الْكَلْبُ الْأَقْوَى
كَانَتْ هُنَاكَ رَغْبَةٌ دَاخِلَ باك فِي أَنْ يُصْبِحَ أَقْوَى كَلْبٍ فِي الْقَطِيعِ، وَفِي ظِلِّ ظُرُوفِ حَيَاةِ السَّفَرِ وَالتَّنَقُّلِ الصَّعْبَةِ تَزَايَدَتْ هَذِهِ الرَّغْبَةُ بِدَاخِلِهِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَلَكِنَّ باك أَبْقَى هَذَا الشُّعُورَ سِرًّا. فَقَدِ اكْتَسَبَ باك مَلَكَةً جَدِيدَةً بِالنِّسْبَةِ لَهُ هِيَ الْحِيلَةُ وَالْخُبْثُ، وَسَاعَدَتْهُ تِلْكَ الْمَلَكَةُ عَلَى أَنْ يَبْقَى هَادِئًا وَمُسَيْطِرًا عَلَى نَفْسِهِ. وَقَدْ كَانَ باك مَشْغُولًا جِدًّا بِمُحَاوَلَةِ الِاعْتِيَادِ عَلَى حَيَاتِهِ الْجَدِيدَةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يُفَكِّرْ فِي الرَّاحَةِ. وَكَانَ لَا يَبْدَأُ بِالْعِرَاكِ مَعَ أَيِّ كَلْبٍ آخَرَ وَكَانَ يُحَاوِلُ دَائِمًا أَنْ يَتَجَنَّبَ الْعِرَاكَ إِنْ أَمْكَنَ. وَمَعَ أَنَّ باك وَسبيتز لَمْ يُحِبَّا بَعْضَهُمَا، وَكَانَ ذَلِكَ الشُّعُورُ يَتَزَايَدُ كُلَّ يَوْمٍ، لَمْ يُظْهِرْ باك ذَلِكَ أَبَدًا.
وَعَلَى النَّقِيضِ، كَانَ سبيتز لَا يُفَوِّتُ فُرْصَةً دُونَ أَنْ يُكَشِّرَ عَنْ أَنْيَابِهِ، رُبَّمَا لِأَنَّهُ كَانَ يَشْعُرُ بِأَنَّ باك يُمْكِنُ أَنْ يَأْخُذَ مَكَانَهُ قَائِدًا لِلْقَطِيعِ. وَكَانَ يُحَاوِلُ دَائِمًا أَنْ يُرْهِبَ باك وَأَنْ يَبْدَأَ شِجَارًا لَا يَنْتَهِي إِلَّا بِاسْتِسْلَامِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُرُوبِهِ.
كادت مُشَاجَرَةٌ كَهَذِهِ أَنْ تَحْدُثَ فِي بِدَايَةِ إِحْدَى الرِّحْلَاتِ، وَلَكِنْ وَقَعَتْ حَادِثَةٌ أَنْهَتْهَا. فَفِي نِهَايَةِ هَذَا الْيَوْمِ، خَيَّمَ الْفَرِيقُ الْمُسَافِرُ عِنْدَ شَاطِئِ بُحَيْرَةِ لوبارج، وَكَانَ الْمَكَانُ مُوحِشًا وَكَئِيبًا. فَالثُّلُوجُ الْمُنْهَمِرَةُ فِي غَزَارَةٍ وَالرِّيَاحُ الْعَاتِيَةُ الَّتِي كَانَتْ تَضْرِبُهُمْ بِسِهَامِهَا وَالظَّلَامُ الدِّامِسُ، كُلُّ ذَلِكَ أَجْبَرَهُمْ عَلَى الْبَحْثِ فِي الظَّلَامِ الَّذِي أَعْمَاهُمْ عَنْ مَكَانٍ يُخَيِّمُونَ فِيهِ. وَكَانَ ذَلِكَ الْمَكَانُ هُوَ أَسْوَأُ مَكَانٍ وَقَعَ عَلَيْهِ اخْتِيَارُهُمْ. وَكَانَ هُنَاكَ جِدَارٌ صَخْرِيٌّ خَلْفَهُمْ، وَاضْطُرَّ فرانسوا وَبيرو لِأَنْ يُشْعِلَا النَّارَ وَيَضَعَا حَقِيبَتَيِ النَّوْمِ فَوْقَ طَبَقَةِ الْجَلِيدِ الَّتِي تُغَطِّي الْبُحَيْرَةَ نَفْسَهَا، حَيْثُ اضْطُرَّا لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الْخَيْمَةِ حَتَّى لَا تُشَكِّلَ عِبْئًا عَلَيْهِمَا فِي السَّفَرِ. وَاسْتَخْدَمَا بَعْضَ أَعْوَادِ الْخَشَبِ الطَّافِيَةِ لِيُشْعِلَا النَّارَ، وَلَكِنَّهَا سُرْعَانَ مَا خَبَتْ بِسَبَبِ وُجُودِ الثُّلُوجِ وَاضْطُرَّا لِتَنَاوُلِ الْعَشَاءِ فِي الظَّلَامِ.
حَفَرَ باك حُفْرَةً لِيَنَامَ فِيهَا بِالْقُرْبِ مِنَ الْحَائِطِ الصَّخْرِيِّ، وَكَانَ يَنْعَمُ فِيهَا بِالدِّفْءِ الشَّدِيدِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يَتْرُكَهَا عِنْدَمَا وَزَّعَ فرانسوا الْأَسْمَاكَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ وَضَعَهَا فَوْقَ النَّارِ قَلِيلًا لِيَذُوبَ الثَّلْجُ مِنْ عَلَيْهَا. عِنْدَمَا انْتَهَى باك مِنْ تَنَاوُلِ طَعَامِهِ وَعَادَ إِلَى الْحُفْرَةِ لِيَنَامَ وَجَدَ كَلْبًا آخَرَ بِدَاخِلِهَا، وَعَرَفَ مِنَ الزَّمْجَرَةِ الَّتِي أَطْلَقَهَا مُحَذِّرًا إِيَّاهُ أَنَّهُ سبيتز. حَتَّى ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَانَ باك يَتَجَنَّبُ الْعِرَاكَ مَعَ عَدُوِّهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَعُدْ بِإِمْكَانِهِ أَنْ يَحْتَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، لَقَدْ ثَارَ الْوَحْشُ الَّذِي بِدَاخِلِهِ؛ فَقَفَزَ باك عَلَى سبيتز فِي غَضَبٍ جَامِحٍ أَذْهَلَ كُلًّا مِنْهُمَا، وَبِالْأَخَصِّ سبيتز الَّذِي كَانَ يَعْتَقِدُ مِنْ خِبْرَتِهِ مَعَ باك أَنَّهُ كَلْبٌ جَبَانٌ وَهَادِئٌ اسْتَطَاعَ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى مَرْكَزِهِ بَيْنَ الْكِلَابِ الْأُخْرَى فَقَطْ بِفَضْلِ وَزْنِهِ وَحَجْمِهِ الْكَبِيرَيْنِ.
انْدَهَشَ فرانسوا أَيْضًا عِنْدَمَا تَدَحْرَجَ الْكَلْبَانِ خَارِجَ الْحُفْرَةِ وَهُمَا يَتَشَاجَرَانِ، وَكَانَ بِإِمْكَانِهِ أَنْ يُخَمِّنَ سَبَبَ الْمُشَاجَرَةِ.
صَاحَ فرانسوا إِلَى باك: «آاااهِ! اضْرِبْهُ، اضْرِبْ هَذَا اللِّصَّ الْحَقِيرَ!»
وَكَانَ سبيتز عَلَى الْقَدْرِ نَفْسِهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ للقتال، فَقَدْ كَانَ يَصِيحُ فِي غَضَبٍ وَحَمَاسَةٍ وَهُوَ يُحَوِّمُ إِلَى الْأَمَامِ وَالْخَلْفِ مُنْتَظِرًا اللَّحْظَةَ الْمُنَاسِبَةَ لِيَنْقَضَّ عَلَى باك. وَكَانَ باك مُتَشَوِّقًا أَيْضًا لِلْمَعْرَكَةِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ حَذِرًا كَذَلِكَ وَهُوَ يُحَوِّمُ إِلَى الْأَمَامِ وَالْخَلْفِ، وَفِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ حَدَثَ شَيْءٌ غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ جَعَلَهُمَا يُؤَجِّلَانِ الْمَعْرَكَةَ.
فَقَدْ سَمِعُوا فَجْأَةً صِيَاحَ بيرو وَأَصْوَاتَ نُبَاحٍ هَادِرَةً. لَقَدِ امْتَلَأَ الْمُعَسْكَرُ فَجْأَةً بِحَيَوَانَاتٍ غَرِيبَةٍ، خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ كَلْبًا مِنْ كِلَابِ الهاسكي الَّتِي كَانَتْ تَتَضَوَّرُ جُوعًا، وَالَّتِي الْتَقَطَتْ رَائِحَةَ الْمُعَسْكَرِ مِنْ قَرْيَةٍ مُجَاوِرَةٍ. تَسَلَّلَتْ هَذِهِ الْكِلَابُ عِنْدَمَا كَانَ باك وسبيتز يَتَعَارَكَانِ، وَعِنْدَمَا قَفَزَ الرَّجُلَانِ وَسْطَ هَذِهِ الْكِلَابِ الْجَامِحَةِ، كَشَّرَتْ عَنْ أَنْيَابِهَا وَهَاجَمَتْهُمَا. لَقَدْ أَثَارَتْ رَائِحَةُ الطَّعَامِ جُنُونَهَا، وَوَجَدَ بيرو أَحَدَهَا يَأْكُلُ مِنَ الصُّنْدُوقِ الَّذِي يُخَزِّنَانِ فِيهِ كُلَّ الطَّعَامِ. فَطَارَدَهُ بيرو وَأَبْعَدَهُ عَنِ الصُّنْدُوقِ، وَلَكِنَّ الصُّنْدُوقَ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَسَارَعَتِ الْعَدِيدُ مِنَ الْكِلَابِ الْجَامِحَةِ لِلْوُصُولِ إِلَى الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ، وَكَانَتْ تَنْبَحُ وَتَعْوِي وَبيرو وَفرانسوا يُحَاوِلَانِ إِبْعَادَهَا عَنِ الطَّعَامِ.
وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ خَرَجَتْ كِلَابُ الْمُعَسْكَرِ الَّتِي تَجُرُّ الْمِزْلَجَةَ مِنَ الْحُفَرِ الَّتِي تَنَامُ فِيهَا وَهِيَ تَعْتَرِيهَا الدَّهْشَةُ، فَانْقَضَّتِ الْكِلَابُ الْجَامِحَةُ الَّتِي اجْتَاحَتِ الْمُعَسْكَرَ عَلَيْهَا. لَمْ يَرَ باك كِلَابًا مِثْلَ تِلْكَ قَطُّ فِي حَيَاتِهِ، فَقَدْ كَانَتْ نَحِيفَةً لِلْغَايَةِ لِدَرَجَةِ أَنَّهُ كَانَ بِإِمْكَانِهِ رُؤْيَةُ هَيَاكِلِهَا الْعَظْمِيَّةِ بَارِزَةً تَحْتَ جُلُودِهَا، وَكَانَ الشَّرَرُ يَنْبَعِثُ مِنْ عُيُونِهَا وَتُكَشِّرُ عَنْ أَنْيَابِهَا، لَقَدْ جَعَلَهَا الْجُوعُ مُرْعِبَةً لِلْغَايَةِ، وَكَانَ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يَصُدُّوا هُجُومَهَا. فِي الْجَوْلَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَعْرَكَةِ دَفَعَتِ الْكِلَابُ الْجَامِحَةُ كِلَابَ الْمُعَسْكَرِ نَحْوَ الْحَائِطِ الصَّخْرِيِّ، وَحَاوَلَ ثَلَاثَةٌ مِنْ كِلَابِ الهاسكي الِاشْتِبَاكَ مَعَ باك، وَكَانَ صَوْتُ الْمَعْرَكَةِ مُرْعِبًا، وَكَانَ بيلي يَصِيحُ، وَديف وَسوليكس يُقَاتِلَانِ بِشَجَاعَةٍ جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ، وَجو يَنْبَحُ كَوَحْشٍ هَائِجٍ، وَبايك يَرْكُضُ هُنَا وَهُنَاكَ مِنْ كَلْبٍ إِلَى آخَرَ. أَثَارَتِ الْمَعْرَكَةُ جُنُونَ باك وَحَمَاسَهُ، وَحَوَّلَتْهُ إِلَى كَلْبٍ شَرِسٍ. طَارَدَ باك أَحَدَ الْكِلَابِ وَأَبْعَدَهُ ثُمَّ شَعَرَ بِآخَرَ بِجَانِبِهِ؛ لَقَدْ كَانَ سبيتز يُحَاوِلُ أَنْ يَسْتَغِلَّ ظُرُوفَ الْمَعْرَكَةِ لِيُهَاجِمَهُ مَرَّةً أُخْرَى مِنَ الْجَانِبِ.
طَارَدَ بيرو وَفرانسوا الْكِلَابَ الْجَامِحَةَ حَتَّى أَخْرَجُوهَا مِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ الَّذِي يَخُصُّهُمَا مِنَ الْمُعَسْكَرِ، ثُمَّ انْدَفَعَا نَحْوَ كِلَابِهِمَا لِيُسَاعِدُوهَا. ابْتَعَدَتِ الْكِلَابُ الْجَامِحَةُ الَّتِي كَانَتْ تَتَضَوَّرُ جُوعًا، وَنَجَحَ باك فِي تَحْرِيرِ نَفْسِهِ. وَلَكِنْ مَا هِيَ إِلَّا لَحْظَةٌ وَاحِدَةٌ حَتَّى رَكَضَتِ الْكِلَابُ الْجَامِحَةُ نَحْوَ صُنْدُوقِ الطَّعَامِ مَرَّةً أُخْرَى وَجَرَى الرَّجُلَانِ لِيُنْقِذَاهُ، وَعِنْدَمَا أَبْعَدَا الْكِلَابَ عَنْهُ عَادَتْ لِتُهَاجِمَ الْقَطِيعَ مِنْ جَدِيدٍ. كَانَ بيلي مَرْعُوبًا لِلْغَايَةِ، فَاْسَتْجَمَعَ شَجَاعَتَهُ وَقَفَزَ مِنْ فَوْقِ حَلْقَةِ الْكِلَابِ الْجَامِحَةِ الَّتِي أَحَاطَتْ بِالْقَطِيعِ وَجَرَى بَعِيدًا فَوْقَ الثُّلُوجِ، وَتَبِعَهُ بايك وَداب، وَمِنْ وَرَائِهِمَا بَقِيَّةُ الْقَطِيعِ. وَبَيْنَمَا كَانَ باك يَسْتَعِدُّ لِيَقْفِزَ هُوَ الْآخَرُ لِيَلْحَقَ بِهِمْ، رَأَى بِطَرْفِ عَيْنَيْهِ سبيتز وَهُوَ يَنْدَفِعُ نَحْوَهُ لِيَطْرَحَهُ أَرْضًا، وَلَكِنَّهُ نَجَحَ فِي أَنْ يَبْتَعِدَ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَلْحَقَ بِبَقِيَّةِ كِلَابِ الْقَطِيعِ الَّتِي كَانَتْ تَعْبُرُ الْبُحَيْرَةَ الْمُتَجَمِّدَةَ.
وَبَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الْوَقْتِ، تَجَمَّعَتِ الْكِلَابُ التِّسْعَةُ الَّتِي كَانَتْ تَجُرُّ مِزْلَجَةَ بيرو وَفرانسوا وَبَحَثَتْ عَنْ مَأْوًى لَهَا فِي الْغَابَةِ. وَكَانَتِ الْكِلَابُ الشَّرِسَةُ قَدْ تَوَقَّفَتْ عَنْ مُطَارَدَتِهَا، وَلَكِنَّ كِلَابَ الْقَطِيعِ كَانَتْ تَشْعُرُ أَنَّهَا فِي حَالَةٍ مُزْرِيَةٍ، فَقَدْ كَانَتْ جَمِيعُهَا مُتْعَبَةً وَمُصَابَةً بِجُرُوحٍ مِنْ أَثَرِ الْمَعْرَكَةِ. وَعِنْدَ بُزُوغِ ضَوْءِ الْفَجْرِ، عَادَتِ الْكِلَابُ إِلَى الْمُعَسْكَرِ وَلَمْ يَجِدُوا أَثَرًا لِلْكِلَابِ الشَّرِسَةِ الَّتِي اجْتَاحَتْهُ، وَلَكِنَّ بيرو وَفرانسوا كَانَا غَاضِبَيْنِ، إِذْ فَقَدَا نِصْفَ مَخْزُونِهِمَا مِنَ الطَّعَامِ. وَالْتَهَمَتْ كِلَابُ الهاسكي أَجْزَاءً مِنَ السُّرُوجِ وَغِطَاءَ الْمِزْلَجَةِ، فَلَمْ يُفْلِتْ شَيْءٌ — مَهْمَا كَانَ تَنَاوُلُهُ صَعْبًا — مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهَا؛ فَقَدْ أَكَلَتْ حِذَاءَ بيرو الْجِلْدِيَّ، وَجُزْءًا قَدْرُهُ قَدَمَانِ تَقْرِيبًا مِنْ طَرْفِ السَّوْطِ الَّذِي يَسْتَخْدِمُهُ فرانسوا، فَقَدْ كَانَ يَتَأَمَّلُهُ فِي حُزْنٍ عِنْدَمَا وَصَلَتْ كِلَابُ الْمِزْلَجَةِ إِلَى الْمُعَسْكَرِ.
قَالَ فرانسوا بِرِقَّةٍ: «آهِ يَا أَصْدِقَائِي، هَلْ جُرِحْتُمْ؟ رُبَّمَا جُرُوحُهُمْ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَعُودُوا إِلَى جَرِّ الْمِزْلَجَةِ قَرِيبًا، مَا رَأْيُكَ يَا بيرو؟»
هَزَّ سَاعِي الْبَرِيدِ رَأْسَهُ بِالنَّفْيِ، فَلَا تَزَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ داوسون أَرْبَعُمِائَةِ مِيلٍ، وَلَيْسَ بِمَقْدُورِهِ أَنْ يَنْتَظِرَ. قَضَى الرَّجُلَانِ سَاعَتَيْنِ مِنَ الْعَمَلِ الشَّاقِّ الَّذِي تَخَلَّلَتْهُ الْعِبَارَاتُ الْغَاضِبَةُ لِإِصْلَاحِ السُّرُوجِ وَإِعَادَتِهَا إِلَى هَيْئَتِهَا السَّابِقَةِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَتْ كِلَابُ الْقَطِيعِ الْمَجْرُوحَةُ الرِّحْلَةَ، وَكَانَتْ تُجَاهِدُ فِي أَلَمٍ وَهِيَ تَقْطَعُ أَصْعَبَ جُزْءٍ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَقْطَعِ الْقَطِيعُ مِنْ قَبْلُ طَرِيقًا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الصُّعُوبَةِ، إِنَّهُ أَصْعَبُ جُزْءٍ فِي الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّي إِلَى داوسون.
كَانَ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنْ نَهْرِ يوكون وَالَّذِي يَمْتَدُّ لِثَلَاثِينَ مِيلًا هَائِلًا، وَلَمْ تَتَجَمَّدْ مِيَاهُهُ الْمُضْطَرِبَةُ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ جَلِيدٌ سِوَى فِي الْمَنَاطِقِ الضَّحْلَةِ بِالْقُرْبِ مِنْ حَافَتَيِ النَّهْرِ أَوْ فِي الْمَنَاطِقِ الْهَادِئَةِ الَّتِي كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَمَاسَكَ فِيهَا الثَّلْجُ. احْتَاجَ الْقَطِيعُ لِسِتَّةِ أَيَّامٍ مِنَ الْعَمَلِ الْمُضْنِي لِكَيْ يَقْطَعُوا الثَّلَاثِينَ مِيلًا الْمُرْهِقَةَ تِلْكَ. كُلُّ خُطْوَةٍ عَلَى الطَّرِيقِ كَانَتْ تُمَثِّلُ خَطَرًا جَدِيدًا لِلْكِلَابِ وَالرَّجُلَيْنِ، فَأَكْثَرُ مِنْ مَرَّةٍ يَتَحَطَّمُ الْجَلِيدُ الَّذِي يَمْشِي عَلَيْهِ بيرو مُتَقَدِّمًا الْفَرِيقَ وَيَقَعُ فِي الْمَاءِ. وَتُنْقِذُهُ الْعَصَا الطَّوِيلَةُ الَّتِي كَانَ يُمْسِكُ بِهَا حَتَّى تَسْقُطَ بِعَرْضِ الْحُفْرَةِ الَّتِي يَصْنَعُهَا جَسَدُهُ، وَلَكِنَّ بُرُودَةَ الْجَوِّ كَانَتْ تَزْدَادُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يَقَعُ فِيهَا بيرو فِي الْمَاءِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُشْعِلَ نَارًا حَتَّى تَجِفَّ مَلَابِسُهُ، وَإِلَّا تَجَمَّدَ جَسَدُهُ حَتَّى الْمَوْتِ.
لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ يُثِيرُ خَوْفَ بيرو أَوْ يُثَبِّطُ مِنْ عَزِيمَتِهِ، وَلِذَلِكَ اخْتَارَتْهُ الْحُكُومَةُ لِيَنْقُلَ الْمُرَاسَلَاتِ، فَقَدْ كَانَ يَتَعَرَّضُ لِكُلِّ أَنْوَاعِ الْمَخَاطِرِ، وَكَانَ يَتَقَدَّمُ الصُّفُوفَ وَسْطَ الصَّقِيعِ وَيَعْمَلُ بِجِدٍّ مُنْذُ بُزُوغِ الْفَجْرِ وَحَتَّى هُبُوطِ الظَّلَامِ. وَكَانَ يَحُثُّ الْقَطِيعَ عَلَى السَّيْرِ بِسُرْعَةٍ عِنْدَ طَبَقَاتِ الْجَلِيدِ الرَّفِيعَةِ.
وَذَاتَ مَرَّةٍ، تَحَطَّمَتْ طَبَقَةُ الْجَلِيدِ الَّتِي كَانَتْ تَسِيرُ الْمِزْلَجَةُ فَوْقَهَا وَوَقَعَ ديف وَباك فِي الْمَاءِ، كَانَا يَتَجَمَّدَانِ عِنْدَمَا أَخْرَجَهُمَا الرَّجُلَانِ مِنَ الْمَاءِ. فَأَشْعَلَ بيرو وَفرانسوا نَارًا لِتَدْفِئَتِهِمَا. وَكَانَ الثَّلْجُ يُغَطِّي جَسَدَ الْكَلْبَيْنِ فَجَعَلَاهُمَا يَرْكُضَانِ حَوْلَ النَّارِ حَتَّى يَعْرِقَا وَيَذُوبَ الثَّلْجُ عَنْهُمَا، كَانَا يَرْكُضَانِ عَلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ جِدًّا مِنَ النَّارِ حَتَّى إِنَّهَا لَسَعَتْ فِرَاءَهُمَا.
وَمَرَّةً أُخْرَى وَقَعَ سبيتز فِي الْمَاءِ، بَعْدَ أَنْ تَحَطَّمَ الْجَلِيدُ الَّذِي كَانَ يَسِيرُ فَوْقَهُ، وَجَرَّ كُلَّ مَنْ كَانَ وَرَاءَهُ حتَّى وَصَلَ إِلَى باك، وَلَكِنَّ باك ظَلَّ يُعَافِرُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْوَرَاءِ بِكُلِّ قُوَّتِهِ وَهُوَ يُمْسِكُ حَافةَ الْجَلِيدِ الزَّلِقَةِ بِحَوَافِرِ قَدَمَيْهِ الْأَمَامِيَّتَيْنِ وَالْجَلِيدُ يَهْتَزُّ وَيَتَكَسَّرُ مِنْ حَوْلِهِ. وَمِن خَلْفِ باك كَانَ ديف يُحَاوِلُ بِكُلِّ قُوَّتِهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْوَرَاءِ أَيْضًا، وَمِنْ خَلْفِ الْمِزْلَجَةِ كَانَ فرانسوا يَجْذِبُهُمَا إِلَى الْوَرَاءِ بِكُلِّ قُوَّتِهِ هُوَ الْآخَرُ.
نَجَحَ بيرو فِي الصُّعُودِ فَوْقَ جُرُفٍ صَخْرِيٍّ، وَاسْتَطَاعَ الرَّجُلَانِ أَنْ يَسْحَبَا الْكِلَابَ مِنَ الْمَاءِ مُسْتَخْدِمَيْنِ كُلَّ قِطْعَةٍ مِنَ الْحَبْلِ وَالسَّرْجِ مَجْدُولَيْنِ مَعًا. وَبِنَهَايَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَمْ يَكُنِ الْفَرِيقُ قَدْ قَطَعَ سِوَى رُبْعِ مِيلٍ.
عِنْدَمَا وَصَلُوا إِلَى نَهْرٍ يُعْرَفُ بِنَهْرِ هوتالينكوا — حَيْثُ كَانَتْ طَبَقَةُ الْجَلِيدِ أَكْثَرَ سُمْكًا — كَانَ باك مُنْهَكًا، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْكِلَابِ. وَلَكِنَّ بيرو جَعَلَهَا تَبْدَأُ رِحْلَتَهَا قَبْلَ مِيعَادِهَا الْمُعْتَادِ وَأَخَّرَ مِيعَادَ التَّوَقُّفِ حَتَّى يُعَوِّضَ الْوَقْتَ الَّذِي ضَاعَ. فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ قَطَعَ الْفَرِيقُ مَسَافَةً تُقَدَّرُ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا حَتَّى وَصَلَ إِلَى نَهْرِ سالمون الْكَبِيرِ، وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي قَطَعَ الْفَرِيقُ مَسَافَةً مُمَاثِلَةً حَتَّى بَلَغَ نَهْرَ سالمون الصَّغِيرَ. أَمَّا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، قَطَعَ الْفَرِيقُ أَرْبَعِينَ مِيلًا حَتَّى أَصْبَحُوا بِالْقُرْبِ مِنْ مَكَانٍ يُعْرَفُ بِاسْمِ فايف فنجرز.
لَمْ تَكُنْ أَقْدَامُ باك فِي مِثْلِ خُشُونَةِ أَقْدَامِ الْكِلَابِ الْأُخْرَى، فَقَدْ كَانَتْ أَقْدَامُهُ نَاعِمَةً مِنَ الْحَيَاةِ الرَّغْدَةِ الَّتِي كَانَ يَعِيشُهَا فِي بَيْتِ الْقَاضِي ميلر. ظَلَّ باك يَعْرُجُ طَوَالَ الْيَوْمِ، وَعِنْدَمَا يُخَيِّمُ الْفَرِيقُ كَانَ يَسْتَلْقِي وَكَأَنَّهُ نَائِمٌ. وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ يَتَضَوَّرُ جُوعًا، لَمْ يَكُنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْهَضَ وَيَمْشِيَ حَتَّى يَحْصُلَ عَلَى حِصَّتِهِ مِنَ الْأَسْمَاكِ الَّتِي كَانَ فرانسوا يَأْتِيهِ بِهَا. وَكَانَ فرانسوا يُدَلِّكُ أَقْدَامَ باك لِنِصْفِ سَاعَةٍ كُلَّ لَيْلَةٍ بَعْدَ الْعَشَاءِ، بَلْ وَقَطَعَ الْجُزْءَ الْعُلْوِيَّ مِنْ حِذَائِهِ الْجِلْدِيِّ لِيَصْنَعَ لِباك أَحْذِيَةً جِلْدِيَّةً صَغِيرَةً لِأَقْدَامِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَدْ أَرَاحَتْهُ تِلْكَ الْأَحْذِيَةُ كَثِيرًا. وَفِي أَحَدِ الْأَيَّامِ، اسْتَطَاعَ باك أَنْ يَنْتَزِعَ ابْتِسَامَةً مِنْ بيرو، عِنْدَمَا نَسِيَ فرانسوا الْأَحْذِيَةَ فَاسْتَلْقَى باك عَلَى ظَهْرِهِ وَأَخَذَ يُحَرِّكُ أَقْدَامَهُ فِي الْهَوَاءِ رَافِضًا أَنْ يَتَحَرَّكَ دُونَ أَنْ يَلْبَسَهَا. وَلَكِنْ بِمُرُورِ الْوَقْتِ فِي الرِّحْلَةِ، أَصْبَحَتْ أَقْدَامُ باك أَكْثَرَ صَلَابَةً مِنَ الرَّكْضِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَتَخْلَّصَ مِنَ الْأَحْذِيَةِ الْجِلْدِيَّةِ الْبَالِيَةِ.
وَفِي صَبَاحِ أَحَدِ الْأَيَّامِ، وَبَيْنَمَا كَانَتِ الْكِلَابُ تَرْتَدِي السُّرُوجَ، حَدَثَ شَيْءٌ غَرِيبٌ مِنْ كَلْبَةٍ تُدْعَى دوللي — وَالَّتِي لَمْ تَفْعَلْ شَيْئًا كَهَذَا مِنْ قَبْلُ — إِذْ فَقَدَتْ دوللي أَعْصَابَهَاَ بِشَكْلٍ مُفَاجِئٍ. فِي الْبِدَايَةِ أَطْلَقَتْ دوللي عُوَاءً طَوِيلًا وَحَزِينًا أَثَارَ الرُّعْبَ فِي نُفُوسِ الْكِلَابِ الْأُخْرَى، ثُمَّ قَفَزَتْ مُتَوَجِّهَةً نَحْوَ باك، لَمْ يَكُنْ باك قَدْ رَأَىَ مِنْ قَبْلُ كَلْبًا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ عَرَفَ أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا غَيْرَ طَبِيعِيٍّ وَرَكَضَ مُبْتَعِدًا فِي ذُعْرٍ. وَعَلَى الْفَوْرِ، بَدَأَ يَرْكُضُ بِسُرْعَةٍ وَمِنْ خَلْفِهِ دوللي الَّتِي كَانَتْ عَلَى بُعْدِ قَفْزَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ. كَانَ باك خَائِفًا لِلْغَايَةِ وَيَرْكُضُ بِسُرْعَةٍ حَتَّى إِنَّهَا لَمْ تَسْتَطِعِ اللِّحَاقَ بِهِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ غَاضِبَةً لِلْغَايَةِ — لَيْسَ لِسَبَبٍ سِوَى أَنَّهَا مُتْعَبَةٌ — فَلَمْ يَسْتَطِعْ باك أَنْ يُفْلِتَ مِنْهَا. رَكَضَ باك عَبْرَ أَشْجَارِ الْجَزِيرَةِ، وَعَبَرَ نَهْرًا صَغِيرًا مُمْتَلِئًا بِالْجَلِيدِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى جَزِيرَةٍ أُخْرَى، وَوَاصَلَ الرَّكْضَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى جَزِيرَةٍ ثَالِثَةٍ، ثُمَّ عَادَ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى النَّهْرِ الرَّئِيسِيِّ الَّذِي حَاوَلَ أَنْ يَعْبُرَهُ فِي يَأْسٍ. وَمِنْ بَعِيدٍ، نَادَاهُ فرانسوا فَجَرَى باك نَحْوَهُ وَدوللي لَا تَزَالُ عَلَى بُعْدِ قَفْزَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ. كَانَ باك يَلْهَثُ بِشِدَّةٍ وَوَضَعَ كُلَّ ثِقَتِهِ فِي الرَّجُلِ. وَكَانَ فرانسوا يُمْسِكُ حَبْلًا فِي يَدِهِ، وَبِمُجَرَّدِ أَنْ عَبَرَ باك مِنْ أَمَامِهِ أَوْقَعَ دوللي بِالْحَبْلِ وَحَمَلَهَا بَعِيدًا.
كَانَ باك مُنْهَكًا لِلْغَايَةِ، وَأَخَذَ يَتَرَنَّحُ أَمَامَ الْمِزْلَجَةِ وَهُوَ يَلْهَثُ لِالْتِقَاطِ أَنْفَاسِهِ وَفِي حَالَةٍ يُرْثَى لَهَا. وَكَانَتْ هَذِهِ فُرْصَةَ سبيتز؛ فَانْقَضَّ عَلَى باك وَحَاوَلَ أَنْ يَطْرَحَهُ أَرْضًا وَيَعَضَّهُ، وَكَانَ عَلَى فرانسوا أَنْ يَجْذِبَ سبيتز بَعِيدًا عَنْهُ.
قَالَ بيرو: «إِنَّ سبيتز هَذَا كَلْبٌ وَضِيعٌ، يَوْمًا مَا سَيَنَالُ مِنْ باك.»
فَرَدَّ عَلَيْهِ فرانسوا قَائِلًا: «إِنَّ باك هَذَا وَضِيعٌ أَكْثَرَ مِنْهُ، لَقَدْ كُنْتُ أُرَاقِبُهُ، وَأَنَا عَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ سَيَفْقِدُ صَوَابَهُ فِي إِحْدَى الْمَرَّاتِ، وَسَوْفَ يُمَزِّقُ سبيتز هَذَا إِرْبًا عَلَى الْجَلِيدِ.»