ظهور الحقيقة
وفي عصر اليوم التالي برحوا مدينة بيروت عائدين إلى مصر، وكانت ماري تقص على عزيز أثناء الطريق أخبار روزه، وما تبينته فيها من دلائل الحب والتألم لبعده.
فكان يصغي إليها وحشاشته تتقطع حزنًا وندمًا على ما بدا منه نحوها من الطيش والغدر، وما جلبه عليها من السقم والكدر. وقد وطن النفس على العودة إليها وطلب الصفح منها، وهو واثق بقبولها لتوبته لما يعهده بها من صدق المودة ورقة القلب، ولا سيما بعد أنْ اتضح عذره في إجابته دعوة المودة، وانقياده لجاذب الإخاء.
وبوصولهم إلى مصر أسرع عزيز توًّا إلى منزل روزه، فأُخبِر بوفاة والدها منذ يومين، وعدم تمكنها من مقابلة أحد لما هي عليه من الحزن والغم.
فعاد أدراجه أسفًا على وفاة صديقه، متلهفًا على رؤية حبيبته، وتفريج كربتها متأملًا في حالتها، وما تتجرعه من غصص الكرب، فشعر أنَّ الدنيا قد ضاقت به، فأسرع إلى منزله ليستريح قليلًا من عناء السفر، فوجد أنَّ خادمه الأمين قد قام بترتيب المنزل وتنظيفه مدة غيابه بما أوج ثناؤه عليه.
فبات تلك الليلة على أنْ ينتقل بأثاثه في اليوم التالي إلى منزل والده، الذي ألح عليه بوجوب الإقامة معهم.
ولما كان الصباح، جمع أمتعته بمساعدة خادمه، وبينما كان يرصف الكتب، رأى بينها على المائدة منديلًا لطيف الصنع، فتناوله حتى فاحت منه رائحة طيبة، كانت تستعمله روزه عادة، فتأكد أنه لها، ولا سيما بعد أنْ رأى مطرزًا إلى جانبه حرف الراء.
فجعل يقبِّله ويسقيه بدموعه، متلهفًا على أيام قضاها بقربها، مستنشقًا ذلك العطر مع أنفاسها الزكية.
ثم خطر له أنْ يبحث عن سبب وصول ذلك المنديل إلى مخدعه، فدعا خادمه وقال له: لمن هذا المنديل؟ ومن أتى به إلى هذا المكان؟
فلم يعلم الخادم بم يجيبه، فإنه كان قد رآه قبل ذلك الحين، فلم يشك أنه لسيده، وبعد تردد طويل قال: لا أعلم.
– كيف تجهل ذلك والمنديل يخص امرأة، فإذا لم تكن تعلم أنت الذي أتيت به إلى هذا المكان، فلا بدَّ أنْ صاحبته دخلت هذ الحجرة، فسقط منها اتفاقًا، وفي كلتا الحالتين ينبغي أنْ تطلعني على جلية الأمر.
فتذكر الخادم مجيء السيدة روزه رافائيل منذ بضعة أشهر، وأدرك أنَّ المنديل لا بدَّ أنْ يكون قد سقط منها وقتئذٍ، إذ لم يدخل غرفة سيده سواها من النساء، فوقع في حيرة بين أنْ يقر له بالحقيقة فيقع تحت اللوم، أو يلجأ إلى الخداع فلا يروج عليه المقال.
ولحظ عزيز ارتباكه، فداخلته الظنون، وألح عليه بالجواب، فلم يرَ الخادم بدًّا من الإقرار، ولا سيما بعد أنْ شاهد في سيده علائم الحدة والغضب، فأعلمه بزيارة روزه.
فصاح عزيز مندهشًا: السيدة روزه رافائيل … أتت إلى منزلي؟ متى كان ذلك؟
– لا أذكر تاريخ اليوم، ولكني أذكر أنَّ سيدي عاد إلى المنزل يومئذٍ نحو الساعة السابعة صباحًا، وكان الكدر آخذًا منه كل مأخذ، فناولته رسالة كان قد أحضرها أحد الخدم، بعد اطلاعه عليها تبدلت ملامحه من العبوسة إلى الطلاقة ثم دخل مخدعه، ولم تكن إلا ساعة حتى خرج مسرعًا، وعليه ملامح القلق، وبعدئذٍ حضرت السيدة روزه رافائيل.
– وهل كانت وحدها؟
– لا، بل يصحبها خادم لها، وقد طلبت إليَّ أنْ أُدخلها إلى مخدع سيدي، وكانت تحمل رسالة إليه.
– وبعد ذلك …؟
– بعد أنْ مكثت نحو ربع ساعة عادت من حيث أتت، ولم أرَ الرسالة عند ذلك في يدها.
– ويحك! لِم لَم تخبرني بمجيئها قبل الآن؟
– لم أجسر على مخاطبة سيدى آنئذ؛ لما كان عليه من الغضب، ولعلمي أنه لا بد من أنْ يعلم ذلك في منزل سيدي رافائيل أثناء زيارته له.
وعند ذلك صرف خادمه وأطرق برأسه وهو يقول: أواه! ما أشقاني! لقد حضرت بنفسها لتبشرني بالنجاة بعد أنْ سعت لي عند والدها بالشفاعة، فقابلتها بالهجران، ورضيت من الدنيا بمودة فتاة ساذجة جُذبت إليها بعامل الإخاء، فلقد كنت غبيًّا وقتئذ، ولم أدرك قيمة ذاتها وخلوص ودادها، أما الآن فقد اتضح لعيني كل شيء، ولكن هل تعلم هي ما أقاسيه من الحسرات؟ وهل يرد لنا الدهر ما فات؟
ثم اقترب من مكتبه، واستأنف رصف كتبه وهو يصعد الزفرات، ويعيد في ذهنه ماضي أيام قرب روزه وحلاوة اجتماعات سمح الدهر بها حينًا وانقضت.
وإنه لكذلك إذ وقعت عيناه على رسالة ماري، فانتفض كمن لسعته أفعى، وأخذها بيده وهو يقول: لقد علمت الآن السبب الذي حدا روزه على التباعد وفصم العهود، فلا بد أنْ تكون قد اطلعت على هذه الرسالة التي شهدت بخيانتي ونكث ودي، ففعلت ما توجب عليها الأنفة وعزة النفس، وساعدني ذلك على التطوع في الزيغ والغدر.
ثم جعل يتأمل فيما كانت عليه حالها وقتئذٍ من شدة الحزن واليأس، وما ذرفت عيناها الجميلتان من الدمع، فكاد قلبه يتقطع حسرةً وأسفًا، ثم صاح من فؤاد قرحته أنياب الندم: الويل لي! أنا الشقي! كم جلبت على تلك النفس الطاهرة من الآلام، وكم سببت لها من الأسقام، فضلًا عما جررت عليها من خسارة المال وضياع الآمال، أواه! من لي فيزيل هذا الحاجز بيني وبينها الآن، ويرجع إلى قلبي سعادته المفقودة، ويعيد إليها سابق ثقتها بي؟
وبعد أنْ أنهى أعماله، وجمع أمتعته، ذهب إلى والده، فتلقته شقيقته بالترحيب وعانقته مكثرة من ملاطفته، ثم قصَّت عليه خبر زفاف روزه إلى أخيها فريد، بما أمكن من التلطف بالحديث.
فشعر حينئذٍ بأن الأرض تميد تحت قدميه، ولبث مدة شاخص النظر مقطب الوجه صامتًا، لم ينبس بكلمة، إذ لم يرَ وجهًا للومها، بل كان يردد في سره قائلًا: لقد جوزيت بخطيئتي، ونلت جزاء غدري وخيانتي.
وما زالت ماري تحدثه وتمازحه إلى أنْ خَف ما به.
ولقي بعد ذلك من حسن معاملة أسرته عمومًا، ومن أخيه خصوصًا ما لطف حزنه وأخمد نيران فؤاده. وكان فريد يزورهم من وقت إلى آخر، ثم يعود إلى قرينته التي فضَّل الإقامة معها منفردين، وكثيرًا ما كان يدعو أخاه لزيارته، أما عزيز فكان يصعب عليه مواجهة روزه، والنظر إليها، ففضل الابتعاد معتذرًا إلى أخيه.
حتى إذا كان بعض الأيام وروزه واقفة في ردهة منزلها، وقد ارتدت ثوبًا فاحمًا زاد جمالها بهاءً، وبشرتها نقاوةً، لم تشعر إلَّا وعزيز واقف أمامها ينظر إليها بانكسار.
فحالما وقعت العين على العين، وقف كلاهما مبهوتًا، كأن به سحرًا، وقامت رسل الأنظار تشكو إلى القلوب ما جنته عليها من أيدي البعاد، ولبثا كذلك هنيهة يتمتعان بلذة حلم ما عتم أن أعقبه مرارة اليقظة، فانتبه عزيز إلى حقيقة مركزه، والتفت بنظره إلى ماضي حياته، وقابل بين هذا وذاك، وللحال أطرق خجِلًا حزينًا، وقال بصوت اليأس: ما أشقاني …!
فمدت روزه إليه يدها باسمة، فقبض عليها بلهفة فضغطت على يده بحنو قائلة: لا تتفوه بمثل ذلك أيها الصديق؛ فأنا شقيقتك منذ الآن.
– آه … إذن قد صفحتِ عني.
– لقد صفحتُ عنك، وفوق ذلك فإني أحبك حب الأخت لأخيها.
– هذا غاية ما أرجوه منك، فما أنتِ إلَّا ملك كريم.
ثم أكب على يدها، فتركته يقبِّلها، ويغسلها بدموعه، وقلبها يتقطع حسرة وشفقة عليه.
ولبثت بعد ذلك تُظهر له تمام المودة والمصافاة إلى أنْ زالت وحشته، ولم يزل حبها من فؤاده؛ ولذلك صمم أنْ يقضي بقية حياته عزبًا، قانعًا بأن ينظر إلى مالكة قلبه، ويوقن بأنها قد رضيت عنه ونسيت ماضي ذنوبه.