ثمن جواز المرور
ساد الصمت لحظات، ثم قال الرجل: لقد أكَّد لنا عميلنا داخل الشياطين اﻟ «١٣» أنك طُردت فعلًا، ولهذا نحن نعرض عليك أن تنضمَّ إلينا … فما رأيك؟
رفع «أحمد» وجهه إلى الرجل وتظاهر بأنه قد استسلم وقال: موافق …
ابتسم الرجل قائلًا: إذن هيا بنا، سوف نُقابل بعض زعماء المنظمة الآن، وسوف يتفقون معك على التفاصيل.
وقاما واقفَين، واتجها إلى الباب، ثم إلى خارج الشقة دون أن يظهر أحد، وبعد لحظات كانا ينزلان في المصعد إلى الشارع، ووجدا سيارةً في انتظارهما، وركبا وانطلقت السيارة …
ظلَّ «أحمد» يُراقب الطريق الذي انطلقت فيه السيارة، ولكن ذهنه كان مشغولًا بعشرات الأسئلة … من هو الرجل «المزروع» داخل الشياطين اﻟ «١٣»؟
هل هو أحد رجال منظمة «سادة العالم»؟ أم هو أحد معاوني رقم «صفر»؟
إن الإجابة عن هذا السؤال مهمةٌ جدًّا، وفي نفس الوقت ماذا سيفعل الآن؟ … هل سيتصل برقم «صفر» لإخطاره بهذه المعلومات أم يصمت؟ … إن أي اتصال برقم «صفر» قد يكشف حقيقة مهمته، وهو قد أرسل رسالةً لا سلكيةً بالموافقة على قَبول المهمة، ومن الواضح أن رجل المنظمة لم يعرف عنها شيئًا. فهل هو داخل المقر السري الرئيسي أم خارجه؟
أسئلة كثيرة، والسيارة تمضي مجتازةً الشوارع الساكنة في الليل البارد، حتى إذا وصلت إلى كورنيش النيل في اتجاه المعادي زادت من سرعتها تدريجيًّا، ثم تجاوزت المعادي حتى اقتربت من حلوان، ثم بدأت تُهدِّئ من سرعتها، وتوقَّفت بجوار عوَّامة ضخمة راسية قرب الشاطئ.
كانت العوَّامة مظلمةً تمامًا لا يتسلَّل منها شعاع واحد من الضوء، ولا يبدو أن فيها أثرًا للحياة، ولكن رغم ذلك نزلوا على المعبر الأبيض إلى العوَّامة، وما كاد بابها يُفتح حتى فوجئ «أحمد» بضوءٍ باهر يكاد يُغشي عينَيه …
فتقدَّمه الرجل إلى الداخل، ومضى «أحمد» خلفه في ممرٍّ لاحظ أنه من الحديد والخشب، وهذا ليس شيئًا عاديًّا في العوَّامات التي تكون عادةً من الخشب الخالص … ومرَّا في طريقهما بعدد من الغرف المغلقة، وعدد من الحرَّاس المسلَّحين، ثم وصلا إلى صالة واسعة، ووجد «أحمد» نفسه يُحدِّق في خمسة وجوه شرسة … إنهم زعماء منظمة «سادة العالم» … والتقت عيناه بعيونهم، وكانت نظراتهم جميعًا تحمل معنى الاستفسار والامتحان والريبة …
لم ينتظر «أحمد» أمرًا بالجلوس، فاختار كرسيًّا وجلس، وغادر الرجل الذي أتى معه الغرفة، ووجد نفسه وحيدًا مع الرجال الخمسة … ولاحظ أن المكان الذي يجلس فيه غاية في الأناقة، وأنه مكيَّف الهواء، مُسدل الأستار، وعلى موائد بجوار الحيطان اللامعة وُضعت أصناف كثيرة من المأكولات والمشروبات، وكان جائعًا، ودون تفكير أو استئذان، قام فأعدَّ لنفسه طبقًا شهيًّا من المأكولات والفاكهة، ثم عاد إلى مكانه وبدأ يأكل …
وبدا الضيق على وجه أحد الرجال، كان طويلًا يشبه الغوريلا، متهدِّل الثياب، يضع بين أسنانه عودًا من الكبريت يقضمه باستمرار … وبدا ﻟ «أحمد» أن الرجل سيفعل شيئًا، واستعدَّ للحظات حرجة، ولكن الرجل الذي كان يجلس في المنتصف تحدَّث سريعًا، فقال موجِّهًا حديثه إلى الغوريلا: ليس هذا وقت انفلات الأعصاب يا «كرادوك» … إن صديقنا الشاب جائع، ومن الأفضل أن نتحدَّث إليه بعد أن يملأ معدته…
وعاد الصمت من جديد، دار حديث هامس بين الرجال الخمسة، تظاهر «أحمد» أنه لا يهتم به، ولكنه كان يُتابعه، وهو في نفس الوقت يتظاهر بأنه يستمتع بما يأكل، فلمَّا قارب الانتهاء من طعامه وقام لإعادة الطبق مكانه، سمع صوت سيارة مقبلة توقَّفت عند رصيف العوَّامة، ثم سمع صوت أقدام مقبلة، وفُتح الباب ووقف الرجال الخمسة …
التفت «أحمد» إلى القادم، وشاهد رجلًا متوسِّط الطول، شديد الأناقة، يجتاز المكان في خطوات سريعة متحفِّزة كالنمر، وبعد أن ألقى نظرةً على «أحمد» قال: هل تحدثتم مع الشاب؟
ردَّ الرجل الذي يجلس في الوسط: ليس بعدُ أيها الزعيم …
قال الزعيم: هذا أفضل؛ فهناك تعديل في الخطة.
نظر إليه «أحمد» وفكَّر في هذا التعديل … لقد كان كل شيء يسير على ما يرام، فماذا حدث؟
قال الزعيم: إننا نُريد اختبار صديقنا الشاب بعملية بسيطة، قبل أن نُوضِّح له خططنا.
وسكت لحظات، ونظر إلى «كرادوك» وقال: سيقوم «كرادوك» وصديقنا الشاب بعملية اغتيال السيد «ع»! …
تردَّدت كلمة «اغتيال» في ذهن «أحمد» كأنها ذبذبة سلك مقطوع … ومضى الزعيم يقول: إن قيامه بهذه العملية هو اختبار لنواياه ناحيتنا، وبعدها يمكن أن نُطلعه على خططنا المستقبلة، وعلى «كرادوك» أن يشرح له خطة الاغتيال، وطريقة القيام بها … ونجاحه فيها سيكون جواز مرور إلى المنظمة.
قال «كرادوك» الغوريلا وهو يهزُّ ذراعيه: ولكن …
أشار الزعيم بيده قائلًا: لا داعي للمناقشة يا «كرادوك». إن هذا الشاب سيقوم بالعملية معك، وعليك فقط أن تشرح له الخطة.
وقام الزعيم ومعه بقية الرجال، وبقي «أحمد» مع «كرادوك» وحده … وأخذ الغوريلا ينظر إليه نظرات عدائية، لكنه اقترب منه، ثم أخرج من جيبه ورقةً مطبَّقةً فتحها وأخذ يشرح خطته … كانت الورقة تُمثِّل رسمًا هندسيًّا سريعًا لعمارة تحتها «جراج»، وقال «كرادوك»: إن الرجل الذي نُريده يسكن في الدور الخامس من هذه العمارة، وهو ينزل في مصعد يُؤدِّي إلى «الجراج» مباشرة، وسنكمن له في «الجراج» ليلًا لقتله والاستيلاء على حقيبة يحملها دائمًا معه.
قاطعه «أحمد» قائلًا: ولكن هل هو «جراج» خاص؟
ردَّ «كرادوك»: لا، إن به سيارات بقية سكَّان العمارة.
أحمد: إنها خطةٌ مقضيٌّ عليها بالفشل؛ فهناك السكَّان، وهناك حُرَّاس «الجراج»، ومن الممكن أن يوجد شخص أو أكثر …
كرادوك: لا مانع من قتل أي شخص يوجد في هذه اللحظة. إن المهم هو القضاء على السيد «ع». والعمارة على كورنيش النيل، وسنهرب عن طريق قارب بخاري.
أحمد: ومن هو السيد «ع» هذا؟
كرادوك: ليس لك أن تسأل … إن عليك التنفيذ فقط!
أحمد: أليست هناك خطة بديلة؟
كرادوك: نعم … إن «ع» يخرج عادةً ليلًا، ويذهب لمقابلة عدد من الخبراء في «شاليه» خاص في منطقة الأهرام، وهناك خطة لاعتراض سيارته، ثم إطلاق الرصاص عليه عندما يتوقَّف، ولكن هذا يُعطِّل خطتنا يومَين؛ فهو يذهب مرتَين فقط في الأسبوع، الإثنين والخميس، واليوم الثلاثاء.
أحمد: من الأفضل أن ننتظر ونضمن تنفيذ الخطة، من أن نُغامر ونفشل.
كرادوك: سأعرض اقتراحك على الزعيم.
وقام «كرادوك» وغادر المكان، وأخذ «أحمد» يفحص ما حوله بإمعان. كانت الصالة مربعةً تقريبًا، بها ست نوافذ مغطاة بالستائر، وأُحيطت جوانبها بكراسي متقاربة، وتناثرت فيها موائد صغيرة … عدا مائدة كبيرة في مواجهة المدخل. وبها ثلاثة أبواب؛ واحد منهم يُؤدِّي إلى الدهليز الذي دخل منه، والآخران يُؤدِّيان إلى سطح العوَّامة.
عاد «كرادوك» سريعًا وقال بضيق: لقد وافق الزعيم على الانتظار حتى يوم الخميس!
وقف «أحمد» قائلًا: إذن سأنصرف وسأعود يوم الخميس …
كشَّر «كرادوك» عن أنيابه قائلًا: لقد أمر الزعيم أن تبقى هنا حتى ساعة التنفيذ، وقد خُصِّصت لك الكابينة رقم «١٠» لنومك، وتستطيع أن تذهب لتنام.
وأشار «كرادوك» إلى الجانب الأيمن من الدهليز، وقام «أحمد» دون كلمةٍ واحدة، واجتاز الستارة التي تفصل الدهليز عن الصالة، والكابينة رقم «١٠» هي الثالثة على اليمين، فمشى إليها وفتح الباب ودخل.
كانت الكابينة مفروشةً بأناقة، وبها كل وسائل الراحة، فاستلقى على الفراش بملابسه يُفكِّر … لقد تحقَّق جزء كبير من خطة رقم «صفر»، ولكنه الآن في مأزق حقيقي؛ لقد أرادت المنظمة أن تختبره، واختارت للاختبار جريمة قتل، وفي الأغلب فإن المطلوب قتله رجل شريف يعمل من أجل بلده، فهل من المعقول لأي سبب أن يقوم بعملية الاغتيال لحساب هذه المنظمة الإجرامية؟!
نام دون أن يُغيِّر ثيابه، وعندما استيقظ في الصباح وجد «كرادوك» بجواره، فنظر إليه مستفسرًا، ولكن «كرادوك» الغوريلا ابتسم مكشِّرًا عن أنيابه وقال: جئت فقط أطمئن عليك؛ فقد كنت أظن أنك هربت …
نظر إليه «أحمد» متسائلًا، وهو يُحاول أن يتصوَّر ما يدور في هذه الجبهة المنخفضة والعينَين الضيقتَين، وفجأةً سحب «كرادوك» مسدسًا من جيبه في سرعة سخيفة، وصوَّبه إلى وجه «أحمد» …
كانت حركةً غير متوقَّعة تمامًا، وأدرك «أحمد» أن المنظمة كشفت حقيقته، وأن «كرادوك» سيتولَّى تنفيذ حكم الإعدام فيه، ولم يكن يحمل سلاحًا سوى آلة صغيرة حادة، مربوطة في باطن ساقه، ولكن ماذا تفعل هذه الآلة أمام هذا المسدس الضخم المرعب؟! ظل ساكنًا مكانه، وظل وجهه جامدًا لا يعكس التوتُّر الذي أصابه، وظل ينظر في عينَي «كرادوك» الضيقتَين، ولم يستطِع أن يكتم ابتسامةً ارتسمت على شفتَيه، وهو يرى الغوريلا وكأنه في غابة، ولكن «كرادوك» لدهشة «أحمد» الشديدة، ابتسم هو الآخر وقال: إنه اختبارٌ بسيط؛ فقد أردت أن أعرف مدى شجاعة زميلي! …
وأغمض «أحمد» عينَيه، ثم قال: إنني سأخرج الآن؛ فقد طُلب منِّي أمس في قسم الشرطة أن أحضر اليوم لاستكمال استجوابي أمام وكيل النيابة.
هزَّ «كرادوك» حاجبَيه الكثيفَين وقال: سأسأل وأعود.
أحمد: سأنتظرك.
مطلوب منك أن توصل الرسالة إلى «ش. ح. ش» في المباحث العامة.
إلى «ش. ح. ش»
هناك خطة لاغتيال رجل يُدعى «ع»، ولا أعرف بقية اسمه، يسكن في عمارة على كورنيش النيل، بها مصعد يُؤدِّي إلى «جراج» العمارة مباشرة، و«ع» يذهب مرتَين في الأسبوع للقاء عدد من الخبراء الأجانب في شاليه بالهرم، يومَي الإثنين والخميس. سأقوم أنا باغتياله حسب خطة موضوعة، اطلب منه أن يتظاهر بالموت، وسأُطلق الرصاص بعيدًا عنه، سنستولي على حقيبته، فإذا كان بها مستندات مهمة فعلَيه أن يُغيِّرها. التنفيذ يوم الخميس ليلًا في طريق الهرم. أعتمد عليك.