«أحمد» في فخ العصابة!
كان هناك رجل يدخن سيجارة وقد بدا شاردًا تمامًا، لم يكن هذا ما لفت نظر «أحمد»، الذي لفت نظره تلك الحالة العصبية في عينِه اليُسرى. شعر «أحمد» بدقات قلبه تزداد. إذن. القاهرة، هي مركز النشاط. لو أنَّ الشاب الذي تبعه «قيس» هو «شل» ولو أن هذا هو «كولدر» يكون كل شيء قد اتَّضح، وعلى الأقل قد تحدَّدت الأمور. لكن، هل المسألة بهذه السهولة؟ … أخذ «أحمد» يقترب من الرجل في هدوء ويتظاهر بأنه يُشاهد حركة صالة المطار. أصبح «أحمد» قريبًا جدًّا من الرجل تأكد تمامًا من تلك الحركة العصبية في عين الرجل. أخذ يستعيد بسرعة تفاصيل ما ذكره رقم «صفر» عن «كولدر»، تلك «الحالة العصبية» في حدود الخامسة والأربعين من العمر، نعم. يبدو هادئًا … نعم أيضًا. هل يكون هو «كولدر»؟ حقيقةً؟ ثم إلى أين يتجه الآن؟ هل سيبقى في القاهرة؟ أو أنه على سفر، إلى مكان ما.
لحظة، ثم تحدث ميكروفون المطار … ركاب الطائرة المتجهة إلى «لندن»، يتجهون إلى باب رقم «٢»، كان «أحمد» يُراقب الرجل، ليرى وقع هذه الكلمات عليه، استمع الرجل لحظة، ثم انصرف لتأمُّل ما حوله. إذن الرجل، ليس ذاهبًا إلى «لندن» … كانت هذه فرصة ليعرف إلى أين يتجه الرجل، لكن كان في رأس «أحمد» سؤال هل هو «كولدر»؟
وكيف يتأكد من ذلك، فكر لحظة. إن الوقت المناسب هو وقت الدخول إلى صالة «الترانزيت» التي تؤدي إلى أرض المطار. ظلَّ يراقب الرجل. ويتظاهر في نفس الوقت بقراءة الجريدة التي اشتراها. تردَّد صوت ميكروفون المطار أكثر من مرة. الطائرة المسافرة إلى «باريس». ولم يتحرك الرجل، الطائرة المسافرة إلى «روما» لم يتحرك الرجل. أخيرًا … قال صوت مذيعة المطار: ركاب الطائرة المتجه إلى «بني غازي» يتوجَّهون إلى أرض المطار. ولم يتحرَّك الرجل. أصيب «أحمد» بخيبة الأمل. هل يذهب إلى «بني غازي» أو يتعقَّب الرجل؟ لم تمض … لحظة، حتى جاء صوت مذيعة المطار: ركاب الطائرة المتجهة إلى «أثينا» … يتوجهون إلى أرض المطار … استمع الرجل باهتمام. بينما المذيعة تعيد تلك الجملة باللغة الإنجليزية والفرنسية ثم أخذ طريقه إلى باب صالة «الترانزيت» … أسرع «أحمد» إلى ضابط الجوازات، ووقف إلى جواره اقترب الرجل، ثم أخرج جواز سفره، وقدمه إلى ضابط الجوازات. استطاع «أحمد» بسرعة أن يقرأ اسم الرجل، كان اسمه «هيرمان» فكَّر «أحمد» بسرعة من الضروري أن يكون الرجل قد غير اسمه … وليس من المعقول أن يكون اسمه الحقيقي مثبتًا في جواز سفره. هذه طريقة العصابات … أن يظهر أفرادُها بأسماء مُستعارة … كانت مشكلة … إن أوصاف الرجل هي نفسها تلك الأوصاف التي ذكرها رقم «صفر» … ما العمل إذن؟
تتبع «أحمد» الرجل إلى أرض المطار، بينما كان ركاب الطائرتين، يتجهون إلى السيارة التي ستقلهم، نادى «أحمد» بصوت مُرتفِع. بينما عيناه على الرجل «مستر كولدر». توقَّف الرجل لحظة. ثم استمرَّ في طريقه. كانت هذه اللحظة كافية لأن يتأكَّد «أحمد» أن هذا الرجل هو نفسه «كولدر». أخذ طريقه بسرعة إلى كابتن الطائرة، وتحدَّث إليه حديثًا سريعًا.
قال الكابتن: سوف نرى. قد يتخلف أحد.
استقر الركاب في الطائرة المتجهة إلى «أثينا» … وبدأ الكابتن يَحصُر الركاب، كانوا جميعًا في أماكنهم، ولم يتخلَّف أحد، قال «أحمد»: ألا توجد طريقة؟
الكابتن: سنجد طريقة.
دخل «أحمد» إلى كابينة القيادة، حيث يوجد طاقم الطائرة … لم يكشف الموقف لأحد. ظلَّ بين كل لحظة وأخرى. يَخرُج ليمرَّ بين المقاعد في محاولة لرصد «كولدر». في النهاية … تحركت الطائرة.
وعندما بدأت ترتفع … نظر «أحمد» من نافذة الطائرة. كانت تتباعد تفاصيل المطار وتبدو القاهرة كلوحة قديمة نادرة. وعندما استوت في مسارها، عاد إلى خارج الكابينة … وألقى نظرة سريعة على «كولدر» كان يجلس مُمددًا، وقد أغمض عينَيه لكنه لم يكن نائمًا. فتلك الحركة العصبية. كانت تحدث بين لحظة وأخرى، وهذا ما يؤكد ﻟ «أحمد» أن «كولدر» مستيقظ.
وفي كرسي قريب من كابينة الطائرة. استغرق «أحمد» في التفكير. كان يفكر في «ريما» و«قيس» وذلك الشاب الذي قابلوه في مطار القاهرة. ويفكر في مجموعات العمل التي خرجت إلى أماكن كثيرة، مختلفة … إن المفروض أن يكون الآن في المقر السري … ليعرف ماذا حدث. لكن، ها هو الآن … داخل مغامرة، لا يدري نهايتها لم يمضِ وقت طويل، حتى استغرق في النوم.
نظر كابتن الطائرة إليه، ثم ابتسم. غير أنه تركه مُستغرقًا في نومه.
وعندما كانت الطائرة تقترب من مطار «أثينا»، اقترب «الكابتن» من «أحمد» ثم هزه برفق … استيقظ «أحمد» فزعًا … فرأى ابتسامة «الكابتن» ابتسم وهو يقول: يبدو أنني كنتُ مُجهَدًا. لا بأس.
الكابتن: إنَّ الطائرة مكان يجلب النوم على كل حال.
تذكر «أحمد» «كولدر» خرج بسرعة إلى الطائرة كان «كولدر» ينظر من النافذة التي كانت قريبة منه. جاء صوت مذيعة الطائرة: نرجو أن تربطوا الأحزمة، إننا سنهبط بعد قليل.
بدأ الركاب يربطون أحزمة الكراسي، ودخل «أحمد» إلى الكابينة، لم تمض ربع ساعة حتى شعر «أحمد» بالطائرة تدور … نظر من النافذة، فشاهد أضواء مطار «أثينا»، هذه ليست أول مرة يهبط فيها هنا … فقد هبط في مرات سابقة …
كانت أضواء المطار تلمع … كعقد من اللؤلؤ … استغرق في التفكير … ما هي الخطط القادمة؟ من المؤكد أن «كولدر» سيجد أحدًا في انتظاره … تردد «أحمد» قليلًا ربما لا يكون هناك من ينتظر «كولدر» إنه يستطيع أن يستقل تاكسيًا، وعلى ذلك فلا بد أن يتبعه. تحسَّس حزام بنطلونه، واطمأن إلى الأسلحة السرية التي يحملها؛ إنه هنا سوف يتعرَّض لمعارك مؤكدة.
لحظة ومست عجلات الطائرة أرض المطار … اقترب الكابتن من «أحمد» ثم سأله: هل من خدمة أؤديها لك؟
شكره «أحمد» … ثم حيَّا طاقم الطائرة، وأخذ طريقه إلى باب النزول … كانت الطائرة قد استقرت نهائيًّا على الأرض. وفُتح الباب، فاقترب سلم النزول … نزل «أحمد» بسرعة في مقدمة الركاب … كان يريد أن يعطي نفسه فرصة … حتى لا يغيب عنه «كولدر». نظر بطرف عينه … كان «كولدر» ينزل درجات السلم متمهلًا. كان وقوف الطائرة قريبًا من صالة «الترانزيت» فمشى الركاب إليها … كان «أحمد» حريصًا على ألا يفارق «كولدر» لكن … فجأة … تقدم أحد الرجال واصطدم ﺑ «أحمد» ثم قال: معذرة، إن عيني اليمنى ضعيفة حتى إنني لا أرى أمامي جيدًا. كان الرجل يلبس نظارة سوداء، فردَّ «أحمد»: لا بأس.
ثم استمر في سيره … غير أن «كولدر» كان قد اختفى … تمامًا. أسرع «أحمد» إلى باب الخروج … سأل الضابط الواقف على الباب، إن كان أحد قد خرج، عرف أن أحدًا لم يخرج بعد، وقف «أحمد» بجوار الضابط يرقب الخارجين. حتى خرج الركاب جميعًا، غير أن «كولدر» لم يظهر.
أسرع «أحمد» يبحث عن ذلك الرجل الذي اصطدم به.
لقد تأكَّدَ أنه أحد أفراد العصابة، وأنه يعرفه أيضًا وإلا … فلماذا تعمَّدَ الاصطدام به؟ فجأةً … اقترب منه رجل. وقال: زهرة! ابتسم «أحمد» ومد يدَه مُحييًا. لقد عرف أنه تابع لرقم «صفر» فقد كانت هذه كلمة السر … حكى بسرعة للرجل ما حدث … ابتسم الرجل وقال: اسمي «كاريللو» … هيا بنا … لا تَشغل بالك!
خرج «أحمد» مع «كاريللو» قال: أظن الرحلة كانت شاقة بالنسبة لك، خصوصًا وأنك لم تَسترِح في الطائرة.
أحمد: لقد تعوَّدتُ ذلك.
كاريللو: ألم تصلك أنباء عن «شل»؟
أحمد: حتى الآن. لا … لكن، إذا كان هو حقًّا … فإن الأنباء سوف تصلني سريعًا.
انطلقت ضحكة عالية من سائق السيارة التي يَركبانها. توقف «أحمد» لحظة ينظر إلى كليهما. شعر أن الدنيا تدور به؛ فمن غير المعقول أن يقع بهذه البساطة. كانت السيارة تنساب على الأسفلت … في رقة … وكان يبدو أن السرعة ليست عالية … فكر «أحمد»: هل أكون قد وقعت في أيدي العصابة؟ هل «كاريللو» عضو فيها؟
قال «أحمد» بعد لحظة: الجو رائع الليلة.
ضحك «كاريللو» ضحكة ساخرة … ثم قال: نعم … إنها ليلة رائعة … خصوصًا وأنك معنا.
ألقى «أحمد» نظرة إلى الشارع … كان الهدوء يسيطر على كل شيء. لم يكن يفكر … لقد ترك كل شيء للتصرُّف الوقتي. إن كان «كاريللو» فردًا من العصابة فسوف تبدأ المشاكل … وإن كان من رجال رقم «صفر» فسوف تكون الأمور على ما يرام.
مرت لحظات ثقيلة، ثم انحرفتِ السيارة في هدوء، في ممرٍّ جانبي من الشارع بين حدائق واسعة … استطاع «أحمد» أن يرى بعض تفاصيلها تحت أضواء السيارة.
فجأة نظر إلى «كاريللو» قائلًا: هل جاءتك رسالة ما؟
ضحك «كاريللو» ضحكة صفراء وقال: الرسائل كثيرة هل تريد بعضًا منها؟
نظر له «أحمد» في دهشة قائلًا: ماذا تعني؟
كاريللو: إن الرسائل تصل إلينا كثيرًا هذه الأيام … أنت تعرف بالتأكيد أن المهمة خطيرة. وهذا ما يجعل الرسائل … كثيرة.
لم يفهم «أحمد» شيئًا … غير أنه بدأ يتأكَّد أن الموقف غير طبيعي … وأن عليه أن يتلمس الأمور … نظر إلى «كاريللو» قائلًا: مستر «كاريللو» … هل نحن في الطريق إلى المدينة؟
كاريللو: نعم … لكنها ليست «أثينا» بالتأكيد … هذه مدينة خاصة.
أبدى «أحمد» دهشةً تمثيلية، ثم قال: مدينة خاصة، لا بد أنها مدينة جديدة.
كاريللو: ليست جديدة تمامًا. إنها قديمة نوعًا. وأظن أنك سوف تراها لأول مرة، وربما للمرة الأخيرة.
أحمد: الأخيرة … كيف؟ أليست هذه مدينة تابعة لنا؟
كاريللو: نعم … إنها تابعة لنا نحن.
أحمد: ماذا تقصد؟
ابتعد «كاريللو» حتى نهاية المقعد، ثم نظر إلى «أحمد» قائلًا: إنني أعرف أنك متأكِّد تمامًا مما أقول … وتعرف بالضبط موقفَك. الآن … إنك أذكى كثيرًا مما تدَّعي … لكن يبدو أن ذكاءك قد فاتَكَ هذه اللحظات. المسألة لن تطول … بعد قليل سوف تعرف كل شيء.
أحس «أحمد» بضيق شديد … لقد أيقن أخيرًا أنه وقع في فخِّ العصابة … وأن عليه أن يتصرَّف.
كانت هناك أضواء بعيدة تلمع … أيقن «أحمد» أنها المكان الذي سوف يراه. تلك المدينة الجديدة؛ لأن السائق قال: كم هي مضيئة مدينتنا؟
فكر «أحمد» قليلًا ثم بدأ حديثًا مع السائق. كان يريد أية معلومات جديدة … يمكن أن تفيد … سأل السائق: هل الصيد مباح في المدينة؟
تجهَّم السائق قليلًا … ثم بدأت ملامح وجهه تلين وقال: الصيد؟ أي صيد تعني؟
أحمد: الطيور طبعًا.
السائق: وما الذي يمنعها؟
أحمد: إنني أسأل فقط … ذلك لأنني أفكر في رحلة صيد في الصباح؟
نظر بسرعة إلى وجه «كاريللو» … كان يبدو شمعيًّا … لا يَحمل أي انفعال. أكمل «أحمد»: هل تحب الصيد؟
السائق: أحبُّ صيد السمك … هل تحبه؟
أحمد: نعم … لكن، هل أماكن الصيد قريبة من المدينة؟
ابتسم السائق قائلًا: إننا متَّجهُون إلى شاطئ البحر. فالمدينة كلها تقع على الشاطئ …
نظر «كاريللو» إلى السائق، والتقت أعينهما من خلال مرآة السيارة الأمامية.
صمت السائق. فنظر «كاريللو» إلى «أحمد»: إن رحلة الصيد تكون ممتعة، عندما يجتمع بقية الشياطين.
شعر «أحمد» بأن قلبه يكاد يقع بين جنبَيه … إنَّ هذه مفاجأة … فهل هناك من يعرف الشياطين، سوى رقم «صفر»؟
فكَّر «أحمد»: لا بد أن العصابة تعرف عنَّا كل شيء، ويبدو أن «كولدر» و«شل» عبارة عن طعم لنا، من يَدري … قد أجد «ريما» و«قيس» في انتظاري داخل بيت من بيوت تلك المدينة. وأرى معهما «شل»، لكن كيف عرف «كاريللو» كلمة السر؟
كانت هذه مسألة هامة. فإما أنه حصَل عليها … بعد خطف عميل رقم «صفر» في «موريتانيا» أو قبل اغتيال العميل في «باريس».
هكذا ظل «أحمد» يُفكِّر بينما السيارة تسير في هدوء، بين حدائق بلا نهاية.
فجأة … أطفأت السيارة أنوارها … واتجه إلى طريق جانبي ضيق … ثم توقفت صرخ: ماذا حدث؟
أجاب السائق: أشكُّ في أن أحدًا يتبعنا.
بهدوء شديد. سأل «أحمد»: ولماذا يتبعنا أحد؟ هل هناك شيء هام؟
كشر «كاريللو» عن أنيابه التي ظهرَت تحت الأضواء الآتية من بعيد، ثم قال ﻟ «أحمد»: إلى متى تُحاوِل أن تبدو وكأنك لا تفهم شيئًا؟
نظر «أحمد» إليه بدهشة. لكنه بسرعة حاول أن يبدو هادئًا وسأل: هل انحرفنا عن الطريق الرئيسي، أو أنَّ هذا طريقنا؟
لم يردَّ عليه أحد. لكنه فجأة شعر بدقات الجهاز السري الذي يحمله، فعرف أنها رسالة من أحد الشياطين، وكانت هذه الرسالة هي بداية المعركة الحقيقية.