العري والغضب
ناعمة مُستكينة، مهذبة غارقة في الطمأنينة، مُلهمة لأحلام البيت السعيد، تنتشر كالشَّذَى في أعماقه، فتشكل بضعفها المُنساب طاقة مُسيطرة بعون الإغراء والرَّغبات الدفينة، وكانت بمَجْلسِها أمامه في الترام صورة مُجسدة لأمنية عذبة غامضة، مُنعشة للروح، مُبدعة للألفة الحميمة، فقال لنفسه إنَّ هذا هو ما أبحث عنه. والتقت عيناها في حركة عفوية بعينَيه المركزتين، فانتبهت من أحلامها، واعتدلت في جلستها، ونحت وجهها مدارية ابتسامة خفيفة جدًّا لإدراكها بأنَّها كانت موضع نهم والتهام. ودفعته الابتسامة إلى اتخاذ قرار جريء بتأجيل زيارته للمحامي — رغم دقة المرحلة التي تمر بها القضية — إذا دعت إلى ذلك فرصة طيبة، ولم يُغادر مجلسه في محطة «المُحامي»، لبث ينتظر حظه المجهول، ولكنه تذكر على رغمه المحن التي عاناها — هو وأسرته من قبل — ما يُقارب ربع القرن، والتي احتوتها في النهاية القضية، فلم يمضِ قراره بلا قلق، ولكن هل تقوم القيامة إذا تأجلت الزِّيارة أسبوعًا؟ وانقبض قلبه وهو يتخيل مُحاميه في غضبه لتخلفه عن الميعاد دون اعتذار، فإنه محامٍ صارم، يحتقر المزاج ولا يحنو على الضعف البشري.
ولما رجع بوعيه إلى الجالسة قبالته ضبطها تنظر إليه في دهشة، فأدرك من توِّه أنَّ انفعالاته قد ترجمت إلى تشنجات في قسمات الوجه وعضلاته، ورُبَّما تعدت ذلك إلى اليدَين، أجل فإنَّ ذلك مما يُلاحظ عليه أحيانًا، ولكنه ابتسم إليها بجرأة لا تعوزه في أمثال هذه المواقف فأحنت رأسها باسمة، عند ذلك حلَّ الرضا بصدره، واطمأن إلى أنَّ تضحيته لن تضيع في الهواء، وقامت فقام وراءها بتلقائية وبلا أدنى ارتباك، وبعد ثوانٍ كانا يترامقان مواجهة على الطوار، على حين امتد وراءهما ميدان الضاحية، شبه خالٍ، وقد احمرَّ قرص الشمس إيذانًا بالمغيب. تمتم: فرصة سعيدة.
فمضت إلى الطريق الوسطي دون أن تجيبه، ولكنها دعَتْه بأسلوبها المُشجِّع الصامت للحاق بها، ومشى إلى جانبها فتقبلت ذلك دون اعتراضٍ فعاد يقول: فرصة سعيدة.
كان الطريق سكنيًّا بلا دكاكين، به قلة من المَارَّة، وكثرة من السكان تتواجد في الحدائق، ولمَّا لم يتبيَّن لها هدفًا قريبًا فقد قال: يوجد قريبًا من هنا فرع للفردوس.
ولكنها واصلت السير فسار إلى جانبها، وهو ينظر فيما أمامه مُتسائلًا، ووجدها تتجه نحو بيت صغير من دور واحد، فاقتحمَتْه دهشةٌ وتلقَّى رد فعل حاد وأليم، صدق ما يرى بصعوبة واحتجاج وتبرم، وقال لنفسه: «حقًّا إنه لزمان زالت فيه الفوارق بين الأنواع.» وبتبدُّد الحلم لم تبقَ إلا الحقيقة القاسية المُبتذلة، فشعر بتأنيبٍ لتفويته ميعاده الهام بشأن القضية، وتبعها إلى الداخل بلا حماسٍ يُذكر. ووجد البيت صغيرًا حقًّا، يتكون من صالة طويلة وحجرة وحيدة في النهاية. حجرة نوم آية في البساطة أو في الفقر، بها فراش ومشجب ومقعد وحيد، وحتى الفراش اقتصر تجهيزه على حشية ووسادة بلا غطاء، ولا ملاءة، وانبسطت أرض الحجرة الخشبية بلا سجادة ولا كليم، ولا حصيرة. ابتسم بفتورٍ وهو يتذكَّر أحلامه المنتشية، وقال إنه لم يبقَ ما يستحق الاهتمام إلا المرأة نفسها، الجميلة ذات المظهر الخَدَّاع، ورجع المحامي يلحُّ على وجدانه فسألها، وهو يعلم بالجواب مُسبقًا: يوجد تليفون؟
فهزت رأسها بالنفي وهي شارعة في خلع ثيابها، فقال مُداعبًا يأسه: صحتك.
فنظرت نحوه باهتمام، فرفع كأسًا مُتخيلة في الهواء، ثم رشف رشفة، فابتسمت وواصلت خلع ثيابها في رسوخ المحترفات، حتى تبدى جسدها عاريًا جميلًا مُحايدًا، ونظرت نحوه كأنما تحثُّه على الاقتداء بها، فأذعن لدعائها الصامت، وهو يُنادي بإصرار حماسه الهارب.
•••
وغادرت الحجرة فأشعل سيجارة، تابع الدخان بفتور وأسًى، عاد يفكر بالقضية، وبالنقاط التي عنَّ له أن يُناقشها مع المحامي. لو وجد تليفونًا لانتحل عُذرًا للرجل، واتفق معه على موعدٍ آخر، ولا فائدة تُرجى من الذهاب الآن لأنه سيجده منشغلًا بموعد آخر، أو يجده قد غادر المكتب. وقد عاش زهرة عمره، ولا أمل له إلا كسب القضية، ولكن الله وحده يعلم ما عانت أعصابه طيلة تلك الفترة الغالية من العمر.
– لا تلجأ إلى المحاكم، المحاكم حبالها طويلة. وهيهات أن تظفر في ساحتها بحاجتك.
– وما عسى أن أفعل؟
– كما كان يفعل أجدادك، بل كما يفعل خصومك.
– ولكن الزمن تغير.
– الزمن لا يتغير، أنت الذي تغيرت.
– إني رجل مُتعلم.
– عليه العوض!
اليوم لا يدري إن كان أصاب أم أخطأ، ولكنه وقع في أسر القضية، فوَكَّل المحامي، وتبارى المحامون، وتكلم الشهود، ولم يَعُد في الإمكان تغيير الخطة، وها هو عارٍ مُلقى على فراشٍ عارٍ على حين ينتظر المحامي ويتعجب! ولكن ألم تغب الفتاة في الحمام أكثر مما يجب؟ أي مظهر خداع، وأي آمال قد تبددت، يبدو أنَّ الدنيا تتغير بأسرع مما يُدرك، وقد ينزلق في هاوية مُخيفة بسبب رغبته المُلحة في الزَّواج والاستقرار، وفضلًا عن ذلك فعليه أن يؤجل مشروع الزواج، حتى يتم الفصل في القضية، وإلا فما جدوى أن يتزوج اليوم ثم يشهر إفلاسه غدًا؟!
– هل تلجأ للقضاء لأنك مُتعلم حقًّا أو لأنك ضعيف؟
– إنك تتكلم يا عمي بلغة هيروغليفية.
– ابصق على ذقني إن نجحت في ذلك السبيل مقاصدك.
– نحن نتفاهم بلغة حية جديدة.
لا بد للحق أن ينتصر ولو طال الزَّمن، ولكن ما بال المرأة قد تأخرت؟ ماذا تفعل في الحمَّام؟ وبرم بالانتظار فغادر الفراش، فتح الباب نصف فتحة، أخرج رأسه فرأى الصالة غارقة في الظَّلام إلا شعاعًا يترامى من منعطف جانبي، خمَّن أنَّه الحمام، تنحنح فلم يرد أحد، صفق فلم يرد أحد، سار على أطراف أصابعه نحو الضوء حتى وجد نفسه في الحمام ولكنه وجده خاليًا. أدرك أنها اغتسلت ثم ذهبت إلى مكان ما — لعله المطبخ — فقرر أن يأخذ دشًّا، وتحت سيال الماء المتدفق انتعشت روحه وخف شعوره بالذنب حيال المحامي. أجل سيرميه بالإهمال؛ فهذا دأبه كُلَّما قعد به عن الاتصال به عذر، ومع ذلك فعندما واظب على ملاحقته في الشهر الماضي ضاق به وقال له: يلزمك أعصابٌ من حديدٍ لكي تواجه حياة العصر.
وقال له أيضًا مازحًا: إني أتوقَّع أن تجيئني المرة القادمة حافي القدمين، مرسل شعر اللحية والرأس، مسطولًا كما يفعل شباب العالم الحر!
والمسألة في حقيقتها أنَّ القضية هي حياته أمَّا بالنسبة للمحامي فهي النشاط رقم كذا في جدول أعماله الحافل بأمورٍ لا نهائية وهو — المحامي — رغم رسوخه في العلم، وقدرته الفائقة على الإنجاز، ورغم عطفه الشديد عليه، فإنَّه لا يكن له احترامًا كافيًا، وفي ساعة صفاء وهما يتناولان الغداء معًا قال له: لولا اندفاعك الجنوني لما كان للقضية وجود أصلًا.
فقال له بإصرار: إنها مسألة كرامة …
– ولكن حتى الاندفاع الجنوني يجب أن يقوم على أساس من العقل!
– الحقيقة أنك لا تفهمني.
– حقًّا! أأنت لغز؟
– إني أحترم أمورًا تعتبرها أنت بكل بساطة خرافات وأباطيل.
– لقد تأخرت يومًا عن موعد هامٍّ لتشهد صلاة العيد فما معنى ذلك؟
– قصصت عليك عشرات القصص، ولكنك لا تُصدِّق.
– حقًّا؟ … فماذا يعني جريك وراء النسوان وتقلبك في الحانات؟
عند ذاك قال بانفعال: أأنت محامٍ أم مربٍّ؟!
وغادر الحمام عائدًا إلى الحجرة وهو يضمر لها — المرأة — عتابًا على طول اختفائها، ولكنها لم تكن قد رجعت بعد، وذرع الحجرة ذهابًا وجيئة ثم قرَّر أن يرتديَ ملابسه. اتجه نحو المشجب ولكنه لم يجد لملابسه أثرًا. ذهل، أجال بصره في أنحاء الغرفة ولكنه لم يعثر على شيء. أية مُداعبةٍ سخيفة.
– رَبَّاه!
نَدَّت عنه في ذهولٍ أشد عندما تبيَّن له أيضًا أنَّ ملابس المرأة غيرُ موجودة. تفحَّص أنحاء الحجرة بغضب، نظر أسفل السرير، مضى نحو الباب وصفق بشدة. ولم يكن عرف لها اسمًا فصاح: یا ست!
وبنبرةٍ أشد: يا هوه.
واندفع يُفتِّش الشقة الصغيرة، الحمام مرة أخرى والمطبخ ولكنه لم يجد أثرًا لإنسان، ومضى نحو باب الشقة فوجده مُغلقًا بإحكامٍ فرجع إلى الحجرة، وهو يتميز غيظًا وحنقًا، واضحٌ أنَّ المرأة قد ذهبت، من السهل تصوُّر أنها كانت مختفيةً في ظلام الصالة عندما دخل الحمام، ثم ارتدَت ملابسها بسرعة، وأخذت ملابسه وذهبت، ما معنى ذلك؟ هل أرادت سرقته مع منعه من اللحاق بها؟ افتراض غير مطمئن، وثمة سؤال آخر، بيت مَنْ هذا؟ … وأي علاقة للمرأة به؟ وكيف تتركه عاريًا في هذه الشقة الجرداء؟!
وشعر بالعجز والقهر والضياع اللانهائي، لن يرجع إلى ما كان عليه، ذلك الرجل المُحترم. إنه يودع حياة يعرفها ليستقبل حياة مجهولة مُدمرة، ولكنه لا يريد أن يُصدق، لعله مزاح ثقيل سخيف ليس إلا …
ولكن الوقت يمر بلا مبالاة، وفجأة ضرب بيده على جبينه وهتف: مكيدة، إنها لمكيدة مُجرمة!
لا تقع هذه الأمور مُصادفة، إنَّ أيدي خصومه تتراءى له، وهي تُدبر بخُبث وإحكام رامية في النهاية إلى إفشال القضية. يتذكر الآن أنه لمح المرأة في مشرب الشاي قبل أن يُغادره ليستقلَّ الترام، وأنها جاءت في أعقابه لتجلس أمامه، وسألته عن الساعة لتضبط ساعتها، وفي الحقيقة لتلفت نظره إليها، وأنها لم تكن ملاكًا كما تصوَّر — كيف تصوَّر ذلك — فقد فرَّجت بين ساقَيها العاريتَين لحظة ثم ضمَّتهما بسرعة وحياء مصطنع، فظنها حركة بريئة طاهرة، ثم استسلمت لأحلام مجهولة في استرخاء ناعم، فكان بوسعه أن يُدرك حقيقتها، ولكنه ثمل بخياله الجامح، ورغباته الدفينة، فرأى ما لا وجود له وبنى عليه العلالي، واندلق كغرٍّ أبله، لقد أحاط خصومه بتحركاته وأهوائه فرسموا خطة مُحكمة، وأوقعوه بسهولة مخجلة ثم تركوه عاريًا في مسكن مجهول ليتوقَّع قدرًا مجهولًا، وبمقتضى ذلك المنطق السليم القاسي فعليه أن ينتظر ضربة قاضية في المصيدة.
– ما العمل؟
كيف يفر قبل أن يدهمه الخطر؟ وجال في المسكن مرة ومرة بلا جدوى على الإطلاق، ليس إغلاق الباب بمشكلة، فبوسعه أن يقفز من النافذة، ولكن كيف يواجه الطريق عاريًا، هذه هي المشكلة، وأدرك أن خلو السرير من الغطاء والملاءة، لم يكن عن فقر أو مُصادفة، ولكنه ضمن الخطة التي رُسمت لحرمانه من أي شيء يستر به جسده. وقف وراء النافذة ينظر من خصاصها إلى الطريق المُضيء الذي لا يخلو لحظةً من عابر، كيف يمكنه أن يمضي فيه عاريًا؟ وماذا يفعل عندما يبلغ الشوارع المُزدحمة بفرض أن أمكن عبور هذا الشارع دون حادث؟! وسواء أبقي أم انطلق مُتخطيًا حدود العقل، فسوف يقع تحت طائلة إحدى تهمتَين خطيرتَين، السطو أو الجنون، وكلتاهما خليقتان بزلزلة أركان القضية، فما العمل؟ ولم يشعر في وقتٍ مضى بما يشعر به الآن بالحاجة الماسَّة إلى مشاورة مُحاميه لعله يهديه إلى منفذٍ في عالم القوانين المُتشعب الذي يجهله كل الجهل. قال له ذات مرة: احرص على الجدية والاستقامة، فإنَّ أي هفوة ماسة بسمعتك ستبدِّد مجهودي هباء.
فسأله ضاحكًا: أتطالبني بالتقشف حتى يصدر الحكم؟
– ولِمَ لا؟
– ومتى تراه يصدر في تقديرك؟
– آسف على أنك لا تحترم التقشف، وبخاصة في ظروفك الراهنة التعيسة!
واشتعل غضبًا فهمَّ بتعنيف الرجل. أكثر من مَرَّة همَّ بتعنيفه، ولكنه كان يتذكر أنه لم يدفع له مليمًا واحدًا سوى رسوم التوكيل، وأنَّ الأتعاب مؤجلةٌ ومنوطة بكسب القضية، فيرجع إلى عقله ويكظم غيظه ويسكت. والحقُّ أنه لا يحب التقشف، بل إنه يضيق بمحاميه لتقشُّفه المعروف عنه، وأي قيمة للحياة بلا طعم لذيذ، وشراب هنيء، وعناق حار ومقام وثير؟! ذلك جميل حقًّا ولكن تحت شرط ألَّا يجد نفسه عاريًا في بيت غريب، متوقعًا بين لحظة وأخرى أن تدهمه ضربة قاضية.
وتساءل عَمَّا يُراد به، هل يتركونه حتى يضطره الجوع إلى الخروج؟ هل يجيئون ليخيِّروه بين التنازل عن القضية، وبين استدعاء الشرطة لضبطه بالحال التي هو عليها؟
هذا أو ذاك أو غيرهما من الاحتمالات، كلها طريق واحدة تفضي إلى الضياع.
وغلى دمه.
كل شيء مُحتمل إلا تخيُّل ابتسامة الشماتة فوق شواربهم الغليظة.
وسمع صوتًا فهرع إلى النافذة فرأى سيارة تقف أمام البيت.
– كما توقعت قد جاءوا.
واندفع دمه في الغليان. ومن شدة القهر جُنَّ غضبه، واكتسح الغضب الخوف، فلم تبقَ في صدره إلا ألسنته المشتعلة. كان لعبة بأيديهم طيلة الوقت، ولكنه رفض أن يستمر لعبة وأضاء المصباح فتبدى عاريًا، متجردًا من الخجل والخوف، ها هي الحركة تدب خارج الحجرة، ستطالعه نظرات باردة وبسمات ساخرة فليبتسم وليسخر مثلهم. سيقولُ مُقدمهم وهو يصطنع دهشةً مقيتة: ماذا نرى؟
فيقول بهدوء تام: طال انتظاري لكم!
– هكذا عاريًا!
– كما ترون!
وليكن ما يكون ولكن اللعبة لن تستمر.
واقتربت الأقدام ثقيلة وتطايرت الضحكات.
وانتظر ينظر في هدوء وتصميم وعناد.
غير مبالٍ بالعواقب.