خيانة
أمَّا عن سبب غيابه، فإنه حدث أنه تقابل مع فريد، فدعاه إلى الذهاب برفقته مساءً لحضور التمثيل في الأوبرا الخديوية، فأجابه إلى ذلك وسار معه، وكانت تلك أول ليلة غاب فيها عزيز عن منزل يوسف منذ اشتدت علائق الود بينه وبين روزه، فبعد أنْ سار هنيهة مع رفيقه فكر في حبيبته وما يكون من تأثير غيابه عليها بعد أنْ تعودت تمضية السهرات بقربه، فخطر له أنْ يعتذر إليه ويعود إلى أعقابه، ولكنه خجل أنْ يفعل ذلك، بعد أنْ وعد صديقه بالذهاب، فواصل السير معه مضطرًّا إلى أنْ انتهيا إلى قاعة التمثيل، وبعد أنْ استقر بهما المقام أجال عزيز نظره في الجموع، فأبصر ماري مع أبيها في إحدى المقاصير (الألواج)، وهي مزينة بأفخر الحلي واللباس حتى يخالها الناظر حورية من حور الجنان.
فاضطرب عزيز أي اضطراب، كأن سلكًا كهربائيًّا قد مسَّه، ولا سيما إذ رأى ماري قد صوبت نظرها إليه باسمة، وأشارت بالسلام، وكان إشراق وجهها، واحمرار وجنتيها ينمان على خفوق فؤادها، وشدة ميلها، فحاول التشاغل عنها وعدم النظر إليها، ولكن قوة كانت تدفعه إلى مبادلتها النظر والابتسام.
ولما أُسدل الستار تفرَّق الجميع طلبًا للراحة، فدعا فريد عزيزًا لمرافقته إلى حيث أبوه وأخته، فسار معه مسرورًا، وقضى بقية السهرة قرب ماري لا يرفع نظره عنها، ولا يمل من استماع ألفاظها، أما هي فكانت كل نظرة وإشارة منها تنبئه بشدة تعلقها به، وهيامها بحميد أوصافه، وهكذا لم تمضِ السهرة حتى زال رسم روزه من مخيلته، وساد مكانها جمال ماري ورقتها.
وبعد انتهاء التمثيل خرج الناس أفواجًا، وكان عزيز يسير مطرقًا، وقد التهب دماغه من شدة الانفعال، إذ ما لبث أنْ بدا أمامه طيف روزه معنفًا شاكيًا بما جعله يطفر على غير هدى تخلصًا من عذابه الداخلي، وكان فريد قد انفصل عن والده ورافق عزيزًا مسافة لَحَظ من خلالها ارتباك أفكاره، فسأله عما به، فأجابه: إني مريض. وهكذا ما صدق أنْ وصل إلى منزله، فودعه فريد واعدًا بأن يزوره في اليوم التالي.
وعاد في اليوم التالي مساءً فوجده على أتم ما يكون من الصحة، فمكث معه حينًا من الزمن، ثم خرجا معًا في قصد النزهة في جهة الأزبكية، ولم يسيرا طويلًا حتى اقتربا من منزل فريد، فدعا هذا صديقه لزيارته فلبَّى طلبه مسرورًا، وقضى عنده ساعة تمتع فيها بمجالسة ماري ومؤانستها، ثم تعددت زياراته بعد ذلك لعائلة حبيب، واشتدت الألفة بينه وبينهم حتى كاد ينسى علاقته مع روزه ويهجر ودها.
وشعرت روزه بتغير فؤاد حبيبها وفتور حبه، فداخلها ريب في أمره، وباتت تتوقع خلوة معه تستطلع فيها حقيقة نيته وأسباب تغيبه.
وفي صباح أحد الأيام نهضت روزه باكرًا إلى الحديقة، تستنشق من نسمات السحر ما ينعش فؤادها المضطرب، ويخفف عن صدرها أثقال الأشجان، وتستقبل بوجهها حبيبات الندى، أمل أنْ تلطف من قلبها نيران الشوق والقلق، ثم جلست على مقعد خشبي، وجعلت تلاعب بكفيها الصغيرين زهورًا منتشرة حولها، كأنها جيش صغير خاضع لأحكام مليكته، فكانت تارة تجني بعضها وتقرِّبه إلى أنفها، وطورًا متنقلة على غير هدى، وأفكارها متجهة نحو عزيز تبحث عن أسباب انقلابه وهجره.
وإنها لكذلك إذ طرق سمعها وقع أقدام، فنظرت وإذا بأبيها مقبل وعلائم الكدر الشديد على وجهه، ووراءه عزيز منقبض الجبين منكَّس الطرف، وكلاهما مطرق على الأرض لا يلوي على شيء، إلى أنْ بلغا باب المنزل وتواريا عن عينيها.
فبهتت روزه لهذه المفاجأة التي لم تدرِ لها كنهًا، ولذلك الانقباض الذي لم تفهم له سببًا، وطدت النفس على البقاء في الحديقة تنتظر خروجهما؛ لعلها تتمكن من الانفراد بعزيز فيطلعها على جلية الأمر، ويلطف ما بها من مر الهواجس، وبعد حين أقبل موزع البريد وبيده رزمة كتب وجرائد، بعضها معنون باسمها والبعض الآخر باسم أبيها، فأسرعت وانتقت منها ما يخصها من الرسائل والجرائد، وعادت إلى مكانها تقتل الوقت بتصفحها، بعد أنْ أرسلت ما كان لوالدها مع أحد الخدم.
فندعها وشأنها، ونسير بالقارئ في أثر الخادم إلى إحدى غرف القصر، وقد جعلها يوسف لأشغاله الخصوصية، فكان يصرف فيها أكثر أوقاته بعد خروجه من مصرفه، وهناك كان يوسف جالسًا وأخذ هيئة الجد والاهتمام، وأمامه عزيز مطأطئ الرأس، ملتهب الصدغ، ينكت الأرض بطرف عصاه، بينما الآخر يطالع ما جاءه به البريد آنئذ، وبعد سكوت قليل رفع يوسف رأسه وخاطبه قائلًا: لقد وعدتني يا عزيز بأن تكشف لي الغطاء عن القيمة المسروقة من مصرفي، وترشدني إلى السارق، فهات ما عندك من المعلومات بهذا الصدد، إذ قد صرنا بمعزل عن كل بشر، وأنا أثق بكل كلمة تخرج من فيك، لما أعهده بك من الصدق والاستقامة، وإني لأبرئن ساحتك من كل شبهة وتهمة وإنْ تكن أمين صندوق، وبيدك مقاليد عملي، وأنت وحدك المسئول عن كل ما يحدث فيه من الخلل، إذ إنك أنت في عيني أرفع من أنْ تُقدم على مثل هذه الخيانة التي تثبتها عليك قرائن الأحوال، فما عليك إلَّا أنْ تقول كلمة فتنفي بها عني الوساوس والهواجس.
ولما لم يحصل على جواب منه، نهض على قدميه وأخذ يخطر في الغرفة ذهابًا وإيابًا، ثم قال له: قل لي بحقك من السارق؛ لينال جزاءه عاجلًا، فقد سبقت وقلت لي إنك تعرفه وأنك مستعد لأن تبوح لي باسمه.
فنهض عزيز حينئذٍ، وتقدم نحوه بجرأة، وكشف صدره بهدوء، وقال له بصوتٍ ثابت: خذ خنجرك، وأغمده في صدري، فإني أنا السارق الخائن.
ولو أنَّ صاعقة انقضت على يوسف في تلك الساعة، لم يكن لها تأثير أعظم من تأثير تلك الكلمات على فؤاده، الذي كان مفعمًا بمحبة عزيز حتى تلك الساعة، وعلى الرغم من اعترافه بالجريمة، كان يحاول أنْ يوهم نفسه بأن ما يسمعه غير الحقيقة، أو أنه في حلم، وبعد قليل نظر إليه وقال له: ما هذا الذي أسمعه منك يا عزيز؟ وكيف أقدمت على هذه الفعلة الشنعاء؟ وما الذي دفعك إلى ارتكاب هذه الخيانة؟ أنت يا من اتخذتك بمنزلة ولدي، وائتمنتك دون سائر أقرانك على أشغالي وأموالي!
فلم ينبس عزيز ببنت شفة، ولكن التهاب وجنتيه واحتراق الدمع في مقلتيه كانا يترجمان عما تأجج في صدره من التأثر والانفعال، وبعد سكوت قليل قال له يوسف: إني أشفق عليك كثيرًا، وآسف لكوني سلمت جميع أعمالي إليك، ووثقت بحسن خلالك، وجليل صفاتك حتى تمكنت من التصرف بأموالي على حسب رغبتك، فأنت خائن إذن، ولا بدَّ أنْ تستوفي العدالة منك حقها، فاستعِد للدفاع عن نفسك في مجلس لا يخفى فيه نور الحق ولا يموه الباطل.
– ليس لي ما أدافع به عن نفسي، بل على العكس فإني أقر أمامك وأعترف بأني مجرم أثيم، قد خدعتك وسلبت خمسة آلاف جنيه من خزينتك، فذنبي عظيم أستحق عليه أعظم عقاب، والرحمة التي أرجوها منك هي ألَّا تسلمني ليد الحكومة، بل أنْ تقتص مني بيدك وتفرض عليَّ ما تريد من العقاب فأقبله طائعًا.
– إني لم أكن قط آلة انتقام من الجانين، بل لي أنْ أطالب بحقي، وعليك أنْ تتحمل ما يفرضه عليك القضاء من الجزاء.
فصاح عزيز بصوت يفتت الأكباد: لا تكن يا سيدي قاسيًا إلى هذا الحد، ولا تدع الجبن يتسلط على قلبك، فكما سرقت أموالك بيدي اقتلني بيدك، وارحمني من عذاب يعذب القتل دونه.
فلم يجبه يوسف، بل نهض مغضبًا وسار نحو الباب تاركًا عزيزًا في حالة من الذل واليأس يقصر عنهما الوصف، وذهب إلى مخدعه، ففتح خزانة صغيرة في إحدى زواياه، وأخرج منها أوراقًا تختص بأشغال مصرفه، وجعل يبحث فيها استعدادًا لرفع دعواه على عزيز.
أما عزيز، فبعد مرور بعض دقائق أجال نظره في الغرفة فرأى نفسه منفردًا، فأطلق لعبراته العنان، وكان صوت زفيره وشهيقه يرن في أنحاء الغرفة، ولبث على تلك الحال مدة لم يرَ في نهايتها مهربًا له من ذلك العار سوى الانتحار، فصمم النية عليه، ونهض متثاقلًا يقصد منزله، وكان يود حينئذٍ مشاهدة روزه والتزود منها بنظرة أخيرة، ولكنه رأى نفسه لا يقوى على المثول أمامها واحتمال احتقارها، فسار على غير هدى إلى مكان في الحديقة، كان يذهب إليه في ساعات الهناء، وجلس على صخر طالما جلس عليه مع حبيبته، وأخذ يستنشق نسيمات عطرتها أنفاسها، ويلثم أرضًا وطئتها أقدامها، وهو يكاد يجن أسفًا وحسرةً على فقد سعادته، وخسارة آماله، ثم نهض مودعًا تلك الرياحين والأزهار، محملًا إياها كثيرًا من القبلات والأسرار.
وبينما هو يدير نظره في تلك الأنحاء، إذ أبصر على مسافة قريبة منه جريدة مفتوحة تغطي جسمًا ممددًا على الحضيض، لم يلبث أنْ عرف أنها حبيبته، فطار صوابه إذ رآها ملقاة على الأرض، وأسرع ليعلم ما الخبر! فنزع الجريدة عنها فظهر له وجهها مصفرًا كالأموات، وليس بها حركة تدل على الحياة، فأدرك أنها لا بدَّ أنْ تكون قد اطلعت على جريمته، ووقعت على خيانته منشورة في الجريدة التي كانت تقرؤها، فبحث عنها فوقع نظره في محلياتها على ما يأتي: سُرق من خزينة الشهير يوسف رافائيل مبلغ خمسة آلاف جنيه، وقد وقعت الشبهة على أمين صندوقه، إذ يقال أنه ابتاع كمية من القطن في الأسبوع الغابر؛ آملًا في صعود أثمانه فخانه الأمل، وقد خسر بسقوط الأسعار خمسة آلاف جنيه، وهي القيمة المفقودة من الخزينة، والتحقيق جارٍ.
فزفر طويلًا ثم انحنى فوق حبيبته، وأدنى أذنه من قلبها، فشعر بنبضات خفيفة فعلم أنها لا تزال حية، وما ذلك سوى إغماء بسيط، نتج عن شدة كدرها لدى تلاوة تلك الأسطر، فجعل ينضح وجهها بالماء، ويناديها بصوت خائر إلى أنْ عاد إليها الشعور فتنهدت تنهيدًا عميقًا، وفتحت عينيها، وحالما وقع نظرها على عزيز تصاعد الدم إلى وجنتيها، ومالت عنه بأنفة وازدراء، فتمتم المسكين قائلًا: إنها تحتقرني.
فأجابت روزه وقد طفحت مقلتاها بالدموع، وخنق صوتها البكاء قائلة: قل لي إنك بريء مما اتُّهِمْت به، فتبدد عني غيوم هذه الأحزان.
فلم يجسر عزيز على الجواب، بل غطَّى وجهه بيديه وبكى.
فصاحت متأوهة: يا إلهي! ما هذا المصاب؟ إنه لا يجسر على دفع التهمة، فهو مجرم، آه ما أشقاني!
فقال لها: العنيني يا روزه، وابغضيني، واحتقريني ما شئت، ولكن لا يمكنك أنْ تمنعيني من محبتك وتحرميني عبادتك، فالوداع يا مالكة قلبي يا روزه، إنَّ يدي أثيمة لا تطمع بمس يدك الطاهرة، ولساني مدنس لا يجسر على التلفظ أمامك بغير كلمة الوداع، وقلبي المعذَّب لا يأمل أنْ تسكب عيناك دمعة على لحدي، وهذا أخف جزاء أستحقه على إثمي، فالوداع الوداع …
قال ذلك وأسرع هاربًا نحو الباب وهو يقول: إلى الموت، إلى الموت.