العودة إلى الرايخ الثالث «في خطو السرطان»
لم تبدأ شيخوخة جراس بعد فوزه بجائزة نوبل، كما قال متخوفًا للصحفيين إثر إعلان خبر فوزه. لقد شرع الروائي يتعلم من أحفاده كيفية البحث في الإنترنت، ولم يتوقف عن الكتابة والرسم والنحت والحفر وإثارة السجالات السياسية، ثم فاجأ الجميع في مطلع عام ٢٠٠٢ — وهو في الرابعة والسبعين — برواية جديدة، أو بالأحرى نوفيلا، كتبها تحت عنوان «في خطو السرطان».
بعمله الأول بعد نوبل عاد جراس «في خطو السرطان» إلى منابع طفولته في دانتسج (مرة أخرى)، وإلى الرايخ الثالث والحرب العالمية الثانية، وتحديدًا إلى ليلة الثلاثين من يناير عام ١٩٤٥م. في تلك الليلة أطلقت إحدى الغواصات الروسية طوربيدًا على السفينة الألمانية «فيلهلم جوستلوف» التي تكدس على ظهرها حوالي عشرة آلاف شخص، معظمهم من اللاجئين الألمان الهاربين من وجه الجيش الأحمر الزاحف إلى بروسيا الشرقية (بولندا الآن)، واضعين آمالهم في النجاة على السفينة التي قادتهم لملاقاة الموت حرقًا أو غرقًا أو تجمدًا في مياه بحر البلطيق التي وصلت درجة برودتها إلى ١٨ تحت الصفر. تبع الطوربيد الأول اثنان آخران، وعندما تنفس الصبح كان حوالي تسعة آلاف منهم قد لفظوا أنفاسهم الأخيرة، من بينهم أربعة آلاف طفل ورضيع، ومن بينهم أيضًا أكثر من ألف جندي من جنود البحرية الألمانية. أما الذين بقوا على قيد الحياة فكانوا في غالبيتهم من الرجال، «شيء مخزٍ» كما يقول جراس، خصوصًا أن قبطان السفينة ومساعديه الثلاثة لم يصبهم سوء. كان غرق هذه السفينة أكبر كارثة عرفتها ملاحة البحار، ومع ذلك فقد نسيها العالم (على عكس ضحايا «التيتانيك» مثلًا الذين لم يتجاوزوا ١٥٠٠). أما معظم الألمان فقد تناسوها بعد الحرب، أو أزاحوها من الذاكرة، وهل كان بالإمكان التحدث عن الضحايا من المدنيين الألمان، وهم، أو جنودهم، الذين تسببوا في أكبر حرب عرفها تاريخ البشرية؟
لماذا الآن؟
عندما بدأ الكُتَّاب الشبان بعد الحرب يتلمسون طريقهم في دنيا الأدب، كان لا بد من البحث عن خطايا الذات، قبل التحدث عن أخطاء الآخرين. أمسى التذكر وقفًا على ضحايا النازية، وغَدَا التحدث عن الضحايا الألمان من المدنيين — الذين بلغ عددهم ١٢ مليون إنسان لاقوا الموت أو التشريد والتهجير — ضربًا من المُحرَّمات في شرق ألمانيا وغربها؛ لذا تم إقصاؤهم تمامًا من الذاكرة الجمعية، وكان الرأي السائد أنهم أبناء الجناة النازيين، زرعوا العنف والحرب، فاستحقوا أن يجنوا الموت والدمار.
وهكذا خلت معظم الأعمال الأدبية بعد الحرب من سطر واحد يذكر على سبيل المثال مئات الآلاف من المدنيين الذين قضوا نحبهم في غارات الحلفاء الجوية التي شُنَّت في الشهور الأخيرة من الحرب، لا سيما في مدينة درسدن بشرق ألمانيا. والآن، وبعد عقود من نهاية الحرب، وبعد إعادة توحيد ألمانيا، يأتي جراس تحديدًا ليحطم هذا «التابو»، ويعيد نكأ جراح المُشرَّدِين والمُهجَّرِين من الألمان؛ جراس الذي ظل قزمه «أوسكار ماتسِرات» يقرع طبلته الصفيحية رافضًا الاندماج في المجتمع الساعي إلى تناسي فترة النازية؛ جراس الذي ظل منتقدًا سياسةَ ألمانيا الاتحادية الساعية إلى الوحدة، وعندما تمت الوحدة عام ١٩٩٠م كان تعليقه عليها: «الوحش يريد أن يصبح قوة عظمى!»، جراس بالذات يتحدث الآن عن آلام الألمان الذين شُردوا وهُجروا؟
نعم، جراس تحديدًا كان مرشحًا، في رأيي، لأن يفعل ذلك؛ فهو وصل بعد جائزة نوبل إلى مكانة محلية ودولية تمنحه الحرية في طرح ما يحلو له من موضوعات، دون أن يخشى أن يُفهم خطأ، أو أن تنسب إليه أفكار يمينية متطرفة. هذا من ناحية، من ناحية أخرى، فقد صدرت الرواية في وقت تزايدت فيه الكتابات حول اللاجئين والمشردين بعد الحرب العالمية الثانية، وربما أراد جراس ألا يترك هذا الموضوع المهم لليمين المتطرف، مثلما ذكر في روايته وفي أحاديثه الصحفية، وربما أراد استثمار هذا الاهتمام بموضوع يمسه شخصيًّا ويمس عائلته. على كل حال، لم يكن جراس أول من حطم هذا «التابو»، وهو أيضًا لم يدعِ ذلك، ولكنه كان بالتأكيد أشهر من تناوله. وربما أراد بروايته إظهار إمكانية الحديث عن مأساة اللاجئين والمُهَجَّرين الألمان من دون تناسي الهولوكوست، أو تجاهل أن الألمان كانوا السبب الرئيسي في اندلاع الحرب التي راح ضحيتها الملايين في العالم كله. وقد كان ظهور «في خطو السرطان» بداية لموجة كبيرة من الأفلام والمقالات والكتب التي تناولت موضوع «معاناة المدنيين الألمان» في الحرب وبعدها.
«لماذا الآن تحديدًا؟» بهذا السؤال يبدأ جراس القص؛ لأنه يعرف أنه أول ما يخطر على بال القارئ؛ ويقول على لسان البطل: «ألأنَّ الأم أعادت عليَّ؟ … ألأنِّي كما في زمن آخر، عندما حطت الصرخة على وجه الماء، أردت الصراخ ولم أستطع …؟! لأن الحقيقة لا تتجاوز أكثر من أسطر ثلاثة …! لأن الآن تحديدًا …!» (ص٥ من الترجمة العربية)
باول بوكريفكه، الصحفي الذي تأتي هذه الكلمات على لسانه، يقوم بدور الراوي بعد أن كلفه «العجوز» الذي «أَضْنَتْه الكتابة» بأن يكتب نيابةً عنه قصة المُشرَّدِين. كانت تلك مهمة جيله، يقول العجوز شاعرًا بالندم لأن جيله صمت عن هذه الآلام، تاركًا الأمر للمتطرِّفِين اليمينيين، وهو تقصير لا يمكن غفرانه.
ويدل عنوان الرواية على تكنيك القص المستخدم: الرجوع إلى الوراء (إلى الماضي) ثم الاتجاه يمينًا أو يسارًا (تأملات وأحداث موازية) حتى يمكن التقدم بحذر إلى الأمام (إلى الحاضر)، تمامًا كما يمشي السرطان. وتتميز الرواية بلغة متعددة الأصوات دالة على الشخصيات، كما تتسم أيضًا بالأسلوب الصحفي ذي الجمل القصيرة، كما خَلَت الرواية من الاستطراد والإسهاب الذي شاب عددًا من أعمال جراس السابقة.
التاريخ – ذلك «المرحاض المسدود»
ينطلق جراس من حادثة غرق السفينة لينسج حكاياته: في لحظة غرق السفينة يولد طفل، هو باول بوكريفكه، الابن غير الشرعي للسيدة تولا، تلك الشخصية الأسطورية التي يعرفها قراء جراس منذ «قط وفأر». كان باول في البداية معقد آمال أمه، لكنه بمرور السنوات أصبح في عينيها إنسانًا فاشلًا في كل المجالات، سواء كصحفي أو كزوج أو كأب. كونراد، الحفيد، لا يشعر بعطف الوالدين أو بحبهما؛ فالأم المثقفة اليسارية مستغرقة في عملها كتربويَّة، أما الأب فيحيا بلا قناعات سياسية محددة، متنقلًا بين صحف اليمين المثيرة إلى صحف اليسار الملتزمة، ثم ينتهي به الحال «كمرتزق» لدى وكالات الأنباء المختلفة. يقر الزوجان بفشل الزيجة وينفصلان. وبعد عدة أعوام يختار الحفيد الانتقال إلى الجدة للعيش معها، ومنها يستمع مرارًا إلى قصة غرق السفينة «فيلهلم جوستلوف». وعندما تهديه الجدة جهاز كمبيوتر، فإنه يؤسس موقعًا على الإنترنت، ويخصصه للسياسي النازي فيلهلم جوستلوف الذي تحمل السفينة اسمه، والذي لقي حتفه على يد طالب طب يهودي يُدعى دافيد فرانكفورتر. يعثر الصحفي مُصادَفة على الموقع أثناء بحثه في الإنترنت عما ينشره المتطرفون اليمينيون، ويلاحظ أن المعلومات الواردة تتشابه مع ما يلوكه لسان الجدة، فيشك في أن يكون ابنه هو مصمم هذا الموقع، ويصدق حدسه؛ وهنا يفيق الصحفي ويبدأ في التحري عن الحقيقة. يعود الصحفي مجبرًا إلى ملابسات غرق السفينة يوم مولده — الثلاثين من يناير، الذي يوافق أيضًا يوم تُولِّي هتلر السلطة في ألمانيا عام ١٩٣٩م — هذا التاريخ الذي طالما حاول تناسيه: «التاريخ، وبقول أدق التاريخ الذي نحركه، مرحاض مسدود. ندفع فيه الماء وندفع وندفع، إلا أن البراز يعاود الظهور.» (ص١١١ من الترجمة)
وينهي جراس الرواية نهاية متشائمة، فنرى كونراد يقضي عقوبة السجن في إصلاحية الأحداث، من دون ندم، ومن دون إحساس بالخطأ؛ ليس هذا فقط، بل إن صديقته تعرب للأب عن إيمانها الراسخ بأنه ضحية: «ليس كونراد هو الشرير، بل العالم.» ثم يعثر الصحفي على موقع جديد على الإنترنت، يُناصر مُصمِّمُوه الفتى مُعتبرين أنه مثال لهم: «نؤمن بك، ننتظرك، نتبعك …» هكذا هو التاريخ؟ يتكرر أحيانًا، وإنْ في ظروف أخرى. وهكذا هو الماضي، لا يمضي، ولا يمكن نسيانه، ولهذا يختتم جراس الرواية بهذه العبارة: «لن يتوقف هذا. هذا لن يتوقف أبدًا.» (ص٢٠٧ من الترجمة)
هل صدرت الرواية متأخرة؟
الأديب زيغفريد لنتس، رفيق درب جراس في «جماعة ٤٧»، رأى أنها جاءت في وقتها. لنتس — الذي يكبر جراس ببضعة شهور، والذي ولد في بروسيا الشرقية وعانى شخصيًّا من مصير التهجير بعد الحرب — قارَن بين هذه الرواية ورواية الروسي ليو تولستوي «الحرب والسلام» التي لم تصدر إلا بعد مرور خمسين عامًا على غزو نابليون لروسيا، وأضاف: «بعض الجراح الغائرة تحتاج إلى وقت طويل حتى تندمل. عندئذ يمكن التعبير عنها أدبيًّا.» ولعل هذه المقولة تنطبق أيضًا على جراس نفسه الذي ظل يبحث طويلًا عن سبيل فني يعبِّر من خلاله عن فترة طفولته وصباه وما عايشه خلال الحرب العالمية الثانية، متلمسًا طريقه خلال بعض قصص «مئويتي»، ثم مقتربًا من الموضوع بحذر «في خطو السرطان»، قبل أن يتحدث بصورة مباشرة عن صباه وشبابه في سيرته «أثناء تقشير البصلة».