رِحْلَةُ تَعَلُّمٍ لِلْبَقَاءِ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ
فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَاجَهَ باك مُشْكِلَةً كَبِيرَةً وَقْتَ النَّوْمِ. كَانَتِ الْخَيْمَةُ — الَّتِي تُضِيئُهَا شَمْعَةٌ — يَمْلَؤُهَا الدِّفْءُ، بَيْنَمَا كَانَ كُلُّ شَيْءٍ حَوْلَهُمْ أَبْيَضَ وَمَلِيئًا بِالثَّلْجِ. وَعِنْدَمَا دَخَلَ باك الْخَيْمَةَ — ظَنًّا مِنْهُ أَنْ ذَلِكَ تَصَرُّفًا عَادِيًّا — صَرَخَ بيرو وَفرانسوا فِي وَجْهِهِ وَأَخَذَا يَقْذِفَانِهِ بِالْأَشْيَاءِ حَتَّى جَرَى بَعِيدًا وَهُوَ يَشْعُرُ بِالْغَضَبِ وَالْإِحْرَاجِ وَخَرَجَ مَرَّةً أُخْرَى فِي الْجَوِّ الْبَارِدِ، وَأَخَذَ الْهَوَاءُ شَدِيدُ الْبُرُودَةِ يَنْشِبُ سِهَامَهُ فِي عِظَامِهِ. فَاسْتَلْقَى باك عَلَى الثُّلُوجِ وَحَاوَلَ أَنْ يَنَامَ، وَلَكِنَّ الصَّقِيعَ جَعَلَ جَسَدَهُ كُلَّهُ يَرْتَجِفُ. وَأَخَذَ باك يَسِيرُ وَسْطَ الْخِيَمِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَهُوَ فِي حَالَةٍ يُرْثَى لَهَا، وَلَكِنْ لَمْ يَجِدْ مَكَانًا أَقَلَّ بُرُودَةً مِنَ الْآخَرِ. حَاوَلَتِ الْكِلَابُ الْمُتَوَحِّشَةُ الَّتِي تُقَابِلُهُ هُنَا وَهُنَاكَ أَنْ تُرْهِبَهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُزَمْجِرُ وَيَنْتَصِبُ شَعْرُ رَقَبَتِهِ (فَقَدْ كَانَ يَتَعَلَّمُ بِسُرْعَةٍ كَيْفَ يَرُدُّ عَلَى هُجُومِ الْكِلَابِ الْأُخْرَى)، فَيَتْرُكُونَهُ يَمْضِي فِي طَرِيقِهِ وَلَا يَعُودُونَ لِمُضَايَقَتِهِ.
ثُمَّ خَطَرَتْ لَهُ فِكْرَةٌ، وَقَرَّرَ أَنْ يَعُودَ إِلَى زُمَلَائِهِ فِي الْقَطِيعِ وَيَرَى كَيْفَ يَنَامُونَ. وَلَكِنَّهُ فُوجِئَ بِأَنَّهُمْ قَدِ اخْتَفَوْا. أَخَذَ باك يَدُورُ حَوْلَ الْمُعَسْكَرِ الْكَبِيرِ بَاحِثًا عَنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ عَادَ دُونَ أَنْ يَجِدَهُمْ. هَلْ هُمْ دَاخِلَ الْخَيْمَةِ؟ وَلَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَإِلَّا لَمَا كَانَ طُرِدَ مِنْهَا. أَيْنَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا إِذَنْ؟ أَخَذَ باك يَدُورُ حَوْلَ الْخَيْمَةِ وَهُوَ يَرْتَعِشُ وَيَجُرُّ ذَيْلَهُ خَلْفَهُ، كَانَ يَشْعُرُ بِالضَّيَاعِ وَالْوَحْدَةِ. وَفَجْأَةً انْزَاحَ الثَّلْجُ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ الْأَمَامِيَّتَيْنِ وَغَاصَتْ قَدَمَاهُ قَلِيلًا ثُمَّ شَعَرَ بِشَيْءٍ يَتَلَوَّى تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَفَزَ إِلَى الْوَرَاءِ وَأَخَذَ يُزَمْجِرُ وَقَدِ انْتَصَبَ شَعْرُهُ وَهُوَ يَشْعُرُ بِخَوْفٍ مِنَ الْمَجْهُولِ، وَلَكِنَّهُ سَمِعَ عُوَاءً وَدُودًا يُطَمْئِنُهُ، فَعَادَ مَرَّةً أُخْرَى لِيَسْتَكْشِفَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ. اشْتَمَّ باك نَسْمَةَ هَوَاءٍ دَافِئٍ، وَهُنَاكَ رَأَى بيلي وَهُوَ مُتَكَوِّرٌ عَلَى نَفْسِهِ تَحْتَ الثُّلُوجِ مُسْتَلْقِيًا فِي كُرَةٍ دَافِئَةٍ. أَخَذَ بيلي يَعْوِي وَيَتَلَوَّى لِيُثْبِتَ لِباك أَنَّهُ صَدِيقٌ، بَلْ وَلَعَقَ وَجْهَ باك بِلِسَانِهِ الرَّطْبِ الدَّافِئِ.
كَانَ هَذَا دَرْسًا آخَرَ تَعَلَّمَهُ باك، فَهَكَذَا يَنَامُ الْكِلَابُ وَسْطَ الثُّلُوجِ. انْتَقَى باك مَوْضِعًا، وَبَدَأَ يَعْمَلُ بِجِدٍّ لِيَحْفِرَ لِنَفْسِهِ حُفْرَةً، وَسُرْعَانَ مَا تَسَرَّبَتِ الْحَرَارَةُ مِنْ جَسَدِهِ لِتَمْلَأَ هَذَا الْمَكَانَ الصَّغِيرَ وَرَاحَ باك فِي النَّوْمِ. لَقَدْ مَرَّ بِيَوْمٍ طَوِيلٍ وَشَاقٍّ، وَلِذَا فَقَدْ غَطَّ فِي سُبَاتٍ عَمِيقٍ وَمُرِيحٍ، رَغْمَ أَنَّهُ كَانَ يُزَمْجِرُ وَيَنْبَحُ وَهُوَ يُصَارِعُ الْأَحْلَامَ السَّيِّئَةَ.
لَمْ يَفْتَحْ باك عَيْنَيْهِ حَتَّى أَيْقَظَتْهُ ضَوْضَاءُ الْمُعَسْكَرِ. فِي الْبِدَايَةِ، لَمْ يُدْرِكْ أَيْنَ هُوَ، فَقَدْ تَسَاقَطَتِ الثُّلُوجُ أَثْنَاءَ اللَّيْلِ وَغَطَّتْهُ تَمَامًا، وَكَانَتِ الْحَوَائِطُ الثَّلْجِيَّةُ تُحِيطُ بِهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَتَضْغَطُ عَلَى جَسَدِهِ، فَشَعَرَ بِالرُّعْبِ وَتَقَلَّصَتْ عَضَلَاتُهُ وَانْتَصَبَ شَعْرُ رَقَبَتِهِ وَكَتِفَيْهِ تَمَامًا. ثُمَّ قَفَزَ باك وَهُوَ يُزَمْجِرُ بِقُوَّةٍ إِلَى الْأَعْلَى وَخَرَجَ إِلَى ضَوْءِ النَّهَارِ الَّذِي أَعْمَى عَيْنَيْهِ فِي الْبِدَايَةِ، وَتَطَايَرَتْ كُتَلُ الثُّلُوجِ مِنْ فَوْقِهِ. وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ عَلَى قَدَمَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى، رَأَى باك مِنْ حَوْلِهِ الْمُعْسَكَرَ الَّذِي تُحِيطُ بِهِ الثُّلُوجُ الْبَيْضَاءُ وَتَذَكَّرَ أَيْنَ هُوَ. وَتَذَكَّرَ باك حِينَهَا مَا حَدَثَ لَهُ مُنْذُ أَنْ ذَهَبَ فِي تِلْكَ النُّزْهَةِ مَعَ مانويل وَحَتَّى حَفَرَ لِنَفْسِهِ حُفْرَةً اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ لِيَنَامَ فِيهَا.
وَبِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ باك، صَاحَ فرانسوا، وَقَالَ بِصَوْتٍ عَالٍ لِبيرو: «أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّ ذَلِكَ الْكَلْبَ باك يَتَعَلَّمُ أَيَّ شَيْءٍ بِسُرْعَةٍ؟»
أَوْمَأَ بيرو وَالْجِدِّيَّةُ تَرْتَسِمُ عَلَى مَلَامِحِهِ، فَنَظَرًا لِأَنَّهُ يَعْمَلُ سَاعِيَ بَرِيدٍ لَدَى الْحُكُومَةِ الْكَنَدِيَّةِ وَيَنْقُلُ الْمُرَاسَلَاتِ الْمُهِمَّةَ، كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَحْصُلَ عَلَى أَفْضَلِ الْكِلَابِ، وَلِذَا كَانَ سَعِيدًا لِأَنَّهُ وَجَدَ باك.
انْضَمَّتْ ثَلَاثَةُ كِلَابِ هاسكي أُخْرَى إِلَى الْقَطِيعِ فِي أَقَلَّ مِنْ سَاعَةٍ، لِيُصْبِحَ عَدَدُ الْكِلَابِ تِسْعَةً. وَفِي غُضُونِ رُبُعِ سَاعَةٍ كَانَتِ السُّرُوجُ قَدْ ثُبِّتَتْ عَلَى ظُهُورِهَا جَمِيعًا، وَكَانَتْ تَنْعَطِفُ بِالْمِزْلَجَةِ فَوْقَ الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّي إِلَى وَادِي ديا. كَانَ باك سَعِيدًا بِالِانْطِلَاقِ لِلْعَمَلِ، وَمَعَ أَنَّ الْعَمَلَ كَانَ شَاقًّا، لَمْ يَكُنْ مُنْزَعِجًا مِنْهُ. أَدْهَشَتْهُ حَمَاسَةُ الْقَطِيعِ، وَانْدَهَشَ أَكْثَرَ بِالتَّغْيِيرِ الَّذِي طَرَأَ عَلَى شَخْصِيَّتَيْ ديف وَسوليكس، فَقَدْ بَدَا وَكَأَنَّ السَّرْجَ الْمُثَبَّتَ عَلَى ظَهْرِ كُلٍّ مِنْهُمَا قَدْ غَيَّرَهُمَا تَمَامًا، فَلَمْ يَعُودَا هَادِئَيْنِ وَمُنْعَزِلَيْنِ، بَلْ بَاتَا مُتَيَقِّظَيْنِ وَمُفْعَمَيْنِ بِالْحَيَوِيَّةِ وَالنَّشَاطِ، وَحَرِيصَيْنِ عَلَى أَدَاءِ الْعَمَلِ بِشَكْلٍ جَيِّدٍ، وَكَانَا يَغْضَبَانِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ يُؤَخِّرُ عَمَلَهُمَا. بَدَا وَكَأَنَّ الْعَمَلَ الشَّاقَّ هُوَ الشَّيْءُ الْوَحِيدُ الَّذِي يُسْعِدُهُمَا.
كَانَ ديف هُوَ مَنْ يَجُرُّ الْمِزْلَجَةَ مُبَاشَرَةً، وَمِنْ أَمَامِهِ باك ثُمَّ سوليكس وَمِنْ أَمَامِهِمْ بَقِيَّةُ الْجَمْعِ فِي صَفٍّ وَاحِدٍ يَنْتَهِي بِسبيتز فِي الْمُقَدِّمَةِ، فَقَدْ كَانَ هُوَ الْقَائِدُ.
لَقَدْ وُضِعَ باك بَيْنَ ديف وَسوليكس، حَتَّى يَتَسَنَّى لَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ هَذَيْنِ الْكَلْبَيْنِ الْأَكْبَرِ مِنْهُ. وَقَدْ كَانَ باك تِلْمِيذًا نَجِيبًا، وَهُمَا كَانَا مُعَلِّمَيْنِ قَدِيرَيْنِ، لَمْ يَتْرُكَا باك يَتَمَادَى فِي أَيِّ خَطَأٍ، وَكَانَ ديف عَادِلًا وَحَكِيمًا. وَفِي إِحْدَى الْمَرَّاتِ الَّتِي تَوَقَّفَتْ فِيهَا الْمِزْلَجَةُ لِفَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ تَعَثَّرَ باك فِي الْحِبَالِ وَأَخَّرَ انْطِلَاقَهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَغَضِبَ مِنْهُ ديف وَسوليكس كَثِيرًا، وَلَكِنَّ باك اتَّخَذَ حِذْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَظَلَّ بَعِيدًا عَنِ الْحِبَالِ. وَقَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ الْيَوْمُ أَصْبَحَ أَدَاءُ باك رَائِعًا حَتَّى إِنَّ ديف وسوليكس كَفَّا عَنْ مُضَايَقَتِهِ، وَحَتَّى بيرو قَدْ أَعْلَى مِنْ قَدْرِهِ عِنْدَمَا رَفَعَ قَدَمَيْهِ وَتَفَحَّصَهُمَا بِعِنَايَةٍ.
كَانَتِ الرِّحْلَةُ الَّتِي قَطَعَتْهَا الْكِلَابُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ شَاقَّةً، فَقَدْ صَعِدَتْ إِلَى الْوَادِي عَبْرَ مُعَسْكَرِ شيب، مُرُورًا بِمِنْطَقَةِ سكيلز وَحِزَامِ الْأَشْجَارِ، عَبْرَ الْأَنْهَارِ الْجَلِيدِيَّةِ وَأَكْوَامِ الْجَلِيدِ الَّتِي يَصِلُ عُمْقُهَا لِمِئَاتِ الْأَقْدَامِ، وَعَبَرَتْ فَوْقَ شَقِّ تشيلكوت الَّذِي يَفْصِلُ مَا بَيْنَ الْمَاءِ الْمَالِحِ وَالْعَذْبِ وَيَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ الشَّمَالِ الْمُوحِشِ الْكَئِيبِ. لَقَدْ قَطَعَتْ مِنْطَقَةَ سِلْسِلَةِ الْبُحَيْرَاتِ الَّتِي تَمْلَأُ فُوَّهَاتِ الْبَرَاكِينِ الْخَامِلَةِ بِسُرْعَةٍ هَائِلَةٍ. فِي وَقْتٍ مُتَأَخِّرٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَوْقَفَ الْقَطِيعُ الْمِزْلَجَةَ عِنْدَ الْمُعَسْكَرِ الْكَبِيرِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ بُحَيْرَةِ بينيت، حَيْثُ كَانَ الْآلَافُ مِنَ الْبَاحِثِينَ عَنِ الذَّهَبِ يَبْنُونَ سُفُنَهُمْ وَيَنْتَظِرُونَ ذَوَبَانَ الْجَلِيدِ فِي الرَّبِيعِ. حَفَرَ باك حُفْرَةً فِي الْجَلِيدِ وَنَامَ نَوْمًا عَمِيقًا، وَلَكِنْ سُرْعَانَ مَا أَيْقَظَهُ الرِّجَالُ فِي جَوْفِ الظَّلَامِ الْبَارِدِ وَوَضَعُوا عَلَى ظَهْرِهِ سَرْجًا هُوَ وَالْكِلَابِ الْأُخْرَى وَرَبَطُوهَا فِي الْمِزْلَجَةِ.
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، اسْتَطَاعَتِ الْكِلَابُ أَنْ تَقْطَعَ مَسَافَةَ أَرْبَعِينَ مِيلًا لِأَنَّ الثَّلْجَ كَانَ قَدْ أُزِيحَ مِنْ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي كَانَتْ تَسْلُكُهُ، مِمَّا جَعَلَ السَّفَرَ أَسْهَلَ. وَلَكِنْ فِي الْيَوْمِ التَّالِي، كَانَ عَلَيَهَا أَنْ تَشُقَّ طَرِيقَهَا بِنَفْسِهَا وَسْطَ الثُّلُوجِ الْجَدِيدَةِ، وَظَلَّتْ هَكَذَا لِعِدَّةِ أَيَّامٍ، مِمَّا كَانَ يَعْنِي بَذْلَ مَزِيدٍ مِنَ الْجُهْدِ وَالسَّفَرِ بِسُرْعَةٍ أَقَلَّ. كَانَ بيرو يَتَقَدَّمُهَا لِيُزِيحَ الثُّلُوجَ بِحِذَائِهِ الْمُخَصَّصِ لِلسَّيْرِ عَلَى الْجَلِيدِ حَتَّى يُيَسِّرَ مُهِمَّتَهَا، أَمَّا فرانسوا فَكَانَ يَقُودُ الْمِزْلَجَةَ وَأَحْيَانًا يَتَبَادَلُ الْأَدْوَارَ مَعَ بيرو، وَلَكِنْ لَيْسَ كَثِيرًا. فَقَدْ كَانَ بيرو عَلَى عَجَلَةٍ وَكَانَ يَفْتَخِرُ بِمَعْرِفَتِهِ الْجَيِّدَةِ لِلثُّلُوجِ وَالْجَلِيدِ. وَقَدْ كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ بِالْجَلِيدِ أَمْرًا مُهِمًّا لِلْغَايَةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ عَبْرَهُ لِشُهُورٍ فِي الرِّحْلَةِ الْوَاحِدَةِ. وَفِي الْخَرِيفِ تَكُونُ طَبَقَةُ الْجَلِيدِ رَفِيعَةً، وَيَخْتَفِي تَمَامًا فِي الْمَنَاطِقِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا الْمِيَاهُ.
وَيَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، ظَلَّ باك يَعْمَلُ بِجِدٍّ، وَكَانُوا دَائِمًا يتَوَقَّفُونَ وَيُخَيِّمُونَ فِي الظَّلَامِ، فَتَأْكُلُ الْكِلَابُ الْأَسْمَاكَ الْمُخَصَّصَةَ لَهَا ثُمَّ تَنْدَسُّ تَحْتَ الثَّلْجِ لِتَنَامَ، ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ جَرَّ الْمِزْلَجَةِ عَلَى الطَّرِيقِ مَرَّةً أُخْرَى لِتُشْرِقَ الشَّمْسُ عَلَيْهَا وَقَدْ قَطَعَتْ بِالْفِعْلِ عِدَّةَ أَمْيَالٍ عَلَى الطَّرِيقِ مَرَّةً أُخْرَى. كَانَ باك يَشْعُرُ بِالْجُوعِ الشَّدِيدِ، وَلَمْ تَكُنْ حِصَّتُهُ الْيَوْمِيَّةُ مِنَ الطَّعَامِ — الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْ رَطْلٍ وَنِصْفٍ مِنْ سَمَكِ السَّلَمُونِ الْمُجَفَّفِ — تَكْفِيهِ. أَمَّا الْكِلَابُ الْأُخْرَى — نَظَرًا لِأَنَّهَا كَانَتْ أَقَلَّ وَزْنًا وَمُعْتَادَةً عَلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ — فَكَانَتْ حِصَّتُهَا الْيَوْمِيَّةُ رَطْلًا وَاحِدًا فَقَطْ مِنَ السَّمَكِ، وَاسْتَطَاعَتِ الْحِفَاظَ عَلَى لِيَاقَتِهَا.
سُرْعَانَ مَا تَخَلَّى باك عَنْ نِظَامِهِ وَهِنْدَامِهِ، وَهُوَ مَا كَانَ صِفَةً أَسَاسِيَّةً مِنْ حَيَاتِهِ فِي الْمَاضِي، فَقَدِ اعْتَادَ باك عَلَى تَنَاوُلِ طَعَامِهِ بِعِنَايَةٍ، وَلَكِنَّهُ اكْتَشَفَ أَنَّ الْكِلَابَ الْأُخْرَى — بَعْدَ أَنْ تَنْتَهِيَ مِنْ طَعَامِهَا قَبْلَهُ — تَسْرِقُ طَعَامَهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِ باك أَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ. فَعِنْدَمَا كَانَ يَرْكُضُ وَرَاءَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِمَّنْ سَرَقُوا طَعَامَهُ كَانَ الْآخَرُون يَأْكُلُونَ مَا بَقِيَ مِنْهُ، وَلِذَا كَانَ باك يَتَنَاوَلُ طَعَامَهُ بِسُرْعَةٍ مِثْلَهُمْ، وَكَانَ غَالِبًا مَا يَظَلُّ جَائِعًا حَتَّى إِنَّهُ يَسْرِقُ الطَّعَامَ مِنَ الْكِلَابِ الَّتِي لَا تَأْكُلُ بِمِثْلِ سُرْعَتِهِ. وَكَانَ باك يُشَاهِدُ وَيَتَعَلَّمُ مِمَّا يُشَاهِدُهُ. وَفِي إِحْدَى الْمَرَّاتِ رَأَى بايك — وَهُوَ كَلْبٌ انْضَمَّ لِلْقَطِيعِ حَدِيثًا وَكَانَ مَاهِرًا فِي السَّرِقَةِ — وَهُوَ يَسْرِقُ شَرِيحَةَ لَحْمٍ عِنْدَمَا اسْتَدَارَ بيرو، فَفَعَلَ باك مِثْلَهُ فِي الْيَوْمِ التَّالِي وَسَرَقَ قِطْعَةَ لَحْمٍ كَامِلَةً. غَضِبَ بيرو لِلْغَايَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشُكَّ فِي باك، بَلِ اتَّهَمَ كَلْبًا آخَرَ اسْمُهُ داب — وَهُوَ كَلْبٌ أَخْرَقُ دَائِمًا مَا يُمْسِكُ بِهِ بيرو وَهُوَ يَسْرِقُ — وَعَاقَبَهُ.
اسْتَطَاَعَ باك بِفَضْلِ الطَّعَامِ الَّذِي سَرَقَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَنْ يَبْقَى عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ فِي أَرْضِ الشَّمَالِ، وَقَدْ أَظْهَرَ ذَلِكَ شَيْئًا مُهِمًّا لِلْغَايَةِ؛ أَلَا وَهُوَ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّكَيُّفِ مَعَ حَيَاتِهِ الْجَدِيدَةِ. كَمَا أَظْهَرَ كَذَلِكَ أَنَّ ضَمِيرَهُ لَمْ يَعُدْ يُؤَنِّبُهُ بِسَبِبِ السَّرِقَةِ. فَلَمْ يَكُنْ أَمَامَهُ خَيَارٌ آخَرُ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْبَارِدِ الْمُوحِشِ، فَهُوَ لَمْ يَسْرِقْ لِأَنَّهُ يُحِبُّ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ كَانَ جَائِعًا. وَكَانَ باك يَسْرِقُ بِحِرْصٍ وَفِي سِرِّيَّةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى السَّرِقَةِ.
وَسُرْعَانَ مَا تَغَيَّرَ باك؛ فَقَدْ أَصْبَحَتْ عَضَلَاتُهُ صُلْبَةً مِثْلَ الْحَدِيدِ، وَكَانَ بِوُسْعِهِ أَنْ يَتَجَاهَلَ الْآلَامَ الْعَادِيَّةَ، وَكَانَ بِإِمْكَانِهِ أَنْ يَأْكُلَ أَيَّ شَيْءٍ، فَجِسْمُهُ كَانَ يُحَوِّلُ أَيَّ طَعَامٍ إِلَى طَاقَةٍ حَتَّى تَقْوَى عَضَلَاتُهُ وَتُصْبِحَ أَكْثَرَ صَلَابَةً.
كَمَا أَصْبَحَتْ حَاسَّتَا الْبَصَرِ وَالشَّمِّ لَدَيْهِ خَارِقَتَيْنِ، وَبَاتَ سَمْعُهُ حَادًّا لِدَرَجَةِ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْمَعَ أَكْثَرَ الْأَصْوَاتِ الْخَافِتَةِ وَهُوَ نَائِمٌ وَيَعْرِفُ مَصْدَرَهَا. وَتَعَلَّمَ باك أَيْضًا أَنْ يَأْكُلَ الثَّلْجَ بِأَسْنَانِهِ عِنْدَمَا يَتَكَوَّمُ بَيْنَ أَصَابِعِ أَقْدَامِهِ، وَعِنْدَما كَانَ يَشْعُرُ بِالْعَطَشِ وَيَجِدُ طَبَقَةَ جَلِيدٍ تُغَطِّي بِرْكَةَ مِيَاهٍ كَانَ يَقِفُ عَلَى قَدَمَيْهِ الْخَلْفِيَّتَيْنِ ثُمَّ يَنْزِلُ بِقَدَمَيْهِ الْأَمَامِيَّتَيْنِ عَلَى الْجَلِيدِ وَيُحَطِّمُهُ. بَلْ وَأَصْبَحَ بِإِمْكَانِهِ كَذَلِكَ أَنْ يَتَنَبَّأَ بِحَالَةِ الطَّقْسِ إِذَا اشْتَمَّ الْهَوَاءَ.
لَمْ يَتَعَلَّمْ باك بِالتَّجْرِبَةِ وَحْدَهَا، وَلَكِنْ تَنَبَّهَتْ بِدَاخِلِهِ غَرَائِزُ هُوَ نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ أَنَهُ يَمْتَلِكُهَا. فَقَدْ شَعَرَ وَكَأَنَّ بِإِمْكَانِهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ مَتَى كَانَتِ الْكِلَابُ الْبَرِّيَّةُ تَجْرِي فِي قُطْعَانٍ عَبْرَ الْغَابَةِ لِتَصْطَادَ طَعَامَهَا. وَعِنْدَمَا كَانَ يَتَعَارَكُ مَعَ الْكِلَابِ الْأُخْرَى، كَانَ يَشْعُرُ وَكَأَنَّ وَاحِدًا مِنْ أَسْلَافِهِ هُوَ مَنْ يَتَعَارَكُ. فَقَدِ اسْتَيْقَظَتْ بِدَاخِلِهِ تِلْكَ الْحَيَاةُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي كَانَ أَجْدَادُهُ يَعِيشُونَهَا فِي الْمَاضِي وَالْخُدَعُ الَّتِي كَانُوا يَلْجَئُونَ إِلَيْهَا، دُونَ أَنْ يُحَاوِلَ هُوَ اسْتِعَادَتَهَا، كَمَا لَوْ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً لَدَيْهِ طَوَالَ حَيَاتِهِ. وَفِي اللَّيالِي الْبَارِدَةِ، عِنْدَمَا كَانَ باك يُشِيرُ بِأَنْفِهِ إِلَى نَجْمَةٍ مِنَ النُّجُومِ وَيَعْوِي طَوِيلًا مِثْلَ الذِّئَابِ، كَانَ يَشْعُرُ أَنَّ الصَّوْتَ الْمُنْبَعِثَ مِنْ دَاخِلِهِ هُوَ صَوْتُ أَحَدِ أَجْدَادِهِ آتٍ مِنْ خَلْفِ الْقُرُونِ الطَّوِيلَةِ، فَقَدْ بَاتَ صَوْتُهُ هُوَ صَوْتَهُمْ.
لَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَيَاةُ باك تَغَيُّرًا كَبِيرًا، كُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ بَعْضَ الرِّجَالِ قَدْ عَثَرُوا عَلَى مَعْدِنٍ أَصْفَرَ فِي الشَّمَالِ، وَأَنَّ مانويل مُسَاعِدَ الْبُسْتَانِيِّ كَانَ يُحِبُّ الْمُقَامَرَةَ.