القتل من أجل المستقبل
أخذت المسافة تضيق بين «البورش» وبين «الفيات»، وأخذت نقطة التلاقي تقترب أيضًا، النقطة التي تسبق فيها «البورش» «الفيات»، ثم تُوقفها … ومضت الدقائق، ثم أصبحت «البورش» خلف «الفيات» مباشرة، وأطلق «كرادوك» الأبواق في صوت مزعجٍ وهو يكاد يصطدم ﺑ «الفيات» التي أوسعت الطريق، حتى إنها دخلت في الرمال، وداس «كرادوك» على الفرامل بشدة، فدارت السيارة وكادت تسد الطريق، ولم يكن أمام «الفيات» إلَّا أن تقف في مكانها …
وقفز «أحمد» بسرعة، وقد أشرع مسدسه، وانقضَّ على راكب «الفيات» الذي كان قد فتح الباب ليرى ما حدث … أطلق «أحمد» رصاصةً بين قدمَي الرجل، وانتظر في ثانية ليرى ما يحدث … وابتسم في الظلام، عندما شاهد الرجل يسقط على الأرض ويُطلق صرخة … فأطلق رصاصتَين أُخريَين كما طلب الزعيم، ثم انقضَّ على الرجل، فجرَّده من ساعته ومحفظته، ثم خطف الحقيبة السوداء التي كانت على المقعد المجاور لمقعد السائق، وانطلق عائدًا إلى «البورش» …
وأدار «كرادوك» السيارة، وأطلق ضوء الكشَّافات لحظةً خاطفةً على «الفيات»، وشاهد الرجل الملقى على الأرض وقد انفرجت ساقاه وذراعاه، واندفن وجهه في الرمال، وقال الغوريلا من بين أسنانه: عمل جيد!
واتجهت «البورش» عائدةً وقد وضع «أحمد» الحقيبة السوداء بين قدمَيه، ووضع المسدس في جيبه، ثم اضطجع على كرسيه، وأطلق لفكره العنان … لقد وصلت رسالته إلى «ش. ح. ش»، ونفَّذ التعليمات، إنه رجل فذ، كيف عرف مكان «القتيل» رغم المعلومات القليلة؟ إنه شيء مدهش هذا الذي حدث!
وصلت «البورش» بعد أقل من نصف ساعة إلى العوَّامة، ولدهشة «أحمد» وجدها في مكان ثالث، وعرف أنهم يُغيِّرون مكانهم بعد كل مرة يخرج فيها، خوفًا من الخيانة … وابتسم لأنه لم يكن ليخونهم الآن، فما زالت الخطة التي وضعها رقم «صفر» فيها تفاصيل كثيرة، وما زال أمامه شوط طويل قبل أن يدل عليهم، فالمهم الآن هو اكتساب ثقتهم فقط …
ودخل الاثنان إلى جوف العوَّامة، ووجدا كل المجموعة موجودة، وبينهم الزعيم، وقد جلس في الوسط يُدخِّن في هدوء مشحونًا بالتوتُّر، وتقدَّم «أحمد» ومدَّ يده بالحقيبة إلى الزعيم الذي ابتسم، وتناول الحقيبة بيد، وباليد الأخرى شد على يد «أحمد» مصافحًا، ثم أشار له بالجلوس.
جلس «أحمد»، وفتح الزعيم الحقيبة مسرعًا، وبدأ يُخرج ما بها من أوراق، وقال من بين أسنانه يسأل «كرادوك»: هل رأيتَ الرجل؟
ردَّ «كرادوك»: نعم أيها الزعيم … لقد كانت الطلقات الثلاث محكمة، والرجل ممدَّد الآن على الرمال بلا روح.
قال الزعيم من بين أسنانه: عظيم!
وظهرت الأوراق التي بالحقيبة … أوراق كبيرة سميكة زرقاء، أدرك «أحمد» أنها خرائط، ومعها أوراق أخرى كُتبت بنظام على الماكينة، وقال الزعيم وهو يطفئ سيجارته ويُزيح الأوراق: والآن يا صديقي الصغير، خذ هذه …
وأخرج من جيبه سلسلةً ذهبيةً تنتهي بمجموعة من المفاتيح، وقال: حافظ على هذه السلسلة وهذه المفاتيح.
قال الزعيم: تستطيع أن تذهب لترتاح، وسنلتقي في الصباح على ظهر العوَّامة في التاسعة.
وقام «أحمد» واتجه إلى كابينته، وقد أحسَّ أنه أسعد شخص في العالم، لقد نفَّذ كل ما طلبته المنظمة دون أن يقتل الرجل، هذا الرجل الذي يتذكَّر وجهه، ولكن لا يستطيع بالضبط تحديد شخصيته …
ودخل الكابينة فخلع ملابسه، ثم فتح الراديو على محطة الموسيقى، وأمسك بمجلة وأخذ يُقلِّب فيها. لقد مضى كل شيء على ما يرام حتى الآن، ارتكب الجريمة التي طلبها الزعيم، قتل الرجل وجرَّده من ممتلكاته الشخصية، ثم أخذ الحقيبة، وهم الآن واثقون به، ولم يعد ما يخشاه إلَّا ذلك الخائن الخفي الذي لا يعرف عنه شيئًا … هل يكشفه قبل أن يحصل على كل المعلومات التي طلبها رقم «صفر»؟ … إنهم لو اكتشفوه لكانت نهايته من ناحية، ومن ناحية أخرى فشل ذريع لخطة ممتازة لرقم «صفر».
ونام «أحمد» والأفكار تراوده، وعندما استيقظ في اليوم التالي، فتح عينَيه على وجه «كرادوك» الذي يُشبه وجه الغوريلا، ولأول مرة وجد في العينَين الضيقتَين نظرة تقدير وإعجاب!
وكانت في يد «كرادوك» مجموعة جرائد الصباح، فألقاها على فراش «أحمد» قائلًا: خذ واقرأ، إن حادث الأمس منشور في جميع الجرائد.
وأمسك «أحمد» بجريدة الأهرام، كانت صورة «القتيل» منشورةً في الصفحة الأولى، وفوقها عنوان كبير: «مصرع خبير مصري عالمي». وخفق قلب «أحمد» رغم أنه يعلم أن الرجل لم يقتل … لقد أتقن «ش. ح. ش» الخطة، وعمل على نشر الحادث على أوسع نطاق، ليُؤكِّد للمنظمة أن عملية الاغتيال قد تمَّت …
وعندما قرأ «أحمد» اسم الخبير المقتول، سرت في جسده رجفة … إنه يعرفه، وطالما قرأ عنه! … لقد تذكَّر كل شيء الآن عن الرجل «القتيل»؛ إنه خبير مصريٌّ في التفجير النووي، ويعمل في مشروع «منخفض القطَّارة»، هذا المشروع الهام، الذي لا يقل أهميةً عن السد العالي.
وأدرك «أحمد» على الفور ماذا تُريد منظمة «سادة العالم» … إنهم سيتدخَّلون لوقف المشروع الكبير.
ومضى يقرأ تفاصيل الحادث، ومرةً أخرى شعر بسعادة عندما وجد أن رجال الشرطة قد صوَّروا القضية على أنها قضية سرقة عادية، وهو بالضبط ما تُريده المنظمة، وأشار التحقيق الصحفي إلى الحقيبة السوداء، وقال إنها بها مستندات هامة، لن ينتفع بها اللص، وقال إن هناك نسخًا منها عند المسئولين، ولا أهمية لفقدها.
قال «كرادوك»: والآن يا رقم «٩٩٩»، أنت عضو في المنظمة، ومن حقك أن تتصرَّف كما تُريد، وأن تعرف خططنا، والزعيم في انتظارك …
قام «أحمد» فدخل دورة المياه، وبعد أن اغتسل وغيَّر ثيابه، صعد إلى سطح العوَّامة، حيث كان الزعيم وبعض أعوانه في انتظاره، وقد ابتسموا جميعًا عندما رأوه، وحيَّوه تحيةً حارة …
قال الزعيم: لقد نفَّذت الخطة ببراعة وبلع رجال الشرطة الطعم، وظنوا أنها حادثة سرقة عادية، ولكن أنت تعرف هدفنا، إنه الحصول على خرائط «منخفض القطَّارة» والتفجير النووي، الذي سيفتح أنفاق المياه العذبة إليه.
وسكت الزعيم لحظات، ثم قال: ولكن خطة «منخفض القطارة» لن نعمل فيها الآن … لقد كنا نُريد الحصول على الخرائط فقط الآن، وبعد فترة سوف نقوم بعملية «منخفض القطارة»، ولكن أمامنا الآن عملية أخرى بسيطة.
ظل «أحمد» ساكتًا يُفكِّر فيما يسمع … إن هذه المنظمة من الخطورة أكثر ممَّا توقَّع بكثير؛ فهو يعرف أن مشروع «منخفض القطَّارة» من أهم مشاريع التنمية في «مصر»، فماذا يُريدون منه؟
ومضى الزعيم يقول: لقد طلب تاجر آثار عالمي، أن نسرق له مجموعةً من تماثيل الإله «حورس» من المتحف المصري، وعندنا مجموعة متقنة التزييف سنضعها في مكان التماثيل الأصلية.
قال «أحمد»: ولكن دخول المتحف المصري مسألةٌ صعبة؛ فعليه حراسة مشدَّدة!
ردَّ الزعيم مبتسمًا: دع هذا لنا … فهناك نقطة ضعف قد لا تُتاح مرةً أخرى؛ إنهم يهدمون هذه الأيام جزءًا من السور الخلفي؛ لإقامة مبنًى جديد صغير خلف المتحف، ولا يقف عند السور الخلفي سوى حارس واحد، من السهل طبعًا التغلُّب عليه، ثم سيتم بعد ذلك النزول إلى المتحف، من فتحات التهوية الموجودة في القبة الكبرى.
أحمد: وهل نستطيع حمل هذه التماثيل؟
الزعيم: إن حجمها ليس كبيرًا كما تظن … إنها خمسة تماثيل، لا يزيد ارتفاع أي منها عن خمسين سنتيمترًا، ولكنها لا تُقدَّر بثمن … وبسرقة هذه التماثيل نضرب عصفورَين بحج؛ أولًا: الحصول على مبلغٍ ضخم من تاجر الآثار الذي طلب سرقتها … ثانيًا: تحويل الأنظار عن عملية «منخفض القطَّارة»؛ فسوف ينشغل رجال الشرطة والأمن بهذه السرقة، في الوقت الذي نقوم فيه بالعملية الكبرى عملية «منخفض القطَّارة» …
أحمد: ولكن ما أهمية «منخفض القطَّارة» بالنسبة لنا؟
قال الزعيم مبتسمًا: عظيم أنك تقول «لنا» ولا تقول «لكم» … لقد أصبحتَ واحدًا منا حقًّا، وسوف نشرح أهمية مشروع القطَّارة بالنسبة لنا في الوقت المناسب. فقط المطلوب منك الآن، أن تبذل غاية جهدك في تنفيذ خطة تماثيل الإله «حورس».
أحمد: ولكن لماذا أنا بالذات؟
ابتسم الزعيم مرةً أخرى وقال: بمنتهى الصراحة، نحن في حاجة إلى عضو مصريٍّ في المنظمة، له كفاءتك، يعرف مصر جيدًا، ويتحدَّث العربية بطلاقة، وإذا قُبض عليه، فلن ترى جهات الأمن إلَّا أنه لصٌّ مصري، أمَّا إذا قُبض على واحد منا، فسوف تتنبَّه جهات الأمن إلينا … وهذا ما لا نُريده أن يحدث مطلقًا … وبالطبع سوف نحميك وندافع عنك!
أحمد: وما هي مهمتي بالضبط؟
الزعيم: ستذهب الآن مع صديقك «كرادوك» لمعاينة مجموعة التماثيل، وستدرسان أفضل الطرق لانتزاعها من أماكنها بسرعة ودون أن تنكسر … وستعرف بقية التفاصيل عندما تعود على الفور.
وقف «أحمد» فأخرج الزعيم رزمةً من النقود، مدَّ بها يده إليه قائلًا: هذه دفعة تحت الحساب، وسيكون هذا المساء إجازةً لك، وسنُحدِّد غدًا صباحًا أفضل موعد لتنفيذ الخطة.
تظاهر «أحمد» بالسعادة، وهو يتناول رزمة الأوراق المالية، ويدسها في جيبه، ثم انطلق مع «كرادوك». وسرعان ما كانت السيارة تحملهما إلى ميدان التحرير … وأحسَّ «أحمد» بقلبه يخفق بشدة، وهو يجتاز عتبة الباب الرئيسي في المتحف الضخم … وقال في نفسه: كيف يتصوَّر هؤلاء الأوغاد أن مصريًّا يمكن أن يقبل سرقة آثار حضارته القديمة من أجل أي مبلغٍ من المال؟!
ومشى مع «كرادوك»، وصعد السلم الرخامي العريض، وانضمَّا إلى مجموعة من السائحين، كانوا يتفرَّجون على أبدع ما أنتجت الحضارة الإنسانية في تاريخها الطويل … وبعد حوالي ساعة كانوا يقفون أمام مجموعة التماثيل الخاصة بالإله «حورس»، وأخذ «أحمد» يتأمَّل المجموعة في إجلال واحترام، المجموعة التي سيسرقها من أجل هدف أكبر، هو القضاء على منظمة «سادة العالم».
ووقف هو و«كرادوك» حول المجموعة أطول فترة ممكنة، وتركا بقية السائحين يتجوَّلون في أنحاء المتحف، وظلَّا يتهامسان، ويقيسان الأبعاد والمسافات والاحتمالات … حتى إذا اطمأنَّا إلى أنهما عرفا كل التفاصيل الممكنة، عادا إلى العوَّامة، حيث قابلا الزعيم، وشرح له «أحمد» الخطة التي اختمرت في ذهنه للسرقة … وابتسم الزعيم وقال: أنت حرٌّ من الآن حتى مساء الغد!