على فراش الموت
وفي تلك الأثناء، كانت روزه قد تماثلت شيئًا فشيئًا، وعادت إلى سابق عادتها من المعيشة، مُفضلة عِشرة الأصدقاء على ما كانت ترغب فيه قبلًا من الوحدة والانفراد.
وكانت تلك أحسن فرصة لفريد الذي جعل يتقرب منها، ويباسطها أشهى الأحاديث، وأجمل الأخبار، دون أنْ ينطق بكلمة تشف عن هواه، الذي ما برح يعذب مهجته ويلعب بعواطفه، خوف أنْ يلقى من صدها ما يرهبه ويخشاه، فمال إلى الصبر والكتمان ما وجد إليهما سبيلًا.
ولكن غلبه الوجد أخيرًا، فقابلها يومًا عند باب المنزل، وكانت سائرة إلى الحديقة، فسار برفقتها، ولم يكن بينهما ثالث، فجعل يساعدها على قطف الأزهار، واجتناء الورود، وهما يتباعدان تارة، ويتقاربان أخرى، إلى أنْ شعرت روزه بالتعب، فجلست على مقعد خشبي طلبًا للراحة، وقد عقد العرق على جبينها الفضي لؤلؤًا، وشهد ورد وجنتيها بأنها سلطان الورود وزهرة الحقول.
ورأت فريدًا ينظر إليها هاشًّا، فابتسمت له، وكأن تلك الابتسامة منحته شجاعة لم تعهد به من قبل، فجثا عند قدميها وقال مستعطفًا: أي روزه؛ هل يأتي يوم تشرق فيه شمس آمالي، فتبدد ظلمات تعاستي، أم قضى عليَّ سلطان حبك بالشقاء أبد العمر، ولا ذنب لي إلَّا إخلاصي وشدة احترامي لذاتك البهية.
ثم صمت هنيهة، وجعل ينظر إليها واجفًا جزعًا، كمن ينتظر لفظ الحكم عليه من حاكمه.
فلم يبدُ على روزه أدنى تأثر أو اهتمام، بل أجابته بمنتهى البساطة والاحتشام: إني أودك كصديق.
فلم تزده تلك العبارة إلا إبهامًا، ودام السكوت هنيهة، لم يجد فيها إلى النطق سبيلًا، بل كانت ضربات قلبه المسرعة، وترقرق الدمع في عينيه، يترجمان عما تَوَقَّدَ في صدره من عوامل التأثر والهيام، فود أنْ يستطلع ميولها واعتقادها فيه، ولكن خشي أنْ يبدو له منها ما يقطع آماله، ويصرم حبل رجائه، فلزم الصمت، وبقي ناظرًا إليها كالمأخوذ.
وكأن كلماته على ما فيها من معاني الحب، أعادت إلى روزه ذكرى ساعات قضتها مع عزيز، فتنبهت فيها لواعج من الحزن كانت كامنة، فقطبت حاجبيها، ونهضت فاستطردت سيرها بين الأزهار، وخلفته صريعًا وهي قائلة: تأملوا كيف فعل الظبي بالأسد.
وبعد أنْ أتمت دورة صغيرة في الحديقة عادت إلى مكانها، وقد فارق ملامحها الاكتئاب، فرأت فريدًا جالسًا مكفأ الوجه، كسير القلب، تكاد الأحزان تقطع أحشاءه، وتذيب لفائف قلبه.
فاقتربت منه مشفقة، ونادته باسمه مجردًا من الألقاب، وكان يمازج نغمتها شيء من الرقة والحنان.
فرفع رأسه ونظر إليها نظرة تترجم عن حزنه ويأسه، وأجابها بانطلاق مدامعه، وتصاعد زفراته، ثم كأنه خجل من نفسه لما أظهر من الضعف، فغطى وجهه بيديه وجعل يكفكف دموعه.
فذاب قلب روزه شفقًا عليه، ولا سيما أنها سبقت فعلمت تأثير الحب، واستبداد أحكامه في القلوب، فأمست ترثي لحال المحبين، ولكنها مع ذلك لم تجد من قلبها مجيبًا لهتاف فؤاده، فحاولت تلطيف أحزانه بما حضرها من العبارات الرقيقة، ولكن لم يزده ذلك إلا شغفًا بها، وولوعًا بعذوبة منطقها، فعاد إلى الحديث بصوت تمازجه الرزانة والوقار، فقال: اعلمي يا سيدتي أنني لم أكن أقصد تعكير صفو راحتك بمثل حديثي، وطالما كتمت عندك جواي، ولم أشرك أحدًا من المخلوقات في آلام نفسي، ولو لم يطفح الكيل في فؤادي، ويذهب الغرام برشادي، لما تجرأت الآن على التلفظ أمامك بما قد يؤلمك سماعه، ومع ذلك فإذا كنتِ ترين بعض الخطأ فيما فعلت، فلكِ أنْ تبعديني من مجلسك، وأنا أعدك بالامتثال، ولو كان في ذلك تلفي وموتي.
– إني بالعكس أيها الصديق أجد بقربك عزاءً وسلوةً، غير أني آسفة لما سببت لك من الآلام عن غير عمد، وليتني قادرة أن أخفف بعض أشجانك أو أقابل عواطفك الشريفة بمثلها، ولكن ذلك لا يكون مطلقًا، فإن القلب كالجواد الحرون لا يخضع لقيادة العقل، ولا تؤثر فيه قوة اليد، وغاية ما يمكنني صنعه هو أنْ أكون صديقة لك.
– إنه ليكفيني منك ذلك، فسترين مني صديقًا يبذل مهجته في سبيل مرضاتك، ويجود بحياته للذود عنك، وفوق ذلك فإني أعد بألا أكرر على مسامعك لفظة حب، أو كلمة تخرج عن دائرة الصداقة الأكيدة.
وقد برَّ فريد بوعده، وكأن المودة الخالصة التي وقف لها قلبه، وخلو فؤاد روزه من هواها قد تغلبا على عواطف وجده، فأصبح لا يهمه إلا مؤانستها، ولا يبتغي إلا سرورها ورضاها.
وكانت تقابل معاملته بالامتنان معجبة بصفاء قلبه وصدق وده، وهكذا كانت تمر الأيام بهما، والصداقة الخالصة تنمو وتتفرع في قلبيهما.
وكان التعب والقلق قد أثرا على جسم يوسف أثناء مرض ابنته، فاعتراه على أثر ذلك مرض ثقيل أعيا الأطباء، فلم ينجح فيه دواء، وكانت تلك ضربة على قلب روزه المدنف، فإنها لم تكد تنجو من فتكات الغرام حتى أصيبت بأعز الناس لديها، ومن كان لها عضدًا دون سائر الأنام، فشق عليها ذلك، لا سيما أنها رأت العلة تزيد استحكامًا من والدها رغمًا عن المداواة وحسن الخدمة، فكادت تفقد رشادها حزنًا ولوعةً، وكان فريد ملازمًا لها قائمًا على مساعدتها في خدمة والدها، فرأت منه في آن الضيق صديقًا مخلصًا يوثق بشهامته، فسمت منزلته عندها، ولم تعد تسمح له بمفارقة منزلها، ولا سيما في مثل تلك الحال التي كانت أحوج فيها إلى صديق يشاطرها الحزن والتعب، ويخفف عنها غصص الوحدة والكرب.
وما لبث الداء أنْ اشتد بذلك الشيخ المسكين؛ حتى لم يبقَ منه إلا رمق خفيف، فدعا ابنته وفريدًا إليه وباركهما، وأراد مخاطبتهما، فخانه الضعف وعقد لسانه الداء.
فجزعت روزه وحملقت إلى والدها وهي تذرف دموعًا سخية، تأثرًا لما صارت إليه حالة ذلك الوالد الحنون من السقام، واعتقادها أنها هي السبب فيما ناله من الحزن فالداء العقام.
وكان هذا الفكر يعذبها ويؤلمها، إلى حد أنها كانت تتمنى أنْ تفتديه بروحها، وتصل ما بقي من أيامها بحياته.
وبعد قليل انطلق لسان يوسف من عقدته، ونظر إلى ابنته بانعطاف، وسألها أنْ توافيه بقليل من دواء كان بجانبه، فأسرعت وناولته جرعة ممزوجة بدموعها، وبعد أنْ شربها شعر بقليل من الراحة والنشاط، فقبض على يد ابنته بإحدى يديه وبالأخرى على يد فريد، وقال: اعلمي يا بُنَيَّة أنني راحل عن هذه الديار الفانية، ولم يبقَ لي فيها سوى دقائق معدودة، والذي يحزنني هو أنني سأتركك وحيدة في هذا العالم، لا أحد يعتني بك أو يهتم بشأنك، وعليه فأرى أنْ يكون لك رفيق يشاطرك الحياة ويقاسمك الملاذ، ولا أجد من هو أليق من صديقنا فريد الذي على ما أعهد فيه من نبل الأخلاق، وطيب العنصر، قد تجدين فيه خير نصير، وأحسن نصيب. وهنا حوَّل نظره نحو الفتى، كأنه يطلب مصادقته على قوله، فأجاب هذا: إني أقسم لك بشرفي أنْ أبذل ما في وسعي؛ لكي أجعلها سعيدة.
فأردف الأب قائلًا: ولا تظني يا ابنتي أنَّ سعادة الزواج لا تتم إلا حيث يحل الغرام؛ فربَّ هوى أفضى بذويه إلى ريبة، وأوصلهم إلى سوء المصير، وكم من متزوجين حسنت حالهم، وسعدت أيامهم، وهم لا يعرفون من الحب سوى ما داخَل قلوبهم رويدًا مع طول الألفة، وتوالي الأيام، فإن الخلال الحسنة والصفات الحميدة هي التي تجعل كلًّا من الزوجين محترمًا من رفيقه، وإنكما لواجدان ذلك في بعضيكما، فليس ما يمنع من تآلفكما إذن، واتحاد قلبيكما، فعديني أيتها العزيزة بأنْ تجيبي طلبي، وتدعيني أنزل لحدي بسلام.
فاضطربت الفتاة لهذه المفاجأة، ولم تَقْوَ على الكلام.
فرأى والدها ترددها، وشعر بارتعاش يدها في يده، فضغط على أناملها بمنتهى الحنو وقال لها: روزه، روزه، اذكري محبتي لكِ، وعدم رفضي لشيء من رغائبك، أفترفضين الشيء الوحيد الذي أطلبه منك، وأنا على حافة الأبدية.
فتأثرت روزه من حديث والدها، ورأت أنْ لا بدَّ من طاعته، ولا سيما أنه قد عانى كثيرًا من الأحزان والآلام، فلم يعد يمكنها أنْ تضيف إلى ذلك حزنًا آخر برفضها منَّة يرتجيها منها في آخر ساعات حياته، ومن جهة أخرى لم يكن ما يمنع اقترانها بفريد ما دامت مطلقة القياد، وما دام هو راغبًا فيها، فإذا كان الغرام في شرع العاقلين ليس من ضروريات الزواج، فليس ما ترتجيه من دنياها أفضل من ذلك النصيب، وهي التي نبذ فؤادها الهوى، وأقفل بابه في وجه الغرام، فسيان عندها هذا أو ذاك، ما دامت مضطرة إلى من يحميها، ويرافقها في هذه الحياة التي عُدمت من كل سلو وعزاء.
فانحنت على يد والدها، وقبَّلتها قائلة: إني أعدك بما تشاء يا أيها الوالد الحنون.
– الآن طابت نفسي، فسأموت قرير العين.
ثم ضم يديها بين يديه، وخاطب فريد قائلًا: وما يمنع من قرانكما في الحال، فتبتهج نفسي، وتباركما.
فتبادل فريد وروزه النظر، ولم يرَ منها ترددًا، فنهض وهو يقول: سيكون كما تريد يا سيدي.
وبعد مضي دقائق قليلة، كان العروسان واقفين أمام سرير المحتضر، وإلى جانبهما كاهن يبارك قرانهما، ووراءهم الممرضات، والخدم وقوفًا يشاهدون تلك اللحظة البسيطة، ويوسف ينظر إليهما، وابتسامة ظاهرة على شفتيه المفتوحتين، ولبث شاخص البصر إليهما حتى انتهت واجبات الكاهن، ففتح ذراعيه وضمهما بما بقي لديه من القوة، ولم تكن إلَّا ساعة حتى لفظ روعه بين دموعهما وابتسامته.