«الانتظار حافَظ على شبابي»: نوبل بعد طول انتظار
طوال عقود كان اسم جونتر جراس يتصدر قائمة المرشحين لجائزة نوبل، وطوال عقود راح ينتظر، وراحت ألمانيا كلها تنتظر إعلانَ اسمه فائزًا بأرفع الأوسمة الأدبية. وعندما كُرِّم الأدب الألماني في عام ١٩٧٢م بجائزة نوبل، لم يكن جراس هو الفائز بها، بل زميله الأكبر منه بنحو عشرة أعوام هاينريش بُل. آنذاك تساءل بُل في دهشة عندما عرف بالخبر: أنا؟ وليس جونتر جراس؟ ولم يكن هذا التساؤل وليد التواضع المشهور عن هاينريش بُل فحسب، بل كان أيضًا تقييمًا موضوعيًّا لدور جراس ومكانته في الأدب الألماني والعالمي.
تحتم على جراس أن ينتظر سبعة عشر عامًا بعد فوز بُل إلى أن جاء صباح يوم ٣٠ سبتمبر ١٩٩٩م.
كان يتناول الفطور مع زوجته أوته، ويستعدان للسفر إلى هامبورج للذهاب إلى طبيب الأسنان عندما رنَّ الهاتف. طلب جراس من زوجته أن ترد، ومن ملامح وجهها استشف خبرًا مهمًّا، فتناول السماعة، وسمع الخبر الذي كان ينتظره منذ عقود طويلة. عندئذ التفت جراس إلى زوجته وقال بلهجته الهادئة: «ولكن علينا السفر أولًا إلى هامبورج.» وعندما قابله الصحفيون، قال لهم الجملة التي ذاعت واشتهرت: «أنتظر هذه الجائزة منذ عشرين عامًا. الانتظار حافَظ على شبابي، والآن تبدأ الشيخوخة.»
الوجه المنسي للتاريخ
لم يَنَل جراس الجائزة عن روايته الأولى الشهيرة «طبل الصفيح». صحيح أن اللجنة اعتبرتها «من الأعمال الخالدة» في القرن العشرين، غير أنها منحته الجائزة تقديرًا لمجمل أعماله: «لقد رسم بحكاياته ذات الفكاهة السوداء الوجه المنسي للتاريخ. (…) لكأنه بإصداره «طبل الصفيح» عام ١٩٥٩م وضع حجر الأساس لبداية جديدة في الأدب الألماني بعد عقود من خراب اللغة والأخلاق. على صفحات روايته الأولى تَمكَّن جراس من إحياء عالَم كان قد ضاع، (…) عالَم مدينة دانتسج، مسقط رأسه (…). الواجب العظيم الذي اضطلع به كان تصحيح كتابة تاريخ عصره، فبعثَ الحياةَ في المنسِيِّين والمُتنَكَّر لهم: الضحايا والخاسرين، كما بعثَ الحياةَ في تلك الأكاذيب التي أراد الشعب تناسيها؛ لأنه صدقها يومًا ما.»
كان خبر فوز جراس مفاجأة أخرى من مفاجآت الأكاديمية السويدية. صحيح أن نقاد الأدب كانوا ينتظرون فوزه طوال العقود الماضية، ولكن الانتظار طال، فظن الجميع أن جائزة نوبل تبتعد عمدًا عن جونتر جراس، ربما لمواقفه وآرائه السياسية التي طالما أثارت دوامات من الانتقاد والسخط والتأييد على السواء. كان الألمان، والمتخصصون في الأدب في العالم كله، ينتظرون عامًا بعد عام نبأ مَنْحِه أعلى وسام أدبي، ولكن التوقعات كانت تخيب، وتذهب الجائزة أحيانًا إلى مَن هو أقل قيمة أدبية من جراس، وأحيانا أخرى تلفت الجائزة النظر إلى أدباء كبار شبه منسيين في الأدب العالمي، كل «جريمتهم» أنهم غير غربيين. الطريف أن الصحفيين سألوا جراس قبل أسبوعين من إعلان الجائزة عن توقعاته، وعما إذا كان سينالها هذا العام، فأجاب أن الأكاديمية السويدية قررت — ولأسباب وجيهة — أن تولي الأسباب الثقافية والسياسية أهمية خاصة، وأن تأخذ في الاعتبار الدول المُهمَلة التي يُطْلَق عليها العالم الثالث. وأكد جراس أنه يؤيد الأكاديمية في هذا التوجه؛ ولذلك فإنه لا يستطيع أن يحدد مَن سيفوز بالجائزة التي تتحكم فيها عوامل كثيرة.
وكان من الأسماء التي تصدرت قائمة التوقعات في عام ١٩٩٩م الشاعر السويدي توماس ترانسترومر والكاتب البلجيكي هوجو كلاوس، إلى جانب بعض الأسماء التي تدور حولها التكهنات في كل عام، ومنها — عربيًّا — أدونيس والطاهر بن جلون. لم تذهب نوبل للأدب إلى العرب في ذلك العام، ولكن نوبل في فرع آخر كرَّمت عربيًّا، ألا وهي نوبل للكيمياء التي كانت من نصيب العالم المصري أحمد زويل.
حكم بالبراءة
كانت الفرحة عارمة في ألمانيا عندما خرج سكرتير الأكاديمية هوراس إنجدال في تمام الواحدة ووقف أمام الصحفيين ليعلن أن آخر جائزة نوبل للأدب في القرن العشرين مُنحت للروائي جونتر جراس. في كلمته خلال حفل منح الجائزة الذي أقيم في شهر ديسمبر قال إنجدال إن هذه الجائزة تؤكد أن جراس كان محقًّا في إعطاء آخر أعماله عنوان: «مئويتي».
ولعل القرن العشرين كان، بمعنًى من المعاني، قرنًا ألمانيًّا؛ فهو شهد حربين عالميتين كانت مسئولية ألمانيا فيهما رئيسية، كما كان قرن الأدب الألماني؛ إذ نال الأديب الألماني تيودور مومزن في أوله جائزة نوبل، في عام ١٩٠٢م، وانتهى بفوز جراس، وبينهما حاز سبعة ألمان آخرون هذا التكريم الرفيع (ليس من بينهم برتولت برشت!)، أشهرهم توماس مان (١٩٢٩م) وهِرمان هِسه (١٩٤٦م، وكان عندئذٍ قد نال الجنسية السويسرية) وهاينريش بُل (١٩٧٢م).
في هذا المعنى كتب فرانك شيرماخر في افتتاحية «فرانكفورتر ألجماينه تسايتونج» عقب الإعلان عن فوز جراس بالجائزة إن «قرن الرعب الألماني قد انتهى رمزيًّا بانتصار كبير.» معتبرًا قرار اللجنة السويدية «حكمًا بالبراءة».
أما زملاء جراس الذين حصلوا على الجائزة في الأعوام السابقة فقد راحوا جميعًا يُهنِّئونه بحماسة، فصاحت الكاتبة الجنوب أفريقية نادين جوردايمر (نوبل ١٩٩١م) مُهنِّئة: أخيرًا! كما تَوجَّه البرتغالي جوزيه ساراماجو، الذي سبق جراس بعام في الفوز بنوبل، بالتهنئة إلى زميله معتبرًا أن أكبر أديبين في أوروبا هما: جراس وهوجو كلاوس. في حين انتهز الكاتب المسرحي الإيطالي داريو فو الفرصة ليقول متفكهًا: في البداية ساراماجو، والآن جراس. يا لقوة اليسار في استوكهولم!
وعمومًا، فرغم أن نقادًا كثيرين رأوا أن جراس لم يتجاوز عمله الأول «طبل الصفيح»، فقد أجمعوا على استحقاقه الجائزة؛ لأن أعماله — إذا اقتبسنا كلمات الأكاديمية السويدية — «تُمثِّل حوارًا مع التراث الفكري الألماني العظيم، يديره جراس بحبٍّ بالِغ الصرامة.»
«فكاهة تتبول على أعمدة السلطة»
خلال حفل تسليم جائزة نوبل ألقى جراس كلمة جميلة بعنوان «يُتبع …»، ذكَّر فيها الحاضرين بالروايات التي كانت تُنشر مسلسلة في الصحف والمجلات، مثل روايات ديكنز وتلستوي وبلزاك، ومعتبرًا نفسه حلقة في سلسلة لا تنتهي من الروائيين.
تحدث جراس عن بداياته الأدبية، وعن دوافعه للكتابة بعد الحرب العالمية الثانية وبعد أوشفيتس، موضحًا لماذا اختار الصعلوك المهمش أوسكار بطلًا لأولى رواياته وأشهرها. قرر جراس أن يصبح فنانًا عندما بلغ الثانية عشرة. كان ذلك في عام اندلاع الحرب العالمية الثانية. ثم اتجه إلى الكتابة عندما قرأ في سنوات الحرب الأولى في مجلة «شبيبة هتلر» عن مسابقة أدبية بجوائز. وهكذا راح الفتى يكتب روايته الأولى التي أعطاها عنوانًا يوضح ارتباطه بأجداد الأم والمنطقة التي نَشَئوا فيها: «الكاشوبيون». ولكن الرواية لم تَجرِ أحداثها في الحاضر، بل في القرن الثالث عشر. كانت محاولة طموحة للغاية، يقول جراس، ولهذا فشلت؛ إذ سرعان ما فقد الراوي السيطرة على الشخصيات الكثيرة التي اخترعها، وهو ما علمه فيما بعد أن يتعامل بحذر أكبر مع شخصياته.
انهمك جراس بعد ذلك في القراءة، ويذكر أنه كان يقرأ واضعًا سبابتيه على أذنيه؛ لأنه كان يعيش في شقة ضيقة مع أخته، ولم يكن يستطيع الاختلاء بنفسه خلال القراءة. تَعلَّم الصبي آنذاك أن يستغرق فيما يفعله، رغم الضوضاء أو الناس المحيطين به. وذات يوم أرادت أمه أن تداعبه وتشاكسه، وأن تُظهِر لصديقة أتت لزيارتها انغماسَ ابنها في القراءة حتى إنه ينسى تمامًا ما حوله، فوضعت صابونة مكان السندويتش الذي كان يقضم منه بين حين وآخر خلال القراءة. ثم وقفت تتفرج على ابنها وهو يتناول الصابونة، بدون أن يرفع نظره عن الكتاب، ثم يقضمها، ويشرع في مضغها، إلى أن يتضح له «المقلب» بعد دقيقة، فيلفظ قطعة الصابون من فمه.
في سن الخامسة عشرة ارتدى جراس الزي العسكري، وفي سن السادسة عشرة تَعلَّم الخوف، على حد تعبيره، وفي العام التالي وجد نفسه أسيرًا لدى القوات الأمريكية، وفي الثامنة عشرة نال الحرية وعمل في السوق السوداء، ثم نحاتًا لشواهد القبور، قبل أن يلتحق بأكاديمية الفنون، ويواصل مساره.
ثم تحدث جراس عن أعماله الأولى، عن ثلاثية دانتسج. كان الدرس الذي تعلمه مبكرًا هو أن «الكتب تثير الصدمة والاستنكار، والغضب والكراهية … منذ ذلك الحين يعتبرونني مثيرًا للجدل.» ثم تساءل جراس: ما الذي يجعل الكُتب والكُتَّاب خطرًا على الدولة والكنيسة والمؤسسات الإعلامية والحزبية إلى هذا الحد؟ ويجيب قائلًا إنه يكفي أن يقدم الكاتب بأدبه الدليل على أن الحقيقة ليست واحدة، يكفي ألا يدع الماضي يمضي، وأن ينكأ جراحه المَرَّة بعد الأخرى، وأن يتحالف مع الخاسرِين مانحًا إياهم صوته.
رغم ذلك يحاول أصحاب السلطة استمالة الأدباء إلى صفهم، ويحاولون رعاية الأدب، لا سيما الأدب الإيجابي. ليس بالضرورة بالمعنى الشيوعي، يقول جراس، ولكن البطل الإيجابي على غرار الأفلام الأمريكية. هل معنى ذلك أن على الأدب أن يحتفي بالبطل السلبي؟
هنا يتحدث جراس عن اختياره الرواية البيكاريسكية شكلًا من أشكال الكتابة، ويقول إنه ابن المدرسة الإسبانية الموريسكية في الكتابة، ونموذجها محاربة طواحين الهواء. البطل في تلك الروايات، «البيكارو» أو الصعلوك المهمش، يحيا عبر كوميديا الفشل. ويقول جراس، وكأنه يصف بطل «طبل الصفيح»: «إن فكاهة البيكارو تتبول على أعمدة السلطة، وهو يُعمِل منشاره في مقاعدها، لكنه يعلم في الوقت نفسه أن أفعاله لن تجعل المعبد ينهار، ولن تقلب العرش.»
عندما بدأ جراس الكتابة كانت أهوال الحرب العالمية الثانية وفظائع أوشفيتس كالسيف المسلط على رقاب الكتَّاب. ما فائدة الكتابة؟ وهل منعت الكتابة يومًا وقوع جريمة؟ يومها قال أدورنو: «من البربرية كتابة قصيدة بعد أوشفيتس.»
هل يعني ذلك أن على الكتَّاب أن يتوقفوا عن الكتابة؟
بالنسبة إلى جراس كانت جملة أدورنو تعني عدم النسيان. ولذلك كتب لأطفاله في «يوميات حلزون» أن الكاتب هو شخص يكتب ضد الزمن المتسرب، وضد النسيان.