الحياة بمحض الصدفة
كان يعود إليها المرة تلو الأخرى، يعود لزيارتها خلال كتابة روايته الأولى، ثم بعد أن أصبح مواطنًا فخريًّا لها، كما كان يعود للكتابة عنها: دانتسج، المدينة التي ولد بها.
كانت دانتسج — التي تُسمَّى اليوم جدانسك وتقع في بولندا — خاضعة للرايخ الألماني حتى نهاية الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٩م، ثم أصبحت من عام ١٩٢٠م مدينة حرة، قبل أن تغدو جزءًا من «الرايخ الثالث» في عام ١٩٣٩م. هناك، في «المدينة الحرة»، وُلِد جونتر جراس في السادس عشر من أكتوبر عام ١٩٢٧م لأب بروتستانتي، وأم كاثوليكية متدينة كانت حريصة على تربية ابنها تربية دينية ملتزمة. كان الأب فيلهلم جراس يملك محل بقالة، مثل ألفريد ماتسرات والد القزم أوسكار في «طبل الصفيح»، وكان، مثله، يَتودَّد إلى السلطات النازية، إما عن انتهازية أو عن اقتناع. أما الأم هلينه فكانت أهم إنسان في حياته. كانت تؤمن به وبِتفرُّد مواهبه، لكن العمر لم يمتد بها لترى ثمار تلك المواهب؛ إذ تُوفِّيَت عام ١٩٥٤م بمرض السرطان، قبل عامين من صدور أول أعماله، ديوان «مزايا دجاج الريح».
يتحدث جراس بسخرية عن «عقدة الأم» التي حرر نفسه منها لاحقًا، ويقول إنه كان يشعر بأمه تُطِلُّ من وراء كتفيه عندما يهم بالكتابة، مبدية رضاها أو امتعاضها، بل إنه حذف أحيانًا بعض الكلمات من «طبل الصفيح» كي لا يجرح مشاعر هلينه جراس. وعندما رأت الأم رسوماته الأولى بعد الحرب انتابها الفزع «لبشاعتها وقبحها»، فسألته: «ألا تستطيع أن ترسم صورة جميلة بالألوان الزيتية؟» وبالفعل استعار الابن ألوانًا زيتية من أحد أصدقائه، ورسمَ، لأول وآخر مرة في حياته، صورة زيتية لباقة زهور، أهداها فيما بعد إلى هلينه. وظلت الأم تطل من وراء كتفيه أثناء الكتابة، غير أنه — كما يذكر في سيرته — لم يصغِ إليها إلا نادرًا.
كثير من تفاصيل الحياة اليومية التي عاشها جراس في ضاحية لانجفور في دانتسج، يستطيع القارئ مطالعتها في سيرته الذاتية «أثناء تقشير البصلة»، وكذلك في «طبل الصفيح»: الشقة الضيقة المكوَّنَة من غرفتين ومطبخ والتي تخلو من حمَّام، ومحل البقالة الذي يديره الأب، والتدين الشكلي للأم، وصورة هتلر المُعلَّقة على الجدار بجانب جهاز الراديو، وانسياق الناس التدريجي وراء الأيديولوجية النازية.
يقول جراس في سيرته إن طفولته انتهت فجأة بالهجوم على مبنى البريد البولندي في المدينة القديمة بدانتسج. عندئذ «بدأت الحرب التي أطلقوا عليها فيما بعد الحرب العالمية الثانية». لم يكن قد بلغ الثانية عشرة من عمره بعد، وكانت اهتماماته تنحصر في القراءة وجمع البطاقات الصغيرة المطبوع عليها أشهر اللوحات الفنية في أوروبا، تلك البطاقات التي كانت تُوزَّع مع علب السجائر التي تدخنها الأم أو التي يشتريها الزبائن من بقالة الأب، ومن هذه البطاقات استمَدَّ ثقافته الفنية.
أصبح الأب في عام ١٩٣٦م عضوًا في الحزب النازي، وفي العام التالي انضم جراس إلى «شبيبة هتلر». سار جراس مع التيار — هل نقول: انجرف؟ — وكان منبهرًا بالنازية، مؤمنًا حتى آخر أيام الحرب ﺑ «النصر النهائي» للألمان. كان مصابًا بالعمى، على حد تعبيره، فلم يَرَ أي ظلم يقع على المعارِضِين السياسيين أو على أعداء النظام النازي. يقول جراس في سيرته: «تَركْنا أنفسنا، تركتُ نفسي لإغواء النازية.»
خلال «تقشير البصلة» يلوم جراس نفسه كثيرًا؛ لأنه لم يرفع صوته بالاحتجاج، ولم يتعلم طرح الأسئلة. لم يوجه أسئلة عندما اختفى يهود كان يعرفهم، ولم يتساءل عن سبب تَوقُّف خاله عن زيارتهم، قبل أن يعرف أنه قُتل وهو يدافع عن مبنى البريد البولندي، كما ابتلع تساؤلاته عندما اختفى المعلم الذي كان يطلق على الشعب الألماني «قطيعًا من الخِرفان». وعندما تعرَّف إلى جندي ممتنع عن أداء الخدمة العسكرية، لم يتساءل عن سبب رفضه الإمساك بالسلاح أو إطلاق الرصاص. لم يتوقف هذا الرافض وغير المندمِج عن ترديد عبارته الأثيرة: «نحن لا نفعل شيئًا كهذا!» ثم جاء اليوم الذي اختفى فيه هذا الممتنِع: «لم نسأل، لم أسأل إلى أين ذهب؟» يقول جراس. لكن زملاءه كانوا يتهامسون: هذا الرجل مكانه في معسكرات التصفية. ولم يعترض جراس، ولعله شارك الرفاق في السخرية، وظل صامتًا، مبهورًا بالقوة النازية، ومصابًا بالعمى تجاه جرائمها.
احترام الخوف
خلال الدراسة الثانوية في الحقبة النازية كان على التلاميذ أن يُؤدُّوا خدمة عسكرية إجبارية، فكانوا يساعدون الجنود في محطات الدفاع الجوي. هذه الخدمة كانت تمنحهم شعورًا بالأهمية والفخر والرجولة. كانت الحرب لعبة مثيرة تستهوي الصِّبْيَة الذين يريدون أن يصبحوا رجالًا، مثلما تستهوي ألعاب القتال الإلكترونية الشبيبة اليوم.
الحرب كمغامرة استهوت جراس أيضًا. كان سلاح البحرية هو أمل الصبي الذي نشأ على شاطئ بحر البلطيق. كان يريد بأي طريقة الهروب من الشقة الضيقة والجو العائلي الخانق إلى الاتساع اللامتناهي للبحار والمحيطات. غير أنه لم يُقبل في قوات البحرية، فكانت القراءة هي الوسيلة التي لجأ إليها الصبي لينقذ نفسه من البيت الخانق. كان يقرأ كل ما تقع عليه يداه، سواء مما يجده في مكتبة الأم التي كانت كنزًا كبيرًا بالنسبة له، أو ما يستعيره من مكتبة المدينة. قرأ أعمالًا لديكنز وأوسكار وايلد وإريش ماريا ريمارك. كان مما قرأه رواية «لا جديد في الغرب» — أو «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» كما شاع العنوان بالعربية — وفيها تحدث ريمارك عن خبراته كجندي في الحرب العالمية الأولى. أَثَّرت هذه الرواية المعادية للحرب بشدة في نفس جراس، ورغم ذلك ظلت أمنيته أن يلتحق بالجيش ليشارك في الحرب التي «تحوِّل الجنود إلى قتلة»، على حد تعبير ريمارك. «يا لضآلة تأثير الأدب!» يقول جراس.
قبل أن يبلغ السابعة عشرة جاءه أمر التجنيد الإجباري في عام ١٩٤٤م، فالتحق طواعية بفرقة «سلاح الإس إس» التي كان يُنظر إليها على أنها فرقة من النخبة، تشبه قوات الصاعقة، أو قوات الكوماندوز في الجيوش الأخرى. غير أنها كانت في الحقيقة فرقة وحشية، لم تتورع عن قتل المدنيين أو إطلاق النار على الجنود بعد استسلامهم، أو إبادة قرًى بأكملها. بعد التدريب العسكري الأساسي، وبدءًا من ١٩٤٤/١١/١٠م خدم جراس في الفرقة العاشرة المدرعة من سلاح الإس إس، فرقة «فروندسبرج»، إلى أن أُصيب في ١٩٤٥/٤/٢٠م؛ أي إنه قضى نحو خمسة أشهر في تلك الفرقة. وينفي جراس في سيرته الذاتية تورطه في أي جرائم، ويؤكد أنه لم يطلق رصاصة واحدة، وأن مهمته انحصرت في تزويد الدبابات بالذخيرة.
في فترة التجنيد تَعلَّم جراس «احترام الخوف». ذات يوم رأى دبابة روسية كانوا يسمونها «أرغن ستالين» بسبب هديرها الفظيع. راحت الدبابة تقترب منهم، وتطلق قذائفها. استولى عليه الخوف بكل معنى الكلمة، وتبوَّل على نفسه رعبًا، ثم زحف واختبأ بين الأشجار إلى أن ابتعدت الدبابة. كان الخوف، يقول جراس، هو «المتاع الذي لم أستطع أن أنفضه عن كاهلي.»
وعندما أمر قائد الفرقة جنوده بالانسحاب ذات يوم، عثر الجنود على دراجات في مزرعة مهجورة، فقال الشاويش لهم: على كل منكم أن يأخذ دراجة ويهرب. وقف جراس محرجًا مرتبكًا، فسأله الشاويش عما به، فأجاب أنه لا يستطيع ركوب الدراجة! فحاول أن يعزيه قائلًا: إذن، انتظرنا. سنعود إليك. وانطلقوا جميعًا، بينما راح جراس يندب حظه العاثر. ولكن، ما كاد أعضاء الفرقة ينطلقون، حتى سمع جراس طلقات مدفع رشاش، ثم رأى رفقاءه مطروحين أرضًا لا يحركون ساكنًا. في ذلك اليوم أدرك أنه يحيا بالمصادفة. ومنذ ذلك اليوم وهو يرفض تَعلُّم ركوب الدراجات، رغم إلحاح أبنائه.
مشاهد وخبرات عديدة ظلت عالقة في ذاكرته قبل أن تجد تعبيرًا عنها في أعماله اللاحقة، منها مثلًا المشهد الذي يذكره في سيرته: عندما هرب من المعسكر، تقابَل في الغابة مع أحد الجنود الفارِّين أيضًا، وفجأة انفجرت قنبلة، فأصابت كلتا قدمي زميله الذي سأله تحت وطأة آلامه أن ينظر ما «إذا كان ما بين فخذيه سليمًا»! وعندما لمح تردد جراس، صرخ فيه راجيًا أن يفعل. ففعل وطمأنه. هذه الحكاية نجدها بحذافيرها في «طبل الصفيح» أثناء الهجوم على مكتب البريد في دانتسج.
ولعل جراس لم يتغلب على الخوف الذي تَمَلَّكه إلا بالكتابة، الكتابة التي تَحترِم الخوف، وتستدعي من أهوال الماضي ما يحدد التزامات الحاضر. تحرير الذات بالكتابة كان هو، أيضًا، الطريق الذي سار عليه أبطال جراس فيما بعد، لا سيما أوسكار ماتسرات في «طبل الصفيح» وبيلنتس في «قط وفأر».
أُصيب جراس بعد ذلك بشظية في كتفه، وعندما انتهَت الحرب في مايو ١٩٤٥م وجَد نفسه أسيرًا في أحد المعسكرات الأمريكية. وهناك عُرِضَت عليه وعلى رفاقه صور معسكرات التصفية وأفران الغاز. لم يُصدِّق، وراح يُردِّد مع الرفاق: هذه مُبالَغات من الحلفاء، هذه بروباجندا رخيصة من الأمريكان؛ الألمان لا يفعلون شيئًا كهذا! ولم يُقِرَّ جراس بوقوع تلك الجرائم إلا عندما شاهد محاكَمات نورنبرج، وسمع بأذنيه اعترافات قادة النازية بجرائم الهولوكوست. عندئذ أدرك جراس مَدَى وحشية النظام الذي كان يؤمن بانتصاره حتى آخر يوم من أيام الحرب. هذا هو الذنب الذي لم يغفره جراس لنفسه أو لجيله، ومن هذا الشعور بالذنب، ومن شعوره بأنه كان شريكًا — بشكل ما — في تلك الجرائم، انبثقَت أعماله الأدبية بعد الحرب التي تَمحْوَر مُعظَمها حول قضية الذنب والمسئولية.
الجوع إلى الطعام والنساء والفن
عندما أُطلِق سراحه من معسكر الأسرى، لم يكن يعلم، مثله مثل مئات الآلاف من الجنود، ماذا حدث لأفراد أسرته؟ هل ما زالوا على قيد الحياة؟ وأين يعيشون الآن؟ دانتسج — كما كان يعرفها — لم يَعُدْ لها وجود بعد أن أصبحت تابعة لبولندا، وبعد تهجير سكانها الألمان. كان الجوع يلاحقه، مثلما كان يلاحق الملايين بعد انتهاء الحرب. احتَلَّ الجوع جسده، وأصبح الشغل الشاغل للجندي المصاب الذي لم يَعُدْ يزن سوى خمسين كيلوجرامًا. ليس الجوع إلى الطعام فحسب، بل أيضًا إلى النساء، وإلى الفن.
كان الجوع مُقيمًا دائمًا، يقول جراس، لا يكف عن إصدار الأصوات في المعدة، ولا يُفسِح أي مجال لشيء آخر. دفَعَه الجوع إلى التردُّد على دورة نَظَّمها طباخ في معسكر الأسرى. آنذاك أَدركَت قوى الاحتلال المهارة التنظيمية الكبيرة لدى الألمان، فَسمحَت لهم بتنظيم دورات لشغل وقتهم في معسكرات الاعتقال. وهكذا تَكوَّنت «مجموعات عمل»، وأُقيمَت دورات في كل شيء تقريبًا، من دروس في اللغة اللاتينية والإغريقية والكِتاب المقدَّس، وصولًا إلى الاختزال والموسيقى والغناء.
لم يكن هناك سبيل أمام الجنود الأسرى لإشباع الجوع الثاني، الجوع إلى الجنس، إلا عبر ملامَسات وتُحرُّشات بين الجنود. ولِتعذُّر الحب الغيري، كان من الممكن أن يصبح مِثليًّا، يقول جراس. لكن ذلك لم يحدث له، وهو يروي في الفصول التالية من سيرته غرامياته الكثيرة مع الجنس الآخر، بدءًا ﺑ «إنجه» التي كانت الأولى في حياته، مرورًا بابنة رئيسه في المنجم الذي عمل به، ووصولًا إلى تَعرُّفه إلى راقصة الباليه أنَّه شفارتس وزواجه منها. أما الجوع إلى الفن فكان عليه الانتظار عدة سنوات حتى يستطيع إشباعه.
بعد إطلاق سراحه من معسكر الاعتقال الأمريكي، وَجَد الشاب عملًا في أحد مناجم البوتاس بالقرب من مدينة هانوفر في شمال ألمانيا، وظل يعمل هناك لمدة عام. في مطعم المنجم كانت تُقدَّم للعمال وجبات متواضعة المذاق، غير أنها كانت تملأ المعدة، فعرف الشبع أخيرًا.
كان شتاء ١٩٤٧/١٩٤٦م قارصَ البرودة، بل مميتًا للمُسنِّين والأطفال. وهكذا كان الفحم، إضافة إلى الفقر والعوز ونقص الطعام، مشكلة تُؤرِّق الملايين. في ذلك الشتاء، وبالمصادَفة، عرف من قوائم الصليب الأحمر أن والديه وأخته ما زالوا على قيد الحياة، وأنهم انتقلوا للحياة بالقرب من مدينة كولونيا في غرب ألمانيا. سافر جراس إليهم، فوجدهم يعيشون في غرفة واحدة في حظيرة مُزارِع أجبرته الدولة على إيواء هذه العائلة المُشرَّدة. لم يكن مُرَحَّبًا بهم، وكان المُزارِع ينتهز كل مُناسَبة ليقول لهم: عودوا من حيث أتيتم.
كانت فرحة الأم برؤية ابنها سليمًا لا تُوصَف. لكن الشاب كان يريد على الفور الفرار من هذا البؤس. كان الأب قد وجد عملًا مكتبيًّا في أحد مناجم الفحم في منطقة الرور، وذات يوم جاء مُتهلِّل الأسارير، يزف إلى ابنه البشرى السعيدة؛ لقد وَجَد له وظيفة مُتدرِّب في المنجم. «في مكتب المدير»، أضاف الأب فَرِحًا، ثم قال: «الغرف هناك دافئة للغاية يا بني.» ولكن الابن رفض، وفاجأ أباه برغبته في أن يصبح نحاتًا. عارض الأب «رعونة» ابنه مُعارَضة شديدة، ونصحه بأن يفكر في مهنة مضمونة تُدرُّ دخلًا معقولًا، وقال له: «نحن نعيش في زمن سيئ، لا يعرف فيه المرء ما سيأتي به الغد، وأنت تختار مهنة لا تُطعِم جائعًا؟ أَخرِج هذه الفكرة الحمقاء من رأسك!» لكن الشاب كان مصممًا على تنفيذ قراره.
وهكذا قرر ذات يوم أن يسير وسط الثلوج التي غَطَّت الشوارع إلى محطة القطار الذي أقلَّه إلى مدينة دسلدورف. عند وصوله إلى أكاديمية الفنون — التي دَمَّرَت الحرب أجزاء منها — تَقابَل مع أحد الأساتذة الذي سأله عَمَّا يريده، فأجاب: أريد أن أصبح نحاتًا. قال له الأستاذ إن الدراسة مُتوقِّفة لعدم وجود فحم للتدفئة، ونصحه بالذهاب إلى مكتب العمل للالتحاق بإحدى ورش نحت شواهد القبور، وبعد عامين عليه الرجوع. عندئذ سيكون قد اكتسب بعض الخبرة بالنحت والتعامل مع الحجر، وستكون الدراسة قد استُؤنِفَت. وهذا ما فعله جراس.
بذرة ملحمة
أصبح الفن، رسمًا ونحتًا، محور حياة جراس بعد التحاقه بأكاديمية الفنون في دسلدورف. وبعد سنوات صعبة عانى فيها النحَّات الناشئ شظف العيش، وسكن خلالها في بيت تابع لمؤسسة كاريتاس الخيرية، تحسنت أحواله مع بداية الرخاء الاقتصادي في ألمانيا مطلع الخمسينيات، واستطاع لأول مرة في صيف عام ١٩٥٢م السفر بالأوتوستوب إلى إيطاليا، بلد التماثيل. وفي العام التالي سافر إلى فرنسا، وفي رحلة العودة زار صديقة له في سويسرا، وأثناء تناوُل القهوة رأى مشهدًا انحفر في ذاكرته، وأصبح حجر الأساس في شهرته اللاحقة. يقول الصحفي ميشائيل يورجس نقلًا عن جراس: «كانت الغرفة مزدحمة بأشخاص بالِغِين يتحدثون ويشربون القهوة ويأكلون الفطائر. وفجأة دخل صبي ومعه طبل من صفيح، ثم طاف في الحجرة وقرع الطبل دون أن يعير الكبار نظرة واحدة. سار في الحجرة مرة، مرتين، ثم اختفى.» وهنا عثر جراس على بذرة أولى رواياته وأشهرها. ولم يكن لزيارة الصديقة السويسرية تأثير كبير على الروائي فحسب، بل على جراس الإنسان الذي تعرَّف هناك بزوجته اللاحقة، راقصة الباليه أنَّه مارجريتا شفارتس. وبسببها قرر الانتقال إلى برلين بعد أن قالت له إنها تنوي الالتحاق بإحدى مدارس الباليه هناك.
لم يقصر جراس كل جهده على الفن التشكيلي، بل راح يجرب قلمه في الشعر والمسرح، غير أنه لم يصب فيهما نجاحًا يُذكر. وعن طريق الشعر دُعي إلى حضور أهم اجتماع أدبي للمواهب الشابة، وهو ملتقى «جماعة ٤٧» برعاية الناقد هانز فيرنر ريشتر. وسرعان ما أصبحت هذه المجموعة بمثابة عائلة له، وغدَا ريشتر الأب الروحي لجراس. أما الأستاذ الأعظم الذي وضع النحَّات على بداية الدرب الروائي فهو ألفريد دوبلين (١٨٧٨–١٩٥٧م) صاحب الرواية المشهورة «برلين – ألكسندر بلاتس».
مفلسًا قرر جراس السفر مع زوجته «أنَّه» إلى باريس؛ لأنها أرادت أن تستكمل تَعلُّم الباليه هناك. وفي باريس واصل جراس تجاربه في الشعر والتمثيليات الإذاعية، وكان يبيع بعضها لمحطات الراديو، ما جلب له مكافآت مجزية كانت مصدر رزقه الوحيد. وفي تلك الفترة شرع في كتابة رواية القرن: «طبل الصفيح». وفي باريس أيضًا شَاهَد مبهور الأنفاس فيلم «الرجل الثالث» بطولة أورسون ويلز، ولاحظ أن الكاميرا تصور بعض الأحداث من منظور الصبي القابع في الأسفل مراقبًا تصرفات الكبار. وهكذا أخذت شخصية أوسكار ماتسرات في التَّخلُّق والتَّشكُّل، إلى أن وُلِدَت حية تَأسِر مَن يطالعها.