من مصيدة إلى مصيدة!
لم يَستطِع أن يفعل شيئًا. إن «كاريللو» بجواره. وهو لا يستطيع أن يُظهر الجهاز أمامه … غير أن ذلك طمأنه كثيرًا. إنَّ معنى إرسال مثل هذه الرسالة أنَّ أحد الشياطين يعرف أين هو، ويعرف الموقف الذي فيه. قال «كاريللو» للسائق: عُدْ إلى الطريق الرئيسي، ثم انطلق بسرعة …
في لمح البصر كان السائق. يعود بالسيارة بطريقة عنيفة، جعلت «أحمد» و«كاريللو» يهتزَّان بعنف؛ حتى إنهما اصطدما معًا.
وكانت هذه فرصة «أحمد»؛ ففي نفس اللحظة التي استعدَّت فيها السيارة للانطلاق فوق الطريق الرئيسي، وأبطأت سرعتها تمامًا … كان «كاريللو» ما زال يتأرجَح في مكانه … فتح «أحمد» الباب بسرعة، ثم ألقى بنفسِه وهو يَضرب «كاريللو» بقدمه في بطنه ضربة جعلته يتأوه صارخًا: «دينو» … اقفز خلفه!
غير أنَّ «أحمد» كان قد اختفى في الليل. صرخ «دينو»: اظهر أيها الشيطان وإلا … اضطررتُ لإطلاق الرصاص عليك! ابتسم «أحمد» في مكانه. لقد كان قريبًا تمامًا من «دينو». في نفس اللحظة، سمعَ صوت «كاريللو» مُتألِّمًا: هل معك بطارية؟ فرد «دينو»: نعم … في السيارة.
كاريللو: هاتِها بسرعة، ثم عُد وأضئ فوانيس السيارة كلها على المكان الذي قفز فيه … إننا لن نستطيع العودة بدونه.
أسرع «دينو» إلى السيارة، وأحضر البطارية، وأعطاها إلى «كاريللو» … ثم عاد واتجه بالسيارة إلى نفس المنطقة التي قفز فيها «أحمد» … زحف «أحمد» بسرعة مُبتعدًا … بينما كانت أضواء السيارة تكشف المنطقة التي ابتعد عنها. كان «كاريللو» يقترب من المكان الذي زحف إليه، يسبقه ضوء البطارية … وكان واضحًا أن أيَّ حركة يقوم بها سوف تَكشِف مكانه. أخرج «أحمد» مسدَّس الإبر المخدِّرة … ثم أطلق واحدة في اتجاه «كاريللو» فأصابته في عنقِه. توقف «كاريللو» قليلًا بينما «أحمد» يراقبه … كان يبدو أن المخدِّر بدأ يَسري في دمه …
لم تمضِ لحظة حتى كان «كاريللو» يسقط على الأرض مخدَّرًا … في نفس اللحظة كان «دينو» يُنادي «كاريللو»: أين أنت؟
لم يَسمع «دينو» ردًّا … وابتسم «أحمد»، كان «دينو» قد نزل من السيارة يبحث عن «كاريللو» … وعندما وجده مُمدَّدًا على الأرض، صرخ: إننا نتعامَل مع الشياطين فعلًا!
وعندما بدأ يتحرَّك في اتجاه السيارة … كان «أحمد» يتجه نفس الاتجاه. وعندما فتح «دينو» باب السيارة، كان «أحمد» يفتح الحقيبة الخلفية … فاختلط الصوتان معًا … أغلق «دينو» الباب، فأغلق «أحمد» … باب الحقيبة أيضًا … وانطلقت السيارة بسرعة جنونية …
أخرج «أحمد» جهاز اللاسلكي. فاستمع إلى تلك الرسالة من «ش. ك. س» إلى رقم «واحد» … المركب معك … نحن خلفَ الموجة!
ابتسم «أحمد» … كان أحد الشياطين يتتبَّع «أحمد» من خلال زر الإرسال الذي يضعه في جيبه. أرسل «أحمد» رسالة عاجلة من «ش. ك. س» إلى زميل: السمكة تدخل الحوض.
لم يكن «أحمد» يرى شيئًا في ظلمة الحقيبة الخلفية للسيارة … ولم يكن يسمع سوى صوت الموتور الذي يدور بأقصى سرعة. وصوت عجلات السيارة التي ترفُّ على الأسفلت كالمروحة.
فتح «أحمد» باب الحقيبة بهدوء، ثم نظر حوله؛ لم يكن يظهر شيء، لكن لفت نظره ذلك الضوء الذي يتقدَّم من بعيد … في نفس اتجاه السيارة. أخرج جهاز الإرسال ثم أرسل رسالة سريعة: من «ش. ك. س»: الحوت أمامكم. خفِّف العقدة من ٤ إلى واحد.
بعد قليل جاءته رسالة: من «ش. ك. س» إلى رقم «واحد»: الموجة تتَّجه إلى الشاطئ … دون خوف. فجأة اهتزَّت السيارة اهتزازًا عنيفًا، واصطدمت رأس «أحمد» بجسم السيارة، وانغلق باب الحقيبة. شعر بدوار، ظلَّ يَزداد ويزداد حتى فقد الوعي.
عندما فتح عينَيه رأى وجوهًا غريبة … لم يُميِّز من بينها سوى «دينو»، كانت رأسه لا تزال تدور، لكن شيئًا فشيئًا، بدأ الدُّوار يخفُّ، ويستعيد يقظتَه كاملة.
فجأةً فُتح باب، ظهر «كاريللو»، تقدم من «أحمد» تعلو وجهه ابتسامة مُخيفة. أمسكه من كتفه وقال: إنني أعرف ألاعيبك جيدًا. لا تظنَّ أنك سوف تُفلت هذه المرة.
ثم تركه … واتجه إلى رجل ضخم يَجلس على كرسيٍّ عريض … بدأ «أحمد» يرقب الأشياء حوله … كانت هناك قاعة فسيحة تكاد تكون خالية … إلا من ذلك الكرسي الذي يَجلس عليه الرجل الضخم. وبجواره كرسي آخر، لم يَجلس عليه أحد … كان يبدو أنه قد أُعدَّ ﻟ «كاريللو» الذي تقدم من الكرسي ثم جلس عليه، وهو ينظر إلى الرجل الضخم قائلًا: لا بأسَ أيها السيد «مارتيني» … سوف يكون كل شيء على ما يرام … إن «مودست» و«شل» يقومان بمهمَّتهما الآن. نظر «كاريللو» في ساعة يده، ثم أكمل كلامه: إنَّ الموعد هو الثانية صباحًا … سوف يكون كل شيء على ما يرام … وإلى الأبد …
نظر «مارتيني» إلى «أحمد» قائلًا: سوف تنفعنا بالتأكيد … إنك تَحمِل عقلية نادرة.
ابتسم «أحمد» … لقد عرف أنه لن يموت الآن، وهذا يعطيه فرصة كافية للتفكير. نظر «مارتيني» إلى أحد الرجال وقال: أحضر مقعدًا للسيد الشيطان … إنه يبدو ولدًا مهذَّبًا … وإن كان عدوًّا لنا. لكن، يبدو أننا سوف نكون أصدقاء.
ابتسم «أحمد» وقال: بشرط أن تَسمحوا لي ببعض الطعام والراحة.
نظر إليه «مارتيني» وابتسم. ثم حول عينَيه إلى «كاريللو»: ما رأي السيد «كاريللو»؟
كاريللو: هناك مسألة أريد أن أعرفها منه قبل أن يرتاح. ما الذي حدث لي؟
ابتسم «أحمد» وقال: أظنُّ أنني لا أعرف … هذه مسألة يجب أن يعرفها السيد «كاريللو» نفسه.
هز «كاريللو» رأسه … وابتسم ابتسامة صفراء، وهو يقول: لا بأس … إنَّ لنا حديثًا طويلًا معًا. يجب أن ترتاح الآن، حتى تتمكن من الحديث فيما بعد.
تقدم رجلان مسلحان، واصطحبا «أحمد» إلى خارج القاعة.
تقدم في ممر طويل، شاحب الضوء لم يكن هناك شيء سوى هذا الممر الطويل، وأبواب كثيرة على جانبَيه. في نهاية الممر، وقبل الباب الأخير، داس أحد الرجلين على عقب الباب فانفتح … تقدم «أحمد» ودخل، وأُغلقَ خلفه الباب مباشرةً.
كانت الحجرة غريبة جدًّا؛ فهي مفروشة بفراش وثير، به ثلاجة، ومكتب صغير، وكنبة عريضة تكفي لأن ينام عليها اثنان، وعلى المكتب بعض الأوراق وقلم، وحوض صغير فوقه مرآة … اتجه «أحمد» إلى الثلاجة مباشرةً … كانت محشوَّة بكميات وفيرة من الطعام والمثلجات، ابتسم وقال في نفسه: إنها عصابة كريمة … أخذ بعض المعلبات، وزجاجة مياه غازية، واتجه ناحية المكتب الذي كان قريبًا من الجدار … تحت النافذة الوحيدة في الحجرة … تناهى إلى سمعه صوت الموج وارتطامه بالجدار. عرف أنه بجوار البحر مباشرةً. صعد فوق المكتب ونظر من النافذة. كان الظلام قويًّا، حتى إنه لم يرَ شيئًا … اللهم إلا ضوءًا خافتًا بعيدًا، يتأرجَح على سطح البحر … توقع أنه ربما تكون إحدى البواخر المارَّة.
أمسك حديد النافذة. واختبرَه … فوجده قويًّا من الصعب التغلب عليه … نزل عن المكتب، ثم بدأ يأكل … حتى شبع. شعر بالرغبة في النوم. فخلع حذاءه. واستلقى على السرير، لم يكد يُغمض عينيه، حتى فُتح الباب، نظر إليه فوجد أحد الرجلين يَبتسم … قال الرجل: هل من شيء تطلبه؟
ابتسم «أحمد» وقال: شكرًا … إنكم في مُنتهى الكرم.
خرج الرجل وأغلق الباب، فكر «أحمد» … إنهم يتعامَلون بطريقة ذكية، لكن ماذا في الغد.
حاول أن يُفكِّر، لكن النوم كان قد غلبه … غير أن الباب فُتح بهدوء … فقفز من السرير … كان الرجل الآخر يقف على الباب مُبتسمًا، وهو يقول: هل تحتاج شيئًا؟
أحمد: شكرًا … إنني فقط أريد أن أنام.
ابتسم الرجل قائلًا: معذرةً. السيد «مارتيني» هو الذي أرسلني لأطمئن إن كنت تحتاج شيئًا.
أحمد: اشكر لي السيد «مارتيني».
الرجل: معذرةً إن كنت قد أيقظتُك … إنني أعرف أنك تحتاج إلى الراحة.
أحمد: نعم …
الرجل: إذن أرجو أن يكون نومك هادئًا.
انسحب الرجل، فألقى «أحمد» بنفسه في السرير … ولم تمرَّ لحظة، حتى كان قد نام، ولكنه استيقظ على طرقات خفيفة على الباب … كان يشعر بصداع قوي … جلس على سريره، ووضع يده على مسدَّسه — لقد نسوا أن يُفتِّشوه — دخل رجل ثالث، كان يبتسم نفس الابتسامة التي رآها للرجلين الآخرين … ابتسامة لزجة. قال الرجل: معذرةً … السيد «مارتيني» يريد أن يطمئنَّ عليك، ويُبلغك أنك سوف تتناول معه طعام الفطور.
أحمد: اشكر لي السيد «مارتيني»، وقل له إن ذلك شرفٌ لي، أن أتناول إفطاري معه.
الرجل: ألا تريد شيئًا؟
أحمد: لا شيء.
أغلق الرجل الباب وانصرف. كان الصداع مؤلمًا … قام «أحمد» يبحث عن شيء يمكن أن يسكن هذا الصداع لكنه لم يجد، ألقى بنفسه في السرير، وحاول أن ينام إلا أن الصداع منعه من النوم … تقلَّب كثيرًا في السرير، حتى بدأ النوم يُداعِب عينيه ثم فجأة فُتح الباب، لم يستطع «أحمد» أن يتحرك؛ كان مُجهَدًا تمامًا … غير أنه رأى «مارتيني» بالباب.
جلس في السرير يُحاول أن يتغلَّب على إجهاده، ورغبته الشديدة في النوم. اقترب «مارتيني» مُبتسمًا وهو يقول: معذرةً، لقد أردت أن أطمئن عليك، إنَّني أعرف هؤلاء الرجال … إنهم يمكن أن يُسيئوا التصرف معك.
عرف «أحمد» أنهم يقصدون تحطيم أعصابه … وبدأ يُقاوم إحساسه بالتعب.
قال «مارتيني»: يبدو أنكَ غاضب … هل أغضبك أحد؟
قال «أحمد» بهدوء: إطلاقًا، إنني فقط أريد أن أنام.
ابتسم «مارتيني» وهو يقول: إذن. معذرةً. لقد فكرت أنك ربما كنت ترغب في أن تتحدث قليلًا … لكن فلنؤجل ذلك إلى الغد.
أحمد: شكرًا.
انسحب «مارتيني» وهو يقول: نومًا طيبًا.
اختفى «مارتيني» فانغلق الباب. فكَّر «أحمد» أنهم لن يتركوه ينام قبل أن يعرف «مارتيني» منه كل ما يريد.
ولكن فجأةً سمع طرقة على الجدار، عند النافذة … فأسرع إلى هناك وقفز على المكتب … في نفس اللحظة التي فُتح فيها الباب. نظر خلفه، فوجد «كاريللو» يبتسم ابتسامة بلا معنى، وقال: لعلَّك تشمُّ هواء البحر … إنه مُنعِش للغاية … ويجدد النشاط.
أحمد: نعم … خصوصًا وأنني متعب.
كاريللو: هل تحتاج شيئًا تشربه؟
أحمد: شكرًا … إنني أريد فقط أن أنام.
ابتسم «كاريللو» قائلًا: يُمكِن أن أُعطيَك شرابًا مخدرًا يجعلك تنام بسرعة … كذلك المخدر الذي …
لم يُكمِل «كاريللو» كلامه … فقد ضحك ضحكة عالية، ثم قال: إذن فلتنَمْ. إن النوم مسألة ضرورية، والإنسان يُمكن أن يُجنَّ إذا لم ينَمْ جيدًا.
استدار «كاريللو» ليخرج، لكنه توقف فجأة، ونظر إلى «أحمد» وقال: على فكرة، البحر تحت النافذة مُباشَرةً … وحديد النافذة قوي. لكن إذا استطعت أن تتغلَّب عليه وتنزل إلى الماء، فإن الحيتان كثيرة في هذه المنطقة، خصوصًا تلك الحيتان التابعة لنا.
ضحك «كاريللو» ضحكة أخرى كئيبة ثم اختفى.
ظل «أحمد» عند النافذة، يُحاول أن يرى شيئًا، أو يستمع إلى شيء … إن تلك الطرقات السابقة، يُمكن أن تكون شيئًا … ملأ رئتَيه من هواء البحر، فشعر بالانتعاش قليلًا. فكَّر … إن الثلج يمكن أن يُؤثِّر في الصداع فذهب إلى الثلاجة وأخرج زجاجة مثلجة تمامًا، ثم بدأ يمرُّ بها على وجهه، ورأسه. بدأ الصداع يخفُّ قليلًا فأعاد الزجاجة وأخذ طريقه إلى السرير. وعندما استلقى عليه سمع الدقات تحت النافذة مرةً أخرى، نظر إلى النافذة ولم يتحرك … جاءت الدقات ثانية، وفجأةً … ظهر وجه خلف القضبان.