الثُّلُوجُ
مَعَ مُرُورِ الْأَيَّامِ أَتَتْ كِلَابٌ أُخْرَى، بَعْضُهَا فِي صَنَادِيقَ خَشَبِيَّةٍ وَالْبَعْضُ الْآخَرُ تَلْتَفُّ حَوْلَ رِقَابِهَا حِبَالٌ. بَعَضُ الْكِلَابِ كَانَتْ هَادِئَةً وَبَعْضُهَا كَانَ يَنْبَحُ وَيُزَمْجِرُ مِثْلَمَا كَانَ باك يَفْعَلُ عِنْدَمَا أَتَى. وَلَكِنَّ باك رَآهَا جَمِيعًا وَهِيَ تُذْعِنُ لِسَيْطَرَةِ الرَّجُلِ ذِي السُّتْرَةِ الْحَمْرَاءِ.
وَمِنْ حِينٍ لِآخَرَ، كَانَ هُنَاكَ رِجَالٌ آخَرُونَ يَأْتُونَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ باك وَالْكِلَابُ الْأُخْرَى وَيَتَحَدَّثُونَ إِلَى الرَّجُلِ ذِي السُّتْرَةِ الْحَمْرَاءِ بِاهْتِمَامٍ وَيَسْأَلُونَهُ عَنِ الْكِلَابِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَعَنْ قُوَّتِهَا وَأَسْعَارِهَا. ثُمَّ يَأْخُذُ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءُ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الْكِلَابِ مَعَهُمْ. كَانَ باك يَتَعَجَّبُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُونَ فَلَمْ يَعُدْ أَيٌّ مِنْهُمْ أَبَدًا. كَانَ يَشْعُرُ بِالْخَوْفِ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَاذَا يَحْدُثُ لِلْكِلَابِ بَعْدَ ذَهَابِهَا، وَكَانَتِ السَّعَادَةُ تَغْمُرُهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لَا يُبَاعُ فِيهَا.
وَفِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ اخْتَارَ رَجُلٌ يُدْعَى بيرو باك لِيَشْتَرِيَهُ. وَكَانَ بيرو يَعْمَلُ لَدَى الْحُكُومَةِ الْكَنَدِيَّةِ، وَكَانَتْ وَظِيفَتُهُ هِيَ تَوْصِيلُ الْبَرِيدِ إِلَى الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ، وَكَانَ يَعْرِفُ جَيِّدًا أَيَّ نَوْعٍ مِنَ الْكِلَابِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِأَدَاءِ هَذِهِ الْمَهَمَّةِ، وَكَانَ مُسْتَعِدًّا لِأَنْ يَدْفَعَ بِسَخَاءٍ مُقَابِلَ حُصُولِهِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ. فَرِحَ بيرو جِدًّا عِنْدَمَا رَأَى باك وَسَأَلَ الرَّجُلَ ذَا السُّتْرَةِ الْحَمْرَاءِ عَنْ ثَمَنِهِ.
قَالَ الرَّجُلُ ذُو السُّتْرَةِ الْحَمْرَاءِ: «ثَلَاثُمِائَةِ دُولَارٍ، وَهَذَا سِعْرٌ خَاصٌّ لَكَ أَنْتَ يَا بيرو لِأَنَّكَ عَمِيلٌ مُمَيَّزٌ.» ثُمَّ ابْتَسَمَ وَاسْتَطْرَدَ قَائِلًا: «لَقَدْ أَبْقَيْتُ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ أَجْلِكَ خِصِّيصًا. اسْمُهُ باك وَهُوَ كَلْبٌ شَرِسٌ، إِنَّهُ نَوْعُ الْكِلَابِ الَّذِي تَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِإِنْجَازِ الْعَمَلِ.»
ارْتَسَمَتْ عَلَى وَجْهِ بيرو ابْتِسَامَةٌ عَرِيضَةٌ، فَبِالنِّسْبَةِ لِارْتِفَاعِ أَسْعَارِ الْكِلَابِ مُؤَخَّرًا بِسَبَبِ هَوَسِ الْبَحْثِ عَنِ الذَّهَبِ، كَانَ السِّعْرُ الَّذِي طَلَبَهُ الرَّجُلُ مُقَابِلَ كَلْبٍ مُتَمَيِّزٍ مِثْلِ باك مَعْقُولًا. وَكَانَ بيرو يَفْهَمُ فِي الْكِلَابِ جَيِّدًا بِفَضْلِ خِبْرَتِهِ الطَّوِيلَةِ، وَعِنْدَمَا نَظَرَ إِلَى باك عَرَفَ أَنَّهُ كَلْبٌ نَادِرٌ وَفَرِيدٌ مِنْ نَوْعِهِ، بَلْ وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: «قَدْ لَا أَجِدُ مِثْلَهُ.»
رَأَى باك بيرو وَهُوَ يَدْفَعُ النُّقُودَ لِلرَّجُلِ ذِي السُّتْرَةِ الْحَمْرَاءِ، ثُمَّ قَادَهُ هُوَ وَكَلْبَةً أُخْرَى تُدْعَى كيرلي — وَهِيَ كَلْبَةٌ لَطِيفَةٌ مِنْ فَصِيلَةِ نيوفاوندلاند — إِلَى الْخَارِجِ. تَرَكَ باك وَكيرلي سياتل عَلَى ظَهْرِ سَفِينَةٍ تُدْعَى «ناروال»، وَهُنَاكَ سَلَّمَهُمَا بيرو إِلَى رَجُلٍ ضَخْمِ الْجُثَّةِ يُدْعَى فرانسوا. لَمْ يَكُنْ باك يَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَبْلُ، وَرَغْمَ أَنَّهُ لَمْ يُحِبَّهُمَا، اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَعَامَلَ مَعَهُمَا بِاحْتِرَامٍ؛ فَقَدْ أَدْرَكَ أَنَّ بيرو وَفرانسوا كَانَا عَادِلَيْنِ وَهَادِئَيْنِ، وَأَنَّهُمَا يَعْرِفَانِ الْكَثِيرَ عَنْ كَيْفِيَّةِ التَّعَامُلِ مَعَ الْكِلَابِ.
وَهُمَا يَتَنَقَّلَانِ بَيْنَ أَسْطُحِ ناروال، قَابَلَ باك وَكيرلي كَلْبَيْنِ آخَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا كَانَ كَبِيرًا وَلَوْنُهُ أَبْيَضُ مِثْلَ الثَّلْجِ، وَكَانَ يَبْدُو وَدُودًا وَلَكِنَّ ابْتِسَامَتَهُ كَانَتْ تُوحِي بِأَنَّهُ يُفَكِّرُ فِي خُدْعَةٍ دَنِيئَةٍ. وَفِي إِحْدَى الْمَرَّاتِ سَرَقَ بَعْضًا مِنْ طَعَامِ باك، وَبَيْنَمَا كَانَ باك يُطَارِدُهُ، اسْتَطَاعَ فرانسوا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الطَّعَامَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ باك وَأَعَادَهُ إِلَى باك.
وَكَانَ الْكَلْبُ الْآخَرُ الَّذِي تَعَرَّفَ عَلَيْهِ باك وَكيرلي لَا يُحِبُّ الِاخْتِلَاطَ بِالْآخَرِينَ. وَكَانَ يُدْعَى ديف، وَكُلُّ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ هُوَ الْأَكْلُ وَالنَّوْمُ وَالتَّثَاؤُبُ بَيْنَ الْحِينِ وَالْآخَرِ، وَلَمْ يَكُنْ يَهْتَمُّ بِأَيِّ شَيْءٍ، حَتَّى عِنْدَمَا كَانَتِ السَّفِينَةُ تُوَاجِهُ أَمْوَاجًا مُتَلَاطِمَةً وَتَتَمَايَلُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى آخَرَ. وَعِنْدَمَا كَانَ الْقَلَقُ وَالْخَوْفُ يَعْتَرِيَانِ باك وَكيرلي، كَانَ ديف يَرْفَعُ رَأْسَهُ فَقَطْ، وَيَبْدُو عَلَيْهِ الِانْزِعَاجُ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى باك وَكيرلي وَيَتَثَاءَبُ وَيَعُودُ لِلنَّوْمِ مَرَّةً أُخْرَى.
مَرَّ كَثِيرٌ مِنَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَلَاحَظَ باك أَنَّ الْجَوَّ يُصْبِحُ أَكْثَرَ بُرُودَةً مَعَ مُرُورِ كُلِّ يَوْمٍ. وَفِي صَبَاحِ أَحَدِ الْأَيَّامِ، كَانَتِ السَّفِينَةُ هَادِئَةً وَشَعَرَتْ كُلُّ الْكِلَابِ بِالْإِثَارَةِ؛ إِذْ إِنَّهَا كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ هُنَاكَ تَغْيِيرًا سَيَحْدُثُ. وَضَعَ فرانسوا الْحِبَالَ فِي أَطْوَاقِهَا جَمِيعًا وَأَحْضَرَهَا إِلَى السَّطْحِ. وَمَعَ أَوَّلِ خُطْوَةٍ لِباك عَلَى الْأَرْضِ الْبَارِدَةِ، غَاصَتْ قَدَمَاهُ فِي مَادَّةٍ بَيْضَاءَ هَشَّةٍ تُشْبِهُ الْوَحْلَ كَثِيرًا. قَفَزَ إِلَى الْوَرَاءِ مُطْلِقًا صَوْتًا عَالِيًا مِنْ أَنْفِهِ، كَانَ الْمَزِيدُ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ الْبَيْضَاءِ يَتَسَاقَطُ مِنَ السَّمَاءِ. فَهَزَّ باك جَسَدَهُ، وَلَكِنْ سَقَطَ عَلَيْهِ الْمَزِيدُ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ، تَشَمَّمَهَا باك فِي فُضُولٍ، ثُمَّ لَعَقَ بَعْضًا مِنْهَا بِلِسَانِهِ، فَلَسَعَتْهُ قَلِيلًا ثُمَّ اخْتَفَتْ فَجْأَةً، فَحَيَّرَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا وَحَاوَلَ مَرَّةً أُخْرَى وَلَكِنْ حَدَثَ الشَّيْءُ نَفْسُهُ. ضَحِكَتِ الْكِلَابُ الْأُخْرَى وَالْأَشْخَاصُ الَّذِينَ كَانُوا يُشَاهِدُونَهُ، وَشَعَرَ باك بِالْإِحْرَاجِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْرِفِ السَّبَبَ، فهَذِهِ هِيَ أَوَّلُ مَرَّةٍ فِي حَيَاتِهِ يَرَى فِيهَا الثُّلُوجَ.
لَمْ يَكُنِ الثَّلْجُ هُوَ الشَّيْءُ الْوَحِيدُ الَّذِي كَانَ عَلَى باك أَنْ يَتَعَلَّمَ كَيْفَ يَعْتَادُ عَلَيْهِ وَيَتَعَامَلُ مَعَهُ بِمَهَارَةٍ، فَقَدْ كَانَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ لِباك فِي شَاطِئِ ديا أَشْبَهَ بِالْكَابُوسِ؛ فَقَدْ كَانَتْ هُنَاكَ صَدْمَةٌ وَمُفَاجَأَةٌ جَدِيدَةٌ كُلَّ سَاعَةٍ. وَكَانَ يَشْعُرُ وَكَأَنَّهُ قَدِ انْتُزِعَ مِنْ مُجْتَمَعٍ مُتَحَضِّرٍ وَأُلْقِيَ بِهِ فِي عَالَمٍ بُدَائِيٍّ. فَهُنَا لَمْ يَكُنْ يَحْيَا حَيَاةً مُرِيحَةً وَهَادِئَةً فِي مَكَانٍ تَغْمُرُهُ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ السَّاطِعَةِ مِثْلَمَا كَانَ يَعِيشُ فِي بَيْتِ الْقَاضِي ميلر لَا يَفْعَلُ شَيْئًا سِوَى التَّسَكُّعِ وَالشُّعُورِ بِالْمَلَلِ. فَهُنَا لَا يُوجَدُ شُعُورٌ بِالسَّكِينَةِ أَوِ الرَّاحَةِ، وَلَا يَنْعَمُ بِلَحْظَةِ أَمَانٍ وَاحِدَةٍ. فَفِي كُلِّ مَا حَوْلَهُ يُوجَدُ ارْتِبَاكٌ وَحَرَكَةٌ، وَفِي كُلِّ لَحْظَةٍ يَلُوحُ خَطَرٌ جَدِيدٌ، وَلِذَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَبْقَى مُتَيَقِّظًا طَوَالَ الْوَقْتِ؛ فَهُؤَلَاءِ الْأَشْخَاصُ وَالْكِلَابُ يَخْتَلِفُونَ عَنِ الَّذِينَ عَرَفَهُمْ فِي الْمَاضِي، فَهَؤُلَاءِ خَطِرُونَ وَالْقَانُونُ الْوَحِيدُ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ هُوَ قَانُونُ الْأَحْبَالِ وَالْأَنْيَابِ.
لَمْ يَرَ باك الْكِلَابَ تَتَعَارَكُ هَكَذَا مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ عَلَّمَتْهُ تَجْرِبَتُهُ الْأُولَى دَرْسًا لَا يُنْسَى. فَبَيْنَمَا كَانُوا يُخَيِّمُونَ قُرْبَ مَخْزَنِ الْخَشَبِ، اقْتَرَبَتْ كيرلي بِطَرِيقَتِهَا الْوَدُودَةِ مِنْ كَلْبٍ مِنْ فَصِيلَةِ الهاسكي، وَكَانَ هَذَا الْكَلْبُ فِي حَجْمِ ذِئْبٍ بَالِغٍ، وَلَكِنَّ حَجْمَهُ لَا يَكَادُ يَكُونُ نِصْفَ حَجْمِهَا، وَبِدُونِ سَابِقِ إِنْذَارٍ قَفَزَ الْكَلْبُ وَطَرَحَهَا أَرْضًا.
كَانَ هَذَا أُسْلُوبَ الذِّئَابِ فِي الْعِرَاكِ، يَقْفِزُ عَلَى خَصْمِهِ، وَيَضْرِبُهُ، ثُمَّ يَقْفِزُ مُبْتَعِدًا عَنْهُ، وَلَكِنَّ مَا حَدثَ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. فَقَدْ رَكَضَ حَوَالَيْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ كَلْبًا مِنْ كِلَابِ الهاسكي وَأَحَاطُوا بِالْكَلْبَيْنِ فِي هُدُوءٍ يُنْذِرُ بِالْخَطَرِ. لَمْ يَفْهَمْ باك سَبَبَ ذَلِكَ. حَاوَلَتْ كيرلي أَنْ تَهْجُمَ عَلَى الْكَلْبِ الْآخَرِ وَلَكِنَّهُ طَرَحَهَا أَرْضًا مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ اقْتَرَبَتِ الْكِلَابُ الْأُخْرَى وَالْتَفَّتْ حَوْلَهَا، وَأَخَذَتْ تُرْهِبُهَا وَهِيَ تَنْبَحُ وَتَعَضُّهَا.
حَدَثَ ذَلِكَ فَجْأَةً، وَلَمْ يَكُنْ مُتَوَقَّعًا بِالْمَرَّةِ حَتَّى إِنَّ باك لَمْ يَعْرِفْ كَيْفَ يَتَصَرَّفُ. رَأَى باك كَلْبًا اسْمُهُ سبيتز يُخْرِجُ لِسَانَهُ مِنْ فَمِهِ لِيَضْحَكَ بِطَرِيقَتِهِ الْغَرِيبَةِ، وَرَأَى أَيْضًا فرانسوا يُمْسِكُ بِعَصًا وَيُلَوِّحُ بِهَا وَهُوَ يَرْكُضُ نَحْوَ مَجْمُوعَةِ الْكِلَابِ لِيُفَرِّقَهَا، وَكَانَ هُنَاكَ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ آخَرِينَ يُسَاعِدُونَهُ. لَمْ يَسْتَغْرِقِ الْأَمْرُ طَوِيلًا، وَلَكِنَّ كيرلي كَانَتْ قَدْ جُرِحَتْ وَأَخَذَهَا فرانسوا بَعِيدًا. رَأَى باك أَنَّ الْمَعْرَكَةَ لَمْ تَكُنْ عَادِلَةً، هَكَذَا تَتَصَرَّفُ هَذِهِ الْكِلَابُ إِذَنْ؟ عِنْدَمَا تَقَعُ تَلْتَفُّ جَمِيعُهَا لِتُهَاجِمَكَ؛ إِذَنْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ حِذْرَهُ حَتَّى لَا يَقَعَ أَبَدًا عَلَى الْأَرْضِ. أَخْرَجَ سبيتز لِسَانَهُ وَضَحِكَ مَرَّةً أُخْرَى، وَمُنْذُ تِلْكَ اللَّحْظَةِ كَرِهَهُ باك أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ كَلْبٍ أَوْ إِنْسَانٍ عَرَفَهُ فِي حَيَاتِهِ.
وَقَبْلَ أَنْ يُفِيقَ باك مِنْ صَدْمَةِ مَا حَدَثَ لِكيرلي تَلَقَّى صَدْمَةً أُخْرَى. فَقَدْ ثَبَّتَ فرانسوا عَلَى ظَهْرِهِ مَجْمُوعَةً مِنَ الْأَحْزِمَةِ الْمَرْبُوطَةِ بِالْمَشَابِكِ، كَانَ سَرْجًا كَالَّذِي كَانَ يَرَى النَّاسَ يَضَعُونَهُ عَلَى ظُهُورِ الْخُيُولِ فِي بَلْدَتِهِ، وَبِالطَّرِيقَةِ نَفْسِهَا الَّتِي كَانَتِ الْخُيُولُ تَعْمَلُ بِهَا، بَدَأَ باك فِي الْعَمَلِ: فَكَانَ يَجُرُّ الْمِزْلَجَةَ الَّتِي يَرْكَبُهَا فرانسوا إِلَى الْغَابَةِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ أَطْرَافِ الْوَادِي وَيَعُودُ وَمَعَهُمَا حِمْلٌ مِنَ الْأَخْشَابِ الَّتِي تُسْتَخْدَمُ فِي التَّدْفِئَةِ. لَمْ يَرُقْ هَذَا الْعَمَلُ لِباك وَلَكِنَّهُ كَانَ أَكْثَرَ حِكْمَةً مِنْ أَنْ يَرْفُضَ الْقِيَامَ بِهِ، فَقَدْ أَدَّى مَهَمَّتَهُ بِكُلِّ مَا أُوتِيَ مِنْ قُوَّةٍ، وَبَذَل كُلَّ مَا فِي وُسْعِهِ مَعَ أَنَّ كُلَّ هَذَا كَانَ جَدِيدًا عَلَيْهِ. كَانَ فرانسوا صَارِمًا مَعَ الْكِلَابِ وَكَانَ سبيتز هُوَ قَائِدُهَا، فَقَدْ كَانَ هُوَ وَديف أَكْثَرَ الْكِلَابِ خِبْرَةً، وَكَانَا يُعَلِّمَانِ باك بِالنُّبَاحِ فِي وَجْهِهِ وَعَضِّهِ عِنْدَمَا يُخْطِئُ، وَقَدْ تَعَلَّمَ باك مِنْهُمَا وَمِنْ فرانسوا بِسُرْعَةٍ. فَقَبْلَ عَوْدَتِهِمْ إِلَى الْمُعَسْكَرِ كَانَ باك قَدْ تَعَلَّمَ الْوُقُوفَ حِينَمَا يَسْمَعُ كَلِمَةَ «قِفْ» وَيَمْشِي حِينَمَا يَسْمَعُ كَلِمَةَ «انْطَلِقْ»، وَأَنْ يَنْعَطِفَ عِنْدَ الْمَلَفَّاتِ، وَيَبْتَعِدَ عَنِ الْكِلَابِ الْأُخْرَى عِنْدَمَا تَنْحَدِرُ المِزْلَجَةُ الْمُحَمَّلَةُ مِنْ خَلْفِهِمْ أَسْفَلَ التَّلِّ.
وَقَدْ قَالَ فرانسوا لِبيرو: «إِنَّ الْكِلَابَ الثَّلَاثَةَ مَاهِرَةٌ جِدًّا، وَذَلِكَ الْكَلْبُ باك يَجُرُّ الْمِزْلَجَةَ بِكُلِّ قُوَّتِهِ، سَأَسْتَطِيعُ تَعْلِيمَهُ أَيَّ شَيْءٍ بِسُرْعَةٍ.»
وَبِحُلُولِ فَتْرَةِ بَعْدِ الظَّهِيرَةِ، عَادَ بيرو — الَّذِي كَانَ فِي عَجَلَةٍ مِنْ أَمْرِهِ لِيَذْهَبَ لِتَوْصِيلِ مَا بِحَوْزَتِهِ مِنْ بَرِيدٍ — وَمَعَهُ كَلْبَانِ آخَرَانِ. كَانَ يَدْعُوهُمَا بيلي وَجو، وَهُمَا أَخَوَانِ مِنْ فَصِيلَةِ الهاسكي. وَمَعَ أَنَّهُمَا كَانَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ، كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ تَمَامًا عَنْ بَعْضِهِمَا الْبَعْضِ، فَقَدْ كَانَ بيلي لَطِيفًا وَهَادِئَ الطِّبَاعِ، بَيْنَمَا كَانَ جو يَقِفُ عَلَى النَّقِيضِ مِنْهُ؛ حَادَّ الطِّبَاعِ وَكَئِيبًا، يُزَمْجِرُ دَائِمًا وَتَظْهَرُ فِي عَيْنَيْهِ نَظْرَةٌ خَبِيثَةٌ. رَحَّبَ باك بِالْكَلْبَيْنِ، بَيْنَمَا تَجَاهَلَهُمَا ديف، وَحَاوَلَ سبيتز إِرْهَابَهُمَا. فِي الْبِدَايَةِ حَرَّكَ بيلي ذَيْلَهُ ثُمَّ جَرَى بَعِيدًا حِيْنَمَا أَدْرَكَ دَنَاءَةَ سبيتز، أَمَّا جو فَمَهْمَا حَاوَلَ سبيتز إِرْهَابَهُ كَانَ يَقِفُ فِي وَجْهِهِ، حَتَّى لَوْ شَعَرَ بِدَاخِلِهِ بِالرُّعْبِ مِنْهُ. انْتَصَبَ شَعْرُ رَقَبَةِ جو وَانْحَنَتْ أُذُنَاهُ إِلَى الْوَرَاءِ وَأَخَذَ يُزَمْجِرُ، وَكَانَ يَبْدُو شرسًا وَمُرَوِّعًا حَتَّى إِنَّ سبيتز اسْتَسْلَمَ فِي النِّهَايَةِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَمَرَّ فِي مُطَارَدَةِ بيلي لِيَحْفَظَ مَاءَ وَجْهِهِ.
بِحُلُولِ الْمَسَاءِ أَحْضَرَ بيرو كَلْبًا آخَرَ إِلَى الْمَجْمُوعَةِ، كَانَ كَلْبًا عَجُوزًا مِنْ فَصِيلَةِ الهاسكي، وَكَانَ طَوِيلًا وَنَحِيلًا وَذَا عَيْنٍ وَاحِدَةٍ وَعَلَى وَجْهِهِ آثَارٌ لِإِصَابَةٍ فِي مَعْرَكَةٍ قَدِيمَةٍ. كَانَ يُدْعَى سوليكس — وَيَعْنِي الْكَلْبَ الْغَاضِبَ. وَعَلَى غِرَارِ ديف، لَمْ يَكُنْ يَطْلُبُ أَيَّ شَيْءٍ أَوْ يُعْطِيَ أَيَّ شَيْءٍ أَوْ يَتَوَقَّعُ أَيَّ شَيْءٍ. وَعِنْدَمَا تَحَرَّكَ بِبُطْءٍ لِيَنْضَمَّ إِلَى الْقَطِيعِ، حَتَّى سبيتز تَرَكَهُ وَشَأْنَهُ. وَلَكِنْ كَانَ لَدَى سوليكس عَادَةٌ وَاحِدَةٌ اكْتَشَفَهَا باك لِسُوءِ حَظِّهِ، كَانَ لَا يُحِبُّ أَنْ يَقْتَرِبَ مِنْهُ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةِ عَيْنِهِ الْمُصَابَةِ، وَقَدْ فَعَلَهَا باك بِالْخَطَأِ، فَاسْتَدَارَ سولِّيكس نَحْوَهُ وَنَبَحَ فِي وَجْهِهِ. وَمُنْذُ تِلْكَ اللَّحْظَةِ، تَجَنَّبَ باك ذَلِكَ الْجَانِبَ حَيْثُ عَيْنُهُ الْعَمْيَاءُ، فَلَمْ يَقَعْ فِي أَيِّ مُشْكِلَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَبْدُو أَنَّ سوليكس كَانَ مِثْلَ ديف لَا يَطْمَحُ سِوَى إِلَى أَنْ يَتْرُكَهُ الْآخَرُونَ وَشَأْنَهُ.