الْغَرِيمَانِ
مُنْذُ آخِرِ مَرَّةٍ تَعَارَكَا فِيهَا وَالْحَرْبُ مُشْتَعِلَةٌ بَيْنَ الْكَلْبَيْنِ. فَقَدْ كَانَ الْقَلَقُ يُسَاوِرُ سبيتز — وَهُوَ الْقَائِدُ وَزَعِيمُ الْقَطِيعِ — مِنْ أَنْ يَأْخُذَ هَذَا الْكَلْبُ الْجَنُوبِيُّ الْغَرِيبُ مَكَانَهُ. وَقَدْ كَانَ باك بِالْفِعْلِ غَرِيبًا بِالنِّسْبَةِ لَهُ، فَقَدْ قَابَلَ سبيتز الْكَثِيرَ مِنَ الْكِلَابِ الْجَنُوبِيَّةِ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يُظْهِرْ أَيُّ كَلْبٍ مِنْهَا الْقُوَّةَ سَوَاءً فِي الْمُعَسْكَرِ أَوْ أَثْنَاءِ رِحْلَاتِ السَّفَرِ، كَانَتْ جَمِيعُهَا ضَعِيفَةً لِلْغَايَةِ، لَمْ تَسْتَطِعْ تَحَمُّلَ الْعَمَلِ الشَّاقِّ وَالصَّقِيعِ وَالْجُوعِ. لَكِنَّ باك كَانَ مُخْتَلِفًا؛ فَكَانَ يُضَاهِي كِلَابَ الهاسكي فِي الْقُوَّةِ وَالْوَحْشِيَّةِ وَالدَّهَاءِ، كَانَ كَلْبًا عَظِيمًا وَمَا جَعَلَهُ يُمَثِّلُ خُطُورَةً أَكْبَرَ هُوَ أَنَّ تَجْرِبَتَهُ مَعَ الرَّجُلِ ذِي السُّتْرَةِ الْحَمْرَاءِ عَلَّمَتْهُ أَنْ يَتَحَكَّمَ فِي غَضَبِهِ وَأَنْ يَكُونَ صَبُورًا. كَانَ ذَكِيًّا وَجَعَلَتْهُ قُدْرَتُهُ عَلَى الِانْتِظَارِ عَلَى الْقَدْرِ نَفْسِهِ مِنَ الدَّهَاءِ كَأَكْثَرِ الْكِلَابِ شَرَاسَةً.
كُلُّ الْكِلَابِ كَانَتْ تَعْرِفُ أَنَّ رَحَى الْحَرْبِ سَوْفَ تَدُورُ بَيْنَ باك وَسبيتز عَلَى قِيَادَةِ الْقَطِيعِ، فَقَدْ كَانَ باك يُرِيدُ تِلْكَ الْمَنْزِلَةَ. لَقَدْ كَانَ يَشْعُرُ بِدَاخِلِهِ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الْفَخْرِ، وَهُوَ مَا شَعَرَتْ بِهِ كُلُّ الْكِلَابِ الْأُخْرَى الَّتِي كَانَتْ تُسَافِرُ مَعَهُ. كَانَ هَذَا الْفَخْرُ هُوَ الَّذِي يَدْفَعُهَا لِأَنْ تَعْمَلَ بِجِدٍّ وَأَلَّا تَسْتَسْلِمَ. وَذَلِكَ الْفَخْرُ هُوَ مَا كَانَ يُغَيِّرُ طَبِيعَةَ ديف وَسوليكس الْوَضِيعَةَ كُلَّ صَبَاحٍ وَيُحَوِّلُهُمَا مِنْ كَلْبَيْنِ مُتَجَهِّمَيْنِ وَخَبِيثَيْنِ إِلَى كَلْبَيْنِ طَمُوحَيْنِ وَمُتَحَمِّسَيْنِ، هَذَا الْفَخْرُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَدْفَعُهُمَا إِلَى الِاسْتِمْرَارِ كُلَّ يَوْمٍ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِسبيتز، فَقَدْ كَانَ هَذَا الْفَخْرُ هُوَ الَّذِي يَصْنَعُ مِنْهُ قَائِدًا، وَهُوَ أَيْضًا مَا يَحْدُوهُ إِلَى مُعَاقَبَةِ كُلِّ الْكِلَابِ الَّتِي لَا تُوَاكِبُ الْقَطِيعَ أَوْ تُحَاوِلُ أَنْ تَتَهَرَّبَ مِنَ الْعَمَلِ الشَّاقِّ، وَكَانَ هَذَا الْفَخْرُ أَيْضًا هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ يَخْشَى باك.
فَقَدْ كَانَ باك يُمَثِّلُ تَهْدِيدًا عَلَى سبيتز بِصِفَتِهِ قَائِدَ الْقَطِيعِ طَوَالَ الْوَقْتِ؛ إِذْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ مُعَاقَبَةِ الْكِلَابِ الَّتِي لَا تَعْمَلُ بِجِدٍّ. وَفِي إِحْدَى اللَّيَالِي تَسَاقَطَتِ الثُّلُوجُ بِغَزَارَةٍ، وَفِي الصَّبَاحِ لَمْ يَظْهِرْ بايك — الَّذِي لَمْ يَكُنْ يُحِبُّ الْعَمَلَ الشَّاقَّ قَطُّ — وَاخْتَبَأَ فِي حُفْرَتِهِ تَحْتَ طَبَقَةٍ مِقْدَارُهَا قَدَمٌ مِنَ الثَّلْجِ. نَادَى فرانسوا عَلَيْهِ وَأَخَذَ يَبْحَثُ عَنْهُ، فَاسْتَشَاطَ سبيتز غَضَبًا وَأَخَذَ يَطُوفُ الْمُعَسْكَرَ فِي غَضَبٍ يَشْتَمُّ الْجَلِيدَ وَيَحْفِرُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَكَانَ يُزَمْجِرُ بِصَوْتٍ عَالٍ حَتَّى إِنَّ بايك سَمِعَهُ مِنْ مَخْبَئِهِ وَكَانَ يَرْتَجِفُ مِنَ الرُّعْبِ.
وَلَكِنْ عِنْدَمَا وَجَدَهُ سبيتز وَحَاوَلَ أَنْ يُعَاقِبَهُ، قَفَزَ باك بَيْنَهُمَا وَدَفَعَ سبيتز إِلَى الْوَرَاءِ، وَكَانَ بايك يَرْتَجِفُ مِنَ الْخَوْفِ، وَلَكِنَّهُ حِينَمَا رَأَى مَا حَدَثَ شَعَرَ بِسَعَادَةٍ غَامِرَةٍ وَقَفَزَ عَلَى سبيتز. لَمْ يَعُدْ باك يَذْكُرُ مَعْنَى الْمَعْرَكَةِ الْعَادِلَةِ، فَانْقَضَّ هُوَ الْآخَرُ عَلَى سبيتز، وَلَكِنْ سُرْعَانَ مَا فَرَّقَهُمْ فرانسوا وَعَاقَبَ باك، فِي حِينِ عَاقَبَ سبيتز بايك.
كُلَّمَا اقْتَرَبَ الْقَطِيعُ أَكْثَرَ مِنْ داوسون، اسْتَمَرَّ باك فِي مَنْعِ سبيتز مِنْ مُعَاقَبَةِ الْكِلَابِ الْأُخْرَى، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِذَكَاءٍ إِذْ كَانَ يَنْتَظِرُ حِينَمَا يَبْتَعِدُ فرانسوا. بَدَأَ الْكَثِيرُ مِنَ الْكِلَابِ الْأُخْرَى — فِيمَا عَدَا ديف وَسوليكس — فِي الْخُرُوجِ عَنِ السَّيْطَرَةِ، وَلَمْ تَعُدِ الْأُمُورُ تَسِيرُ عَلَى مَا يُرَامُ؛ فَأَصْبَحَتِ الْكِلَابُ تَتَعَارَكُ طَوَالَ الْوَقْتِ وَتُسَبِّبُ الْمُشْكِلَاتِ، وَكَانَ باك هُوَ دَائِمًا السَّبَبُ، وَكَانَ يَنْجَحُ دَائِمًا فِي إِبْقَاءِ فرانسوا مَشْغُولًا. وَمِنْ جَانِبِهِ، كَانَ فرانسوا يَعْرِفُ أَنَّ مَعْرَكَةً شَرِسَةً سَتَدُورُ بَيْنَ باك وَسبيتز يَوْمًا مَا، وَكُلَّمَا سَمِعَ أَصْوَاتَ الشِّجَارِ بَيْنَ الْكِلَابِ ظَنَّ أَنَّهُمَا يَشْتَبِكَانِ مُجَدَّدًا.
وَلَكِنْ لَمْ تَسْنَحِ الْفُرْصَةُ أَمَامَهُمَا قَطُّ، وَوَصَلَ الْقَطِيعُ إِلَى داوسون بَعْدَ ظَهِيرَةِ أَحَدِ الْأَيَّامِ الْكَئِيبَةِ، وَلَا يَزَالُ الْجَمِيعُ يَتَرَقَّبُونَ الْمَعْرَكَةَ الْكُبْرَى. وَفِي داوسون، كَانَ هُنَاكَ الْكَثِيرُ مِنَ الرِّجَالِ وَعَدَدٌ لَا يُحْصَى مِنَ الْكِلَابِ كُلُّهُمْ يَعْمَلُونَ بِجِدٍّ. فَطَوَالَ النَّهَارِ كَانَتِ الْكِلَابُ تَجُرُّ الْمِزْلَجَاتِ فِي صُفُوفٍ طَوِيلَةٍ فَوْقَ الطَّرِيقِ الرَّئِيسِيِّ جِيئَةً وَذَهَابًا، وَفِي اللَّيْلِ كَانَ باك يَسْمَعُ رَنِينَ الْأَجْرَاسِ الْمُعَلَّقَةِ فِي رِقَابِ الْكِلَابِ وَهِيَ تَجْرِي. كَانَتِ الْكِلَابُ تَجُرُّ جُذُوعَ الشَّجَرِ اللَّازِمَةَ لِبِنَاءِ الْأَكْوَاخِ أَوْ إِشْعَالِ النَّارِ إِلَى الْمَنَاجِمِ، فَقَدْ كَانَتِ الْكِلَابُ تَقُومُ بِكَافَّةِ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَتْ تَقُومُ بِهَا الْخُيُولُ فِي مَنْزِلِ الْقَاضِي ميلر بِوَادِي سانتا كلارا. كَانَ باك يُقَابِلُ أَحْيَانًا بَعْضَ الْكِلَابِ الْجَنُوبِيَّةِ، وَلَكِنَّ أَغْلَبَهَا كَانَ مِنْ فَصِيلَةِ الهاسكي الَّتِي تَرَبَّتْ عَلَى هَذِهِ النَّوْعِيَّةِ مِنَ الْأَعْمَالِ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهَا. وَفِي كُلِّ لَيْلَةٍ، كَانَتِ الْكِلَابُ تُغَنِّي مَعًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فِي التَّاسِعَةِ ثُمَّ فِي الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ثُمَّ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، وَكَانَتِ الْأُغْنِيَةُ غَرِيبَةً وَغَيْرَ مَأْلُوفَةٍ، وَكَانَ باك يُحِبُّ مُشَارَكَتَهُمْ.
وَقَدْ بَدَتْ تِلْكَ الْأُغْنِيَةُ الَّتِي تُغَنِّيهَا كِلَابُ الهاسكي شَدِيدَةَ الْحُزْنِ فِي ظِلِّ أَضْوَاءِ الشَّمَالِ الَّتِي تَلُوحُ فِي الْأُفُقِ، وَالَّتِي تَبْدُو مِثْلَ أَلْسِنَةِ النَّارِ وَالنُّجُومِ الْمُتَلَأْلِئَةِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْمُتَجَمِّدَةِ تَحْتَ طَبَقَاتِ الثَّلْجِ؛ إِذْ كَانَتِ الْأُغْنِيَةُ تَتَخَلَّلُهَا صَيْحَاتٌ طَوِيلَةٌ وَشِبْهُ بُكَاءٍ. وَكَانَتْ تِلْكَ الْأُغْنِيَةُ أُغْنِيَةً قَدِيمَةً، وَاحِدَةٌ مِنْ أُولَى الْأُغْنِيَاتِ الَّتِي كَانَتْ كِلَابُ الهاسكي الْأَوَائِلُ تُغَنِّيهَا قَبْلَ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ. وَعِنْدَمَا كَانَ باك يَشْتَرِكُ مَعَهَا فِي الْغِنَاءِ، كَانَ يَشْعُرُ بِالْغُمُوضِ وَالْخَوْفِ الَّذِي يَبُثُّهُ الظَّلَامُ وَالثُّلُوجُ.
تَرَكَ الْقَطِيعُ داوسون بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ وَانْطَلَقَ فَوْقَ طَرِيقِ يوكون عَائِدًا مِنْ حَيْثُ بَدَأَ إِلَى وَادِي ديا وَمِنْطَقَةِ سولت ووتر. كَانَ بيرو هَذِهِ الْمَرَّةَ يَحْمِلُ مُرَاسَلَاتٍ أَكْثَرَ أَهَمِّيَّةً مِنْ تِلْكَ الَّتِي جَاءَ بِهَا إِلَى داوسون. وَكَانَ يَفْتَخِرُ بِعَمَلِهِ مِثْلَمَا كَانَتْ كِلَابُهُ تَفْتَخِرُ بِعَمَلِهَا؛ لِذَا قَرَّرَ أَنَّ الْفَرِيقَ سَيَقْطَعُ الرِّحْلَةَ فِي وَقْتٍ قِيَاسِيٍّ، وَكَانَتْ لَدَيْهِ الْعَدِيدُ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَجْعَلُهُ يُصَدِّقُ أَنَّ بِإِمْكَانِ كِلَابِهِ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ. فَالْأُسْبُوعُ الَّذِي ارْتَاحَتْ فِيهِ الْكِلَابُ سَاعَدَهَا عَلَى أَنْ تَسْتَرِدَّ عَافِيَتَهَا وَمَلَأَهَا بِالْقُوَّةِ وَالطَّاقَةِ. كَمَا أَصْبَحَ الطَّرِيقُ — الَّذِي كَاْنَ أَمْلَسَ لِلْغَايَةِ فِي رِحْلَةِ الذَّهَابِ — أَكْثَرَ صَلَابَةً بِفَضْلِ مُرُورِ الْفِرَقِ الْمُسَافِرَةِ الْأُخْرَى الَّتِي جَاءَتْ بَعْدَهُمْ، كَمَا قَرَّرَتْ شُرْطَةُ الشَّمَالِ الْغَرْبِيِّ أَنْ تَتْرُكَ الْغِذَاءَ وَالْمُؤَنَ لِلرِّجَالِ وَالْكِلَابِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ عَلَى الطَّرِيقِ، وَمِنْ ثَمَّ أَصْبَحَ الْفَرِيقُ يُسَافِرُ بِحِمْلٍ أَخَفَّ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُ فِي رِحْلَةِ الذَّهَابِ.
فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ قَطَعَتِ الْكِلَابُ خَمْسِينَ مِيلًا، وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي زَادَتْ مِنْ سُرْعَتِهَا عَلَى طَرِيقِ يوكون فِي طَرِيقِهَا إِلَى مَكَانٍ اسْمُهُ بيلي. وَلَكِنَّ السَّيْرَ بهَذِهِ السُّرْعَةِ جَلَبَ الْكَثِيرَ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ لِفرانسوا؛ فَقَدْ كَانَ باك يُسَبِّبُ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَتَاعِبِ، وَلَمْ تَعُدِ الْكِلَابُ تَجُرُّ الْمِزْلَجَةَ كَفَرِيقٍ وَاحِدٍ، كَمَا أَنَّهَا لَمْ تَعُدْ تَخْشَى سبيتز، فَقَدْ سَرَقَ مِنْهُ بايك نِصْفَ سَمَكَةٍ فِي إِحْدَى اللَّيَالِي وَأَكَلَهَا فِي ابْتِهَاجٍ تَحْتَ حِمَايَةِ باك، وَفِي لَيْلَةٍ أُخْرَى تَعَارَكَ داب وَجو مَعَ سبيتز وَاضْطُرَّ الْأَخِيرُ لِأَنْ يَسْتَسْلِمَ رُغْمَ أَنَّهُمَا كَانَا يَسْتَحِقَّانِ الْعِقَابَ. وَلَمْ يَكُنْ باك يَقْتَرِبُ مِنْ سبيتز دُونَ أَنْ يُزَمْجِرَ وَيَنْبَحَ مُتَوَعِّدًا، فِي الْحَقِيقَةِ، كَانَ باك يَتَصَرَّفُ كَالْمُتَنَمِّرِ.
وَنَظَرًا لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ قَائِدٌ وَاضِحٌ لِلْقَطِيعِ، زَادَتِ الْخِلَافَاتُ بَيْنَ الْكِلَابِ وَبَعْضِهَا، وَفِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ كَانَتْ أَصْوَاتُ النُّبَاحِ وَالزَّمْجَرَةِ تَمْلَأُ الْمُعَسْكَرَ. كَانَ ديف وَسوليكس هُمَا الْوَحِيدَانِ اللَّذَانِ بَقِيَا عَلَى حَالِهِمَا الَّذِي كَانَا عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ باك فِي إِثَارَةِ الْمُشْكِلَاتِ، وَلَكِنَّ الضَّجِيجَ كَانَ يُغْضِبُ الْكَلْبَيْنِ الْعَجُوزَيْنِ. وَكَانَ فرانسوا يَشْعُرُ بِالْغَضَبِ وَالْإِحْبَاطِ أَكْثَرَ مِنْهُمَا؛ إِذْ لَمْ يَعُدْ بِإِمْكَانِهِ أَنْ يُسَيْطِرَ عَلَى الْكِلَابِ. فَبِمُجَرَّدِ أَنْ يُدِيرَ لَهَا ظَهْرَهُ تَبْدَأُ فِي الشِّجَارِ مَرَّةً أُخْرَى. وَفِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ كَانَ باك يُسَاعِدُهُ فِي السَّيْطَرَةِ عَلَى الْكِلَابِ الْأُخْرَى، بِالرُّغْمِ مِنْ أَنَّ فرانسوا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ باك هُوَ السَّبَبُ فِي كُلِّ الْمَتَاعِبِ، وَلَكِنَّ باك كَانَ أَذْكَى مِنْ أَنْ يَدَعَ فرانسوا يُمْسِكُ بِهِ مُتَلَبِّسًا بِهَذِهِ الْجَرِيمَةِ. كَانَ باك يَعْمَلُ بِجِدٍّ فِي جَرِّ الْمِزْلَجَةِ، وَقَدْ أَصْبَحَ الْعَمَلُ مُمْتِعًا بِالنِّسْبَةِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَسْتَمْتِعُ أَكْثَرَ بِإِثَارَةِ الْخِلَافَاتِ بَيْنَ الْكِلَابِ وَتَعْقِيدِ كُلِّ الْأُمُورِ.
وَفِي إِحْدَى اللَّيَالِي بَعْدَ الْعَشَاءِ، عِنْدَ مَصَبِّ نَهْرِ تاهكينا، طَارَدَ داب أَرْنَبًا مِنْ أَرَانِب الثَّلْجِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعِ الْإِمْسَاكَ بِهِ، وَفِي ثَانِيَةٍ كَانَ الْقَطِيعُ كُلُّهُ يُطَارِدُ الْأَرْنَبَ مَعَهُ. وَعَلَى بُعْدِ مِائَةِ يَارْدَةٍ كَانَ هُنَاكَ مُعَسْكَرٌ لِشُرْطَةِ الشَّمَالِ الْغَرْبِيِّ فِيهِ خَمْسُونَ كَلْبًا مِنْ كِلَابِ الهاسكي الْخَاصَّةِ بِهِمْ وَالَّتِي انْضَمَّتْ جَمِيعُهَا لِلْمُطَارَدَةِ. رَكَضَ الْأَرْنَبُ عَلَى طُولِ النَّهْرِ، وَقَادَ باك الْقَطِيعَ الْمُكَوَّنَ مِنْ سِتِّينَ كَلْبًا، لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعِ اللِّحَاقَ بِالْأَرْنَبِ. شَعَرَ باك وَكَأَنَّهُ صَيَّادٌ مُحْتَرِفٌ، وَقَدْ أَحَبَّ هَذَا الشُّعُورَ، بَلْ وَشَعَرَ بِالْحَيَوِيَّةِ تَتَدَفَّقُ إِلَى عُرُوقِهِ كَمَا لَمْ يَشْعُرْ بِهَا مِنْ قَبْلُ.
وَلَكِنَّ سبيتز — الَّذِي كَانَ خَبِيثًا حَتَّى فِي الْمُطَارَدَاتِ — تَرَكَ الْقَطِيعَ وَسَلَكَ طَرِيقًا مُخْتَصَرًا عَبْرَ الْغَابَةِ. لَمْ يَكُنْ باك يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَبَيْنَمَا كَانَ يَنْعَطِفُ وَالْأَرْنَبُ لَا يَزَالُ أَمَامَهُ، رَأَى جَسَدًا آخَرَ يَنْقَضُّ مِنْ عَلَى تَلَّةٍ قَرِيبَةٍ. لَقَدْ كَانَ سبيتز، وَلَكِنَّ الْأَرْنَبَ نَجَحَ فِي الْفِرَارِ مِنْ جَانِبِهِ لِأَنَّ هَدَفَ سبيتز الْحَقِيقِيَّ كَانَ باك.
لَمْ يَصْرُخْ باك، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ أَيْضًا، بَلِ اصْطَدَمَ بِسبيتز بِقُوَّةٍ حَتَّى وَقَعَ الِاثْنَانِ، وَتَدَحْرَجَ الِاثْنَانِ وَسْطَ الثَّلْجِ. لَكِنَّ سبيتز هَبَّ وَاقِفًا بِسُرْعَةٍ كَمَا لَوْ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ.
عَلِمَ باك عَلَى الْفَوْرِ أَنَّ هَذِهِ هِيَ لَحْظَةُ الْمَعْرَكَةِ الْمُرْتَقَبَةِ. وَقَدْ بَدَا الْأَمْرُ بِرُمَّتِهِ مَأْلُوفًا بِالنِّسْبَةِ لِباك وَهُمَا يَدُورَانِ فِي حَلْقَاتٍ حَوْلَ بَعْضِهِمَا الْبَعْضِ وَيُزَمْجِرَانِ وَأُذُنَاهُمَا نَائِمَةٌ لِلْوَرَاءِ يَنْتَظِرَانِ فُرْصَةً لِلِانْقِضَاضِ. كَانَ كُلُّ شَيْءٍ سَاكِنًا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، وَالثُّلُوجُ تُغَطِّي الْغَابَةَ وَالْأَرْضَ. لَمْ يَتَحَرَّكْ أَيُّ شَيْءٍ. كَانَتْ أَنْفَاسُ الْكَلْبَيْنِ تَعْلُو بِبُطْءٍ فِي الْهَوَاءِ الْبَارِدِ، وَقَدْ وَقَفَتِ الْكِلَابُ الْأُخْرَى فِي حَلْقَةٍ تُحِيطُ بِهِمَا وَقَدْ خَيَّمَ عَلَيْهَا الصَّمْتُ هِيَ الْأُخْرَى وَلَمَعَتْ عُيُونُهَا وَارْتَفَعَ صَوْتُ أَنْفَاسِهَا. لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ جَدِيدًا أَوْ غَرِيبًا بِالنِّسْبَةِ لِباك، بَلْ شَعَرَ أَنَّهُ مِنَ الْمُفْتَرَضِ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ.
كَانَ سبيتز مُقَاتِلًا ذَكِيًّا، كَمَا كَانَتْ لَدَيْهِ الْخِبْرَةُ؛ فَبَدْءًا مِنْ سبيتسبيرجين (حَيْثُ وُلِدَ) وَعَبْرَ الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ وَكَنَدَا وَالْأَرَاضِي الْقَاحِلَةِ، كَانَ قَدْ نَجَحَ فِي الْحِفَاظِ عَلَى مَكَانَتِهِ وَالْإِمْسَاكِ بِزِمَامِ السَّيْطَرَةِ أَمَامَ كُلِّ كَلْبٍ قَابَلَهُ، وَهَزَمَهُمْ جَمِيعًا.
حَاوَلَ باك أَنْ يَعَضَّ سبيتز وَلَكِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْإِمْسَاكَ بِهِ، فَقَدْ كَانَ سبيتز يَصُدُّهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، كَمَا حَاوَلَ باك أَنْ يَنْقَضَّ عَلَى سبيتز أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَحَاوَلَ أَنْ يَدْفَعَ بِكَتِفِهِ كَتِفَ سبيتز وَيَطْرَحَهُ أَرْضًا. وَلَكِنْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَاوَلَ فِيهَا باك ذَلِكَ كَانَ سبيتز يَقْفِزُ بِرَشَاقَةٍ مُبْتَعِدًا وَيَعَضُّ باك وَهُوَ يَمُرُّ.
كَانَ الْقِتَالُ يَزْدَادُ عُنْفًا، وَكَانَتِ الْكِلَابُ الْأُخْرَى تَنْتَظِرُ لِتَقْفِزَ عَلَى الْكَلْبِ الَّذِي سَيَسْقُطُ أَوَّلًا. وَبَدَأَ باك يَشْعُرُ بِالتَّعَبِ وَبَدَأَ سبيتز يَنْدَفِعُ نَحْوَهُ. وَفِي إِحْدَى الْمَرَّاتِ، أَوْشَكَ باك عَلَى الْوُقُوعِ وَتَحَرَّكَتِ الدَّائِرَةُ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْ سِتِّينَ كَلْبًا مُقْتَرِبَةً مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ سُرْعَانَ مَا هَبَّ وَاقِفًا عَلَى قَدَمَيْهِ، فَعَادَتِ الْكِلَابُ الْأُخْرَى تَجْلِسُ وَتَنْتَظِرُ مَا سَيَحْدُثُ.
كَانَ باك يَتَمَتَّعُ بِسِمَةٍ تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ بَدَأَ يَكْتَشِفُهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ أَلَا وَهِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّخَيُّلِ. فَكَانَ يُقَاتِلُ بِغَرِيزَتِهِ، وَلَكِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ الْقِتَالُ بِعَقْلِهِ أَيْضًا. فَكَانَ يَنْدَفِعُ إِلَى الْأَمَامِ، كَمَا لَوْ أَنَّهُ سَيُحَاوِلُ اسْتِخْدَامَ حِيلَةِ الْكَتِفِ الَّتِي فَشِلَتْ مِنْ قَبْلُ، وَلَكِنْ عِنْدَ آخِرِ لْحَظَةٍ انْحَنَى وَاقْتَرَبَ مِنْ سبيتز وَأَمْسَكَ بِسَاقَيْهِ الْأَمَامِيَّتَيْنِ بِأَسْنَانِهِ وَأَوْشَكَ أَنْ يَطْرَحَهُ أَرْضًا. وَكَانَ سبيتز يُكَافِحُ لِمُجَارَاتِهِ، وَرَأَى حَلْقَةَ الْكِلَابِ الصَّامِتَةِ وَالْعُيُونَ اللَّامِعَةَ تَقْتَرِبُ مِنْهُ بِالطَّرِيقَةِ نَفْسِهَا الَّتِي رَأَى بِهَا دَوَائِرَ مُمَاثِلَةً تُغْلَقُ عَلَى كِلَابٍ أُخْرَى فِي السَّابِقِ. وَلَكِنْ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ كَانَ هُوَ الْكَلْبَ الَّذِي ضُرِبَ.
لَمْ يَكُنْ باك لِيَتَوَقَّفَ، فَقَدِ اسْتَعَدَّ لِلِاْنَقِضَاضَةِ الْأَخِيرَةِ، وَكَانَتْ دَائِرَةُ الْكِلَابِ قَدِ اقْتَرَبَتْ بِشِدَّةٍ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَشْعُرُ بِأَنْفَاسِ الْكِلَابِ عَلَى ظَهْرِهِ وَكَانَ يَرَاهُمْ خَلْفَ سبيتز عَلَى الْجَانِبَيْنِ، مُسْتَعِدِّينَ لِلِانْقِضَاضِ عَلَيْهِ وَيُرَاقِبُونَهُ. تَجَمَّدَ كُلُّ حَيَوَانٍ مِنْهُمْ فِي مَكَانِهِ وَكَأَنَّهُ تَحَوَّلَ إِلَى حَجَرٍ. كَانَ سبيتز الْوَحِيدَ الَّذِي يَنْتَفِضُ وَيَرْتَجِفُ وَهُوَ يَقِفُ مُتَرَنِّحًا عَلَى قَدَمَيْهِ الْمَجْرُوحَتَيْنِ. ثُمَّ انْقَضَّ عَلَيْهِ باك وَأَخِيرًا نَفَّذَ ضَرْبَةَ الْكَتِفِ وَأَطَاحَ بِسبيتز وَطَرَحَهُ أَرْضًا. انْقَضَّتْ عَلَيْهِ الْكِلَابُ الْأُخْرَى بِدَوْرِهَا وَهِيَ تَنْبَحُ بِصَوْتٍ عَالٍ وَتَعَضُّ سبيتز حَتَّى اضْطُرَّ لِلرَّكْضِ بَعِيدًا عَلَى الثُّلُوجِ إِلَى قَلْبِ الظَّلَامِ. وَقَفَ باك وَرَاقَبَهُ وَهُوَ يَهْرُبُ؛ لَقَدْ أَصْبَحَ الْبَطَلَ، الْكَلْبَ الْأَقْوَى، لَقَدَ هَزَمَ خَصْمَهُ، وَشَعَرَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَمْنَحُهُ شُعُورًا رَائِعًا.
•••
«أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّ باك أَكْثَرُ دَهَاءً مِنْ سبيتز.» هَكَذَا قَالَ فرانسوا فِي الصَّبَاحِ التَّالِي عِنْدَمَا وَجَدَ سبيتز مَفْقُودًا وَرَأَى لَدَى باك جُرُوحًا مِنْ آثَارِ الْقِتَالِ. فَأَخَذَ باك بِالْقُرْبِ مِنَ النَّارِ وَأَشَارَ إِلَى جُرُوحِهِ عَلَى الضَّوْءِ الْمُنْبَعِثِ مِنْهَا.
قَالَ بيرو وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى الْجُرُوحِ وَآثَارِ الْعَضِّ عَلَى جَسَدِ باك: «سبيتز هَذَا يُقَاتِلُ بِضَرَاوَةٍ.»
فَأَجَابَهُ فرانسوا: «وَباك هَذَا يُقَاتِلُ بِضَرَاوَةٍ أَكْثَرَ، وَالْآنَ سَنَتَقَدَّمُ بِسُرْعَةٍ أَكْبَرَ؛ فَعَدَمُ وُجُودِ سبيتز يَعْنِي عَدَمَ وُجُودِ مُشْكِلَاتٍ. أَنَا وَاثِقٌ بِهَذَا.»
بَيْنَمَا كَانَ بيرو يَحْزِمُ الْمُخَيَّمَ وَيَضَعُ الْحُمُولَةَ عَلَى الْمِزْلَجَةِ، بَدَأَ فرانسوا فِي تَجْهِيزِ الْكِلَابِ بِالسُّرُوجِ. سَارَ باك إِلَى مَكَانِ سبيتز السَّابِقِ، وَلَكِنَّ فرانسوا كَانَ قَدْ جَلَبَ سوليكس إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ عِوَضًا عَنْهُ؛ إِذْ رَأَى فرانسوا أَنَّ سوليكس سَيَكُونُ الْقَائِدَ الْأَفْضَلَ الْآنَ؛ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ خِبْرَةً. وَلَكِنَّ باك قَفَزَ عَلَى سوليكس وَأَزَاحَهُ إِلَى الْوَرَاءِ وَوَقَفَ مَكَانَهُ.
صَاحَ فرانسوا وَهُوَ يَضْرِبُ فَخِذَيْهِ بِمَرَحٍ: «مَا هَذَا؟ انْظُرْ إِلَى باك، لَقَدْ طَرَدَ سبيتز وَالْآنَ يَظُنُّ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَخْذَ مَكَانِهِ. اذْهَبْ، ابْتَعِدْ عَنِ الطَّرِيقِ!» صَاحَ فرانسوا عَلَى باك وَلَكِنَّ الْكَلْبَ رَفَضَ أَنْ يَتَزَحْزَحَ مِنْ مَكَانِهِ.
أَطْلَقَ فرانسوا ضِحْكَةً أَعْلَى عِنْدَمَا رَأَى مِقْدَارَ الْعِنْدِ الَّذِي يَتَمَتَّعُ بِهِ باك، وَنَادَى عَلَى بيرو وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى باك الَّذِي تَجَمَّدَ فِي مَكَانِهِ وَكَأَنَّهُ تَمْثَالٌ: «يَا بيرو، مَا هَذَا الْكَلْبُ؟»
قَالَ بيرو: «كَلْبٌ جَيِّدٌ.»
قَالَ فرانسوا: «حَسَنًا، أَخْبِرْهُ أَنْتَ أَنْ يَتَنَحَّى إِذَنْ، أَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ يُرِيدُ الِاسْتِمَاعَ إِلَيَّ.»
قَالَ بيرو وَهُوَ يَضْحَكُ: «وَلَا أَنَا أَيْضًا.»
وَفِي النِّهَايَةِ، تَعِبَ فرانسوا مِنَ الِانْتِظَارِ، فَأَمْسَكَ باك مِنْ مُؤَخِّرَةِ عُنُقِهِ — وَرُغْمَ تَذَمُّرِهِ — أَزَاحَهُ فرانسوا إِلَى الْجَانِبِ وَوَضَعَ سوليكس فِي مَكَانِ الْقَائِدِ. لَمْ يُحِبَّ سوليكس الْأَمْرَ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يَخَافُ مِنْ باك.
كَانَ فرانسوا قَدِ اتَّخَذَ قَرَارَهُ، وَلَكِنْ عِنْدَمَا أَدَارَ ظَهْرَهُ، طَرَدَ باك سوليكس مُجَدَّدًا مِنْ مَكَانِ الْقَائِدِ، وَكَانَ سوليكس مُتَلَهِّفًا لِلتَّخَلِّي عَنْ هَذَا الْمَكَانِ، فَاسْتَشَاطَ فرانسوا غَضَبًا.
صَاحَ فرانسوا: «سَأَقُومُ بِتَأْدِيبِكَ» وَاتَّجَهَ نَحْوَ باك مُمْسِكًا بِحَبْلٍ فِي يَدِهِ.
تَذَكَّرَ باك الرَّجُلَ ذَا السُّتْرَةِ الْحَمْرَاءِ وَتَرَاجَعَ بِبُطْءٍ. لَمْ يُحَاوِلْ إِقْحَامَ نَفْسِهِ عِنْدَمَا وَضَعَ فرانسوا سوليكس فِي مَوْقِعِ الْقَائِدِ. دَارَ باك لِيَكُونَ بَعِيدًا عَنْ مُتَنَاوَلِ فرانسوا وَأَخَذَ يُزَمْجِرُ، وَكَانَتْ عَيْنَاهُ تُرَاقِبَانِ الْحَبْلَ وَهُوَ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً دَائِرِيَّةً حَتَّى يَسْتَطِيعَ تَفَادِيهُ إِذَا اسْتَخْدَمَهُ فرانسوا؛ فَلَقَدْ أَصْبَحَ باك حَكِيمًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحِبَالِ. تَابَعَ فرانسوا عَمَلَهُ وَنَادَى عَلَى باك عِنْدَمَا كَانَ مُسْتَعِدًّا لِوَضْعِهِ فِي مَكَانِهِ الْقَدِيمِ أَمَامَ ديف. تَرَاجَعَ باك خُطْوَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَتَبِعَهُ فرانسوا، فَتَرَاجَعَ باك مَرَّةً أُخْرَى، وَبَعْدَ عِدَّةِ مُحَاوَلَاتٍ، أَلْقَى فرانسوا الْحَبْلَ حَتَّى يُبَرْهِنَ لِباك أَنَّهُ لَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَلَكِنَّ باك لَمْ يَكُنْ يَنْوِي الْعَوْدَةَ إِلَى مَكَانِهِ الْقَدِيمِ. لَقَدْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِدَ، فَقَدِ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ، وَلَمْ تَكُنْ أَيُّ مَكَانَةٍ أُخْرَى أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ تُسْعِدُهُ.
انْضَمَّ بيرو لِفرانسوا لِيُسَاعِدَهُ، وَظَلَّ الِاثْنَانِ يَرْكُضَانِ هُنَا وَهُنَاكَ لِمُدَّةِ سَاعَةٍ تَقْرِيبًا، فَكَانَا يُلْقِيَانِ بِالْحِبَالِ نَحْوَ باك وَلَكِنَّهُ يُرَاوِغُهَا، وَيَصْرُخَانِ فِي وَجْهِهِ، فَيَنْبَحُ فِي وَجْهَيْهِمَا وَيَحْرِصُ عَلَى الْبَقَاءِ بَعِيدًا عَنْ أَيْدِيهِمَا. لَمْ يُحَاوِلْ باك الْهُرُوبَ وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَرَاجَعُ وَيَدُورُ فِي أَرْجَاءِ الْمُخَيَّمِ لِيُرِيَهُمَا أَنَّهُ عِنْدَمَا يُعْطِيَانِهِ مَا يُرِيدُ سَيَعُودُ وَيُحْسِنُ التَّصَرُّفَ.
جَلَسَ فرانسوا وَحَكَّ رَأْسَهُ، بَيْنَمَا نَظَرَ بيرو إِلَى سَاعَتِهِ وَشَعَرَ بِالْغَضَبِ، فَقَدْ كَانَ الْوَقْتُ يَمُرُّ بِسُرْعَةٍ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْطَلِقُوا فِي طَرِيقِهِمْ قَبْلَ سَاعَةٍ. حَكَّ فرانسوا رَأْسَهُ مُجَدَّدًا ثُمَّ هَزَّهَا وَابْتَسَمَ ابْتِسَامَةً عَرِيضَةً لِبيرو الَّذِي هَزَّ كَتِفَيْهِ. فَقَدْ هُزِمَ الرَّجُلَانِ. ثُمَّ ذَهَبَ فرانسوا إِلَى سوليكس وَنَادَى عَلَى باك، فَضَحِكَ باك، كَمَا تَضْحَكُ الْكِلَابُ، وَلَكِنَّهُ بَقِيَ بَعِيدًا. أَعَادَ فرانسوا سوليكس إِلَى مَكَانِهِ الْقَدِيمِ مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ نَادَى عَلَى باك ثَانِيَةً، وَمَرَّةً أُخْرَى ضَحِكَ باك وَبَقِيَ بَعِيدًا.
قَالَ بيرو: «أَلْقِ الْحَبْلَ بَعِيدًا.»
نَفَّذَ فرانسوا ذَلِكَ، فَهَرْوَلَ باك مُقْتَرِبًا يَضْحَكُ كَبَطَلٍ مُنْتَصِرٍ، وَأَخَذَ مَكَانَهُ فِي مُقَدِّمَةِ الْفَرِيقِ. رَبَطَ الرَّجُلَانِ باك إِلَى السَّرْجِ ثُمَّ حَرَّرُوا الْمِزْلَجَةَ مِنَ الثَّلْجِ. رَكَضَ الرَّجُلَانِ بِجَانِبِ الْمِزْلَجَةِ الَّتِي بَدَأَتْ تَشُقُّ طَرِيقَهَا.
لقد أَثْبَتَ باك أَنَّهُ قَائِدٌ عَظِيمٌ، بَلْ وَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ سبيتز الَّذِي ظَنَّ فرانسوا أَنَّهُ أَفْضَلُ مَنْ رَأَى فِي حَيَاتِهِ.
لَمْ يُمَانِعْ ديف وَسوليكس التَّغْيِيرَ الَّذِي طَرَأَ عَلَى مَوْقِعِ الْقِيَادَةِ، فَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ يَعْنِيهِمَا. كُلُّ مَا كَانَا يُرِيدَانِهِ هُوَ الْعَمَلُ وَالْعَمَلُ الْجَادُّ. طَالَمَا لَمْ يُزْعِجْ أَحَدٌ عَمَلَهُمَا، لَمْ يَهْتَمَّا بِمَا يَحْدُثُ. إِلَّا أَنَّ بَاقِيَ الْفَرِيقِ كَانَ قَدْ أَصْبَحَ خَارِجًا عَنِ السَّيْطَرَةِ، وَحَتَّى هُمَا انْدَهَشَا مِنْ سُرْعَةِ باك فِي إِعَادَتِهِمْ لِلنِّظَامِ.
بايك، الَّذِي كَانَ مَوْقِعُهُ خَلْفَ باك، وَالَّذِي لَمْ يَكُنْ يَقُومُ بِأَيِّ عَمَلٍ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ، عُوقِبَ بِسُرْعَةٍ عَلَى عَدَمِ عَمَلِهِ بِقُوَّةٍ كَافِيَةٍ. وَقَبْلَ نِهَايَةِ الْيَوْمِ كَانَ يَجُرُّ الْمِزْلَجَةَ بِقُوَّةٍ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ فِي حَيَاتِهِ كُلِّهَا.
بَدَأَ الْفَرِيقُ كُلُّهُ يَشْعُرُ أَنَّهُ أَفْضَلُ، فَكَانُوا يَعْمَلُونَ كَفَرِيقٍ وَاحِدٍ مُجَدَّدًا. وَعِنْدَ مُنْحَدَرِ نَهْرِ رينك، أُضِيفَ كَلْبَانِ آخَرَانِ مِنْ كِلَابِ الهاسكي — هُمَا تيك وَكونا — وَقَدْ نَجَحَ باك فِي إِدْخَالِهِمَا إِلَى مَنْظُومَةِ الْعَمَلِ بِسُرْعَةٍ أَذْهَلَتْ فرانسوا.
صَاحَ فرانسوا: «لَمْ يُوجَدْ قَطُّ كَلْبٌ مِثْلُ باك! أَبَدًا! إِنَّهُ يُسَاوِي أَلْفَ دُولَارٍ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ مَا رَأْيُكَ يَا بيرو؟»
أَوْمَأَ بيرو مُوَافِقًا، فَقَدْ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَنِ الْجَدْوَلِ آنَذَاكَ وَيَكْسِبُ مَزِيدًا مِنَ الْوَقْتِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ. كَانَ الطَّرِيقُ فِي حَالَةٍ مُمْتَازَةٍ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ثَلْجٌ جَدِيدٌ، كَمَا لَمْ يَكُنْ الْجَوُّ شَدِيدَ الْبُرُودَةِ. تَنَاوَبَ الرَّجُلَانِ عَلَى قِيَادَةِ الْمِزْلَجَةِ وَالرَّكْضِ بِجَانِبِهَا.
كَانَ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنْ نَهْرِ يوكون الَّذِي يَمْتَدُّ لِثَلَاثِينَ مِيلًا مُغَطًّى بِالْجَلِيدِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَفِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَطَعَ الْفَرِيقُ الْمَسَافَةَ نَفْسَهَا الَّتِي قَطَعَهَا فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي رِحْلَةِ الذَّهَابِ. وَفِي رِحْلَةٍ وَاحِدَةٍ قَطَعُوا سِتِّينَ مِيلًا مِنْ بُحَيْرَةِ لوبارج إِلَى مُنْحَدَرَاتِ وايت هورس. وَرَكَضُوا بِسُرْعَةٍ هَائِلَةٍ عَبْرَ بُحَيْرَاتِ مارش وَتاجيش وَبينيت حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَتَعَيَّنُ عَلَى الرَّجُلِ الَّذِي يَحِينُ دَوْرُهُ فِي الرَّكْضِ بِجَانِبِ الْمِزْلَجَةِ أَنْ يُمْسِكَ حَبْلًا مَرْبُوطًا فِي الْمِزْلَجَةِ. وَفِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنَ الْأُسْبُوعِ الثَّانِي، وَصَلُوا إِلَى مِنْطَقَةِ الْمَمَرِّ الْأَبْيَضِ، وَكَانَ يُمْكِنُهُمْ رُؤْيَةُ أَضْوَاءِ بَلْدَةِ سكاجوي مِنْ عَلَى بُعْدٍ.
كَانَتْ رِحْلَةٌ فِي وَقْتٍ قِيَاسِيٍّ؛ فَفِي كُلِّ يَوْمٍ لِمُدَّةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا كَانُوا يَرْكُضُونَ مَسَافَةَ أَرْبَعِينَ مِيلًا فِي الْمُتَوَسِّطِ. وَلِمُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى بَلْدَةِ سكاجوي، ظَلَّ بيرو وَفرانسوا يَحْتَفِلَانِ فِي الشَّارِعِ الرَّئِيسِيِّ، وَعَرَضَ الْجَمِيعُ أَنْ يَدْعُوهُمْ لِتَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، بَيْنَمَا كَانَ فَرِيقُ الْكِلَابِ مَحَلَّ نَظَرَاتِ حَشْدٍ مِنْ سَائِقِي الْكِلَابِ الَّذِينَ تَأَمَّلُوهُمْ بِإِعْجَابٍ.