ – يتراجعان
وهما يُرهفان السمع في قلق.)
الأبيض
:
ماذا هناك؟
(الأحمر يُشير إليه بالسكوت ويُرهف
السمع.)
الأبيض
:
سمعت شيئًا؟
الأحمر
:
وَقْع أقدام!
الأبيض
:
حقًّا؟!
الأحمر
:
اسمع ولا تتكلَّم.
الأبيض
(مرهفًا السمع، وَقْع الأقدام
يتضح)
:
وَقْع أقدام حقًّا.
الأحمر
:
هو؟
الأبيض
:
أو أيُّ ذي قدمَيْن.
الأحمر
:
لا تتظاهر بعدم الاهتمام.
الأبيض
:
أنا لا أُحْسِن التظاهرَ ولا أحبه.
الأحمر
:
ألا يُزعِجُك حقًّا؟
الأبيض
:
بلى، ولو لدرجةٍ ما.
(تقترب الأقدام. يدخل رجلٌ متينُ البنيانِ، قويٌّ بصورةٍ
واضحة، يرتدي قميصًا أسود وبنطلونًا أسود وبيده سوط. رغم
قوته وشباب ملامحه، فإنه لا توجد شعرةٌ سوداء واحدةٌ في
رأسه الأبيض.
تنحَّى الشابَّان جانبًا وهما ينظران إليه في حذرٍ.
أمَّا هو فوقفَ مُنْتصِبَ القامَة ناظرًا فيما أمامه نظرة
مُجَرَّدة بعيدة المرمى، وهو يُحرِّك قدمَيْه (مَحَلَّك
سِرْ) طيلة الوقت.)
الأحمر
:
أرأيت؟
الأبيض
:
نعم.
الأحمر
:
نذهب إلى مكانٍ آخر؟
الأبيض
:
فَلْنلعب إن تكن لك رغبةٌ في اللعب حقًّا.
الأحمر
:
تحت عينَيه؟
الأبيض
:
ولِمَ لا؟
الأحمر
(مُلاحظًا الرجل)
:
إنه لا يكفُّ عن الحركة رغم أنه لا يبرح مكانه.
الأبيض
:
المهم ألَّا يتدخَّل في شئوننا.
الأحمر
:
ولكنه يتبعنا أينما سرنا.
الأبيض
:
لا يعد ذلك تدخُّلًا في شئوننا.
(صمت.)
الأبيض
:
فَلْنلعب «وَطِّي البصلة».
الأحمر
(يهز مَنْكِبَيْه استهانة)
:
فَلْيكن، «وطِّي».
الأبيض
:
وطِّي أنت أولًا.
الأحمر
:
بل أنت الأول.
الأبيض
:
لا تكن أنانيًّا.
الأحمر
:
لا هَمَّ لك إلا المُعَارضة.
الأبيض
:
وأنتَ تتصرَّف كأن لا وجود لأحدٍ معك.
الأحمر
:
لاعبني «برادي فير» والمغلوب يوطِّي.
(الأحمر ينطَرِحُ على بطنه، ويركز ذراعه
على كوعه، ناظرًا إلى الأبيض في تحدٍّ فيضطر هذا إلى أن يفعل
مثله، يتصارعان، الأحمر يُميل ذراع الأبيض حتى يلصقها
بالأرض.)
الأحمر
:
(صائحًا بفرح) غلبت …
لم يوجد بعدُ الذي يستطيع أن يغلبني (تلوح منه نظرةٌ نحو الرَّجل القوي
المُتحرِّك، فيبوخ حماسه نوعًا) لم يوجد بعد
… (الأبيض ينهض مُستسلمًا،
يوطِّي واضعًا يدَيه على ركبتَيه. الأحمر يتراجع
مسافة، ثم يجري نحو الآخر، ويَثِب من فوقه، مُعتمدًا
بيدَيه على ظهره المُنحني، ثم يوطِّي بدوره فيَثِب
الأبيض من فوقه، هكذا تستمر اللعبة حتى يتعثَّر الأبيض
وهو يثب فيرتطم بالآخر ويقعان معًا، ويغرقان في الضحك.
يقفان وهما يضحكان، ويكفُّ الأبيض عن الضحك ويواصله
الأحمر. الأبيض يشير إلى صاحبه بالسكون وهو يُرهف
السمع، ثم يتراجع به بعيدًا عن
الرجل.)
الأبيض
:
يُخيَّل إليَّ أنَّه طالبنا بالكفِّ عن اللعب.
الأحمر
:
لم أسمع شيئًا.
الأبيض
:
ولكني سمعته.
الأحمر
:
سمعي أقوى من سمعك.
الأبيض
:
ولكنك كنت تضحك.
الأحمر
(غاضبًا)
:
أرى أن نُوقِفه عند حدِّه …
الأبيض
:
يَحْسُن بنا أن نتجاهله …
الأحمر
:
بأي حقٍّ يتدخَّل في حُرِّيَّتنا؟
(صمت.)
الأحمر
:
وكلما سكتنا زاد في غيِّه.
الأبيض
:
تذكَّر أنه كان صديقًا لوالدنا!
الأحمر
:
لا نستطيع أن نَحكُم، كنَّا وقتها صغارًا.
الأبيض
:
ولكنه لم يكفَّ عن زيارته حتى آخر يومٍ في حياته.
الأحمر
:
لعله كان يتدخَّل في شئونه، كما يُريد أن يفعل
معنا.
الأبيض
:
لا يبدو أنه شرير.
الأحمر
:
ولكن غير بعيد أن يكون به لطف!
الأبيض
:
لعل مُتابعته لنا حيثما نذهب نوعٌ من الرعاية، بحكم صلته
القديمة بوالدنا.
الأحمر
:
أنت عبيط، ولعله كان ضمن الأشياء التي نغَّصت صفو أبينا
في أواخر أيامه.
الأبيض
:
ولكن والدنا لم يذكره بسوء.
الأحمر
:
كنَّا صغارًا لا نفقه لما يُقال معنًى.
الأبيض
:
لم يكن لوالدنا أعداء.
الأحمر
:
من أدرانا بحقائق ذلك الزمن؟
(صمت.)
الأحمر
:
لماذا يُطاردنا؟
الأبيض
:
إن صَحَّ أنه يُطاردنا حقًّا فلماذا يُطاردنا؟
الأحمر
:
انظر إلى حركته المُستمرة، إنه مجنون.
الأبيض
:
لا تتسرَّع في الحُكم.
الأحمر
:
هل يقبل عاقلٌ أنْ يقف كما يقف ويُحرِّك ساقَيه كما
يُحرِّكهما؟
الأبيض
:
بعض الناس لا يطيقون السكون.
الأحمر
:
ترى ما مهنته؟
الأبيض
:
إنه قوي، خالي البال، فلَعلَّه من الأعيان.
الأحمر
:
دعنا نُنَاقشه جهارًا.
الأبيض
:
كلا، مظهره لا يُشجِّع على المناقشة.
الأحمر
:
دَعْني أسأله بضعة أسئلة.
الأبيض
:
مثل ماذا؟
الأحمر
:
لماذا يُطاردنا؟
الأبيض
:
لن يعترف بذلك، ولا دليل عليه.
الأحمر
:
ألم تسمعه وهو يُطالبنا بالكفِّ عن اللعب؟
الأبيض
:
حتى ذلك غير مؤكد.
(صمت.)
الأبيض
:
خير ما نفعل أن نتجاهله.
الأحمر
:
لا أستطيع.
الأبيض
:
لولا عصبيتك …
الأحمر
(مُقاطعًا)
:
دائمًا ترميني بعجزك.
الأبيض
:
لا حدَّ لمُكابَرتك.
الأحمر
:
أحيانًا أودُّ أن أدقَّ عنقك.
الأبيض
:
سأضيق بك يومًا فأهجرك.
(يتواجهان في غضبٍ. الرَّجُل يضرب الهواء
بسوطه فيُحْدِث طَرْقعةً شديدةً … يدبُّ الخوف في قلبَيْهما.
ينسيان خلافهما الطارئ. يُغادران المكان. الرجل يقف وَقْفته
وهو يُحرِّك ساقَيْه (محلَّك سِرْ) … المكان يُظلم.)
٢
(يُضاء المَسْرح. نفس المسرح الخالي. يقف
الأحمر والأبيض مُتواجهَين. لقد تغيَّرا تغيُّرًا ملحوظًا. ارتدى
كلٌّ منهما جاكتة من لون القميص وحذاءً جلديًّا، وأصبح لكلٍّ شاربٌ
صغير يتبادلان النظر في ارتياح.)
الأحمر
:
هيهات أن يتعرَّف علينا الآن.
الأبيض
:
تغيَّرنا لدرجةٍ لا بأس بها.
الأحمر
:
ولكنها كافية لتضليله.
الأبيض
:
هذا هو المأمول.
الأحمر
:
لا تبدو واثقًا ولا مُطمئِنًّا.
الأبيض
:
يُخيَّل إليَّ أحيانًا أنَّ التغيُّر سطحيٌّ!
الأحمر
:
أنت مُولعٌ دائمًا بالتهوين من مهارتي.
الأبيض
:
أبدًا، استعدادي طيب للاعتراف بمواهبك.
الأحمر
:
إذن فلماذا تبدو مرتابًا؟
الأبيض
:
أخشى ألَّا يخدعه مظهرنا الجديد.
الأحمر
:
لن يصل إلى حقيقتنا الكامنة وراء الشارب والجاكتة
والحذاء.
الأبيض
:
عظيم، هذا هو المأمول.
الأحمر
:
نحن الآن موظَّفان من قُوَّة الدولة!
الأبيض
:
هذا صحيح و…
(يصمت فجأةً متنصتًا. الآخر يتنصَّت
أيضًا.)
الأبيض
:
وَقْع أقدام …
الأحمر
:
لا أظن.
الأبيض
:
إنه قادم.
الأحمر
:
لعله عابر سبيلٍ مجهول.
الأبيض
:
بتُّ أعرف إيقاع قدمَيه.
الأحمر
:
لا تَدَّعِ امتلاك الحكمة كلها.
(يُصبح وَقْع الأقدام مسموعًا. يدخل الرجل
بنفس الصورة التي ظهر بها أوَّل مرة، ولكنَّه لا يقف إنما يمضي
ذَهابًا وجيئة في بطءٍ ملحوظ بعرض المسرح وفي عمقه. الشابَّان
ينظران نحوه بذهول. ينتحيان جانبًا بعيدًا عن مسمَعه.)
الأبيض
:
أرأيت؟
الأحمر
:
مهلًا .. أرجِّح أنه لم يتعرَّف علينا.
الأبيض
:
أتؤمن بذلك حقًّا؟!
الأحمر
:
لعل الذي يجمعنا هو الطريق والمُصادَفة ولا شيء
سواهما.
الأبيض
:
لا بأس من أن نُسلِّم بذلك …
الأحمر
:
فَلْنتجاهَلْه، ولنُمَارس عملنا في هدوءٍ وسكينة.
(يرجعان إلى وسط المسرح، يتظاهران
بالانهماك.)
الأحمر
(بنبرة عظمة)
:
حرَّرتَ استمارات الصرف؟
الأبيض
:
لم تبقَ إلا واحدة.
الأحمر
:
أسْرِع من فضلك لتتمَّ مُراجعتها اليوم.
الأبيض
:
على أيِّ حالٍ فالخزانة لا تُغلَق قبل منتصف
النهار.
الأحمر
:
لا يجوز تأجيل عمل اليوم إلى غدٍ.
الأبيض
:
ألَا ترى أنَّه يجبُ مُراجعة ميزانية المصروفات؟
الأحمر
:
أعلم أنَّها تسمح بالصرف حتى نهاية العام المالي.
الأبيض
:
إذن يحسن أن أكتب المذكرة.
(صمت.)
الأحمر
:
هل لك علاوة هذا العام؟
الأبيض
:
كلا وأنت؟
الأحمر
:
أستحقُّ علاوة هذا العام.
الأبيض
:
مبارك.
الأحمر
:
ستغرق في خضمِّ أعباء المعيشة.
(الأبيض يتنصَّت فجأةً وهو يمُدُّ أذنه نحو
الرَّجُل المُتحرِّك، ثم يَأْخُذ الآخر من يده بعيدًا عن
مَسْمعه.)
الأبيض
:
أسمعت؟
الأحمر
:
كلا.
الأبيض
:
عاد يُطالبنا بالكفِّ عن اللعب.
الأحمر
:
متأكِّد؟!
الأبيض
:
بلا أدنى شك.
الأحمر
:
اللعنة.
الأبيض
:
من السهل خداعه.
الأحمر
:
ماذا يُريد منا؟
الأبيض
:
الله أعلم.
الأحمر
:
واضح أننا لا نلعب.
الأبيض
:
واضحٌ جدًّا.
الأحمر
:
أيظنُّ أنَّه وليُّ أمرنا؟
(الأحمر يَغْضب. يأخذ الأبيض من يدِه
ويذهبان إلى وسط المسرح. الأحمر ينظر نحو الرَّجُل المتحرِّك
مُتحدِّيًا.)
الأحمر
:
هل تُخاطبنا يا حضرة؟
(الرجل يواصل حركته صامتًا.)
الأحمر
:
يجب أن تتكلَّم …
(الرجل يواصل حركته صامتًا.)
الأحمر
:
نحن موظَّفان محترمان، ولا نقبل إلَّا المعاملة اللائقة
بكرامة الدولة.
(الرجل يواصل حركته صامتًا.)
الأبيض
:
هل لك حاجةٌ في المصلحة؟
الأحمر
:
عليه أولًا أن يُجيب …
الأبيض
:
هل لك طلب؟ … شكوى؟ … أموالٌ مُتأخرة؟
(الرجل يواصل حركته صامتًا.)
الأحمر
:
كيف دخلت الإدارة؟ … أمعك بطاقةٌ شخصيَّة؟
الأبيض
:
نحن في خدمة الجمهور …
الأحمر
(ثائرًا)
:
كُفَّ عن حركتك اللعينة فقد أدرت رءوسنا!
الأبيض
:
وتذكَّر أن الخزانة تُغلق في تمام الثانية عشرة.
الأحمر
:
لو رآك المديرُ وهو ذاهبٌ إلى دورة المياه فلن تحمد
العواقب.
الأبيض
:
ما زلتُ أقولُ إننا في خدمة الجمهور.
الأحمر
:
يا ويلك من رجال أمن الوزارة لو رَأَوْك!
الأبيض
:
ماذا جاء بك يا سيدي؟
الأحمر
:
طبعًا عندك فكرةٌ عن العقوبة التي ينالها من يعتدي على
موظفٍ في أثناء قيامه بأعمال وظيفته؟
الأبيض
:
هل تُضَايقك بعض الشكليات السخيفة؟
الأحمر
:
أنت أدرَى بما يُضايقك، ومن حقِّك أن تَشكُو، ولكن لكل
إجراءٍ نُظُمه المُتَّبعة الواجبة الاحترام.
الأبيض
:
وحتى إذا احتاج الأمر إلى رِعايةٍ خاصَّةٍ أو وساطةٍ لها
وزنها؛ فستجد عندنا ما يُحقِّق رغباتِك المشروعة.
الأحمر
:
عليك أولًا أن تكفَّ عن الحركة، وأن تتفاهم كما يجدر
بالناس الطيبين.
(الرجل يواصل حركته، وفجأةً يضرب الهواء
بسوطه فيُحدِثُ فرقعةً شديدة … يتراجع الشَّابَّان في
خوف.)
الأحمر
(بلهوجة)
:
أذن موعد الانصراف.
الأبيض
:
هيا بنا إلى معركة المواصلات.
(يُغادران المكان بِسُرعة، وفي خوفٍ لم
يُفلحا في إخفائه. يستمر الرَّجُل في حركته. يظلم
المسرح.)
٣
(يُضَاء المسرح. الأحمر والأبيض متواجهان بنفس
الحال التي رأَيْناهما عليها، عدا الشارب الذي امتدَّ ونما فأضفى
عليهما مظهرَ رجولةٍ لم تُجاوِز حدود الشباب.)
الأحمر
:
أليست فكرة بارعة؟
الأبيض
:
وطبيعية، وتهيئ لنا استقرارًا.
الأحمر
:
الزَّواج هناء، ومُصَاهرة تُقوِّي مركزنا وسواعدنا، وفي
إطار الصورة الجديدة لن يتعرَّف علينا.
الأبيض
:
هو خيرٌ من العزوبة على أي حال.
الأحمر
(في عصبية)
:
لا أراك مُتحمِّسًا.
الأبيض
:
بل إنِّي مُرحِّبٌ جدًّا بالفكرة.
الأحمر
:
لا أرى أثرًا للحماس في وجهك.
الأبيض
:
الزَّواج فكرةٌ طيبة، ولكن هل يُغيِّرُنا للدرجة التي
تُضلِّلُه عنا؟
الأحمر
:
أعتقد ذلك.
الأبيض
:
فلنُجرِّب والله معنا.
الأحمر
:
أظنُّ يكفينا زوجة واحدة؟
الأبيض
:
فكرة مُبتكرة.
الأحمر
:
واقتصادية، ولكنِّي أخشى قيام نزاعٍ يُهدِّد كلَّ
شيء.
الأبيض
(باسمًا)
:
طالما واجهنا الحياة كشخصٍ واحد.
الأحمر
:
كثيرًا ما نختلف ونتخاصم.
الأبيض
:
ولكنَّ شيئًا لم يستطع أن يقضيَ على الرَّابطة التي
تجمعنا.
(صمت.)
الأحمر
:
وقع اختياري على زوجةٍ مُمْتازة، ولكن هل تتفق
أذواقنا؟
الأبيض
:
بيننا تقاربٌ لا شك فيه، ولا تنسَ تسامحي.
(صمت.)
الأحمر
:
إني أحب اللون الخمري.
الأبيض
:
اللون الأبيض لا يُعلى عليه.
الأحمر
:
بدأ الخلاف.
الأبيض
(بسُرعة)
:
ومع ذلك فجميع الألوان واحدة.
الأحمر
:
وأُحب العود الممتلئ.
الأبيض
:
نحن في عصر الرَّشاقة.
الأحمر
:
لا أتصور ذلك أبدًا.
الأبيض
:
ليكن … ليكن … بشرط ألَّا يزيد وزنها بعد
المُعاشرة.
الأحمر
:
بل لا بأس من أن يزيد، وأن تمتلئ المواقع التي يُريد
الله لها أن تمتلئ.
الأبيض
(متنهدًا)
:
لتكُنْ إرادة الله.
الأحمر
:
ورأيتُ من الحكمة أن تكون ذاتَ مال، ولو في الحدود
المعقولة.
الأبيض
:
يا له من تفكيرٍ تجاري!
الأحمر
:
أنت جاهلٌ بالدَّوْر الذي يلعبه المالُ في
الحضارة!
الأبيض
:
ليكن ما تريد، لا تغضب.
الأحمر
:
ولا أقبل بحالٍ أن تكون كاملة التعليم، حسبها التعليم
الابتدائي؛ فالعلم زينةٌ غير مقبولةٍ للمرأة، وهو
يُغْرِيها دائمًا بالعمل الذي يُحوِّلها في النهاية إلى
رجل.
الأبيض
:
رأيُك هذا كان رأيًا عصريًّا في العصر الحجري.
الأحمر
:
أنا لا يُخيفني التعيير بالعصور القديمة.
الأبيض
:
ما دُمنا نرغبُ في أن نكون ثلاثةً فأكثر، وما دام ذلك في
صالحنا، وضمانًا لأمننا المُهدد، فلا يعني إلا
القبول.
الأحمر
:
وطالبتُ بأن تكون لعوبًا في نطاق الشرع!
الأبيض
:
المرأة اللعوب لا يسعها إلا أن تكون لعوبًا سواء في نطاق
الشرع أو خارجه.
الأحمر
:
بل في نطاق الشرع وحده وسوف ترى.
الأبيض
:
فلنجرِّب على أيِّ حال.
(صمت.)
الأحمر
:
هل لك مواصفات أخرى؟
الأبيض
:
مواصفات هامشية، ولكنها لا تخلو من فائدة، مثل البراعة
في الحديث.
الأحمر
:
لا أهمية لذلك، أنا أعرف زوجًا سعيدًا، ترجع سعادته
أولًا إلى كون زوجته خرساء.
الأبيض
:
ويا حبذا لو كانت تُجيد الغناء!
الأحمر
:
لا أهمية لذلك أيضًا؛ فلدينا الكفاية في الإذاعة
والتلفزيون.
(صمت.)
الأحمر
:
هل من مواصفاتٍ أخرى؟
الأبيض
:
كلا.
الأحمر
:
أعتبر اتفاقنا كاملًا؟
الأبيض
:
كاملًا.
(الأحمر ينظرُ إلى الجانب الأيمن من المسرح
ويزغرد. تُسمع مُوسيقى زفة العروس.)
(تدخل العروس وهي تسير بين شيخٍ وشرطيٍّ.
يقفون أمام الشابَّين ثُمَّ يستدير الرَّجُلان ويَذْهبان.
تُتبادل النَّظرات بين العروس وبين الشَّابَّين.)
الأحمر
:
أهلًا بكِ يا عروس.
العروس
(في حياء)
:
أهلًا بك.
الأبيض
:
فلتحل بحلولك النعمة والهناء.
العروس
:
آمين.
(يُقبِّلانها في وقتٍ واحد، كلٌّ في
خد.)
العروس
(بحيرة)
:
توقَّعت قبلة واحدة.
الأبيض
:
سيتكرَّر ذلك كثيرًا.
الأحمر
:
وعلى كل موقع مُختار!
(ذهول من العروس وضحك من
الشَّابَّين.)
الزَّوجة
(في حيرة أكثر)
:
إني أتزوج لأوَّل مرة فمَعْذرة.
الأحمر والأبيض معًا
:
ونحن كذلك!
الزوجة
:
نحن؟!
الأبيض
:
نعم.
الأحمر
:
لسنا من أنصار تعدُّد الزوجات.
العروس
:
ولكن …
الأحمر
:
أنتِ الزَّوجة ونحن الزوج.
العروس
:
معًا؟
الأحمر
:
نعم.
العروس
:
ولكنكما اثنان.
الأبيض
:
اعتبرينا شخصًا واحدًا.
العروس
:
لا أفهم شيئًا.
الأحمر
:
ثمة أمور لا تُفهم إلا بعد مُمَارسة الحياة الزَّوجية
بالفعل.
العروس
:
لم يكن ذلك ضمن المعلومات التي زوَّدتني بها
أُمِّي.
الأحمر
:
طيبة منها ولا شك.
العروس
:
وكيف تستقيم المعيشة معكما معًا؟
الأحمر
:
ستعلمين ذلك في حينه.
العروس
:
أليست حالًا غير طبيعية؟
الأحمر
:
هذا ما جرَتْ به الطبيعة منذ الأزل.
العروس
:
قيل لي إنَّ التوفيق مع زوجٍ واحد أمرٌ ليس بالهين، فكيف
يتيسَّر مع اثنين؟!
الأبيض
:
هو غير هَيِّن لذلك وليس لسببٍ آخر.
الأحمر
:
ستتعلَّمين كل شيءٍ في حينه … تعالَي.
(ينهالان عليها قبلًا وأحضانًا وهي
مرتبكة.)
العروس
:
ستوجد مشاكل؟
الأحمر
:
مشاكل؟
العروس
(في حياء)
:
من سيكون أبا الوليد؟
الأبيض
:
سيحمل اسم من يُسجله في المكتب المدني.
العروس
:
ولكن ذلك شيءٌ عرضيٌّ جدًّا.
الأبيض
:
الأسماء كلها عرضية.
العروس
:
أعجب ما سمعتُ في حياتي.
الأحمر
:
هكذا سيبدو لكِ كل شيء.
العروس
:
لم أسمع بذلك من قبل.
الأحمر
:
ولذلك فإني من أنصار تعليم الجنس في المدارس!
(صمت.)
(يترامى وَقْع أقدام. يخرجون بعنفٍ من جو
الموقف ويُرهفون السمع.)
الأحمر
:
غير معقول.
الأبيض
(مُتنهدًا)
:
لم أكن مُغاليًا.
العروس
:
من القادم؟
الأحمر
(للأبيض)
:
ولكن … هيهات أن يعرفنا!
الأبيض
:
فليحقِّق الله ظنك.
العروس
:
أتتوقَّعان قدوم أحد؟
الأحمر
:
كلا.
العروس
:
فمن القادم؟
(صمت مع إرهاف السمع.)
(يدخل الرَّجل بصورته الثابتة، ويمضي
ذهابًا وإيابًا في حركةٍ أسرع قليلًا مما كانت عليه في المنظر
السابق.)
(الأحمر والأبيض والعروس يتراجعون بعيدًا عن
مسمعه.)
الأحمر
:
قلبي يحدثني بأنه لم يعرفنا.
الأبيض
:
طالما مَنَّينا أنفسنا بذلك.
العروس
(بضيقٍ واضح)
:
ماذا جاء به إلى هنا؟
الأحمر
(للعروس)
:
أرأيته من قبل؟!
العروس
:
أكثر من مرة!
الأحمر
:
أنتِ أيضًا؟!
العروس
:
وأنتما؟ … أليس كذلك؟!
الأبيض
:
لعله من سكان الحي!
الأحمر
:
أكاد أوقن بجنونه.
العروس
:
كان من المتردِّدين على أبي.
الأحمر
:
أيضًا!
العروس
:
ظننته سينقطع عن الظهور عندما أصير في عصمة رجل، ولكنه
مُصِرٌّ رغم أنني صرت في عصمة رجلَين!
الأحمر
:
لا داعيَ للتشاؤم فلعله لم يعرفنا.
الأبيض
:
لعله!
العروس
:
رباه … ما أشدَّ قلقي … ماذا يجدر بنا أن نفعل؟
(صمت.)
الأحمر
:
فلنتجاهله … ولنغنِّ احتفالًا بحياتنا الزوجية.
بُشْرى لنا
نِلْنَا المُنى
(يرجع الأحمر بهما إلى موقفهما السابق وسط
المسرح ثم يغنون):
(الأبيض يُرهف السمع باهتمامٍ
واضح.)
الأبيض
(للأحمر)
:
عاد يتكلم.
الأحمر
(مُنفعلًا)
:
ماذا قال؟
الأبيض
:
كالعادة.
الأحمر
(مُخاطبًا الرَّجل)
:
ماذا تريد؟
الأبيض
(للرَّجل)
:
سيدي … لِمَ تضيع وقتك هدرًا؟!
الأحمر
(للرجل وحدَّته ترتفع)
:
هل تغرُّك قوتك؟ هل تستند إلى أحدٍ من ذوي الشأن؟ إذن
فاعلم أننا أصهرنا إلى واحدٍ منهم هو والد هذه الزَّوجة
الكريمة، وقد أصبحنا ثلاثة تؤيدهم حلقة متينة من العائلات
الأصيلة.
الأبيض
(للرجل)
:
أخي شابٌّ ذو حدة، ولكننا في النِّهاية من صُلب الرجل
الطيب الذي كان صديقًا لك.
الأحمر
(مستسلمًا للحِدَّة)
:
لم أعُد أطيق هذا التدخُّل السخيف!
العروس
:
ولا أنا.
الأبيض
(للرجل)
:
ماذا تريد يا سيدي؟ كأنه لا يروق لك شيءٌ مما نفعله،
فماذا تريدنا على أن نفعل؟
الأحمر
(للرجل)
:
تكلَّم … يجب أن تتكلَّم.
العروس
(للرجل أيضًا)
:
احترم الحياة الزَّوجية المُقَدَّسة.
الأبيض
:
نحنُ ندعوك لحفل زفافنا، ما رأيك؟
(صمت.)
الأحمر
(موجِّهًا خطابه للزوجة
والأبيض)
:
لا فائدة!
العروس
:
يا للأسف!
الأبيض
(وهو يتنهَّد بصوتٍ مسموع)
:
أصبح لنا أُسْرَة على أي حال!
(الرجل وهو يواصل حركته ذهابًا وإيابًا،
يضرب بسوطه الهواء فتُسمع طرقعة شديدة … يتراجعون بعيدًا عنه
في ذعرٍ واضح.)
العروس
:
لا أطيق ذلك.
الأحمر
:
ولا أنا.
الأبيض
:
لنبدأ رحلة شهر العسل!
الأحمر
:
لنبدأها فورًا.
العروس
:
هيا … هيا.
الأحمر
:
سيسقط يومًا من الإعياء جثة هامدة.
العروس
:
آمين.
(يتأبَّط كلٌّ منهما ذراعًا لها، ويُغادران
المكان وهم يسترقون النَّظر إليه في حذر، يُواصل الرجل حركته
على حين يظلم المسرح.)
٤
(يضاء المسرح. الأبيض والأحمر بنفس الملابس
ومعهما الزوجة. واضحٌ أنَّ العُمر قد تقدَّم بهم فجرى المشيبُ في
رءوسهم، وذبلت نضارتهم، أصبحوا كهلَيْن وسيدة.)
الزوجة
:
مهما يكن من متاعبكم، فلا يجوز أن ننسى الأبناء!
(الرجلان يتبادلان نظراتٍ عميقةً، وكأنهما
لم يسمعا صوت الزوجة.)
الأحمر
:
إذا طارت درجة المدير العام هذه المرة فقُل عليها
السلام.
الأبيض
:
ما زالت اجتماعات اللجنة مستمرة!
الأحمر
:
ككل مرة، ثم يُرقَّى شخص مجهول لا يخطر ببال أحد.
الأبيض
:
هل تطيق الصحة أعباء جديدة يا عزيزي؟
الأحمر
:
لا شيء يهمك حتى الأعماق، أبدًا، هل فكَّرت في تحسين
المعاش كما ينبغي لرجلٍ مسئول؟!
الزوجة
:
المعاش في النهاية أهمُّ من المرتب نفسه!
الأحمر
:
كرِّري ذلك على مسامعه!
الأبيض
:
إني أود الترقية أيضًا، ولكني أكره حرق الدم.
الأحمر
:
سرعان ما تضيق بأي شيء.
الأبيض
:
فليهتم بالمعاش مَن لن يملكوا سواه، أمَّا أنت فإن نشاطك
الحُر أضعاف نشاطك الرسمي.
الأحمر
:
لولا ذلك ما توافرت لنا الحياة التي ننعم بها.
الأبيض
:
غرقنا في العمل طيلة عمر، للدولة ولأنفسنا، بتُّ أتطلَّع
لحياةٍ أخرى، لشيءٍ من الهدوء والراحة.
الأحمر
:
عمَّا قريب ستشبع من الهدوء والرَّاحة وتبكي الأيام
الخالية.
الأبيض
:
لا أظنُّ.
الزَّوجة
:
كُفَّا عن النزاع، ولندعُ الله أن يهبنا القوة والصحة،
ولكن فكِّرا قليلًا في الأبناء.
الأحمر
(للأبيض)
:
أنت مُثبِّط للهمم.
الأبيض
:
كلا، لي طموحٌ بعيدٌ أيضًا.
الأحمر
:
لا أعترف به.
الأبيض
:
تلزمنا فترة تأمُّل عقب الجنون المحتدم.
الأحمر
:
من أين لنا بها؟ ثلاثة اجتماعاتٍ في اليوم، ورابع في
المساء مع سمسارٍ من السوق الحرة، وعلينا بعد ذلك أن نُقيم
وليمة عشاءٍ للعملاء …
الزوجة
:
ستكون وليمة يشهد لها العدو قبل الصديق.
الأبيض
(للأحمر)
:
ولكن ألَا ترى أنَّ وظيفة المدير العام ستلتهم وقتنا
الضيق؟
الأحمر
:
كلا، فهي من ناحيةٍ أخرى تذلِّل كثيرًا من
الصعاب.
الأبيض
:
لا تنسَ أمراضك المزمنة.
الأحمر
:
إني مسيطرٌ عليها تمامًا.
الزوجة
:
نسأل الله السلامة.
الأحمر
(للزوجة)
:
لن أنسى أفضالكِ فأنتِ ممرضة ماهرة!
الأبيض
:
هي نفسها لا تخلو من أمراضٍ مزمنة.
الأحمر
:
هذا يدعونا إلى مضاعفة النشاط.
الزوجة
:
والأبناء؟
الأحمر
(في ضيق)
:
الأبناء … الأبناء … لا حكاية لكِ إلا الأبناء،
وحكاياتهم لا تسر الخاطر.
الزوجة
:
ولكنها جديرةٌ بكل اهتمام وعناية.
الأحمر
:
اللعنة … إنهم أعقد من درجة المدير العام.
الزوجة
(للأبيض)
:
قل شيئًا.
الأبيض
:
في ذلك المجال فإني أفعل أكثر مما أتكلَّم.
الزوجة (متأوهة)
حُسَّادُنا كثيرون على حين أننا تُعساء.
الأحمر
(غاضبًا)
:
كُفِّي عن الولولة!
الزَّوجة
(غاضبة أيضًا)
:
أنت رجلٌ أناني.
(يخرصهم السكوت فجأة، فيُرهفون السَّمع في
قلقٍ واضح.)
الأحمر
:
كلا … لا شيء …
الزَّوجة
:
ماذا هناك؟
الأحمر
:
خُيِّل إليَّ …
الزَّوجة
:
يا رحمن يا رحيم …
الأبيض
:
ليست المرة الأولى.
الأحمر
:
ماذا تعني؟
الأبيض
:
سمعنا الأقدام مرات، ولكن الرجل لم يظهر، منذ مدةٍ لم
يظهر.
الأحمر
:
بل كدنا ننساه تمامًا.
الزوجة
:
ليس تمامًا.
الأبيض
:
ولكنه كثيرًا ما يُسْمعنا وَقْع أقدامه …
الأحمر
:
مجرد ظنون.
الزوجة
:
لعله مات.
الأبيض
:
مات؟!
الزَّوجة
:
وإلا ما اختفى طيلة تلك المدة …
الأبيض
:
لكنه لم يختفِ تمامًا.
الأحمر
:
أقسم أنني كدت أنساه.
(وقع الأقدام يُسْمَع بوضوح. يُنصتون بقلق
واضح.)
الأحمر
:
ليتنا ما ذكرناه.
الزوجة
:
ليتنا …
الأبيض
:
ولكن لا حيلة لنا في ذلك.
الأحمر
:
لا تنقصنا الهموم.
الزوجة
:
وكل الهموم تهون بالقياس لهمِّه.
الأبيض
:
ونحن نخلق من الهموم ما يكفي.
الأحمر
(للأبيض في غيظ وحنق)
:
يُخيَّل إليَّ أحيانًا أنك حليفُه علينا!
الأبيض
:
ليتك تزداد مع العمر حكمة.
الأحمر
:
الإعجاز أن نزداد مع العمر حماقة!
الأبيض
:
أشهد أنَّ ذلك الإعجاز لا ينقصنا!
الأحمر
:
ما زلنا شبابًا.
الأبيض
:
ظننت أنَّ الشباب قد ولَّى.
الأحمر
(مُشيرًا إلى قلبه)
:
الشباب هنا وليس في مكانٍ آخر.
الزوجة
:
ما زلنا شبابًا!
الأبيض
:
إذن فعليكم ألَّا تهتمُّوا بمطاردة الرَّجل لنا.
الأحمر
:
ولكنني لا أرتاح إليه.
الزوجة
:
وأمَّا أنا فإني أمقته … ويُخيَّل إليَّ أنه سيقتلنا
يومًا ما.
الأبيض
:
نحن نقتل أنفسنا أيضًا.
الأحمر
:
لقد حقَّقنا أعمالًا مجيدة.
الزوجة
:
أعمال غير قابلةٍ للموت.
الأبيض
:
لا يجوز أن نخشى الموت أكثر مما ينبغي.
الأحمر
:
كلام فارغ، أنت أوَّل من يخاف الموت.
الزوجة
:
كيف لا نخشى الموت؟!
الأبيض
:
لا يبعد أن يكون آخر مغامرةٍ في الحياة.
الأحمر
:
لا تتعلَّق بالأوهام.
(وَقْع الأقدام يشْتَدُّ. يدخل الرجل.
منظره لم يتغيَّر. يمضي في حركته ذهابًا وإيابًا بسُرْعة أكبر
ممَّا كانت عليه في المنظر السابق. يُتابعونه بذهول. يتراجعون
بعيدًا عن مسمعه.)
الأحمر
:
قلبي يُحَدِّثني بأنَّه لم يعرفنا.
الأبيض
:
لا تتعلق بالأوهام!
الزوجة
:
إنه يزداد سرعة!
الأحمر
:
ذلك يعني أنه يزداد جنونًا.
الأبيض
:
ترى ما معنى ذلك؟
الأحمر
:
لا تحمِّل الأمور أكثر ممَّا تعني.
الزوجة
(في عصبية)
:
ما له يُسْرع هكذا!
الأحمر
:
علينا أن نفزعه.
الزوجة
:
كيف؟
الأحمر
(غامزًا بعينه)
:
فلنمثِّل دورنا بإتقان.
(يرجع بهما إلى المكان الأول وهو يتظاهر
بالثقة والعظمة.)
الأحمر
(للأبيض)
:
هل أضفت الأموال إلى حسابنا الجاري؟
الأبيض
:
نعم.
الأحمر
:
عظيم … لا يجوز أن نترك مليمًا بلا استثمار.
الزوجة
:
عين الصواب.
الأحمر
:
سأقابل غدًا بعض كبار المسئولين.
الزَّوجة
:
لعلهم ضمن المدعوين إلى مأدبة العشاء؟
الأحمر
:
كلا، ستكون الوليمة قاصرةً على الوزراء!
الزَّوجة
:
ولا تنسَ السفراء يا عزيزي.
الأحمر
:
ذلك ما لا يمكن نسيانه.
الزَّوجة
:
سيتمُّ كل شيءٍ على خير وجهٍ قبل أن تُسافر إلى
الخارج.
الأحمر
(وهو يَضْحك عاليًا)
:
طبعًا … طبعًا.
(الأبيض يُرهف السمع باهتمامٍ وقلق، يتجه
نحو الأحمر.)
الأبيض
:
تكلَّم مرة أخرى كالعادة!
الأحمر
:
أنت وحدك تسمع رغم أنك أضعفنا سمعًا!
الأبيض
:
عليك أن تصدِّقني.
الأحمر
(للرَّجل وهو يتَّقد غضبًا)
:
ماذا تريد؟
الزَّوجة
(للرجل)
:
ماذا جاء بك إلى بيتنا؟
الأحمر
(للرجل)
:
نحن نُطالبك بالأدب واللياقة.
الأبيض
(للرجل)
:
لم يَعد يُمكن أن يُقال إننا نُبدِّد وقتنا في
اللعب!
الأحمر
(للرجل)
:
وماذا يهمك من سلوكنا؟
الزوجة
(للرجل)
:
ألَا تخاف على أعصابك وأنت تجري بهذه السرعة؟
الأحمر
(للرجل)
:
يوجد قانون وتقاليد.
الزوجة
(للرجل)
:
صُنْ صحتك من أجل خاطر أولادك، أليس لك أبناء؟
الأبيض
(للرجل)
:
ليتك تُصارِحُنا بما تريد.
الأحمر
(للرجل)
:
إني أُحذِّرك عواقب الاستهتار.
الأبيض
(للرجل)
:
المُصَارحة مُفيدة للطرفين.
الأحمر
(للأبيض)
:
لا تُلاينه فإنَّه لا يزداد بالمُلاينة إلا
عتوًّا.
الزَّوجة
(للأحمر متوسلة)
:
دَعْه يُجرِّب!
(يتراجع الأحمر والزَّوجة تاركَين الأبيض
يجرِّب حظه.)
الأبيض
:
علاقتك القديمة بوالدنا لا يمكن أن تُنسى.
(الرجل يواصل حركته وكأنه لا يسمع
شيئًا.)
الأبيض
:
إنك لا تدري مدى الإزعاج الذي تُسبِّبه لنا بحسن
نية.
(الرجل يواصل حركته وكأنه … إلخ.)
الأبيض
:
أأنت مُكلَّفٌ بمهمة؟ ما هي؟ مَن كلَّفك بها؟ … صارحنا
وأعدك بالمساعدة!
(الرجل يواصل … إلخ.)
الأبيض
:
لا تُسِئ بنا الظن، لنا أخطاء بلا شك، ولكن أعمالنا لا
تخلو من قيمةٍ … وخيرنا أكثر من شرِّنا.
(الرجل يواصل … إلخ.)
الأبيض
:
صارحنا بما في نفسك، وإلا فمن العدل أن تتركنا
وشأننا.
(صمت مع استمرار الرجل في حركته.)
الزوجة
(لنفسها)
:
الكلام الطيب لا يؤثِّر فيه.
الزوجة
(للرجل بصوتٍ مُرتفعٍ منفعل)
:
هذه أرضنا، لنا فيها أبناء وأموال وأعمال؛ فليس من
الإنصاف أن تُزْعِجَنا على هذا النحو.
الأحمر
(بنبرة تهديد)
:
لا فائدة، ولا مفر من اللجوء إلى المسئولين.
(الرجل مستمرٌّ في حركته على حين ينضمُّ
الأحمر والزوجة إلى الأبيض.)
الأحمر
(بنفس النَّبْرَة المُهدِّدة)
:
قوى شرٍّ كثيرة تعترض مجرى الحياة، مستهترة بالقوانين
والتقاليد، ولكن كيف تكون عاقبتها ولو على المدى البعيد؟
تُغلَب على أمرها، ويحقُّ عليها الجزاء والقهر، هذه هي
سُنَّة الحياة وإلا حقَّ عليها الفناء.
(الرجل وهو مُسْتمر يَضْرب الهواء بسوطه
فيُحْدِث طَرْقَعة رهيبة فينكمش الثلاثة، ثم يَرَوْن من الأوفق
أن يُغادروا المَكَان فيغادروه مُتعثِّرين، الرَّجل مُستمرٌّ
والظلام يهبط.)
٥
(يُضاءُ المسرح. الأحمر والأبيض والزَّوجة وقد
طعنوا في السن وركبَتْهم الشيخوخة. الأحمر يرتدي عباءةً حمراء
وطاقيةً حمراء، والأبيض عباءة بيضاء وطاقية بيضاء، أمَّا الزوجة
فترتدي روبًا يجمع بين اللونَيْن. يتحرَّكون حركاتٍ تنمُّ عن الضعف
والشيخوخة.)
الأحمر
:
آه.
الأبيض
:
آه.
الزوجة
:
آه.
الزوجة
:
الحمد لله على أي حال.
الأبيض
:
له الحمد والشكر.
الأحمر
:
اللهم احفظنا.
(صمت.)
الأبيض
(مُرْهفًا السَّمع)
:
هل تسمعان وَقْع أقدام؟
الأحمر
:
ثقل السمع!
الزَّوجة
:
إني أسمعها عن غير طريق الأذن!
(صمت.)
الزوجة
:
أتذكران عندما كنا أطفالًا؟
الأحمر
:
ولكننا عرفناكِ بعد مرحلة الطفولة!
الأبيض (في حنان)
عندما كنا أطفالًا!
الزَّوجة
:
(مُتنهدة) عندما كنا أطفالًا!
(صمت.)
الزوجة
:
كأنه الأمس.
الأبيض
:
كأنه الأمس.
الأحمر
:
كأنه … كأنه … كأنه … عليكم اللعنة!
(صمت.)
الزَّوجة
:
الأيام الحلوة.
الأبيض
:
والأحلام الحلوة.
الأحمر
:
كُنَّا نبول على أنفسنا وها نحن نبول على أنفسنا مرة
أخرى!
(صمت.)
الأبيض
(مرهفًا السمع)
:
هل …
الأحمر
(مُقاطعًا)
:
تسمعان وَقْع أقدام؟
الزوجة
:
إنها تدبُّ بلا انقطاع.
الأبيض
:
أعتقدُ أنَّنا ألفناها.
الأحمر
:
أعتقد أنك مزعجٌ مثله.
الزوجة
:
لا داعي للخلاف الآن.
(صمت.)
الأحمر
:
فاتَتْنا فرصٌ عظيمة ولكننا قمنا بأعمالٍ تستحق
الذكر.
الزوجة
:
نحمده على ما نلنا، ونستعيضه عَمَّا فاتنا.
الأبيض
:
نحمده.
(صمت.)
الأحمر
:
تُرى هل أخطأنا في توظيف أموالنا؟
الزَّوجة
:
العمارات أثبت من السوق المتقلِّبة!
الأبيض
:
سبحان من له الدوام.
الأحمر
:
وفكرة البيع الصوري للأبناء رَائِعَة من ناحية
الضرائب!
الأبيض
:
هي أروع فكرةٍ قانونيَّةٍ للخروج عن القانون.
الأحمر
(غاضبًا)
:
أنت عنيدٌ وأحمق.
الأبيض
:
دائمًا لا تعجبك الحقيقة.
الزوجة
:
لا تُضَاعف من مخاوفنا.
الأحمر
(ساخرًا)
:
الابن الوحيد الذي يحمل اسمك ضاع، إخوته رجال أعمالٍ
يفخر بهم الوطن، أمَّا هو فماذا يعمل؟ … ملحِّن، ملحِّن …
ها … ها.
الأبيض
:
لا يقلُّ عن إخوته شأنًا، ولا يتطلَّع مثلهم للهجرة إلى
الولايات المتحدة.
الأحمر
(وهو يضحك)
:
ماذا يعمل بالله؟
الأبيض
:
إنه يُلحِّن فيقول الناس آه.
الزوجة
(متأوِّهة)
:
آه.
الأحمر
(متأوِّهًا)
:
آه.
(صمت.)
الزوجة
(مُعَاتبة)
:
كُفَّا عن النِّزاع فلم تعودا صغيرَين.
الأحمر
(فخورًا)
:
لولاي ما دامت لنا الحياة الزَّوجية.
الأبيض
(في امتعاض)
:
الحق أنَّه لولاي لانفصمَت عُروة الزوجية في أعقاب شهر
العسل!
الأحمر
(ساخرًا)
:
أيُّ فضل لك في شهر العسل؟!
الزوجة
(مُغطية وجهها)
:
يا للفضيحة! … أَخْفِضا صوتكما!
(صمت.)
الأحمر
(متذكرًا أوجاع الكبر)
:
آه.
الزوجة
:
آه.
الأبيض
:
آه.
(صمت.)
الأحمر
:
آن لي أن أذهب إلى النادي.
الزوجة
:
يَحسُن بك ألَّا تخرجَ في فصل الشتاء.
الأحمر
:
لا أريد أن يشمت بي أحد من الأعداء.
الأبيض
:
لا تبالغ في تصوُّر الأعداء.
الأحمر
:
الناس بطبعهم أعداء للرجل الناجح.
(وَقْع الأقدام يرتفع لدرجة لا تخفى على
أحد. يُرهفون السَّمع في رهبةٍ صامتين، يدخل الرَّجل بمنظره
المألوف. يمضي ذَهابًا وإيابًا في سرعةٍ أكبر من المنظر السابق
وهم يُتابعونه بذهول.)
الزَّوجة
:
إنه يكاد يجري.
الأحمر
:
يزداد جنونه استفحالًا.
الأبيض
:
لا يبدو عليه الكبر مثلنا.
الزَّوجة
:
ما فائدة أن نتساءل عمَّا يجعله يتبعنا؟!
الأبيض
:
ولا تؤثر فيه وسائل دفاعنا.
الأحمر
:
مهما يكن من أمرٍ فلا يجوز أن نطلعه على ضعفنا.
الأبيض
:
أتؤمن بجدوى ذلك؟
الأحمر
:
بلا أدنى شك، فلولا علمه بعملنا ونجاحنا وعلاقاتنا بذوي
الشأن لقضى علينا من قديم!
(صمت.)
الزوجة
:
أتوجد فائدة من مناقشته؟
الأحمر
:
يقينًا لا.
الأبيض
:
واضح أنه يتبعنا أينما نذهب ولكنَّه لا يتعرَّض لنا
بسوء.
الأحمر
(في غيظ)
:
ألم يجعلنا طول العمر نتوقَّعه ونُفكِّر فيه، ونضيق به
ونتوجَّس منه؟
الأبيض
:
نحن الذين نفعل ذلك لا هو.
الأحمر
:
يا لك من مُكَابر!
الزَّوجة
:
كان وما زال همًّا ثقيلًا على القلب.
الأحمر
:
كيف فاتنا طيلة عمرنا أن نُهاجمه ولو مرة؟!
الزَّوجة
:
حذارِ أن تفكر في ذلك.
الأبيض
:
لم نَعُد أهلًا للمعارك.
الأحمر
:
ولكننا كنا أهلًا يومًا ما!
الأبيض
:
شغلتنا المعارك الأخرى.
الأحمر
:
لا يخلو صوتك من تأنيب أبدًا.
الأبيض
:
دائمًا أُلَامُ على قول الحق!
الأحمر
:
أنت عبء طالما حملته فوق عنقي.
الأبيض
:
علم اللهُ أنَّك كنت العبء لا أنا، وأنني تحملتك بصبرٍ
يفوق طاقة البشر.
الأحمر
:
يا لك من مُكابر جاحد.
الأبيض
:
يا لك من جاهل.
الأحمر
:
لولاك ما جرؤ هذا المجنون على مطاردتنا والاستهزاء
بنا.
الأبيض
:
إنه يستهزئ بك وحدك.
(الزوجة تفصل بينهما لتلطِّف الجو. يسود
الصمت. تتعلَّق الأبصار بالرَّجل المُتحرك بسرعته
المفزعة.)
الأحمر
:
عندي فكرة.
الأبيض
:
كل ما فعلناه كان من وحي فكرك ولكنه لم يُجدِ.
الأحمر
:
أتستهين بما فعلنا؟
الأبيض
:
كلا، إنَّه عظيمٌ، ورغم مُخالفته للقانون أحيانًا فهو
عظيم، ولكنه لم يُرحْنا من مطاردته.
الأحمر
:
لِم لَم نلجأ إلى المسئولين عن الأمن؟
الأبيض
:
لأننا كنا وما زلنا نخشاهم!
(يتبادلان نظرة تَحدٍّ، ولكن الزَّوجة تفصل
بينهما مرة أخرى.)
الزوجة
:
لجأ كثيرون إلى رجال الأمن، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ …
لا شيء، وهو لا يَرْتَكب جريمة يعاقب عليها القانون، ولعله
يعتمد على صِلاته بأناسٍ في أقوى مواقع السلطة، بل علمت
أنَّ كثيرين من رجال الأمن أنفسهم يُعانون منه
مثلنا.
الأحمر
:
لعله يطمع في شيءٍ مما نملك؟
الأبيض
:
ولكنه يُطارِدنا مذ كنا لا نملك شيئًا.
(الأحمر يضرب الأرض بقدمه مغيظًا
محنقًا.)
(صمت.)
الأبيض
(وكأنَّه يُحدِّث نفسه)
:
أهو يُطاردنا حقًّا؟ وإن صحَّ ذلك فلماذا يُطاردنا؟ وهل
يعمل لحسابه أو لحساب شخصٍ آخر؟
(صمت.)
الأبيض
(مُسترسلًا في تفكيره)
:
أضعنا وقتًا طويلًا دون أن نُعْنى عناية حقيقية
بذلك.
الأحمر
(هازئًا)
:
لو عُنينا بذلك عناية حقيقية، لَمَا تبقَّى لنا وقت
لتحقيق شيءٍ ذي قيمة!
الأبيض
:
نحن الآن على المعاش وبلا عملٍ جدِّي.
الأحمر
:
ولكننا طاعنون في السن، ومرضى، ولا قدرة لنا على
البحث!
(صمت.)
الزوجة
(بغيظ)
:
ترى ما الذي يَجْعَله يُحَافظ على قوته رغم مرور
الزمن؟
الأحمر
(في سُخرية)
:
رُبَّما لأنه لم يتزوج!
الزوجة
(غاضبة)
:
يا لك من جاحد أناني.
الأحمر
(للأبيض)
:
لا داعيَ لطرح أسئلةٍ والانشغال بها على حين أنها واضحةُ
الجواب؛ فهو يُطاردنا بلا ريب، ويطاردنا ليقضيَ علينا، ولا
يهم بعد ذلك أن يكون عمله لحسابه أو لحساب شخصٍ
آخر.
الأبيض
:
ولكن يُخيَّل إليَّ أحيانًا أنَّه بفضله حقَّقنا ما
حقَّقنا من عمل.
الأحمر
:
ليس بفضله ولكن دفعًا لمطاردته المُلِحَّة.
الأبيض
(بنبرة اعتراف)
:
الحق أنَّني قمتُ سرًّا بتحريات كثيرة عنه.
الأحمر والزَّوجة
(معًا)
:
حقًّا؟
الأبيض
:
بلا نتيجةٍ تُذكر.
(صمت.)
الأبيض
:
حسبته مندوبًا لمصلحة الضرائب أو مُرشدًا للمُخابرات أو
موظف إحصاء، أو من شرطة الآداب!
الأحمر
:
جميع أولئك ثقلاء ولكن ليس لهذا الحد.
الأبيض
:
وحتَّى تلك المراكز الهامَّة تبين لي أنهم لا يعرفونه
أكثر منا، ويُعانون من مطاردته مثلنا.
الأحمر
:
ولِم سكتوا عنه وهم يقضون على الآلاف بلا حساب؟
الأبيض
:
بل إنَّ مُحاولات قتله وفيرةٌ ولكنها تبوء عادَةً
بالفشل.
الزوجة
(في عصبية)
:
سرعته تُدير رأسي!
(ينظرون إليه بحنق. يضرب الرَّجل الهواء
بالسوط محدثًا الطرقعة المخيفة. يتجمَّعون ويُغادرون المكان
ببطءٍ حسبما تسمح به سِنُّهم المتقدمة.)
(الرجل يستمر في حركته على حين يهبط
الظلام.)
٦
(يُضاء المسرح. الأحمر والأبيض والزَّوجة
ولكنهم تغيَّروا تغيُّرًا مُذهلًا، عادوا إلى منظر الشباب وملابسه
كما رأيناها سابقًا. واضح أنَّهم صبغوا الشعور، وشدُّوا الجلود،
وفعلوا المُستحيل لاستعادة شبابهم الضائع. يتبادلون النظرات وهم
يبتسمون في ارتياح وسرور.)
الأحمر
:
آخر حيلةٍ ولكنها تجوز على الجن الأحمر نفسه.
الزوجة
:
ما أحلى الرجوع إلى الشباب!
الأبيض
:
ما أحلاه!
الأحمر
:
لن يعرفَنا ولو دار حول الأرض.
الزوجة
:
استجب يا رحمن.
الأحمر
:
من اليسير أن يُتابع أناسًا وهم يكبرون، ولكن كيف يخطر
له أنه يمكن أن يرجعوا يومًا إلى الشباب؟!
الزوجة
:
قلبي يُحدثني بأننا نَجَوْنا من مخالبه.
الأحمر
:
وليُعَوِّضنا اللهُ عمَّا بذلنا من جهدٍ ومال.
الزَّوجة
:
طبيب التجميل وما أخذ نظير تجديد جلد الوجه.
الأبيض
:
والصبغة العجيبة وارد الخارج.
الأحمر
:
والحقن، لا تنسوا الحقن.
الزَّوجة
:
والهرمونات والحمامات الطبية والتدليك الفني.
الأحمر
(في حبور)
:
حل لغز ما وراء الموت أقرب إليه من التعرف علينا.
الأبيض
:
هي على أي حال آخر ما في الجراب من حِيَل.
(صمت.)
الأحمر
:
وثمة مُفاجأة جديدة تتم بها اللعبة، وتُحقق كمالها
المنشود.
الأبيض
:
أكثر مما تَحقَّق بالفعل؟
الأحمر
:
نعم.
الأبيض
:
ترى ما هي؟
الأحمر
:
عروس جديدة!
(الزوجة تصرخ غاضبةً محتجةً
مهدِّدة.)
الأحمر
:
لا تسيئي فَهْمي.
(الزوجة مستمرة في صراخها الغاضب.)
الأحمر
:
اعلمي أنني أعمل من أجل سعادة الجميع!
الزوجة
:
غدر وإجرام!
الأحمر
:
من أجل عذابك حيال مطاردته لنا اللعينة.
الزوجة
:
لا داعي مُطلقًا لهذه المفاجأة، ما حقَّقناه كافٍ
وأكثر.
الأحمر
:
انضمام العروس إلى الصورة الجديدة يُغيِّرها تغيُّرًا
مطلقًا.
الزَّوجة
:
أنت تستطيع خداعه، ولكنَّك لا تستطيع خداعي.
الأحمر
:
لا مجال للشهوات، ولكننا ندافع عن حياتنا.
الزوجة
:
لا تحاول خداعي، أنا أعرفك أكثر مما تعرف نفسك.
الأحمر
:
مضى زمان الحب، وما شبابنا الرَّاهن إلا قناع، هل تجدين
رغبة في الجنس؟
الزوجة
(بتحدٍّ)
:
نعم.
الأحمر
:
يا لكِ من عجوزٍ مُسْتهترة.
الزوجة
:
وعندك أضعاف ذلك.
الأحمر
:
لا تضيعي من أيدينا آخر فرصة لنا.
الزوجة
:
إن أردت عروسًا جديدةً فهاك أنا!
الأحمر
:
اتقي الله يا ولية، وجرِّبي قرعتك في الحج هذا
العام.
الزوجة
:
إني صالحة للحب كما أني صالحة للحج.
الأحمر
:
ألم تزجريني كثيرًا مُذكِّرة إياي بالأبناء
والأحفاد؟
الزوجة
:
لا تذكِّرني بتلك الأيام اللعينة.
الأحمر
:
أؤكد لكِ أنكِ غير صالحةٍ للحب.
الزوجة
:
جرِّب … العبرة بالتجرِبة.
الأحمر
:
أنت مجنونة!
الزَّوجة
:
أنت غدَّار خائن.
الأحمر
(للأبيض)
:
هل خرست؟ … أسعِفْنا برأيك.
الأبيض
:
أمهلنا وقتًا للتفكير.
الزوجة
(للأبيض)
:
حتى أنت تريد أن تفكِّر!
الأحمر
:
فات الوقت، العروس الجديدة حقيقة مفروغ منها.
(الزوجة تعاود الصراخ.)
الأبيض
:
كان يجب أن نتشاور!
الزوجة
:
لن يكون ذلك أبدًا.
الأحمر
:
لا أسمح بكلمةٍ أخرى … وإلا اضطررت إلى الطلاق!
الزوجة
:
تطلِّقني وأنا جَدَّة؟ … حتى الوحوش تستنكف ذلك.
الأحمر
:
اذهبي إلى أولادكِ قبل أن يعصف الغضب برأسي.
(الأبيض يتدخَّل لإنقاذ الموقف. يأخذ
الزَّوجة من يدها إلى الخارج، وهو يُحادثها بصوتٍ غير مسموع …
ثم يعود الأبيض وحده.)
الأبيض
:
يا لك من جريءٍ حقًّا.
الأحمر
:
أظْهِر سرورك الآن يا منافق!
الأبيض
:
لن تجد عروسًا مناسبة أبدًا.
الأحمر
:
عروس في السادسة عشرة مثل لهطة القشدة.
الأبيض
:
أصغر من حفيدتنا.
الأحمر
:
ليست حفيدتنا على أي حال.
الأبيض
:
لا تحرجنا.
الأحمر
:
ستعلم أنَّها أقوى أثرًا من كافة العقاقير.
الأبيض
:
يا لها من مُغامرة!
الأحمر
:
لن تكون أفظع من المطاردة اللعينة.
(الأحمر يُصفق بيدَيْه. نسمع موسيقى
الزَّفة. تدخل العروس بين شابَّين هما أمين من أمناء الشرطة
حاملًا جهازه اللاسلكي، ومأذون عصري متأبطًا دفتره، مُرتديًا
بنطلونًا وقميصًا أمريكيًّا متعدد الألوان. يُقدمان العروس
ويذهبان … الثلاثة يتبادلون النظرات.)
الأحمر
:
مبارك يا عروس.
(العروس تضحك ضحكةً عذبةً دون أدنى
ارتباك.)
الأحمر
:
خذي راحتكِ على آخرها فأنتِ في بيتك.
العروس
:
شكرًا … ولكن …
الأحمر
:
أفصحي عما تريدين بكل حرية.
العروس
:
أشعر كأني في حاجةٍ إلى تشجيع.
الأحمر
:
قلت لكِ إنكِ في بيتك.
العروس
:
أعني أنه من المفيد … أعني أن قليلًا من … الويسكي
…!
الأحمر والأبيض
:
ويسكي!
العروس
:
قليل منه مناسب.
الأحمر
:
هل لكِ تجربة سابقة به؟
العروس
:
في نطاق ما يسمح به عمري.
(الأحمر والأبيض يتبادلان النظر في ذهول.
ينتحيان جانبًا.)
الأحمر
:
في نطاق ما يسمح به عمري!
الأبيض
:
سمعت كل كلمة … ما رأيك؟
الأحمر
:
ما كان كان.
الأبيض
:
عظيم.
الأحمر
:
ولكن الخمر مضرة لنا، ونحن لم نجدد الكبد.
الأبيض
:
ولم نجدد القلب ولا العروق.
الأحمر
:
الله معنا.
(يرجعان وهما يبتسمان.)
الأحمر
:
ما أجمل أن نستغنيَ عن الخمر!
العروس
:
أتُسمعني وعظًا في ليلة الزفاف؟
الأحمر
:
كلا، ولكنها الصحة.
العروس
:
أأنت مريض؟
الأحمر
:
كلا … ما زلنا بعيدين عن سن الأمراض!
العروس
:
اتفقنا!
الأحمر
(ضاحكًا)
:
يبدو لي أنكِ فتاةٌ ذات ذكاء وتجرِبة.
العروس
:
هذا هو طابع القرن!
الأحمر
:
لا أستبعد أن تكوني على إلمامٍ بالتربية اﻟ…
العاطفية.
العروس
:
العاطفية؟
الأحمر
:
أعني الجنسية؟
العروس
:
أووه.
الأحمر
:
لكنها لم تُقرَّر بعدُ في المدارس!
العروس
(ضاحكة)
:
لكنها مقررةٌ في أماكن كثيرة!
الأحمر
:
يا لكِ من عروس مُثيرة!
العروس
:
إذا كنت ممن يخافون فلِمَ زججت بنفسك في الحياة
الزوجية؟
الأحمر
:
لا خوف هناك ولكن للأسر العريقة تقاليدها.
العروس
:
طظ!
(الأحمر يتظاهر بالضحك وكذلك
الأبيض.)
الأحمر
:
أسلوبكِ بديع ولكنه جريء، أجرأ من أساليب
العذارى!
العروس
:
لم يعرف التاريخ إلا عذراء واحدة!
(الرجلان يتبادلان النَّظر في ذهول. العروس
تفتح حقيبة يدها، وتُخرج منها زجاجة ويسكي … وتشرب … وتمد بها
يدها إليهما.)
العروس
:
يبدو أنك بخيل، خذ واشرب وإلا غضبت.
(الأحمر يُحرَج فيتناول الزجاجة، ويشرب ثم
يعطيها للأبيض فيشرب، وتنتقل الزجاجة بينهم.)
العروس
:
ذلك مُفيدٌ جدًّا في التغلُّب على الحياء!
الأحمر
(مندهشًا)
:
الحياء؟!
العروس
:
نعم الحياء، أنت لم ترَ شيئًا بعد.
الأحمر
:
نخب الحياء.
(الزجاجة تدور. في نشوةٍ يُقبِّلان العروس
في الخدَّيْن في وقتٍ واحد.)
الأحمر
(للعروس)
:
لعلكِ مُندهشة لأنَّ القُبَل تنهال عليكِ من رجلَيْن لا
من رجل واحد.
العروس
(وهي منتشية)
:
القُبَل نعمٌ مشكورة لا يجوز أن نفسدها بالتساؤل!
الأحمر
(ضاحكًا)
:
الحقيقة أنَّ لكِ زوجَيْن لا زوجًا واحدًا!
العروس
(منقلة البصر بينهما)
:
أرجو أن أجد في ذلك الكفاية حتى أنعم بالاستقرار
المنشود.
(الرجلان يتبادلان النَّظر ثم يغرقان في
الضحك. الزجاجة تدور مع القُبُلات.)
الأحمر
:
لم نُفْلح في إثارة دهشتك ولو مرةً واحدة!
العروس
:
عسير جدًّا أن تُثار دهشة في هذه الأيام.
(الأبيض يتنصَّت في ترقُّب مفاجئ.)
الأبيض
(للأحمر)
:
سمعت شيئًا؟
(الأحمر ينصت. يترامى وقع أقدام.)
الأحمر
:
لعله عابر سبيل …
الأبيض
:
ولكنها أقدامه هو.
الأحمر
:
غير معقول، وحتى لو كان هو فلن يتعرَّف علينا.
العروس
:
هل تتوقعان قدوم أحد؟
الأحمر
:
كلا.
العروس
:
أظنُّ أنَّ اثنين فيهما الكفاية!
(الرَّجل يدخل. هو هو كما رأيناه. يذهب
ويجيء في سُرعةٍ تفوق سرعاتِه السابقة كلها.)
الأحمر
:
اللعنة.
الأبيض
:
أعوذ بالله.
العروس
:
هذا الرَّجل أذكره.
الأحمر
:
أنتِ أيضًا تعرفينه؟ هذا ما توقعته، إنه مجنون.
العروس
:
مثل جميع الطاعنين في السن فيما يبدو.
الأبيض
:
ولكنه ليس طاعنًا في السن فيما يبدو.
العروس
:
كان صديقًا لأبي …
الأحمر
(بإصرارٍ)
:
لنشرب.
(تدور الزجاجة بينهم.)
الأحمر
:
لا مفر.
الأبيض
:
لا مفر.
العروس
:
ظننته يومًا يُطاردني للحب.
الأحمر
:
إنه مجنون بداء المُطَاردة.
العروس
:
لا يبعد أن يكون لطيفًا خفيف الروح.
الأحمر
:
عرفناه أكثر منك.
(صمت.)
الأحمر
(للرجل مُتحديًا وهو ثمل)
:
اجرِ … اجرِ … افعل ما تشاء … ماذا يهم؟ … ولكن لا تعد
نفسك منتصرًا … لم نقتنع بأنَّك تتعرَّف علينا بحاسةٍ
مجهولة … أبدًا … الحكاية أنَّ البلد ملأى بالجواسيس … أنت
على صلةٍ بالشرطي، أو المأذون، أو طبيب التجميل، أو
الصيدلي … لا سِرَّ هناك ولا معجزة … افعل ما تشاء … اجرِ
… اجرِ حتى تقع مَغْشيًّا عليك … وسوف نضحك كثيرًا وطويلًا
…
الأبيض
(للرجل)
:
ليتك تشرب معنا، الشرب صنع لنا معجزات …
العروس
:
كيف أنساكما هذا الرجل عروسكما؟
(يدور الشراب والقبلات والأحضان.)
الأحمر
(للرجل)
:
سنفعل ما يحلو لنا تحت سمعك وبصرك، سينبت في رأسك قرنان
وأنت تجري كالمجنون.
الأبيض
(للرجل)
:
معذرة، للخمر سلطان وللحب سلطان، ولكننا في الواقع
نحترمك، صدِّقني فأنت تشغل من وقتنا أكثر مما تتصور، وأنا
مقتنعٌ بأنَّك لا تتعرَّض لنا بأذًى، وأننا في الواقع
مسئولون عن كل شيء، فنحن الذين نعمل ونحن الذين نتغير،
ونحن الذين نكبر، ولا حق لنا في أن نُعلق عليك الأخطاء
والمتاعب، وبوُدِّي أن تقبل دعوتي للشراب.
الأحمر
(للأبيض)
:
يا لك من منافق.
الأبيض
:
لا تفسد شهر العسل بسوء الأدب.
العروس
:
هل تزوَّجتماني لقتل الوقت بالشجار والجدل؟
(يرجعون للقبل والأحضان والضحك. العروس
والأبيض يرقصان. الأحمر ينظر نحو الرجل وهو يترنَّح من
السكر.)
الأحمر
:
اجرِ … لا يهم … سيدور رأسك وتقع جثةً هامدة …
(العروس تتخلَّص من ذراع الأبيض، ثم تقبل
نحو الأحمر فيرقصان معًا. الأبيض وهو يترنَّح ينظر نحو
الرجل.)
الأبيض
:
أودُّ أن أقابلك على انفراد.
(الرقص مستمر وكذلك الرجل.)
الأبيض
:
سيجري بيننا حوارٌ مُفيد، وإن كان ثمة جديدٌ فلعله يكمن
في صدرك الصامت …
(الرَّجل يضرب الهواء بسوطه مُحدثًا طرقعة
رهيبة.)
(الأحمر والأبيض يتلاصقان. يُحاولان
مُغادرةَ المكان ولكنَّ قدمَيْهِما لا تُسعفانهما، يسقطان،
يزحفان على أربع إلى الخارج حتى يختفيا تمامًا. العروس مُستمرة
في الرَّقص وحدها … الرجل تأخذ حركته في التباطؤ رويدًا
رويدًا، حتى يقف تمامًا، وهو يحرِّك قدميه (محلَّك سِرْ).
العروس ترقص وحدها أمام الرجل.)
(ستار)