شكوك … وانتظار … ومسدس ماوزر
عاد «أحمد» إلى فراشه وتمدَّد كما كان، وبعد ثانية واحدة دخل «كرادوك» الغرفة وقال في حرج: ستذهب الآن … ولكن سأكون معك.
أنزل «أحمد» ساقَيه من الفراش في تكاسل، ثم ذهب إلى دورة المياه فاغتسل، وعاد إلى «كرادوك» الذي كان يتبعه بعينَيه، وكأنه يتصوَّر أنه يمكن أن يتلاشى في الهواء، وسارا معًا إلى صالة الانتظار، وكان هناك ثلاثة من الرجال يتناولون إفطارهم، فأخذوا يرمقون «أحمد» في تفحُّص، وجاء الإفطار، وأخذ «أحمد» يتناوله في شهية، و«كرادوك» يشرب كوبًا من القهوة السوداء وهو مكشِّر عن أنيابه.
خرجا معًا، وتولَّى «كرادوك» القيادة، واتجها إلى مصر الجديدة، وعندما وصلا إلى القسم أخذ «أحمد» يُفكِّر: هل سيدخل وحده أم أن «كرادوك» سيدخل معه؟… وتمنَّى أن يتركه «كرادوك» يدخل وحده، ولكن الغوريلا سار معه حتى دخلا القسم. ومشى «أحمد» بهدوء إلى غرفة مأمور القسم، وقال للعسكري الواقف على الباب: أُريد أن أُقابل المأمور؛ فقد طلبني بخصوص عملية التهريب التي حدثت في طريق المطار.
ودخل الرجل، وبقي «أحمد» و«كرادوك»، وكان «أحمد» يتمنَّى أن يستقبله المأمور، فلو أنه رفض لأثار ريبة «كرادوك»، وهو ليس في حاجة إلى مزيد من الارتياب، فمن الواضح أنه يشك في «أحمد» كل الشك.
وخرج العسكري وقال ﻟ «أحمد»: إن سيادة المأمور في انتظارك.
وفتح «أحمد» الباب قائلًا ﻟ «كرادوك»: انتظرني هنا.
كان «أحمد» يُمسك بقطعة الورقة في شكل كرة صغيرة بين أصابعه، وكل ما كان يرجوه أن يتمكَّن من تسليمها للمأمور، دون أن يراها «كرادوك» إذا دخل معه. وعندما دفع الباب ليدخل، فوجئ ﺑ «كرادوك» يدخل خلفه، كان ذلك مخالفًا للعرف، فالمتهم أو الشاهد لا بد أن يُدلي بأقواله منفردًا، وقد يُسبِّب وجود «كرادوك» مشكلات، ومرةً أخرى التفت إليه قائلًا: ليس من حقك الدخول.
قال «كرادوك» بخشونة: إذا طلب مني المأمور الانصراف فسوف أنصرف.
كان المأمور يتحدَّث تليفونيًّا وأشار إليهما بالجلوس، فجلسا على مقعدَين متقابلَين، وحاول «أحمد» أن تلتقي عيناه بعينَي المأمور، لعله يستطيع أن يجعله يفهم أن ثمة شيئًا غير عادي يجري في المكان، وأنه يُريد الانفراد به، ولكن المأمور ظلَّ يتحدَّث في التليفون، ويكتب في ورقة أمامه دون أن يرفع رأسه إلى «أحمد» مرةً واحدة، ثم وضع سمَّاعة التليفون، وجاءت اللحظة الحاسمة … إن «أحمد» ليس مطلوبًا اليوم فماذا يقول للمأمور؟!
وخدمه الحظ في الوقت المناسب؛ فقد دخل أحد السُّعاة يحمل كوبًا من الشاي للمأمور، وللحظة وقف الساعي بين «أحمد» وبين «كرادوك» بحيث لا يرى أحدهما الآخر، ونظر «أحمد» في عينَي المأمور، ثم ألقى بالكرة الورقية في الصينية التي يحملها الساعي، وقال: إنني مطلوبٌ لاستكمال استجوابي عن عملية التهريب.
ولاحظ أن المأمور تناول كوب الشاي والورقة معًا، وتنفَّس الصعَداء، وقال المأمور بهدوء: لا بد أنك أخطأت؛ فأنت مطلوب لمواجهة المهرِّب، ولكنه لم يُصبح بعدُ في حالة تسمح باستجوابه، وسنُرسل إليك عندما نحتاجك.
وقف «أحمد» معتذرًا، ووقف «كرادوك» معه، واعتذر «أحمد» للمأمور عن الخطأ الذي وقع فيه، وانصرف … ولاحظ أن المأمور ينظر إلى «كرادوك» بارتياب، وتمنَّى ألَّا يفعل شيئًا قبل أن يقرأ الورقة.
وخرجا دون أن يتبادلا كلمةً واحدة، وكان «أحمد» يُفكِّر … هل لاحظ «كرادوك» ما حدث؟ هل شاهد كرة الورق الصغيرة في الصينية؟ وهل ارتاب في حضوره إلى قسم الشرطة؟
وركبا السيارة و«كرادوك» لا يتحدَّث، حتى إذا انطلقت بهما قال «كرادوك»: إنني لا أفهم لماذا حضرتَ ما دمتَ لستَ مطلوبًا؟!
أحمد: لقد قال لي الضابط أمس هذا!
هزَّ «كرادوك» رأسه في ارتياب … ومضت السيارة تشق طريقها عبر الشوارع المزدحمة، وكان ذهن «أحمد» أكثر ازدحامًا، إنه في حاجة لأن يُرسل تقريرًا لرقم «صفر» ولكن كيف؟! إنه مراقبٌ طول الوقت، وعليه أن يتصرَّف وحده، وفي نفس الوقت، هناك هذا الرجل الذي سيغتاله غدًا في طريق الهرم … هل يقوم المأمور بتسليم الورقة إلى «ش. ح. ش» وهو وسيط بين الشياطين وبين السلطة، أم يظن أنها لعب عيال، ويُضطر هو إلى قتل الرجل لتأكيد ولائه الجديد لهذه المنظمة الرهيبة؟
وقرَّر «أحمد» أن يترك الأمور تسير طبيعيًّا، ما دام لا يمكن تغييرها.
ووصلا إلى العوَّامة، وكانت مفاجأة ﻟ «أحمد» … أنها لم تكن موجودةً في المكان التي كانت به عندما تركها في الصباح، منذ أقل من ساعتَين، فكيف تحرَّكت والعوَّامات بطيئة الحركة، وتحتاج إلى قارب يسحبها … ليس هناك سوى تفسير واحد، إنها ليست عوَّامة، بل هي في الغالب قارب بخاري ضخم، أُضيفت إليه بعض التصميمات ليبدو في شكل عوَّامة، وبهذا يمكن الانتقال بسرعة من مكان إلى آخر، وفي الإمكان التخلُّص من التصميمات في الوقت المناسب.
نزلا إلى جوف العوَّامة، وأسرع «كرادوك» ليتحدَّث إلى الزعيم، بينما صعد «أحمد» إلى السطح، وطلب كوبًا من الشاي، وجلس يستمتع بأشعة الشمس الدافئة، ولكنه لم يستمتع إلَّا قليلًا؛ فقد صعد الزعيم و«كرادوك» ورجل ثالث، وبدأ الزعيم الحديث على الفور قائلًا: إن «كرادوك» لديه شكوك ناحية زيارتك اليوم لقسم الشرطة، ولكني سوف أتجاهل هذه الشكوك حتى مساء الغد!
قال «أحمد» بوقاحة: إذا كان عند «كرادوك» شكوك من أي نوع؛ فإني سأنصرف فورًا؛ فلستُ أُريد أن أشترك في أية مشروعات، وقد عشت ما يكفي من مغامرات، ولا أُريد أن أُضيف إلى رصيدي شيئًا آخر.
ساد الصمت لحظات، وقال الزعيم: إنك لن تعمل معنا مجانًا.
ردَّ «أحمد» بنفس الوقاحة: ولست في حاجة إلى أي نقود؛ إن عندي سيارتي، وفي إمكاني أن أكسب ما يكفي حياتي!
وقام واقفًا، واتجه إلى الممشى الذي يقوده إلى مدخل العوَّامة، وسمع صوت مسدس يُعد للإطلاق، وسمع الزعيم يقول: صبرًا يا صديقي … إن «كرادوك» لم يقصد إهانتك، إنه يُريد فقط أن يتأكَّد، وعلى كل حال فإن رجلنا الذي زرعناه داخل مجموعة الشياطين، قد وصلته تعليمات منَّا بأن يُحاول معرفة حقيقة موقفك، وحتى يأتيني تقريره سوف نضع كل ثقتنا فيك.
نظر «أحمد» إلى الزعيم، ثم عاد للجلوس، وقال الزعيم وهو يقف: فقط أرجو ألَّا تُغادر العوَّامة مطلقًا وحدك، حتى مساء الغد.
وابتسم، ثم أضاف: ليس شكًّا فيك، ولكن حفاظًا عليك.
وأصبح «أحمد» وحيدًا مرةً أخرى، وأخذ يدرس العوَّامة، وطرق الإفلات منها، ونوع الحراسة التي عليها.
ومضى اليومان سريعًا، وجاء مساء الخميس، ودخل «كرادوك» على «أحمد» وطلب منه أن يتبعه، ومشيا في ممرَّات العوامة حتى دفع «كرادوك» أحد الأبواب، ووجد «أحمد» نفسه في صالة واسعة، بها بضعة صفوف من الكراسي، وشاشة سينما.
وطلب «كرادوك» من «أحمد» الجلوس، ثم انضم إليهما الزعيم ورجل آخر، وأُطفئت أنوار الصالة، وظهر على الشاشة رجل يتحرَّك في شارع مزدحم، ثم نفس الرجل بملابس أخرى، وتذكَّر «أحمد» أن وجه الرجل ليس غريبًا عليه، لقد رآه من قبل، ولكن لا يذكر أين … وأخذ يُحاول التذكُّر ولكنه سمع الزعيم يقول: هذا هو رجلنا.
وفهم «أحمد» … أنه الرجل الذي سيغتاله بعد بضع ساعات، ومضى الزعيم يقول: وحتى لا يحدث أي خطأ، لا بد أن تتأكَّد أنه الرجل المطلوب قبل أن تُطلق الرصاص!
ثم تغيَّر المنظر وبدت الأهرامات، وقال الزعيم: وهذا هو المكان الذي ستتمُّ فيه العملية. هذا هو الشارع، طبعًا سيكون غارقًا في الظلام، ولكننا حدَّدنا الموضع الذي ستُوقفان فيه سيارته، إنه في الربع الأخير من الشارع قرب «صحارى سيتي» …
وأحسَّ «أحمد» برِعدةٍ تسري في بدنه … لقد أعدُّوا كل شيء ببراعة، ودرسوا كل احتمال، وأُضيئت الأنوار، وقال الزعيم: إنه يركب سيارةً من طراز «فيات ١٢٥»، وستركبان سيارةً من طراز «بورش» السريع، وقبل النقطة المحدَّدة، ستسبق «البورش» السيارة «الفيات»، ثم تعترضان طريقه، وكأن السيارة قد تعطَّل فيها شيء فجأة، وسيُضطر للتوقُّف، ويجب أن تبدو العملية كأنها عملية سرقة، خُذ منه محفظته وساعته …
وسكت الزعيم وارتفعت الشاشة عن دمية في حجم الرجل وشكله تقريبًا، ووجد «أحمد» مسدسًا يُسلَّم إليه، وقال الزعيم: والآن هيا.
وأطلق «أحمد» طلقةً واحدةً أصابت الدمية في رأسها فترنَّحت وسقطت، وصاح الزعيم: عظيم! طلقة واحدة … ولكن من الأفضل أن تُطلق ثلاث مرات.
واعتدلت الدمية مرةً أخرى، وأطلق «أحمد» ثلاث طلقات سريعة، أصابت واحدة الرأس، واثنتان القلب تمامًا، وعاد الزعيم يقول: عظيم! بعد ذلك تحمل الحقيبة وتركب «البورش» وتعودان بأسرع ما يمكن.
وقام «أحمد» يستعد للساعات المقبلة بقلب منقبض، ووجد أنهم قد أعدُّوا له ثيابًا سوداء أنيقة، ووجد عشاءً خفيفًا تناوله، ثم جلس ينظر إلى ساعته، وعندما اقتربت من الساعة استُدعي لمقابلة الزعيم، ودخل لأول مرة غرفة الرجل … كانت قلعةً صغيرةً مسلَّحةً لا يمكن اقتحامها … ولاحظ «أحمد» بابًا أُخفِي بمهارة، وتصوَّر أن هذا الباب عندما يُفتَح يُؤدِّي إلى الماء مباشرة، ولا بد أنه أُعدَّ لهَرَب الزعيم في الوقت المناسب.
فتح الزعيم صندوقًا صغيرًا، وجد به «أحمد» أربعة مسدسات، وقال الزعيم مبتسمًا: لقد رأيتُ أن أترك لك حرية اختيار السلاح الذي يُناسبك، وكله كاتم للصوت.
فحص «أحمد» المسدسات الأربعة، ثم اختار مسدسًا ألمانيًّا من طراز ماوزر، وأداره في يده بضع مرات، ثم اختبر الزناد والذخيرة، وقال: هذا مناسبٌ جدًّا.
قال الزعيم وهو يُغلق الحقيبة: في هذه الليلة يتم اختبارك … وعندما تعود إلينا ومعك الحقيبة؛ ستصبح عضوًا حقيقيًّا في المنظمة، وتحمل رقمًا … ويُصبح من حقك أن تتجوَّل بحرية، وأن تطلب ما تشاء من النقود.
لم يردَّ «أحمد» … ودخل «كرادوك»، وبعد لحظات كانا يغادران العوَّامة، ووجد «أحمد» السيارة «البورش» السريعة واقفة، وفتح الباب وجلس، وسرعان ما كان «كرادوك» الغوريلا يُدير المحرِّك، ثم يستدير بالسيارة عائدًا في اتجاه المدينة، فيمر بكوبري الملك الصالح ثم يدخل الجيزة.
مضت السيارة تشق طريقها … لم يكن شارع الهرم الصاخب مزدحمًا؛ فقد كانت الليلة باردة، ولهذا فقد قامت «البورش» باكتساح الطريق، حتى صعدت ربوة الهرم في سهولة أوضحت مدى قوة المحرك.
ودار «كرادوك» حول الهرم الأكبر، ووقف بالسيارة بجوار صخرة، وأسكت المحرك، وأخرج سيجارةً أشعلها، ثم نظر في ساعته وقال: بعد عشر دقائق سيأتي الرجل. مضت الدقائق العشر ببطء … و«أحمد» غارق في خواطره، وفجأةً مدَّ «كرادوك» يده وأدار المحرِّك، ثم انطلق كالعاصفة، وبدت أمامهما على أضواء «البورش» سيارة صفراء من طراز «فيات ١٢٥»، ورجل واحد يقودها في هدوء، وخفض «كرادوك» أضواءه، ثم انطلق خلف الفيات، وكأنه نمرٌ مفترس في أعقاب غزالة مطمئنة …