الطبول
دَقَّ جرسُ المنبِّه في رنين مُتَّصل فدبَّت في الأسرة حركة شاملة، ثَمَّة تثاؤب هنا وهناك، يندُّ وسط همهمات كطنين النحل، وضحكات طافحة بالبِشْر، وتأوهات مرحة، وفُتحت النَّوافذ فتدفَّق الفَجْر الغامضُ مُتسربلًا بنسيمٍ نديٍّ مُفْعمٍ بشتى الطيوب وأنفاس الطبيعة النقية، وارتفع صوتُ القائد دسمًا واضح النبرات يقطع بأنه سبقنا إلى الاستيقاظ منذ أمدٍ وتأهب لاستقبال اليوم الخطير، قال: السرعة والنِّظام والجد، لديكم ثلث ساعةٍ حتى تجتمعوا حول مائدة الإفطار.
وانْتَشرت الْحركةُ في نشاطٍ بهيجٍ، أقيدت الأنوار في المغاسل، طرقعت الشَّباشب فوق البلاط، سالت المياه من الصَّنابير، وهدرت السيفونات، وأزَّت الحلاقات الكهربائية.
– الفجر يُبشر بجو طيب.
– يجب أن نقطع شوطًا ملحوظًا قبل أن ترتفع الشمس.
– لكن الظهيرة آتية والصيف لا قلب له.
سرعان ما امتلأت الكراسي الخشبيَّة حول المائدة المُستطيلة ببهو الطعام، استقرَّت الجاكتات الكاكية والبنطلونات القصيرة فوق الأجساد الرَّشيقة، عقد كلٌّ حمَّالة صفارته حول عنقه، وأرسى عصاه إلى طرف المائدة جنب زمزميته وحقيبته. وصبَّ الشاي في الأقداح، وتَخاطفَت الأيدي الفطائر والجبن والعسل الأسود. وتتابع التمطُّق في سرعةٍ تُنذِر بتوقُّعات مُتربِّصة. والحقُّ أنَّ القائد لم يُمهلنا طويلًا، كأنَّما أرادَ أن يمتحنَ مُرونتنا، أو أن يُذكِّرنا بسلطاته منذ البدء، فنفخ في صفَّارته مقدِّرًا ربع دقيقة، نهضنا عَجِلين، رَكَّبْنا الحقائب فوق الظهور، وعقدنا الزمزميات بالأكتاف، وتناولنا العِصِيَّ، وهرعنا إلى الفناء. انتظمنا طابورًا طويلًا في ظلامٍ شاملٍ عدا شفَّافيَّة لا تكاد تُرى في الأفق الشرقي، ومثل شبحه أمامنا بقامته الطويلة ومضى يقول: لتَكُن كل رحلةٍ جديدة خيرًا من سابقاتها.
فقلنا في نَفَس واحد: آمين.
فعاد يقول: لنكن مثالًا طيِّبًا للآخرين.
فكرَّرنا في صوتٍ واحد: آمين.
– ولنستفد من كل خطوةٍ وكل تجربة.
– آمين.
– سيروا على بركة الله.
– آمين.
ونفخ في الصفارة والديكة تصيح فتَكونَّا في أربعات، واتَّخذنا خطوات «مَحَلَّك سِرْ» حتى احتل مكانه على رأس الطابور، ثم بدأ السير فسرنا وراءه على دَقَّات الطُّبول، وتبعتنا على الأثر عربة يجرها جواد تحمل المطبخ والمستشفى، سلَّمنا الفناء إلى ممر طويل ضيق محصور بين جدارين مرتفعين تفوحُ منه رائحة الكلس، وعطن البول، وتُظَلِّل نهايته سعف نخلات مغروسة في الجانبَين. شابَ مِشْيَتنا الرِّياضية حذرٌ شديدٌ لما توقَّعناه من وجود روث دواب أو قاذورات آدمية؛ إذ إنَّه رغم الحيطة والتفتيش يتسلَّل إلى الممر في هدأة الليل أناسٌ لمُمارسة حُرِّياتهم بلا حياء. سِرْنَا في حذرٍ حتى خرجنا إلى الخلاء فلفحتنا نسمات نقية مطلولة، ولم نكد نقطع خطوات حتى ترامى إلينا صوت السواق، وهو يحث الجواد على السير، ويُفرقع بسوطه في الهواء، وتنبَّه قائدنا إلى ذلك فصاح بصوته الدسم: قف.
فضربنا الأرض متوقفين فقال بنبرةٍ آمرة: ١ و٢ يذهبان للاستطلاع وتقديم ما يلزم.
انفصل الزَّميلان من الطابور، فرجعا إلى موقف العربة. أدركنا من حوارهما أنَّ حجرًا اعترض العجلة اليمنى، وأنهما يتعاونان على زحزحته. وتساءل قائدنا محنقًا: متى يبْلُغ معسكرنا كماله المنشود؟!
وعاد الزَّميلان إلى الطابور فنفخ القائد في صفارته، واستأنف الطابور سيره، سرنا أشباحًا ذائبة في ظلام، وفي السماء نجم واحد، وكُنَّا نحب ظُلمة الفجر؛ لأنَّها سريعة الزَّوال، ولأننا نطمئنُّ إلى الاختفاء في غلالتها، فنخرق تقاليد الطابور الصارمة بالمُداعبات والمُلاعبات الخفيَّة، سُعداء بشقاوتنا وعبثنا كاتمين ضحكاتنا فترتعش فوق الشفاه بلا صوت. في ظُلمة الفجر يتلقَّى سيئ الحظ ضربة عصا في ساقه، أو قرصة في ذراعه، أو نواة نبقة في قفاه، ولمَّا كان الفاعل مجهولًا؛ فإنَّه ينتقم من أيٍّ كان، وبأي وسيلةٍ تتفق له، لم تكن تلك الشقاوة مُريحة، ولكنها كانت مُتعة محبوبة، ولا تتم الرِّحلة إلا بها؛ ولذلك كُنَّا حريصين على احترام سِرِّيتها لنضمن استمرارها. ونهنأ — رغم انزعاجنا — بها. فالجدية المثالية الواجبة شعارٌ نُردده ونلتزم به، ولكن يبدو أنْ لا مفرَّ من التمرُّد عليه بين الحين والحين، وما يدري تكوين من تكوينات الطابور الرُّباعية إلا ورشاش سائل يبلِّله في مواضع مُتفرقة من أجسام أصحابه. وتبين لهم من رائحته أنه بول! كاد النظام يختل، وضاعت الضحكات المكتومة في هدير غاضب لم يتوقعه أحد، تجاوزت الدعابة حدود الاحتمال وانفجر صوت خشن بلا مبالاة: عليكم اللعنة.
فصاح القائد غاضبًا: قف.
توقفنا عن السير، انقلبت الدعابة علينا هذه المرة، وأنذرت بالنكد، وتساءل القائد: من الوقح؟!
فصاح الآخر مُتحدِّيًا: كلب بال علينا.
فصرخ القائد: الويل لكم.
ولكن سبقته الأحداث فندت صرخات، واختلطت أشباح ونشبت معركة عمياء، تبودلت اللكمات والركلات واللعنات، ومضى القائدُ يُهدِّد ويُنذِر في الهواء. اشترك كلُّ واحدٍ منا في المعركة، هاجمًا أو مُدافعًا، بلا حساب ولا حذر، وكأننا نُقاتل المجهول في الأركان الأربعة، اندثر لحظتئذٍ الودُّ الجامع بيننا، وتلاشت روح الزمالة العتيدة، وحلَّت محلهما وحشيةٌ كاسرة تنفث حقدًا وشهوة طاغية للأذى، كأنها قوة مدمرة تفجَّرت في قلب الظلام. تواصل الضرب بلا رحمة، وصمت قائدنا كأنما قد ترك لأيدينا وأرجلنا مهمة إنزال العقاب الشامل بنا، وما ندري إلا والظلمة تخف وتتهافت، ومعالم الدُّنيا تطل علينا من حولنا، ورقعة الأفق الشرقي تَبتسِم ببهجة الضياء. عند ذاك تراءى المُتعاركون، رأى كلٌّ وجه زميل أو صديق، فعقد الحياء أيدينا، وتطايرت انفعالاتنا السوداء، وتراجعنا بوجوهٍ أسيفة، وقلوب مُنكسرة، وجعلنا نجفِّف عَرَقنا، ونضمِّد جراحنا، ونتبادل نظرات حسيرة، متجنِّبين النظر نحو قائدنا الواقف كتمثالٍ للغضب والازدراء، وسادَ صمتٌ ثقيلٌ مشحونٌ بالنَّدم، وتلقَّيْنا أوَّل شعاعٍ للشمس بوجوه کالحة.
وراح القائد يُنقِّل عينَيه من شخصٍ لآخر، ثم قال: بداية على أي حالٍ جديرة بكم.
لم ينبس أحدٌ بكلمة، ولا انبرى أحد للدفاع يستوي في ذلك الظالم والمظلوم، وعاد القائد يقول: إنَّ زِيَّكم الرفيع ليخجل منكم.
وهز رأسه في أسى ثم تساءل: هل لدى المُذنب منكم الشجاعة للاعتراف؟
ولمَّا لم يسمع صوتًا قال: ليس من مبادئنا إلغاء رحلة بدأناها، ولكن لن يمرَّ ذنبٌ بلا عقوبةٍ تناسبه.
مضى إلى موقفه، نفخ في الصفارة، هوت المَطارق على الطبول، تَحَرَّك الطابور في ضوء الصباح الباكر. انتقلنا من الصحراء إلى المدينة، فقابلتنا طلائع العمال والباعة، وتبعًا لتقاليدنا رحنا ننشد الأناشيد مُتناسين المعركة وآلامها، ولم يكن شيءٌ يؤثِّر فينا مثل أناشيدنا الجميلة المُتغنية أبدًا بالبطولة والمجد والأُخوَّة، فسِحْرها يُخاطب منا القلوب والسرائر. ومرَّ بنا السابلة بلا اهتمام، وقليلون من تابعونا بنظرات محايدة، أمَّا الغلمان الذين يهرعون وراءنا فلم يكن قد استيقظ منهم أحدٌ بعد، وزَالت آثار المرارة تمامًا، وانتصر الشباب بقوته الخارقة، وأنعشتنا الأناشيد، فعدنا أهلًا للرحلة الطويلة الشاقة أمامنا، وسيطر علينا الإيمان بما نفعل وبما نقول، بالمُثُل التي نستظل بها، والمجد الذي نمضي إليه، والقوة التي سنُحَقِّق بها المعجزات. وكُنَّا سُعداء، رغم الجهد المتوقع والنِّظام الصارم، والعقوبة المُتربِّصة كنا سعداء، وسِرْنا وسِرْنا، وأنشدنا وأنشدنا، على دقات طبولٍ لا تتوقَّف، حتى نفخ القائد في الصفارة فتوقفنا وسط الضحى، وهتف القائد بوجهٍ لم يزايله الغضب: استراحة.
غَسلْنا وجوهنا في مقهًى قريب، ثم قصدنا العربة، فتناولنا شراب الليمون، وبعضًا من البسكوت، وكان الطريق غاصًّا بالمَارَّة والسيارات والعربات، وحرارة الشمس تحرق الرءوس وتستدرُّ العرق، وتبادلنا الأحاديث في صفاءٍ كأن لم تكن بيننا معركة، وتذكرنا ملابساتها بقلوب ضاحكة، ولكننا لم نخلُ من قلقٍ من ناحية عواقبها.
– هل تمر بسلام؟
– بعيد ذلك كل البعد.
– حبس انفرادي أو صيام نهار كامل.
وطوينا الموضوع بقرفه؛ لنواجه ما هو أهم في حاضرنا، فهدف الرحلة يظل مجهولًا لا ينبئ عنه قائدنا حتى نستدل عليه من خط السير، وكُنَّا مُعسكرين عند مشارف الميدان، ولكن الميدان مُفترق طرق مليء بالاحتمالات.
– أنتجه جنوبًا أم نمضي شمالًا؟
– الجنوب يعني الأهرام.
– أهرام الجيزة أم سقارة أم دهشور؟
– ولا تنس الفيوم.
– والشمال يعني هليوبوليس أو عين شمس.
– وهناك الصَّحراء في الجنوب والشمال معًا.
– وهي أسوأ الاحتمالات.
ونفخ القائدُ في الصفارة، فتوالت دقات الطبول كالنِّداء المُلِح فهرعنا إلى الطابور، وما كِدْنا نتوسط الميدان حتى أدركنا أننا نتجه نحو الجنوب، فعرفنا الهدف بلا تحديد، ولن يتحدد حتى نبلغ هضبة الأهرام. مضينا بأقدامٍ نشيطةٍ وحيوية رائعة، تستغرقنا الأناشيد، فلم نشعر بمرور الوقت؛ لذلك دهشنا عندما دُعينا للتوقف لتناول وجبة الغداء، وتبين لنا أنَّ الساعة تمت الثانية بعد الظهر. عسكرنا على حافة حقل مزروع بالجرجير، نزعنا الأحذية وغسلنا أقدامنا في جدول ماء، فرشنا الحُصر وجلسنا لتناول الغداء بعد أن جاء كلٌّ مِنَّا بتموينه من العربة، وهو عبارة عن طبق يحوي بامية وقطعة من الضأن، ومغرفة من الأرز وموزة. وأنسانا تناول الطعام همومنا الصغيرة، كما أنسانا الوقت فأثملتنا لذته الموشاة بأطايب الأحاديث والنوادر. ولمَّا فرغنا من الطعام استلقينا على ظهورنا لنستمتع بالرَّاحة في الفترة القصيرة المخصصة للقيلولة. وداعبنا النعاس، ونحن مستسلمون لأحلام اليقظة، وكدنا نستسلم للنوم لولا أن همس هامسٌ: انظروا.
تحوَّلت الأنظار إلى الحقل الذي يغوص تحت مستوى الطريق بمتر، فرأينا زميلًا يتوارى وراء عربة مقلوبة وهو يحتضن كائنًا لم نره، ولكنا رأينا جانبًا من فستانه هفا به الهواء فتحرك كالعَلَم.
– أي جرأة!
– سيجلب لنا متاعب جديدة.
وتطوع زميلٌ للذَّهاب إليه لتحذيره، وسرت شهامة التَّطوع إلى آخرين فمضوا في أثره، وتطلَّعت الرءوس إلى العربة المقلوبة باهتمامٍ وإشفاق وتوتر، وبحثت أعينٌ عن القائد حتى عثرت عليه نائمًا على سريره السفري وراء عربة التموين، ورأينا الزُّملاء وهم يتحاورون عند العربة المقلوبة، ولكننا لم نسمع كلمةً مما يدور فقال أحدنا: إنهم يقنعونه بالعودة.
فقال آخر ضاحكًا: أو بالاشتراك معه!
وجرَت الفتاة إلى مبنى من البوص غير بعيد؛ فاختفت داخله دقيقة، ثم ظهرت مرة أخرى في مدخله، وهي تتوسط عددًا من الفتيات! وهرع الزُّملاء إلى مبنى البوص؛ فدبَّ نشاطٌ محموم فينا جميعًا، وثبنا قائمين، وزحفنا نحو المبنى كجيشٍ من المجانين، وكانت الشمس تصبُّ على المبنى دفقاتٍ حامية من أشعَّتها فيكاد أن يَشْتَعل ولم يُبال أحدٌ بالحَر ولا بالجو الخَانق، وفاح المكان برائحة عرقٍ آدمي حريف، واضطربت أركانه بالصحة والعافية، وأنفاس الشباب الملتهبة، وشحنت بالعربدة المكتومة، والزَّفرات الضاحكة والأطوار المُستهترة. وفي حمأة الطرب المشبوب تردَّد صوتٌ ماجن بغناء، رقص مُستهترٌ مُتهتك، واشتبك اثنان في معركة مازحة. وعدنا واحدًا في أثر واحد، وارتمينا فوق الحصر مُستسلمين لراحةٍ عميقة، وما لبثت أن دوَّت الصفارة، وتتابعت دقات الطبول، قُمنا ننفض عن أنفسنا الكسل، انتظمنا في الطابور، ولمحنا القائدَ مُتجهِّم الوجه فلم ندرِ إنْ كان تَجهُّمه بسبب ذنبنا الأوَّل أو أنه فطن أيضًا لذنبنا الثاني، ولكنا كنا أبعد ما يكون عن الندم. وهمس صوت: نجونا بمعجزة.
فقال آخر: أو علينا أن نتوقَّع عقوبة مُضاعفة.
وأخذنا في السير، بعزائم قوية مضينا، أسعفتنا روح التحدي والصبر، وقلنا لأنفسنا إنه مهما كان، ومهما يكن ومهما سيكون فليس أخلد من البهجة والمسَرَّة والمرح، ولبثنا على تلك الحال ساعةً ونصفًا أو ساعتَين، ورغمًا عن إرادتنا سَلَّمنا بأنَّ الشمس عنيفة، بل أعنف مما تصورنا، بل هي في الواقع لا تُحتمل، وتصبَّب العرق حتى بلَّل ملابسنا، وضاعَف من تذمُّرنا إحساسنا بعدم طهارته. الحقُّ أنَّ التعب بدأ يزحف على عضلاتنا وأعصابنا مُبكرًا بالقياس إلى الرحلات السابقة. وكُلَّمَا تقدمنا اشتدت وطأته وعنفت ضرباته أمَّا الحر فأصبح خانقًا قاتلًا، كلا لم نذُق هذا الجحيم من قبل، ولم تخُر قوانا كما خارت اليوم، وتراخت أوتار أصواتنا وهي تنشد الأناشيد، ولأول مرة نشعر بوزن الوقت، وهو يتمطَّى فوق مناكبنا، تغير كل شيء، حال لونه وفسد طعمه، ففتر حماسنا ثم خمد، حتى الأناشيد تبدَّت لنا رتيبة مُكررة فاقدة المعنى والرُّوح فخجلنا من تردیدها. وخُيل لنا أننا موضع سخرية المارة والمنتظرين تحت مظلات الباص، ولم تقف مشاعرنا المدمَّرة عند حد فأوشكت أن تلتهم الرِّحلة نفسها التي بدَت طويلة بلا نهاية، مُعذبة بلا رحمة، خالية من أي معنًى أو عزاء، غير جديرة بالطقوس التي تحكمها، والنظام الذي يضبطها، والآمال المعقودة عليها، وقائدنا نفسه لاح قائدًا بلا قيادة ولا جيش، مُضحكًا في غضبه، هزيلًا في عنفه. ألحَّت علينا تلك الأفكار، وكُلَّمَا اشتدَّ إرهاقنا اشتدت إلحاحًا وعنفًا، ونفد صبر البعض فتوقَّف عن الإنشاد أو جعل يُحرك شفتيه بلا صوت، وجُنَّ البعض الآخر فجازف بالخروج من الطابور مع علمه بما يعنيه ذلك من فَصْله من الفريق مجللًا بالعار، منبوذًا من الروح الرياضية، وهي فضيحة لم تغب عنا عواقبها، وآثارها البعيدة في نفس القائد والمشرفين هناك في المدرسة، ولكنها في الوقت نفسه ميَّزتنا بشيمة الصَّبر، وأمَّلتنا في تخفيف العقوبة، وإنْ لم تغير شيئًا من فتورنا وإرهاقنا وحال الخذلان التي ركبتنا، وتتابع السير والغناء. ولم يعد شيء يحتفظ بعنفوانه إلا دقات الطبول وصلابة قائدنا غير المبالية، وأقران يُعدُّون على أصابع اليد مضوا بهامات مرفوعة وعضلات مشدودة يردِّدون الأناشيد بحماس وإيمان، حتى أثاروا الحنق والازدراء. وعندما لاحت لأعيننا الأهرام الشَّامخة كانت الشمس قد مالَت نحو الغرب، فوهنت حدتها، ودبت في الجو نسمة جعلت تُلاطفنا في استحياء، وأخذ الطريق في الارتفاع؛ فتضاعف إرهاقنا واشتدت آلامنا وتداعت أصواتنا. وبلغنا سطح الهضبة، وقد اختفت الشمس وتدثر الكون بغلالة داكنة هادئة ردَّدت أنفاسًا ضعيفة، كأنها أنفاس شيخوخة فانية، ودوَّى صوت الصفارة فتساقطنا من الإعياء، ونحن نتأوَّه بأصواتٍ غير مُبالية. خَمَّنا أننا سنمكث تحت الهرم ساعة أو أكثر قبل أن نستأنف السير إلى مُعَسْكرنا المُوغِل في الصحراء، ولكن قائدنا المنتقم قال بصوتٍ سمعه الجميع: لديكم ربع ساعة كاملة!
ذهلنا! تبادلنا النَّظر في صمت، ونحن نعلم أنَّ الأوامر لا تناقش، ولم نضيع الوقت في التحسر العظيم، ولم يكن بدٌّ من التضحية بالرَّاحة؛ فقمنا لابتياع ما يلزمنا في مقامنا الأخير، في حدود ما تسمح به اللوائح، ومدة الإقامة مجهولة لا يعلم بها إلا القائد، ولكنا آثرنا الأخذ بالأحوط، اشترينا ما نحتاجه من سجائر وصابون، وفاكهة وقوارير المياه الغازية. ضاع وقت الرَّاحة في الشراء والمُساومة وتنظيم السلع. وما فرغنا من ذلك حتى عادت الصفارة تدوي ودقات الطبول تدقُّ بلا نهاية؛ فانتظمنا في الطابور الرهيب، يحمل كلٌّ منا سلة موز على يد وبطيخة على اليد الأخرى حاشيًا جيوبه بالعلب والقوارير فضلًا عن أدواته الأصلية، كالعصا والزمزمية والحقيبة. وواصلنا الرحلة من غير أن ننال قسطًا من الراحة، بعضلاتٍ مُنهكة وأعصابٍ متوترة وأنفسٍ غاضبة، وضاعَف من متاعبنا مُقاومة الرِّمال الغزيرة لأقدامنا، واختفاء معالم الدنيا في جوف الظلام الهابط، استحالت أصواتنا عواء محشرجًا، وتقلَّصت عضلاتنا من حدة الآلام، فنسينا نسیانًا تامًّا مسرَّات الرِّحلة كأنها لم تكن وتمنينا الموت، وداعبنا أملٌ أن يعدل القائد عن خطته، وأن يقنع بما أنزل بنا من عقابٍ صارم، فتسترد الرحلة بهجتها المأمولة، وأحلامها الضائعة، ولكنه واصل سيره بلا مبالاة، ولم يكتفِ بذلك فصاح بصوتٍ كالرعد: حركة سريعة، ابتدئ!
لم نصدِّق بادئ الأمر آذاننا، ثم بهتنا من شدة المباغتة، الحركة السريعة نُدعى إليها عادة في مطلع الرحلة وفي ضوء النَّهار، أمَّا أن تفرض علينا قبيل النِّهاية فشيء خارق وغير إنساني يُراد به القضاء علينا. وإلى ذلك فهي نوع من الوثبات المُتلاحقة في صورة جري متقارب الخطو، يقتضي استخراج البطاريات من جيوبنا الخلفية؛ لتنير لنا الطريق خشية أن نتعثَّر في نقرة أو نرتطم بحجر، فكيف يُتاح لنا ذلك مع حملنا الثقيل، وتعبنا الأليم؟! ولا فرصة للتمرُّد فليس أمام الهارب من الطابور في ذلك المكان إلا الضياع في الصحراء والظلام، فلا مفرَّ من الانصياع والإذعان. ومضى القائد يثب، فاندفعت دقات الطبول في تلاحُق سريع، وشرعنا في الحركة السريعة، جربنا أن نُمارسها مع الاحتفاظ بأحمالنا، ومع استغناء عن البطاريات، ولكن بدا ذلك ضربًا من المحال، لا مفر من التخلص من أحمالنا العزيزة، لا مفرَّ، حتى لو تعرَّضنا للكآبة والقرف والحرمان، لا مفر. وتخلَّصنا من البطيخ والسلال، تركناها لقًى في الصحراء للحشرات والهوام، وأخذنا نَثِب بسيقان متهافتة، وعزائم خائرة، وقلوب باكية. مضينا يلفنا الظَّلام على ضوء البطاريات المُتحركة في أيدينا كأننا نجومٌ مُتداعية، تبعث بإشعاعها الأخير قبل اندثارها النهائي، وتذكرنا بحسرةٍ ساخرةٍ فرحة الاستيقاظ، وبهجة الأناشيد، ودعابة الطريق ونشوة الحقل ومتعة الشراء، تذكرنا ذلك كله بذهول، ونحن نتقدَّم شبه عرايا منهوكي القوى إلى معسكرنا الرَّابض في أعماق الخلاء. وتقدَّمنا كما قُدِّر علينا؛ وحتى الأسف لم يعد يجدي، ولم نهتم كذلك ما إذا كان ينتظرنا عقاب جديد أم سيكتفي بما حَلَّ بنا. وتاقَت أنفسنا للنوم باعتباره الشفاء الأخير لجميع الآلام، وأخذت دقات الطبول تبطئ رويدًا رويدًا إيذانًا بتغيير الحركة وتقارُب المعسكر، وعُدْنَا تدريجيًّا إلى سيرنا العادي، ومن شدة الجهد لم نجد حاجةً لتبادل همسة واحدة؛ فغاص كلٌّ في وحدته، وما ندري إلا ونحن ندخل في الممر الطويل الضيق؛ فتفعم أنوفنا روائح الكلس وعطن البول … وفي الفناء امتدَّت تكويناتنا الرباعية لتصنع طابورًا واحدًا، فوقفنا مُتصبِّرين لنتَّقي التقوض والانهيار، وصمت قائدنا مَليًّا، رُبَّما ليتم تعذيبه لنا، ثم قال بصوتٍ هادئٍ مليءٍ بالنذر: انتهَت رحلتنا، وغدًا يجمعنا الحساب، أمَّا الآن فتناولوا عشاءکم ثم أخلدوا للنوم.
ولم يهمنا إلا النوم.
أجل، ليكن الآن نوم، وليكن في الغد حساب.