الحجرة رقم ١٢
يتذكر مدير الفندق بصورة لا تنسى أنه جاءته ذات يوم امرأة لاستئجار غرفة لمدة أربع وعشرين ساعة، وكان الوقت وقتذاك العاشرة صباحًا، وحَدَجَها الرَّجُل بنظرة خاصة لندرة من يقصده من الجنس الآخر منفردًا، وإنه ليتذكر بصورة لا تنسى أيضًا أنها تبدت لعينيه امرأة شديدة التأثير بقوَّة بنيانها، ووضوح قسماتها، وحدَّة نظرتها، وهي تقف أمام الطاولة مُنتصبة القامة في معطفها الأحمر وقلنسوتها البيضاء. ولم تكن تحمل بطاقة شخصية، غير عاملة ولا متزوجة، ولكنها على الأرجح مُطلقة أو أرملة، اسمها بهيجة الذهبي، قادمة من المنصورة، سجَّل الرَّجل ما يلزمه من معلومات ثم عهد بها إلى فرَّاش تقدمها حاملًا حقيبتها، حقيبة كبيرة الحجم فوق المألوف، فقادها إلى الحجرة رقم ١٢ بالفندق الصغير.
رجع الفراش بعد نصف ساعة بوجه مُتعجب فسأله المدير عما وراءه؛ فأجاب بأنَّ المرأة غريبة الأطوار.
– ماذا تعني؟
أجاب بأنها طالبته بأن يُطبق حشية الفراش والغطاء والملاءة وأنْ يُودِعها رُكن الغُرفة حتى يجيء الليل أمَّا السرير نفسه فأمرت بإخراجه من الحجرة مُعتذرة بأنَّها لا يغمض لها جفن طالما أنَّه يوجد تحتها فراغ يتسع لشخص قد يختبئ فيه، فقال لها: إن مخاوفها لا تقوم على أساس، وإن الفندق لم يقع به حادث واحد منذ نشأته، ولكنها أصرت فأذعن لمشيئتها.
– كان عليك أن ترجع إليَّ أولًا.
فاعتذر بأنه لم يجد في طلبها — رغم غرابته — خروجًا على التعليمات الواجب الالتزام بها في الفندق، ثم واصل حديثه، فقال إنها أمرته بأن يفتح صوان الملابس على مصراعيه، وأن يبقيه كذلك فأدرك من توِّه أنَّها تخاف أن يغلق في غيبة منها على غريب يتربَّص فصدع بأمرها في تسليم باسم.
– العجيب أنها تبدو قوية وجريئة.
وتَفكَّر الرجل مَليًّا ثم سأله: هل وهبَتْك بقشيشًا؟
– نصف جنيه بالتمام والكمال.
– واضح أنَّها غير طبيعية، ولكن لا أهمية لذلك.
فقال الفَرَّاش: وكنت مارًّا أمام حجرتها المُغْلقة في طريقي إلى المغسل فسمعت وراء الباب صوتًا يتكلم بحدَّةٍ وحرارة …
– ولكنها بمفردها.
– رغم ذلك كانت تتكلَّم بحدَّةٍ ويرتفع صوتها تدريجيًّا.
– كثيرون يفعلون ذلك، ليس بالضرورة أن يكون مجنونًا من يخاطب نفسه.
فهزَّ الرَّجلُ رأسه ولم ينبس، فعاد المدير يسأله: هل وضح لسمعك شيءٌ مما كانت تقوله؟
– كلَّا، عدا عبارة واحدة وهي «لا يهم».
وأشار المدير إشارة حاسِمة إعرابًا عن رغبته في إنهاء الموضوع، ثم قال للفراش وهو يمضي: مزيدًا من الانتباه، فهذا واجب على أي حال.
وقصف الرَّعد فنظر المدير إلى السماء من نافذةٍ زجاجيةٍ فرآها مُلبَّدة بالغيوم، وكان الجو شديد البرودة، والمطر متوقعًا بين آونةٍ وأخرى، وعند تمام الواحدة بعد الظهر تَلْفَنتْ له الحجرة ١٢: ممكن أطلب غداء؟
– لا يُوجد مطعمٌ بالفندق، ولكن يوجد مطعم بالشارع، طلباتك يا أفندم؟
– تورلي، أرز بالخلطة، مع كيلو كباب مشكل، تشكيلة سلطات، رغيف بلدي مجمر، عیش سراي، برتقالتان …
أمر المدير بإحضار المطلوب، ولكنه دهش لكمية الطعام المطلوبة، خاصة اللحوم، وهي تكفي وحدها لستة أشخاص.
وقال لنفسه إنَّها مُصابة بجنون الخوف والنَّهم.
– محتمل أن تُغادر الفندق عصرًا، وسأجد فرصة لإلقاء نظرة داخل الحجرة.
وجاء الطَّعام، وبعد ساعةٍ رجع خادم المطعم ليأخذ الصينية والأطباق، ولم يستطع المدير مقاومة رغبةٍ ملحة في النَّظر إلى الأطباق، وجدها فارغةً تمامًا إلا من بقايا عظام وصلصة متجلطة، وقرر أن يتناسى الموضوع كله، ولكنه وجد المرأة — صورتها ونوادرها — تطارده وتلح عليه، لا يُمكن القولُ بأنَّها جميلة، ولكنها ذات سطوة كالجاذبية، وبها شيءٌ يُخيف وأشياء تُثير حب الاستطلاع والإذعان، ومع أنه رآها اليوم لأول مرة إلا أنها تترك انطباعًا بالأُلفة التي لا تكون إلا للوجوه المُستقرة في أعماق الذاكرة من قديم.
ورأى رجلًا وامرأة قادمين نحوه، وسأله الرجل: هل السيدة بهيجة الذهبي تقيم هنا؟
فأجاب بالإيجاب، واتصل بالمرأة، فطلبت السماح للقادمين بالصعود إلى حجرتها، وكان واضحًا أنَّ القادمين من الصفوة، من الناحية المادية على الأقل، واندفع الهواء في الخارج بقوة رقصت لها القناديل المُعلقة في مدخل البهو الصغير. وسرعان ما قدم ثمانية أشخاص — أربعة رجال وأربع نساء — فتكرَّر السؤال: هل السيدة بهيجة الذهبي تُقيم هنا؟
وتم الاتصال وجاءت المُوافقة فصعدوا بجلال — كانوا على مستوى السابقين — إلى الحجرة رقم ١٢. أصبح الزوار عشرة أقارب من أسرةٍ واحدة، أو أصدقاء، أو أقارب وأصدقاء، ولكن لا شك أن بهيجة سيدةٌ غير عادية.
– ترى لمَ اختارَت فندقنا الصغير؟
ودبَّ النشاط في كافتيريا الاستراحة، وحُملت إلى فوق أقداح الشاي، وشغلته بعض الوجوه في المجموعة الأخيرة، فظنَّ أنه سبق له رؤيتها، ولكنه قال لنفسه إنَّ خير ما يفعله أن يغسل مخَّه من شئون بهيجة هانم، وأنها غدًا ستكون ذكرى من مئات الذكريات الضَّائعة التي يجيش بها صدر الفندق.
ورأى أمامه سيدةً في الخمسين غاية في الرزانة والوقار، سألت: هل السيدة بهيجة الذهبي هنا؟
ولمَّا أجاب بالإيجاب قالت: بلغها من فضلك أنَّ الدكتورة موجودة.
واتصل بالمرأة فسمحت لها بالصعود، وأذعن لرغبةٍ مُلحَّة طارئة فسأل الدكتورة قبل أن تغادره: ما تخصُّص حضرتك؟
فأجابت وهي تذهب: طبيبة مولدة.
لاحظ أنها قدمت نفسها بصفتها المهنية وبلا ذِكْر الاسم، فهل هي تزور المرأة بهذه الصفة؟ … هل المرأة تُعاني من مرض نسائي؟ … أهي حُبْلى؟ … ولم يستطع الاسترسال في أفكاره إذ جاءه رجلٌ بدينٌ قصير مُتجهم الوجه؛ فقدم نفسه بصفته المُقاول يوسف قابيل، وطرح السؤال الذي يتكرَّر: هل بهيجة هانم الذهبي هنا؟
وعقب الاتصال التليفوني المُعتاد سمح للرجل بالصعود، والمُدير يودعه بابتسامة ساخرة حائرة، ورجع أحد فرَّاشي الفندق من مشوار وهو يرتعد من البرد داخلَ جلبابِه البلدي السميك، فقال: إنَّ الظلام يتراكم في أركان السماء، وإنَّ النهار سينقلب ليلًا عمَّا قليل. فألقى المدير نظرةً من النافذة الزجاجية، ولكنه كان يُفكِّر بامرأة الحجرة ١٢، المرأة الغامضة جلَّابة الضيوف، وخُيِّل إليه أن روحًا نفَّاثة للإثارة والقلق تتسلَّل في أنحاء الفندق مذ قدمت، وأنه يشعر بها تتسلل إلى زوايا نفسه موقظة بها أحلام المراهقة، وأبهة الآمال الدنيوية الدسمة. وانتبه من استغراقه على صوتٍ يسأل: بهيجة هانم الذهبي هنا؟
رأى رجلًا ضخمًا يرفل في جبة وقفطان، طربوشه جانح إلى الوراء، وبيده مظلة رمادية، قدم نفسه قائلًا: بلغها أن سيد الأعمى الحانوتي قد جاء.
انقبض صدر المدير، انكمشت أعضاؤه، لعن الرجل والمرأة معًا، ولكنه قام بواجبه فاتصل بها، ولأول مرة يتلقى جوابًا مُخالفًا، فقال للرجل: انتظر حضرتك في الاستراحة.
ماذا جاء يفعل؟ ولِمَ لا ينتظر في الخارج؟ لقد عمل في الفندق زهاء نصف قرن فلم يشهد مثيلًا لما يحدث اليوم، وأخوف ما يخاف أن يهطل المطر، فيضطر الفندق إلى إيوائهم وقتًا مجهول المدى، وبخاصَّة رجل الموت ذاك؟!
وجاء زُوَّارٌ جُدد، جاءوا متفرقين ولكن تباعًا، صاحب معرض أثاث وبَقَّال وقَصَّاب، وصاحب محل عطور وأدوات زينة، وموظف كبير بمصلحة الضرائب، ورئيس مؤسسة، وصحفي معروف، وتاجر جملة للأسماك، وسمسار شقق مفروشة، ووكيل شخصية عربية من أصحاب الملايين، وظنَّ المدير أنَّ المرأة ستنقل الاجتماع إلى الاستراحة، ولكنها أشارت بالسماح لهم بالصعود، فصعدوا واحدًا في أثر واحد، وحُملت كراسي جديدة ومضى الفَرَّاشون بالشاي، وتساءل المدير ترى كيف يجلس الزائرون، هل يربطهم تعارفٌ سابق؟ وماذا جمعهم على وجه التحديد؟ واستدعى شيخ الفرَّاشين وسأله عن ذلك فأجاب الرجل: لا علم لي بالداخل، الأيدي تتسلَّم الكراسي، والشاي من زاوية الباب ثم تغلقه فورًا.
فهزَّ الرَّجُل منكبيه، وقال لنفسه: إنهم ما داموا لا يشتكون فلا مسئولية عليَّ.
وإذا بسيد الأعمى الحانوتي يقبل نحوه فيقول: أرجو أن تذكِّر الهانم بأني في الانتظار!
فقال المدير بجفاء: وعدَت بأن تستدعيك في الوقت المناسب.
ولم يتحرَّك الرجل فتلفن للمرأة ليتخلَّص منه، ثم ناوله التليفون بناءً على رغبتها فيما بدا، فقال سيد الأعمى: يا ست هانم العصر فات ونهار الشتاء قصير.
وأصغى إلى السَّمَّاعة مليًّا ثم أعادها ورجع إلى الاستراحة غير مرتاح، والمدير يلعنه من صميم قلبه، ويحمل المرأة مسئولية استدعائه إلى الفندق، ويرمق باب الاستراحة بنفور وتقزز، ونزل بعض النزلاء في طريقهم إلى الخارج، فأبدوا للمدير مُلاحظات عن الحجرة ١٢ المُقْلقة للرَّاحة فقال الرجل معتذرًا: يوجد بها زُوَّار وسيذهبون عاجلًا أو آجلًا، لن يبقى أحد منهم في الليل.
بات يخشى أن تدفعه مسئوليته إلى الصدام معهم، وهم من الصفوة القوية، وضاعف من كآبته صفير الرِّياح في الخارج، وروح الأسى التي تغشى الطريق. ورغم ذلك تراءى عند مدخل الفندق جماعة من الرِّجال والنِّساء، أقبلوا نحوه في معاطفهم فغاص قلبه في صدره، وبادرهم وهو لا يدري: بهيجة هانم الذهبي؟
فضحك أحدهم وقال: أبلغها من فضلك أنَّ مندوبي جمعية إحياء التراث قد جاءوا.
واتصل المدير بالمرأة فلما طلبت السماح لهم قال لها: عددهم عشرة يا هانم، وتحت أمرك في الدور الأرضي استراحة تتسع لأي عدد!
– ولكن في الحجرة متسعًا!
وصعد المندوبون والمندوبات، والرَّجل يهز رأسه في حيرة، سيقع الصِّدام عاجلًا أو آجلًا، سيتفجر غضب السماء في الخارج، سيتمخَّض ذلك التكتل الشاذ في الحجرة ١٢ عن شيء غير سار، وحانت منه التفاتة نحو الاستراحة فرأى سيد الأعمى، يزحف نحوه فنقر بأصابعه على سطح الطاولة بعصبية، أوصله بالمرأة قبل أن يفتح فاه، سمع شكواه ثم سمع إذعانه، وتركه يُعيد السماعة بنفسه، ولكن الرجل قال له وهو يهم بالذهاب: الانتظار بلا عملٍ مُملٌّ جدًّا.
فغضب المدير، وكاد يُوبخه لولا أنَّ المرأة اتصلت به طالبة إيصالهم بالمطعم، واستمرت المكالمة دقائق قبل أن تنقطع، وتساءل هل يبقون حتى العشاء؟ وأين يتناولون عشاءهم، كم يود أن يُعاين الحجرة بحالتها الرَّاهنة، إنَّه منظر يفوق الخيال، منظر جنوني بلا أدنى ريب.
ولم يقف الطوفان عند حدٍّ فجاء نفر من أساتذة الجامعة ورجال الدِّين، أمست المناقشة عقيمة، تركهم يصعدون، بدا الأمر مزاحًا کابوسیًّا، وجاء رجلٌ غامض فصعد دون أن يمر به، وقد ناداه فلم يلتفت إليه، وتبعه فَرَّاش ولكنه توقف عندما رآه يدخل الحجرة ١٢. وشعر المدير بأنه وحيد وبأنه يفقد سيطرته القانونية على المكان، وبأن شيطان الأحلام البهيمية يطرق بابه بعنف، وفَكَّر بأن يُشاور شيخ الفَرَّاشين ولكن ظهر له رَجُل ما إن رآه حتى تشهد في ارتياح، تصافحا وهو يقول للقادم: جئت في وقتك يا حضرة المخبر.
فقال المخبر بهدوء: أطلعني على السجل.
– تحدث أمورٌ غريبة هنا.
راح الرجل يُراجع بعناية الأسماء، ويُدَوِّن بعض الملاحظات فقال المدير: أراهن على أنَّك جئت من أجل الحجرة ١٢.
– هه؟
– الأمور تجري في شذوذ جنوني.
– كل ما يقع ضمن الطبيعة فهو طبيعي!
ثم غادره وهو يقول: إذا طلبني التليفون فإني في الحجرة ١٢!
ذهل المدير، ولكنَّه اطمأن نوعًا ما في الوقت نفسه، فما يحدث إنما يحدث بعلم الحكومة، وتحت سمعها وبصرها، وتذكر أنه فكر بمشاورة شيخ الفَرَّاشين، وهمَّ بالضغط على الجرس عندما رأى سيد الأعمى زاحفًا نحوه ففقد أعصابه وصاح به: قالت لك أن تنتظر حتى تستدعيك.
فابتسم الرجل بخنوع المعتاد للانتهار وقال: ولكن الانتظار قد طال.
– انتظر بلا مناقشة، وتذكر أنك في فندق لا قرافة!
فرجع الرجل مُتصبرًا، وتذكر المدير شيخ الفرَّاشين فاستدعاه وسأله: كيف تجري الأمور في الحجرة ١٢؟
– لا أدري يا سيدي، ولكنها تضجُّ بالأصوات.
– كيف يتواجدون معًا، وهي لا تتسع لهم ولو جلس بعضهم فوق بعض؟
– عِلْمي عِلْمك، ولكن على أي حال؛ فإن الضابط بالداخل أيضًا.
وذَهَب الرَّجل فنظر المدير من النافذة فرأى الليل جاثمًا في الفضاء، وقد أضاءت المصابيح فشعت أنوارها وانية خلال الجو المشحون بالرطوبة العاصف بالرياح المزمجرة، وجاء طابور من خدم المَطعم يحملون الصواني المكتظة بالأطعمة، فازداد عجبه، وقال لنفسه إنه لا يوجد بالحجرة إلا خوان واحد، فأين تصف الأطباق، وكيف يتناولون الطعام؟ وأخبره أحد الفَرَّاشين أنَّ باب الحجرة لم يعد يفتح، وأن الأطعمة أُدخلَت من شراعة الباب، وأن الضحكات الصاخبة تجتاح الدور كله، وأصبح المشهد كله يعزُّ على التصديق.
ورجع الفَرَّاش بعد نصف ساعة ليؤكد له أن القوم يسكرون، فقال له: لم أرَ زجاجة واحدة!
– لعلها هُرِّبَت في الجيوب، إنهم يُغَنُّون ويَصْرُخون ويُصَفِّقون، تلك حال سكر وعربدة، وفسق أيضًا فالنساء هناك لا يقلون عن الرجال عدًّا.
– والمخبر؟
– سمعت صوته يغني «الدنيا سيجارة وكاس».
وقصف الرَّعد في الخارج، فقال المدير لنفسه «جائز جدًّا أني أحلم، وجائز أني جننت». وإذا بجماعةٍ من عامة الشعب — تنطق وجوههم وملابسهم بشعبيتهم — قدموا، وسأل سائلهم: هل السيدة بهيجة الذهبي تقيم هنا؟
فابتسم المدير يائسًا، واتصل بالمرأة، فرَجَتْه أن يجعلهم ينتظرون في الاستراحة، وأن يقدِّم لهم المشروبات، فأشار الرَّجل لهم نحو الاستراحة، فأمر بتقديم الشاي لهم، فامتلأت الاستراحة وازداد سيد الأعمى قلقًا. وجعل المدير يبتسم یائسًا ويغمغم: لم يعد الفندق فندقًا، ولم أعد مُديرًا، لم يعد اليوم من الزَّمان، فليرقص الجنون ما شاءت له اللحوم والخمور.
وبدأ تساقط المطر، وأرعدت السماء، ولمع الأسفلت عند مدخل الفندق بأضواء المصابيح ودغدغة المطر، وتتابع دبيب الأقدام، وارتفعت صيحات غِلْمَان مُهَللة، ولجأ عابرون إلى عنق المدخل، وتوالت الضربات المرجفة فوق زجاج النافذة، غادر مكانه إلى مقدم المدخل فقلَّب وجهه في السماء المظلمة، ثم نظر إلى الأرض فرأى السيل المنهمر، ينصب عليها كالحصى، ويجرف منحدراتها كالطوفان، لقد تلبد واحتدم ثم انفجر.
– إنه مطر لم يسقط نظيره منذ جيل على الأقل.
وتذكر سيلًا شبيهًا بهذا حفر ذكراه في رأسه منذ صباه، تذكر كيف انقطعت المواصلات، وسُدَّت الحواري، وغَرِقت الحجرات تحت الأسقف المتهرئة. ورجع إلى مكانه فالتزمه حرصًا على السجلات والخزانة، ولكنه أصدر أوامره بتشديد المراقبة في الحجرات وفوق السطح، واستدعى شيخ الفرَّاشين وسأله: ما أخبار الحجرة ١٢؟
فلوى الرجل شفتيه وقال: تواصل الغناء والضحك، إنهم مجانين …
ولمح على باب الاستراحة سيد الأعمى فصاح به بأعلى صوته: ارجع إلى مكانك.
استأذنه الرجل بإشارة من يده فصاح به مرة أخرى: ولا كلمة.
وجعجع الرعد كانفجار القنابل، وانهلَّ المطر في سرعة وغزارة جنونيتين، فقال لنفسه بقلق: إن الفندق قديم لم يشيَّد بالخراسانة المسلحة، وإن الليل ينذر بالمتاعب.
وجاءه فراش فقال: تصاعدت الشكوى من الحجرة ١٢ من رشح السقف والبلل!
فقال بحنق: سكت الغناء والضحك؟ فليغادروا الحجرة!
– ولكنهم لا يستطيعون!
فصرفه واستدعى رئيس الفرَّاشين وسأله فيما قال الرجل فقال: الحجرات كلها ترشح، سأجنِّد الفرَّاشين لسدِّ الثغرات فوق السطح بالرمال.
– والحجرة ١٢؟
– لقد انحشروا، انزنقوا، امتلأت بطونُهم فانتفخت، تعذَّر فتح الباب، تعذرت الحركة.
اجتاح الهياج الكوني الفضاء في الخارج، أمَّا في الداخل؛ فقد دبَّت حركة نشاط شاملة، وانطلق الفراشون بأكياس الرِّمال، وحدثت مفاجأة غير متوقعة، إذ هب المنتظرون في الاستراحة، متطوعين للاشتراك في العمل، راقب المدير ذلك بارتياح، وارتاح بصفةٍ خاصة لتخلُّف سيد الأعمى.
وبعد نصف ساعة رجع شيخ الفرَّاشين ليُطلعه على سير العمل، قال: إنهم يعملون بهمَّةٍ عالية.
ثم بعد تردد: أما أصحابنا في الحجرة ١٢ فحالهم سيئة، وهي تزداد بتقدم الوقت سوءًا على سوء.
وغضب المدير. عصف به الغضب، وكأنما عصف به فجأة، عصف به بعد توتر عنيف حصره طيلة اليوم، تملكه الغضب أعصابًا ولحمًا ودمًا، جُن واندفع ينشد المزيد من الجنون، صاح بشيخ الفراشين: اسمع، احفظ ما أقول.
فحملق الرجل في وجهه بخوفٍ طارئ فصاح بتصميم: أهملوا الحجرة ١٢ بجميع من فيها!
– سيدي، الرجال يصرخون والنساء يبكين.
فزمجر كالوحش: ركزوا على السطح فوق حجرات النزلاء أمَّا الحجرة ١٢ فأهملوها بجميع من فيها.
تردد الرجل مقدار ثانية فصاح وهو يزداد توحشًا: نفِّذ تعليماتي حرفيًّا، وبلا تردد.
والتفت نحو النافذة الزجاجية، ينظر إلى الخارج، فرأى الزَّوبعة تتلاطم في قلب الليل، وتزداد عنفًا، ولكنه كان قد تخفف من عبءٍ ثقيل، واسترد الثقة وصفاء الذهن.