وردة الحقل
وكان لماري صديقة في المدرسة تُدعى روزه، وهي مصرية النشأة سورية الأصل، قد هاجر بها والداها الديار السورية؛ لأسباب أهمها تأخر البلاد، وتقهقر أشغالها، وكساد تجارتها، وقلة أرباحها، فاعتنيا بتهذيبها، وأرسلاها إلى تلك المدرسة حيث صادقت ماري فتحابا ولا غرو، فإن الطيور على أشكالها تقع، فقد كانتا متشابهتين بجمال الخَلق والخُلق، متماثلتين بالجنس والذوق، متعادلتين في المنزلة والثروة، ولم يكن من اختلاف في هيئتهما سوى أنَّ ماري كانت سوداء العينين والشعر، وبيضاء الجبين وخفيفة الروح، وروزه كانت زرقاء العينين كستنائية الشعر ذات بشرة نقية مشرَّبة احمرارًا، وكانت هيئتها تدل على حسن الصحة، وتوفر الدم كالبنات القرويات، وكان أترابها في المدرسة يلقِّبنها بوردة الحقل.
ولبثت روزه في المدرسة سنة أخرى بعد خروج صديقتها، كانت فيها أليفة الوحشة والانقباض، ولم تكن ماري تهمل زيارتها كلما وجدت لذلك سبيلًا.
ولما انتهى العام، وأتى الذي تفارق فيه الفتيات المدرسة، ودَّعت روزه رفيقاتها ومعلماتها وخرجت إلى حيث ينتظرها والدها، وكان قد حضر منذ أيام لمشاهدتها والعودة بها إلى مصر، فما كادت تجتمع به حتى رأت صديقتها ماري مقبلة، وبرفقتها شاب لم تسبق معرفة به، فأسرعت نحوها، وضمتها بلهفة، وقابلت ماري مثل ذلك، فتعانقتا، بينما كان والد روزه والفتى واقفين ينظران إليهما باسمين، وقد انحنيا لبعضهما إشارة للسلام، وبعد أنْ ارتوى غليل شوق الحبيبتين، تقدمت ماري إلى والد صديقتها وصافحته، ثم أشارت نحو رفيقتها وقالت: أعرفكما بأخي فريد، فنظرا إليه باسمين وبادلاه التحية، وقد غلب الحياء على روزه وتوارد الدم إلى وجنتيها، فغضت أبصارها، ومالت نحو صديقتها تحدثها، وجلس الرجلان إلى جانب يتبادلان الحديث.
وبعد قليل من الزمن نهضت ماري ودَعت روزه ووالدها واسمه يوسف روفائيل لزيارتها، وساعدها أخوها بالإلحاح عليهما فأجابا دعوتهما، وسار الجميع إلى منزل حبيب الذي أحسن استقبالهما، ورأى يوسف من لطف معاشرة تلك الأسرة ما قيده بمودتها.
وقد شعر فريد بجاذب يجذب فؤاده نحو روزه، فما فتئ ينظر إليها ويحادثها محاولًا التقرب منها، أما هي فكانت مشغولة عنه بصديقتها، والحزن يتقسم فؤادها كلما خطر لها فكر السفر ووجوب مفارقتها، فلم تبالِ به ولا وجد رسول عينيه سبيلًا إلى قلبها الخالي.
وكانت ماري أشجع منها قلبًا في موقف الوداع، وأكثر جَلدًا على احتمال تأثير الفراق، فألوت عليها تُقبِّلها وتمسح دموعها، ثم أعلمتها بأنها لا تغيب عنها طويلًا، فإنهم قد صمموا على السفر إلى مصر قريبًا، إذ لم يبقَ ما يوجِب بقاءهم في باريز، فصفقت روزه طربًا واقترحت عليهم السفر معًا.
وبعد المفاوضة في هذا الموضوع قرَّ رأي الأسرتين على السفر معًا بعد أسبوع، ولما كان ليوسف بعض أشغاله في مارسيليا تتعلق بمحله التجاري في مصر، فقد اضطر أنْ يسافر مع ابنته في اليوم الثاني إلى تلك المدينة ليقضي مهمته، منتظرًا وصول حبيب وولديه في نهاية الأسبوع.