العريس
عند تلك النقطة من الحديث مال نحوي حتى شعرت بأنفاسه تنداح فوق صدغي وقال: اعزم وتزوج.
استجبت لاقتراحه، كنتُ في الواقع أتلهف عليه، بتُّ مؤمنًا بأنَّ الزواج هو المغامرة الوحيدة القيمة الباقية لي في الحياة.
قلت: فكرة طيبة.
– وماذا تنتظر؟
– أنتظر العروس بنت الحلال.
– هل بحثت عنها بجد؟
– لا وقت عندي للبحث.
فقال واهتمامه بالموضوع يزداد بقوة: يوجد حلٌّ لكل مُوقفٍ معقد، ما هي شروطك؟
– عروس مناسبة، هذا ما أريد.
– ست بيت أم عاملة؟
– ست البيت مُفيدة والعاملة لها مزاياها غير المنكورة.
– العاملة تملك إيرادًا؟
– الفقيرة مقبولة عندي وذات الإيراد مقبولة أيضًا.
– لك مواصفات خاصة في الجمال؟
– حسبي أن تكون مقبولة.
– شروطك يسيرة، أنت تُريد امرأة حسنة المُعاشرة.
– بلا زيادة.
فقال بثقة: طلبك موجود، هل تعرف أسرة ميري؟ عابد میري؟ كريمته هي من أرشحها لك.
وقادني ذات يوم إلى أسرة عابد میري فقدمني لهم، الأب والأم والفتاة، والحق أني غَادرتُ بيتهم عاشقًا أو قريبًا من ذلك، تبدَّت لي الفتاة مثالًا للرزانة والأنوثة والكمال البيتي، أحببتُ وقار الأب وأبهة الأم، وفي ذلك اللقاء تم الاتفاقُ الأولي، وهو ما يُقابل الترشيح للوظيفة في اصطلاحاتنا الحكومية، وبقي الأهم وهو مسوغات التعيين وتقرير مكتب الأمن، ومن ناحيتي تحريت عنهم فجاءتني تقارير متناقضة كالمتوقع، قيل لي: نِعْم التوفيق، أسرة ولا كل الأسر، ضمنت الطمأنينة والسلام في الحياة والموت.
وحذرني آخر قائلًا: لا تغرنك المظاهر، ستخنقك أغلال العبودية.
وسمعتُ حكاياتٍ عن جنون بعض أفراد الأسرة، وانتحار آخرين، ولكن لم يوهن ذلك من عزمي، تحصَّنت بخبرتي الطويلة بالحياة والبشر، وأسكرتني نشوة مُتحفِّزة للمُغَامرة ودق أبواب المجهول، وقلتُ لنفسي إن الحياة نفسها شبيهةٌ بهذا الذي يُقال، تلقيناها وهي مثال للأمان حتى بعد الموت، ثم تكشفت لنا عن مجهول جليل، واحتمالات مُبهمة، وما زلنا نعشقها، ونتعلق بأذيالها حتى الموت.
وفي الوقت نفسه تعقبتني التَّحريات تغوص في أعماق ذاتي وتاريخي، فساورني قلقٌ غير قليل، ورجوت أن يسود التَّسامح وينتصر في النِّهاية، وجاءني صديقي الوسيط وقال لي: لم أعرف أسرار صحتك إلا هذه الأيام.
فدهشت وتساءلت: حتى عن الصحة يتحرَّون؟
– طبعًا، كثيرون لا تُزكِّيهم في الختام إلا صحتهم القوية!
– إنِّي بحمد الله أتمتَّع بصحة جيدة.
– ولكن تُوجد رصاصة مستقرة من قديم في صدرك تحت الترقوة!
فضحكت مُنتشيًا بالذكريات وقلت: ذلك تاريخٌ قديم.
– ولكن كيف نفذت إلى صدرك؟
فقلت بعد تردد: في مظاهرة وطنية.
– تلك حجة كل مصاب برصاصة قديمة.
– أيمكن أن يشكُّوا في ذلك؟
– العجوز أصبح يشك في الثورة نفسها مع أنه كان من مُعاصريها، هو اليوم يقول إنه لم تندلع ثورة، ولم يُطلق رصاص، ولم يستشهد أحد.
– هذا جنون رسمي!
فابتسم الصديق قائلًا: على أي حال فمن حُسن الحظ أنَّه قيل له — عابد میري — إنك أُصبت بها في ملهى للغناء والرقص!
– أتعد ذلك من حسن الحظ؟
– نسبيًّا، يمكن الدفاع عن عبث الشباب وطيشه، أمَّا التورط في شئون السياسة فيعرِّض الإنسان لأخطارٍ مجهولة؛ وبالتالي تتعرض لها أسرته، على أنني دافعتُ عنك في هذا الشأن.
– ماذا قلت؟
– قلتُ إنك لم تنتمِ لحزب، ولا تنتمي لرأي، وأنَّك مُخلص للدولة، لم تكن من الليبراليين، ولا الشيوعيين، ولا الإخوان، وذلك بلا شك يزكيك كزوج مأمون المستقبل!
فقلت بانقباض: ولكن من الظُّلم أن يُقال إنني تعرضت للقتل في ملهى للرقص!
– ما علينا، وما حكاية خوفك من الصراصير؟
فضحكت عاليًا وقلت: حتى هذا؟
– قيل إنك تهدرُ وقتًا ثمينًا في رش المطبخ والحمام والحجرات، وإنَّ منظر صرصور خلیق بأن يفزعك لدرجة الصراخ، حتى ولو كان من النَّوع الألماني الصغير الرَّشيق!
– أهكذا تصفه؟
– الأمر تافه، يبدو تافهًا، ولكن ماذا يعنيه؟ هذه هي المسألة، ويُقال أكثر من ذلك إنك تتوهم أن البلد ستتحسن أحواله كثيرًا إذا نجحت في إبادة الصراصير.
غضبت ولا شك وأنا أتابعه ثم سألته بازدراء: أيهتمون حقًّا في بيت عابد ميري بتلك السخافات؟
– يا عزيزي، إنهم يحترمون بعض الذكريات المتعلقة بالصراصير.
– کلا!
– هو الحق، كانت لهم جَدَّة تؤمن بأنَّ الصراصير تحمل بعض أسرار الوجود.
فقلت ساخرًا: إذن نُحاول احترام الصراصير حُبًّا في آل میري.
ورُحت أفكر — عقب انفرادي بنفسي — في طريق الزَّواج المُعقد وهوس التحريات التي تسبقه، كأنَّ الناس يطمحون إلى الظفر بالتوافق المنشود بين الزوجين كاملًا غير منقوص، جاهزًا بلا عناء التجربة، قبل خوض الحياة الزوجية، مُتناسين قدرة الإنسان الخارقة على التكيف من تحديات الواقع؛ فالإنسان الذي عاشر عصور الصيد والرعي، والزِّراعة والقحط والجليد، فتغلب على عناء المُواجهة وحل التناقضات القاسية، وحقَّق ذاته على الوجه المقبول الذي قرر له البقاء في الحياة، ذلك الإنسان قادر — بلا شك — على التكيف مع عروسه الجديدة مهما يكن من تنافر ماضيه وماضيها. وفكرت أيضًا فيما كان يؤخذ عليَّ في الماضي من عدم الانتماء لحزب من الأحزاب، وما رُمیت به بسبب ذلك من تُهم البلادة وقلة التربية الوطنية، وغلبة العبث، والتفاهة والأنانية، وكيف انقلب ذلك إلى نقطة قوة تُزكيني في غمار التَّحريات التي تنهال عليَّ مُنقبة عن المستور من خطایاي!
•••
وجاءني صديقي الوسيط بعد ذلك بأسبوعين؛ فتفحصته بقلقٍ وقلت: طبعًا ما زالت التحريات جارية؟
فضحك باقتضابٍ وقال: الحديث كان عن السلوك الشخصي.
– هو على أي حالٍ من ذيول الماضي الذي قرَّرت تغييره من جذوره.
– أنا نفسي قلتُ ذلك، ولكن الماضي يتمثَّل لبعض الناس وكأنه الحقيقة الوحيدة الراسخة.
– يا له من موقفٍ سخيف حقًّا!
فقال برقة ليُخفف من وقع حمولته: كلام قيل عن القمار.
فهتفت من فوري: كلا، لستُ بطبعي مُقامرًا، لعبت مرات معدودات ثم لم أعد إليه.
– والخمر؟
– اسمع، صدقني، دائمًا كنت وما زلت مُعتدلًا، لم أفقد الوعي إلا مرة واحدة.
– آل میري لا يخافون الشَّراب بقدر ما يخافون عواقبه.
– لم تكن ثمة عواقب وخيمة.
– عابد میري نفسه يشرب، وهو يغني إذا شرب، ولكن قيل له: إنك طولت لسانك مرة على الاستبداد، وأنت فاقد الوعي!
قلت لك إنني لم أفقد الوعي إلا مرة واحدة.
– رُبما وقع ذلك في تلك المرة، وعابد میري يخاف أن يتكرَّر ذلك بعد أن تكون قد صرت زوجًا وأبًا؟
فقلت بحدة: لا أساس لخوفِه صدقني، ثم لماذا تذكر تلك الزلَّة، وتنسى مُجَاملاتي الطويلة للاستبداد، وأنا في تمام الوعي؟!
– الموضوع قابلٌ للمُناقشة؛ فلنتركه إلى حين، ولكن ما الرأي في ولعك بنسوان شارع محمد علي؟
فقلت وكل شيء يتجهمني: ماضي أي رجلٍ لا يخلو من عبثٍ مثل ذلك.
– عابد میري يُسلِّم بالمبدأ، ولكنه يحتجُّ على الذوق، وقال: إن يكن ذا ولع خاص بأولئك النسوة فكيف أتصور أنه يُمكن أن ينسجم مع فتاةٍ كريمةٍ مثل ابنتي!
– وهل يُوجد فارقٌ حقيقي بين كريمته وبين نساء محمد علي؟
فضحك صديقي وقال: آه لو سمعك تقول ذلك.
وساد صمت يغلفه الأسى، وارتسم الإشفاق على وجه صديقي، ولكني أشرت إليه أن يواصل، فقال: يتحدثون عن شقة مفروشة تملكها بناء وأثاثًا!
– وفي نيتي أن أُقيم فيها بعد الزَّواج، ماذا في ذلك؟
– الشقة لا تهم، ولكن من دأبت على استقبالهم فيها!
– ماذا يقصد الأوغاد؟
– ها أنت تغضب فيحسن بي أن أسكت.
– هات ما عندك، وإن أردت جوابًا فإني كنتُ أستضيف بها نخبة من الأصدقاء.
– أصدقاء من نوعٍ خاص، من إخواننا العرب الأثرياء.
– استضفتهم بصفتهم أصدقاء لا أثرياء، وقد توطدت علاقتي بهم مذ أيام إعارتي للعمل في بلادهم.
– أما أنا فأصدقك ولكنك تعلم كيف تترجم تلك العلاقات البريئة على ألسنة السوء؟
فاستشطت غضبًا وهتفت: للصبر حدود.
– لا تغضب، فذاك امتحانٌ يتعرَّض له كل طالب زواج.
وعجبتُ — وحق لي أن أعجب — من تشدُّد النَّاس في تحرياتهم، وعجبتُ أكثر بالنَّظر إلى أننا نُعايش فترة من الانحلال والفساد بات يُضرب بها المثل، فلِمَ يتشدَّد النَّاس في تَحرِّياتهم كل ذلك التشدد، وهل يعتقد الآباء أنه يمكن أن ينتقوا أزواجًا لبناتهم من منطقةٍ مجهولة تقع خارج الزَّمن والتاريخ؟ وهل عش الزوجية أهم في حياتنا العامة من الوظيفة؟ وألا يضجَّ الناس بالشكوى ليل نهار من الخدمات المبتورة — وضمنًا — من المسئولين عنها؟ فكيف تزوج أولئك القادة، وكيف تفادوا من مطاردة التحريات؟!
ومضى حماسي للزَّواج بفتر، وندمت على تعريض نفسي لألسنةٍ لا تعرف الرَّحمة ولا الحياء.
•••
وبعد مضي ثلاثة أسابيع رجع إليَّ صديقي فبادرته من فوري: لن أستمر.
فقال بحدة: إني أحتقر الضعف، اصمد حتى النهاية، ولا تهز ثقتك الكاملة بنفسك.
– سأخفق في الزَّواج وأبوء بسوء السمعة.
– اعتبرني لم أسمع شيئًا، واسمع أنت ما قيل عن عملك!
وأثار حب استطلاعي بقوة فلم يسعني تجاهله، قال: شهد لك كثيرون بالتَّفاني في العمل.
فلم أعلق وانتظرت مُتوقعًا ما لا يسر.
– ولكن قيل إنك تُحب السلطةَ وتركيزَ كل نشاطك في يديك، ثم تنطلق شاكيًا من عدم تعاون الموظفين معك!
– لن أناقش، ولكن ما علاقة ذلك بلياقتي للحياة الزوجية؟
– كل سلوك مهما بدا عرضيًّا فله دلالته.
– استمر.
– وقيل كلام عن تحقيقٍ أُجريَ معك بخصوص بناء مجمع!
– وماذا كانت نتيجته؟ التحقيق مجرد إجراء؛ فلا هو خير ولا هو شر، وها هم يرونني مُستمرًّا في عملي، بل ترقيت مرتين بعد التحقيق، فما حكمة التنديد بي بسببه؟
– لك حق.
– إذن فلنعتبر تلك النقطة منتهية.
– ولكن قيل أيضًا إنك هددت بجر آخرين أكبر منك معك فحفظ التحقيق!
– عليهم اللعنة!
– إنهم يستحقونها.
– أتحداهم أن يثبتوا ذلك!
– عليهم اللعنة، ولم يقفوا عند ذلك، بل جعلوا يتساءلون، كيف يعيش حياته المُرفهة؟ كيف ملك الشقة المفروشة؟ والسيارة؟ من أين له ذلك؟
فكوَّرتُ قبضتي غضبًا وقلت: يتجاهلون ما ورثته عن والدي، كما يتجاهلون حقيقة أخرى؛ وهي أنَّ بعض مؤلفاتي المدرسية مُقررة في مدارس البلاد العربية … فكل مصدرٍ لإيرادٍ عندي واضح وشريف.
توقَّعت أن يتكلم عن الذين قرروا كتبي وعن علاقتهم بالأصدقاء الذين أستقبلهم في الشقة المفروشة، ولكنه لم يفعل، كأنَّما نكص حيال درجة الحرارة التي ارتفع إليها حنقي، بيد أنه حدجني بنظرةٍ قصيرةٍ قرأت فيها ما تورَّع عن ترديده، وجعل يضحك ويقول: الرَّجل المُخرف عابد میري يميل إلى تصديق الأكاذيب، وفي آخر لقاء قال لي: إن سوء الظن من الفطنة، وأني بت أعتقد أن ذلك العريس هو المسئول عن ٥ يونية؟
فصحت في ذهول: إذن فإني المسئول عن ٥ يونية!
وغادرت المكان مُسرعًا لا أكاد أرى طريقي من الغضب، ماذا يعرف المخرف عن ٥ يونية؟ إني مع التسليم بكافة جرائمي الخلقية، أُعَدُّ أو يجبُ أن أُعَدَّ من أشرف الرجال، وهل أغراني بالخطايا إلا الاقتداء بالآخرين؟! وكنتُ في الوقت نفسه ضحية، أجل ضحية لرؤسائي الذين ضربوا لي أسوأ مثل، وها أنا أُحرَم من جنة الاستقرار العائلي كأنني المجرم الوحيد!
وقرَّرت العدول عن فكرة الزواج نهائيًّا.
وقلتُ لنفسي إنه ليس بالمرأة وحدها يحيا الإنسان.
وندمت أشد الندم على تعريض نفسي للزَّوبعة التي عصفت بها.
•••
وكنتُ جالسًا بمكاني المُختار عندما لمحت صديقي قادمًا من بعيد، رددت في نفسي الكلام الفظ الحاسم الذي سأجابهه به، وقررتُ أن أعلن تمردي على الزواج إلى الأبد.
وبادرني الصديق قبل التحية، قائلًا: عابد میري يحييك، ويرجو أن تُحدد موعدًا لإعلان الخطوبة في أقرب وقت ممكن!