نِدَاءُ الْبَرِّيَّةِ
ذَاتَ لَيْلَةٍ اسْتَيْقَظَ باك فَجْأَةً وَأَخَذَ يَتَشَمَّمُ الْهَوَاءَ وَانْتَصَبَ شَعْرُ جَسَدِهِ؛ فَقَدْ جَاءَهُ ذَلِكَ النِّدَاءُ مِنَ الْغَابَةِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُخْتَلِفًا هَذِهِ الْمَرَّةَ. كَانَ عُوَاءً طَوِيلًا، فَانْدَفَعَ باك عَبْرَ الْمُخَيَّمِ حَيْثُ كَانَ الْجَمِيعُ نَائِمِينَ، وَرَكَضَ عَبْرَ الْغَابَةِ. وَعِنْدَمَا اقْتَرَبَ مِنَ الصَّوْتِ، أَخَذَ يَتَقَدَّمُ بِبُطْءٍ وَحِرْصٍ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَكَانٍ مَفْتُوحٍ بَيْنَ الْأَشْجَارِ. وَهُنَاكَ رَأَى باك ذِئْبًا طَوِيلًا مَمْشُوقَ الْقَوَامِ مِنْ ذِئَابِ الْغَابَاتِ يَجْلِسُ عَلَى سَاقَيْهِ الْخَلْفِيَّتَيْنِ وَيُصَوِّبُ أَنْفَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ.
لَمْ يُصْدِرُ باك أَيَّ صَوْتٍ، وَلَكِنَّ الذِّئْبَ تَوَقَّفَ عَنِ الْعُوَاءِ وَنَظَرَ حَوْلَهُ، فَخَرَجَ باك إِلَى الْمِنْطَقَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَجَسَدُهُ مُنْتَصِبٌ وَمُسْتَعِدٌّ لِلِانْقِضَاضِ وَذَيْلُهُ مُنْتَصِبٌ وَصُلْبٌ. أَرَادَ باك أَنْ يُظْهِرَ أَنَّهُ وَدُودٌ وَلَكِنَّ الذِّئْبَ رَكَضَ بَعِيدًا. رَكَضَ باك خَلْفَهُ وَلَحِقَ بِهِ بِسُهُولَةٍ، فَاسْتَدَارَ الذِّئْبُ وَاسْتَعَدَّ لِلْقِتَالِ.
لَمْ يُهَاجِمْ باك، وَلَكِنْ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ أَخَذَ يَدُورُ حَوْلَ الذِّئْبِ مُحَاوِلًا أَنْ يَبْدُوَ وَدُودًا، وَلَكِنَّ الذِّئْبَ كَانَ مُرْتَابًا وَخَائِفًا؛ فَقَدْ كَانَ باك أَكْبَرَ حَجْمًا مِنَ الذِّئْبِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى الْأَقَلِّ، فَكَانَتْ رَأْسُ الذِّئْبِ بِالْكَادِ تَصِلُ إِلَى كَتِفِ باك. وَمَرَّةً أُخْرَى، عِنْدَمَا وَجَدَ الذِّئْبُ فُرْصَةً رَكَضَ بَعِيدًا فَطَارَدَهُ باك الَّذِي كَانَ يَلْحَقُ بِهِ دَائِمًا، ثُمَّ حَاوَلَ الذِّئْبُ الْهُرُوبَ مُجَدَّدًا حَتَّى شَعَرَ بِالتَّعَبِ.
فِي النِّهَايَةِ حَصَلَ باك عَلَى مَا أَرَادَهُ، فَعِنْدَمَا وَجَدَ الذِّئْبُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي خَطَرٍ، أَخِيرًا أَخَذَ يَتَشَمَّمُ أَنْفَ باك. أَصْبَحَ الِاثْنَانِ عَلَى وِفَاقٍ وَبَدَآ فِي اللَّعِبِ مَعًا وَلَكِنْ بِبَعْضِ التَّوَتُّرِ وَالْإِحْرَاجِ. وَبَعْدَ مُرُورِ بَعْضِ الْوَقْتِ، بَدَأَ الذِّئْبُ فِي الرَّكْضِ بِسُرْعَةٍ خَفِيفَةٍ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتْبَعَهُ باك، وَرَكَضَا مَعًا عَبْرَ اللَّيْلِ نَحْوَ الْجِبَالِ.
ظَلُّوا يَرْكُضُونَ لِأَيَّامٍ، غَمَرَتْ فِيهَا السَّعَادَةُ باك الَّذِي شَعَرَ أَنَّهُ يُلَبِّي ذَلِكَ النِّدَاءَ أَخِيرًا وَهُوَ يَرْكُضُ بِجَانِبِ صَدِيقِهِ الَّذِي كَانَ بِمَثَابَةِ أَخٍ بِالنِّسْبَةِ لَهُ. تَوَقَّفَا بِجَانِبِ جَدْوَلِ مِيَاهٍ لِيَشْرَبَا، ثُمَّ تَذَكَّرَ باك جون ثورنتون فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ. بَدَأَ الذِّئْبُ فِي التَّحَرُّكِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ يَتَشَمَّمُ أَنْفَهُ مُحَاوِلًا تَحْفِيزَهُ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ. وَلَكِنَّ باك اسْتَدَارَ وَبَدَأَ فِي الْعَوْدَةِ بِبُطْءٍ، وَلِمُدَّةِ سَاعَةٍ رَكَضَ الذِّئْبُ بِجَانِبِهِ وَهُوَ يَنْتَحِبُ بِرِفْقٍ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ وَرَفَعَ أَنْفَهُ تِجَاهَ السَّمَاءِ وَأَطْلَقَ عُوَاءً حَزِينًا، وَبَيْنَمَا اسْتَمَرَّ باك فِي التَّقَدُّمِ، سَمِعَ العُوَاءَ يَخْبُو حَتَّى اخْتَفَى مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ.
كَانَ جون ثورنتون يَتَنَاوَلُ الْعَشَاءَ عِنْدَمَا رَكَضَ باك إِلَى الْمُخَيَّمِ وَقَفَزَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ يَلْعَقُ وَجْهَهُ وَيَعَضُّ يَدَهُ بِحُبٍّ، بَيْنَمَا يَهُزُّهُ جون ثورنتون لِلْأَمَامِ وَالْخَلْفِ وَهُوَ ينْعَتُهُ بِأَلْقَابٍ سَيِّئَةٍ.
لِمُدَّةِ يَوْمَيْنِ بِلَيْلَتَيْهِمَا لَمْ يَتْرُكْ باك الْمُخَيَّمَ وَلَمْ يَتْرُكْ جون ثورنتون يَغِيبُ عَنْ نَاظِرَيْهِ، فَقَدْ كَانَ يَتْبَعُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. كَانَ يُرَاقِبُهُ وَهُوَ يَأْكُلُ وَيَتْبَعُهُ حَتَّى يَنَامَ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَنْتَظِرُهُ حِينَ يَسْتَيْقِظُ فِي الصَّبَاحِ، وَلَكِنْ بَعْدَ يَوْمَيْنِ بَدَأَ باك يَشْعُرُ بِالنِّدَاءِ الْعَجِيبِ مِنَ الْغَابَةِ أَقْوَى مِنْ ذِي قَبْلُ، وَعَادَ إِلَيْهِ قَلَقُهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّوَقُّفِ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي الذِّئْبِ وَفِي رِحْلَتِهِمَا مَعًا عَبْرَ الْغَابَةِ، فَعَادَ يَتَجَوَّلُ فِي الْغَابَةِ وَلَكِنَّ الذِّئْبَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ.
بَدَأَ يَخْرُجُ لَيْلًا وَيَبْقَى بَعِيدًا عَنِ الْمُخَيَّمِ لِأَيَّامٍ فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَفِي إِحْدَى الْمَرَّاتِ، عَبَرَ الْجَبَلَ وَتَجَوَّلَ لِمُدَّةِ أُسْبُوعٍ بَحْثًا عَنِ الذِّئْبِ، وَكَانَ يَصْطَادُ وَيَأْكُلُ أَثْنَاءَ سَفَرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَشْعُرُ بِالتَّعَبِ قَطُّ، فَقَدِ اصْطَادَ أَسْمَاكَ السَّلَمُونِ مِنْ جَدْوَلٍ صَغِيرٍ، وَفَازَ بِقِتَالٍ ضِدَّ دُبٍّ أَسْوَدَ ضَخْمٍ؛ كَانَتْ مَعْرَكَةً شَرِسَةً وَقَدْ شَعَرَ باك وَكَأَنَّهُ مُقَاتِلٌ مُجَدَّدًا، وَبَعْدَ يَوْمَينِ طَارَدَ حَيَوَانَاتِ الولفرين وَأَمْسَكَ اثْنَيْنِ مِنْهَا.
كَانَ يَشْعُرُ وَكَأَنَّهُ أَفْضَلُ صَيَّادٍ فِي الْعَالَمِ، وَأَقْوَى حَيَوَانٍ. كَانَ فَخُورًا بِنَفْسِهِ وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي مِشْيَتِهِ. وَفِيمَا عَدَا اللَّوْنِ الْبُنِّيِّ عَلَى أَنْفِهِ وَفَوْقَ عَيْنَيْهِ وَالشَّعْرِ الْأَبْيَضِ عَلَى صَدْرِهِ، بَدَا وَكَأَنَّهُ ذِئْبٌ ضَخْمٌ، أَضْخَمُ مِنْ أَضْخَمِ ذِئْبٍ فِي الْعَالَمِ. كَانَ وَالِدُ باك مِنْ فَصِيلَةِ سان برنارد، لِذَا وَرِثَ باك حَجْمَهُ وَوَزْنَهُ مِنْهُ، بَيْنَمَا وَرِثَ مِنْ أُمِّهِ — وَالَّتِي كَانَتْ مِنْ فَصِيلَةِ الراعي — هَيْئَتَهَا. كَانَ أَنْفُهُ طَوِيلًا كَالذِّئَابِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ أَكْبَرَ مِنْ أَنْفِ أَيِّ ذِئْبٍ، وَكَانَتْ رَأْسُهُ تُشْبِهُ رَأْسَ الذِّئْبِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ أَكْبَرَ بِثَلَاثَةِ أَضْعَافٍ.
كَانَ مَاكِرًا كَالذِّئْبِ، وَذَكِيًّا كَكِلَابِ فَصِيلَتَيْ سان برنارد والراعي. هَذَا — بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخِبْرَةِ الّتِي اكْتَسَبَهَا فِي الشَّمَالِ — جَعَلَهُ فِي قُوَّةِ أَيِّ حَيَوَانٍ مَوْجُودٍ فِي الْبَرِّيَّةِ، فَكَانَ يُمْكِنُهُ الِاسْتِجَابَةُ لِلْأَصْوَاتِ وَالْحَرَكَاتِ بِسُرْعَةِ الْبَرْقِ، وَيُمْكِنُهُ الْوَثْبُ بِضِعْفِ سُرْعَةِ كِلَابِ الهاسكي. وَكَانَ يُمْكِنُهُ رُؤْيَةُ التَّحَرُّكَاتِ وَسَمَاعُ الْأَصْوَاتِ وَالِاسْتِجَابَةُ فِي وَقْتٍ أَقَلَّ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي يَحْتَاجُهُ أَيُّ كَلْبٍ لِرُؤْيَةِ أَوْ سَمَاعِ أَيِّ شَيْءٍ. كَانَتْ عَضَلَاتُهُ قَوِيَّةً وَتَتَحَرَّكُ وَتَنْبِضُ كَالْفُولَاذِ.
«لَمْ يُخْلَقْ كَلْبٌ مِثْلُهُ مِنْ قَبْلُ.» هَكَذَا وَصَفَهُ جون ثورنتون فِي أَحَدِ الْأَيَّامِ بَيْنَمَا كَانَ يُرَاقِبُهُ هُوَ وَشُرَكَاؤُهُ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنَ الْمُخَيَّمِ.
وَقَالَ بيت: «لَقَدْ تَحَطَّمَ الْقَالَبُ الَّذِي صِيغَ عَلَيْهِ بَعْدَ صُنْعِهِ.»
أَضَافَ هانز: «بِحَقِّ السَّمَاءِ! أَنَا أَيْضًا أَرَى ذَلِكَ.»
لَقَدْ رَاقَبُوهُ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنَ الْمُخَيَّمِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا مَا تَغَيَّرَ بِهِ بِمُجَرَّدِ أَنِ اخْتَفَى فِي أَحْضَانِ الْغَابَةِ. فَقَدْ تَوَقَّفَ عَنِ السَّيْرِ وَأَصْبَحَ جُزْءًا مِنَ الْبَرِّيَّةِ وَهُوَ يَزْحَفُ بِهُدُوءٍ، كَانَ يَعْلَمُ كَيْفَ يَخْتَبِئُ وَيَزْحَفُ عَلَى بَطْنِهِ كَالثُّعْبَانِ، وَيَثِبُ وَيُهَاجِمُ أَيْضًا كَالثُّعْبَانِ. كَانَ يُمْكِنُهُ الْإِمسَاكُ بِالطُّيُورِ فِي أَعْشَاشِهَا، وَالْأَرَانِبِ أَثْنَاءَ نَوْمِهَا، أَوِ السَّنَاجِبِ فِي الْهَوَاءِ أَثْنَاءَ قَفْزِهَا. وَالْأَسْمَاكُ لَمْ تَكُنْ سَرِيعَةً بِمَا يَكْفِي لِتَهْرُبَ مِنْ مَخَالِبِهِ. وَفِي أَحْيَانٍ كَثِيرَةٍ، كَانَ يَسْتَمْتِعُ بِالزَّحْفِ خِلْسَةً وَرَاءَ السَّنَاجِبِ، وَبِمُجَرَّدِ أَنْ يُوشِكَ عَلَى الْإِمْسَاكِ بِهَا كَانَ يَتْرُكُهَا وَيُرَاقِبُهَا وَهِيَ تَهْرُبُ فِي خَوْفٍ مُتَسَلِّقَةً الْأَشْجَارَ.
وَمَعَ قُدُومِ فَصْلِ الْخَرِيفِ، بَدَأَ ظُهُورُ أَيَائِلِ الْمُوظِ وَهِيَ تَسِيرُ بِرَوِيَّةٍ فِي الْوَادِي. كَانَ باك قَدِ اصْطَادَ بِالْفِعْلِ أَيْلًا صَغِيرًا، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَيْلًا أَكْبَرَ وَأَكْثَرَ صُعُوبَةً فِي الْإِمْسَاكِ بِهِ، وَقَدْ وَجَدَ ضَالَّتَهُ فِي أَحَدِ الْأَيَّامِ بِجَانِبِ الْجَدْوَلِ الصَّغِيرِ. كَانَ هُنَاكَ عِشْرُونَ مِنْ أَيَائِلِ الْمُوظِ يَسِيرُونَ هُنَاكَ، وَكَانَ قَائِدُهُمْ ذَكَرَ مُوظٍ ضَخْمًا سَيِّئَ الْمِزَاجَ، وَكَانَ طُولُهُ يَبْلُغُ سِتَّةَ أَقْدَامٍ، وَكَانَتْ قُرُونُهُ طُولُهَا سَبْعَةُ أَقْدَامٍ، وَعِنْدَمَا رَأَى باك انْبَعَثَ الشَّرَرُ مِنْ عَيْنَيْهِ الصَّغِيرَتَيْنِ، وَزَأَرَ فِي غَضَبٍ.
طَارَدَ باك أَيَائِلِ الْمُوظِ لِأَيَّامٍ، وَأَثْنَاءَ ذَلِكَ، بَدَأَ يَشْعُرُ بِتَغَيُّرٍ يَحْدُثُ فِي الْأَرْضِ، كَانَتْ أَشْكَالٌ أُخْرَى مِنَ الْحَيَاةِ تَبْدَأُ فِي الْخُرُوجِ، وَقَدِ اسْتَشْعَرَ ذَلِكَ فِي الْهَوَاءِ. فَلَمْ يَكُنْ يَسْمَعُ أَوْ يَرَى شَيْئًا مُمَيَّزًا، وَلَكِنَّهُ أَدْرَكَ أَنْ وَجْهَ الْأَرْضِ قَدْ تَغَيَّرَ بِصُورَةٍ مَا، وَأَنَّ كَائِنَاتٍ غَرِيبَةً تَتَجَوَّلُ هُنَاكَ. فَقَرَّرَ التَّخَلِّيَ عَنْ صَيْدِ الْمُوظِ وَتَحَرِّيَ الْأَمْرِ. بَدَأَ يَقْطَعُ طَرِيقَ الْعَوْدَةِ إِلَى الْمُخَيَّمِ وَإِلَى جون ثورنتون، فَانْطَلَقَ يَعْدُو وَيَعْدُو لِسَاعَاتٍ، وَلَمْ يَفْقِدْ طَرِيقَهُ أَبَدًا وَهُوَ يَتَّجِهُ إِلَى الكُوخِ مُبَاشَرَةً.
وَبَيْنَمَا كَانَ باك يَرْكُضُ، بَدَأَ يُدْرِكُ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا جَدِيدًا، هُنَاكَ شَيْءٌ حَيٌّ مُخْتَلِفٌ عَمَّا كَانَ مَوْجُودًا فِي فَصْلِ الصَّيْفِ. إِنَّهُ شَيْءٌ تَحَدَّثَتْ عَنْهُ الطُّيُورُ، وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ السَّنَاجِبُ، وَكَانَ يَشَمُّهُ فِي الرِّيَاحِ. وَقَدْ تَوَقَّفَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ لِتَشَمُّمِ الْهَوَاءِ فِي الصَّبَاحِ وَكَأَنَّهُ يَقْرَأُ رِسَالَةً، وَقَدْ جَعَلَهُ ذَلِكَ يَرْكُضُ أَسْرَعَ، كَانَ يَشْعُرُ أَنَّ شَيْئًا سَيِّئًا سيَحْدُثُ، أَوْ حَدَثَ بِالْفِعْلِ، وَعِنْدَمَا بَدَأ فِي النُّزُولِ لِأَسْفَلِ الْوَادِي فِي اتِّجَاهِ الْمُخَيَّمِ بَدَأَ يَتَحَرَّكُ بِحَذَرٍ.
عَلَى بُعْدِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَجَدَ باك آثَارًا جَدِيدَةً جَعَلَتْ شَعْرَ جَسَدِهِ يَنْتَصِبُ؛ إِذْ كَانَ الْأَثَرُ يَقُودُ مُبَاشَرَةً إِلَى مُخَيَّمِ جون ثورنتون. تَقَدَّمَ باك بِسُرْعَةٍ وَرَشَاقَةٍ وَصَمْتٍ، وَكَانَتْ كُلُّ ذَرَّةٍ فِي جَسَدِهِ مُتَحَفِّزَةً لِمَا شَعَرَ بِهِ. كَانَتْ كُلُّ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْغَابَةِ مُخْتَبِئَةً فِي صَمْتٍ.
اتَّبَعَ رَائِحَةً جَدِيدَةً فِي شُجَيْرَةٍ، وَسَمِعَ مِنْ جِهَةِ الْمُخَيَّمِ أَصْوَاتًا عَدِيدَةً تَرْتَفِعُ وَتَنْخَفِضُ فِي غِنَاءٍ، اقْتَرَبَ باك بِبُطْءٍ وَنَظَرَ نَحْوَ مَكَانِ الكُوخِ وَرَأَى شَيْئًا جَعَلَ كُلَّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِهِ تَنْتَفِضُ.
كَانَتْ قَبِيلَةٌ مِنَ السُّكَّانِ الْأَصْلِيِّينَ مَعْرُوفَةٌ بِاسْمِ «الييهاتس» يَرْقُصُونَ حَوْلَ الكُوخِ المُحْتَرِقِ. لَقَدْ أَقَامَ ثورنتون وَشُرَكَاؤُهُ الْمُخَيَّمَ فِي أَرْضِ السُّكَّانِ الْأَصْلِيِّينَ دُونَ أَنْ يُدْرِكُوا أَنَّ ذَلِكَ سَيَجْعَلُهُمْ دُخَلَاءَ. لِذَا، هَاجَمَهُمُ «الييهاتس» وَفَازُوا بِالْمَعْرَكَةِ بِسُهُولَةٍ، وَقَدْ كَانُوا يَحْتَفِلُونَ بِنَصْرِهِمْ عِنْدَمَا سَمِعُوا زَئِيرًا وَرَأَوْا حَيَوَانًا يَنْقَضُّ عَلَيْهِمُ انْقِضَاضَةً لَمْ يَرَوْا مَثِيلَهَا مِنْ قَبْلُ؛ إِنَّهُ باك الَّذِي انْقَضَّ عَلَيْهِمْ كَالْإِعْصَارِ، وَطَارَدَهُمْ بِقُوَّةٍ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ التَّغَلُّبُ عَلَيْهِ. فَقَدْ كَانَ يَتَحَرَّكُ بِسُرْعَةٍ فَائِقَةٍ، وَكَانَ ثَائِرًا مِنَ الْغَضَبِ، فَزِعَ أَفْرَادُ «الييهاتس» وَرَكَضُوا نَحْوَ الْغَابَةِ وَهُمْ يُلَقِّبُونَ باك بِاسْمِ «الرُّوحِ الشِّرِّيرَةِ». وَكَانَ باك يَبْدُو شِرِّيرًا حَقًّا وَهُوَ يُطَارِدُهُمْ. وَبَعْدَ مُرُورِ بَعْضِ الْوَقْتِ، عَادَ باك إِلَى الْمُخَيَّمِ الَّذِي كَانَ قَدْ دُمِّرَ تَمَامًا، كَانَ الرِّجَالُ وَالْكِلَابُ قَدْ رَحَلُوا، وَكَانَ بِإِمْكَانِ باك شَمُّ الْمَوْقِعِ الَّذِي قَاتَلَ فِيهِ ثورنتون وَخَسِرَ.
طَافَ باك حَوْلَ الْمُخَيَّمِ طَوَالَ الْيَوْمِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مَاذَا يَفْعَلُ، كَانَ يَعْلَمُ فَقَطْ أَنَّ جون ثورنتون قَدْ رَحَلَ تَارِكًا بِدَاخِلِهِ خَوَاءً مِثْلَ الْجُوعِ أَخَذَ يُؤْلِمُهُ وَيُؤْلِمُهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الطَّعَامَ لَنْ يَمْلَأَ هَذَا الْخَوَاءَ.
فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، كَانَ يَشْعُر بِالْفَخْرِ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ طَرْدِ الرِّجَالِ الَّذِينَ اقْتَحَمُوا الْمُخَيَّمَ؛ لَقَدْ طَارَدَ الرِّجَالَ، وَقَدْ أَدْرَكَ أَنَّ الْأَمْرَ أَسْهَلُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي طَارَدَهَا، فَالْبَشَرُ لَا يُمَثِّلُونَ خَطَرًا إِلَّا عِنْدَمَا يَحْمِلُونَ الْأَسْلِحَةَ فَقَطْ. وَمِنَ الْآنَ فَصَاعِدًا، لَنْ يَشْعُرَ بِالْخَوْفِ مِنَ الْبَشَرِ أَبَدًا إِلَّا إِذَا كَانُوا يَحْمِلُونَ الْحِبَالَ أَوِ السِّهَامَ أَوِ الْمُسَدَّسَاتِ.
وَفِي اللَّيْلِ، سَطَعَ الْقَمَرُ بَدْرًا فَوْقَ الْأَشْجَارِ، وَبَيْنَمَا كَانَ باك يَسْتَلْقِي حَزِينًا بِجَانِبِ الْمِيَاهِ، شَعَرَ بِشَيْءٍ آخَرَ يَتَحَرَّكُ فِي الْغَابَةِ. هَبَّ باك وَاقِفًا عَلَى قَدَمَيْهِ يُنْصِتُ السَّمْعَ وَيَشَمُّ الْهَوَاءَ. وَمِنْ بَعِيدٍ سَمِعَ صَوْتَ عُوَاءٍ خَافِتٍ وَتَبِعَهُ الْمَزِيدُ مِنْ أَصْوَاتِ الْعُوَاءِ، ثُمَّ غَدَا الصَّوْتُ أَقْرَبَ وَأَعْلَى. كَانَ ذَلِكَ نِدَاءً آخَرَ، وَهَذِهِ الْمَرَّةَ كَانَ باك مُسْتَعِدًّا لِتَلْبِيَتِهِ؛ فَقَدْ رَحَلَ جون ثورنتون، وَلَمْ يَعُدْ هُنَاكَ مَا يَرْبِطُ باك بِعَالَمِ الْبَشَرِ.
دَخَلَ قَطِيعٌ مِنَ الذِّئَابِ إِلَى الْمِنْطَقَةِ، وَوَقَفَ باك فِي مُنْتَصَفِ الْمَكَانِ يَنْتَظِرُهُمْ. وَقَدِ اعْتَرَتِ الْقَطِيعَ الدَّهْشَةُ، فَقَدْ كَانَ باك ضَخْمًا جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُمْ وَقَفُوا لِلَحْظَةٍ وَأَخَذُوا يُحْدِّقُونَ فِيهِ. ثُمَّ انْقَضَّ الْأَشْجَعُ بَيْنَهُمْ عَلَى باك، وَبِسُرْعَةِ الْبَرْقِ قَاتَلَ باك، ثُمَّ حَاوَلَ الْمَزِيدُ مِنْهُمْ مُهَاجَمَتَهُ وَلَكِنَّهُ قَاتَلَهُمْ جَمِيعًا.
لَقدْ قَاتَلَ بِبَرَاعَةٍ، حَتَّى إِنَّ الذِّئَابَ تَرَاجَعَتْ بَعْدَ نِصْفِ سَاعَةٍ، لَقَدْ كَانُوا مُتْعَبِينَ وَمُصَابِينَ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَسْتَلْقِي وَالْبَعْضُ الآخَرُ وَقَفَ يُشَاهِدُ باك وَآخَرُونَ يَشْرَبُونَ مِنَ الْمِيَاهِ. ثُمَّ تَقَدَّمَ أَحَدُ الذِّئَابِ — طَوِيلٌ وَمَمْشُوقُ الْقَوَامِ وَرَمَادِيُّ اللَّوْنِ — تِجَاهَ باك بِحَذَرٍ وَبِطَرِيقَةٍ وَدُودَةٍ وَتَعَرَّفَ باك عَلَيْهِ؛ فَقَدْ كَانَ هُوَ الذِّئْبُ الَّذِي قَابَلَهُ مِنْ قَبْلُ. كَانَ الذِّئْبُ يَعْوِي بِرِفْقٍ، فَأَجَابَهُ باك بِعُوَاءٍ مُمَاثِلٍ، ثُمَّ تَلَامَسَ أَنْفَاهُمَا فِي رِفْقٍ، ثُمَّ تَقَدَّمَ ذِئْبٌ عَجُوزٌ — نَحِيفُ الْبِنْيَةِ وَلَدَيْهِ نُدُوبٌ مِنَ الْمَعَارِكِ — وَتَشَمَّمَ باك أَنْفَهُ أَيْضًا، ثُمَّ جَلَسَ الذِّئْبُ الْكَبِيرُ وَوَجَّهُ أَنْفَهُ نَحْوَ الْقَمَرِ وَأَطْلَقَ عُوَاءً طَوِيلًا، فَتَبِعَهُ الْآخَرُونَ وَأَطْلَقُوا عُوَاءً مُمَاثِلًا. وَالْآنَ جَاءَ النِّدَاءُ لِباك أَيْضًا، فَجَلَسَ وَعَوَى مَعَهُمْ. بَعْدَ ذَلِكَ، تَجَمَّعَ الْقَطِيعُ حَوْلَ باك وَأَخَذُوا يَتَشَمَّمُونَهُ بِطَرِيقَةٍ وَدُودَةٍ وَشِبْهِ هَمَجِيَّةٍ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ. حَمَلَ قَادَةُ الذِّئَابِ الصِّغَارَ وَرَكَضُوا نَحْوَ الْغَابَةِ، وَتَبِعَهُمُ الْبَقِيَّةُ وَهُمْ يَعْوُونَ مَعًا، وَرَكَضَ باك مَعَهُمْ بِجَانِبِ صَدِيقِهِ الْبَرِّيِّ وَهُوَ يَعْوِي هُوَ الْآخَرُ.
وَهُنَا تَنْتَهِي قِصَّةُ باك، بَعْدَ أَنِ اخْتَفَىَ مِنْ دَاخِلِهِ — قَبْلَ وَقْتٍ طَوِيلٍ — ذَلِكَ الْكَلْبُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ فِي السَّابِقِ يَسْتَمْتِعُ بِشَيْءٍ أَكْثَرَ مِنَ الِاسْتِلْقَاءِ فِي الشَّمْسِ فِي مَنْزِلِ الْقَاضِي ميلر الْكَبِيرِ فِي وَادِي سانت كلارا الْخَصْبِ.
وَلَكِنْ فِي السَّنَوَاتِ التَّالِيَةِ، لَاحَظَ «الييهاتس» تَغَيُّرًا فِي الذِّئَابِ، فَأَصْبَحَ لَدَى الْبَعْضِ مِنْهَا الْآنَ لَطْخًا مِنَ اللَّوْنِ الْبُنِّيِّ عَلَى رُءُوسِهَا وَأُنُوفِهَا، أَوْ رُقَعًا بَيْضَاءَ عَلَى صُدُورِهَا. كَمَا رَوَى «الييهاتس» قِصَصًا أَيْضًا عَنِ الْكَلبِ الشَّبَحِ الَّذِي يَقُودُ الْقَطِيعَ، وَكَانُوا يَخَافُونَ مِنْ ذَلِكَ الْكَلْبِ الشَّبَحِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَذْكَى مِنْ أَيِّ حَيَوَانٍ أَوْ إِنْسَانٍ، وَكَانَ بِإِمْكَانِهِ السَّرِقَةُ مِنْ مُخَيَّمَاتِهِمْ وَمِنْ مَصَائِدِهِمْ وَالْهُرُوبُ مِنْ أَفْضَلِ صَيَّادِيهِمْ.
وَكُلَّ خَرِيفٍ، بَيْنَمَا يَتَنَقَّلُ «الييهاتس» عَبْرَ مِنْطَقَتِهِمْ، كَانَ هُنَاكَ وَادِي لَا يَدْخُلُونَهُ أَبَدًا. وَكَانُوا يَرْوُونَ قِصَصًا حَزِينَةً عَنِ الرُّوحِ الشِّرِّيرَةِ الَّتِي جَاءَتْ فِي أَحَدِ الْأَعْوَامِ وَقَرَّرَتِ الْعَيْشَ فِي هَذَا الْوَادِي.
وَفِي فُصُولِ الصَّيْفِ، كَانَ هُنَاكَ حَيَوَانٌ وَاحِدٌ يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي؛ إِنَّهُ ذِئْبٌ عَظِيمٌ، أَضْخَمُ مِنْ أَيِّ ذِئْبٍ آخَرَ. كَانَ يَعْبُرُ الْغَابَةَ وَيَهْبِطُ إِلَى أَرْضٍ مَفْتُوحَةٍ بَيْنَ الْأَشْجَارِ، وَهُنَاكَ يُوجَدُ غُبَارٌ أَصْفَرُ وَأَحْجَارٌ صَفْرَاءُ مُلْقَاةٌ عَلَى الْأَرْضِ حَوْلَ أَكْيَاسٍ قَدِيمَةٍ مُمَزَّقَةٍ تَنْمُو حَوْلَهَا الْأَعْشَابُ الطَّوِيلَةُ وَتُغَطِّيهَا. وَهُنَاكَ يَقْضِي الذِّئْبُ الْعَظِيمُ بَعْضَ الْوَقْتِ فِي تَفْكِيرٍ وَرِثَاءٍ ثُمَّ يُطْلِقُ عُوَاءً طَوِيلًا وَحَزِينًا، ثُمَّ يَرْحَلُ.
وَلَكِنَّهُ لَيْسَ وَحِيدًا دَائِمًا؛ فَعِنْدَمَا تَأْتِي لَيَالِي الشِّتَاءِ الْبَارِدَةُ الطَّوِيلَةُ وَتَتْبَعُ الذِّئَابُ فَرَائِسَهَا إِلَى الْأَوْدِيَةِ، يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ وَهُوَ يَرْكُضُ مُتَصَدِّرًا الْقَطِيعَ تَحْتَ ضَوْءِ الْقَمَرِ، وَيَقْفِزُ أَعْلَى مِنَ الذِّئَابِ الْأُخْرَى، وَيَنْطَلِقُ الْعُوَاءُ مِنْ حَلْقِهِ وَهُوَ يُغَنِّي أُنْشُودَةَ الْقَطِيعِ.