عاشق «قصائد الطين» اليمنية
حضر جراس إلى اليمن في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م، عندما تزايَد الحديث عن صِدام الحضارات والثقافات. آنذاك نظَّم مركز الدراسات والبحوث اليمني الذي رأسه الشاعر عبد العزيز المقالح مؤتمرًا أدبيًّا في صنعاء في ديسمبر عام ٢٠٠٢م، ودُعي إلى اللقاء جونتر جراس مع عدد كبير من الكُتَّاب والصحفيين الألمان والعرب. عُقد اللقاء الأول في أجواء ملتهبة، قبل بدء الحرب الأمريكية المرتقَبة على العراق، وبعد أن أصبح يُنظر إلى اليمن باعتباره مأوًى لمقاتلي القاعدة، وجزءًا من «محور شر» جورج بوش، وفي ظل تزايد أخبار اختطاف السياح الأجانب. رغم ذلك قرر جراس السفر إلى اليمن، وهناك فوجئ بجمال البلد وحضارته وحفاوة أهله. راح الكاتب كثير الأسفار يكرر أمام الصحفيين إعجابه البالغ باليمن قائلًا: «هذه أجمل رحلات حياتي». ولعل من المشاهد التي تركت أثرًا عميقًا لديه، مشهد الاستقبال الذي حظي به في قرية مناخة الجبلية الصغيرة؛ حيث عزفت فرقة موسيقية صغيرة احتفاء به، وفجأة رأى جراس صبيًّا يقرع الطبل في استغراق كامل وحماسة كبيرة، وكأنه أوسكار الطالع لتوه من «طبل الصفيح».
كان المؤتمر الأول — الذي عُقد تحت عنوان «في البدء كان الحوار» — «لقاء قمة»، إن جاز التعبير، جمع بين حامل نوبل الألماني وعدد من الشعراء العرب، على رأسهم أدونيس ومحمود درويش. أما المؤتمر الثاني الذي عقد في يناير ٢٠٠٤م تحت عنوان «ويستمر الحوار» فكان لقاء روائيين بامتياز، ضم إلى جانب جراس الروائي الألماني إنجو شولتسه والكاتبة النمساوية كاترين روجلا، والقاصة البرلينية الشابة يوديت هيرمان. ومن الجانب العربي شاركت في الملتقى نخبة من الروائيين وكتَّاب القصة، منهم جمال الغيطاني وميرال الطحاوي وهدى بركات وحسن داود وفؤاد التكرلي وليلى العثمان، وعدد كبير من الأدباء اليمنيين، منهم الروائية والشاعرة نبيلة الزبير.
كان من حظي أن أرافق جراس في رحلته اليمنية الثانية. كنت أعمل آنذاك في مؤسسة «دويتشه فيله»، وتلقيت دعوة من المنظمين لتغطية اللقاء صحفيًّا. الطريف أنني اكتشفت في مطار فرانكفورت قبل السفر إلى صنعاء أنني أصبحت «ابنًا» لجونتر جراس — فعندما وزعت تذاكر الطيران علينا في مطار فرانكفورت، فوجئت بأنهم كتبوا اسمي الأخير خطأ، سمير جراس؛ ربما لأن جراس كان مسافرًا مع زوجته أوته وابنته لاورا، فاعتقد موظفو حجز التذاكر أنني واحد من العائلة الجراسية، وأن الياء في «جريس» مجرد خطأ مطبعي!
افتتان بالعمارة اليمنية
قبل بدء المؤتمر الأدبي الأول عام ٢٠٠٢م تجول جراس في ربوع اليمن، فزار تعز ووادي حضرموت وعدنًا. ومن الممكن القول إن العمارة اليمنية كانت الباب الذي دخل منه جراس إلى اليمن. ومن الممكن القول أيضًا إنه عشق العمارة الطينية في مدينة شبام بوادي حضرموت التي يُطلق عليها «مانهاتن الصحراء». في شبام رأى جراس بيوتًا متلاصقة ذات واجهات مصقولة، ونقوشًا وزخارف جميلة بدت وكأنها بالفعل تنطح سحاب الصحراء. انبهر النحَّات والرسام بالقصور الطينية المشيدة قبل قرون، والتي ما زالت رغم كل شيء تعاند الزمن. نعم، هناك شروخ وتصدعات هنا وهناك، لكن البناء قائم وراسخ. وكان السؤال الذي شغله هو: ما مصير هذه «القصائد الطينية» في عصر البناء بالحديد والأسمنت والزجاج؟ سمع جراس من مرافقيه أن فن البناء بالطين مهدد بالانقراض والزوال لنقص الحرفيين، وأن الخرسانة غزت وادي حضرموت مثلما اجتاحت العالم كله، فاقترح إنشاء مدرسة لتخريج أجيال جديدة من البنائين الشبان الذين يتعلمون أسرار هذه الحرفة من معلمي البناء المخضرمين، حتى لا تندثر هذه العمارة الجميلة المتناسقة مع البيئة، والتي توفر أجواء مثالية للعيش فيها صيفًا وشتاءً؛ إذ إن درجة الحرارة داخل البيوت تكون تقريبًا ثابتة، ولهذا يشعر الإنسان داخلها بالدفء شتاءً، وبالنسمة اللطيفة صيفًا.
ولم يكتف جراس بالاقتراح، بل تبرع بمبلغ قيمته عشرة آلاف يورو للمساهمة في بناء مدرسة كهذه. وعندما زار جونتر جراس اليمن للمرة الثانية في يناير ٢٠٠٤م كان قد وقع الاختيار على قصر قديم في مدينة تريم لإنشاء «مدرسة جونتر جراس للعمارة الطينية». وأقيم احتفال شعبي تكريمًا لجراس ومرافقيه. وأتذكر أن السفير الأمريكي في صنعاء حضر هذا الحفل على غير توقع، ثم أعلن تبرع بلاده — ربما لشعوره بالغيرة من مبادرة جراس — بمبلغ آخر (متواضع أيضًا) قيمته ١٨ ألف دولار لدعم المدرسة.
كانت فرحة جراس كبيرة بالخطوات التي اتُخذت لتأسيس المدرسة المعمارية في تريم بوادي حضرموت، وأتذكر أنه قال في الحفل ضاحكًا: ليس هناك مدرسة في ألمانيا تحمل اسمي؛ ولذلك فأنا سعيد جدًّا بهذه المدرسة في اليمن. ثم أضاف: «أنا شخص تعود على التدخل في أمور السياسة وفي شئون الغير، ولهذا أنتهزُ هذه الفرصة لأقترح إنشاء قسم للعمارة الطينية في كلية الهندسة بوادي حضرموت.»
الجهل بالآخر؟
بعد هذه الجولة في ربوع اليمن، عاد الوفد إلى صنعاء لحضور فعاليات اللقاء الأدبي.
كان واضحًا لي منذ البداية أن الحوار يجري بين أدباء يجهل كل طرف منهما أعمال الطرف الآخر. كان الكُتَّاب العرب ينظرون نظرة تقدير إلى جراس اليساري الداعم للعالم الثالث وحقوق الإنسان، والمندد بالسياسات الأمريكية والإسرائيلية، ولكن، هل قرءوا أعماله؟
الشيء نفسه يمكن أن يُقال عن الجانب الألماني الذي كان يجهل الأدب العربي جهلًا شبه تام. وهذا ما اعترف به إنجو شولتسه خلال كلمة الافتتاح، مشيرًا إلى أن معرفة الكُتَّاب العرب بالأدب الألماني أفضل بكثير من معرفة الألمان بالأدب العربي. وقال شولتسه إن ذلك يذكره بالوضع في ألمانيا قبل الوحدة، حيث كان الأدباء في ألمانيا الشرقية على اطلاع جيد بما يصدر في الغرب، بينما كان زملاؤهم على الجانب الآخر من الجدار على جهل تام بما يصدر في ألمانيا الشرقية.
في حفل افتتاح ملتقى الرواية ألقيت عدة كلمات من يمنيين وألمان، أظهرت التباين في الأسلوب والتطلعات بين الجانبين، العربي والألماني. ألقى جراس كلمة قصيرة تمنى فيها أن يتغلغل المرح إلى جلسات الحوار بين العرب والألمان، ثم قال ساخرًا: «وهل هناك مفارقة تدعو إلى الابتسام أكبر من أن يتم افتتاح هذا الملتقى الأدبي في صالة أكاديمية الشرطة؟» أما أمنيات الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح فجاءت كبيرة تؤكد على أهمية اللقاءات الثقافية بين سائر المبدعين «لأنها بارقة الأمل الوحيدة الباقية للإخاء البشري وتقدم الحياة على هذا الكوكب في زمن تعثرت فيه كل الرؤى والإيديولوجيات.»
ثم ألقى الكاتب خالد الرويشان، وزير الثقافة اليمني آنذاك، كلمة تقطر شعرًا قال فيها: «ها أنتم تخطون بأصابع أرواحكم رواية أحلامنا، وتنقشون بماء حنين قلوبكم فاتحة أعيادنا الثقافية … إنكم ترسمون برق أيامنا في أفق يومئ لنا وينثال ضياء شاهقًا أخاذًا … أنتم البهاء، أنتم الحب، لقد استحالت جمرة الحنين في داخلكم ضوءًا ودفئًا ينساب من عيونكم وأصابعكم، تحنون إلى هذه البلاد وأنتم في قلبها، وتحن لكم وأنتم في أحداقها.» هذه اللغة المفرطة في شاعريتها، أثارت دهشة كبيرة لدى الألمان، وعنها قالت يوديت هيرمان فيما بعد إنها لا يمكن أن تتخيل أن تسمع أحدًا يتحدث هكذا في ألمانيا. كما كان لافتًا لانتباه الأدباء الألمان — وكما ذكر لي الروائي إنجو شولتسه أكثر من مرة — أن محاور الملتقى دارت حول موضوعات نظرية وعامة وفضفاضة جدًّا، مثل: «الرواية والمكان»، «الرواية والسينما»، «الأدب والحرب»، «زمن الرواية أم زمن الشعر؟»
الأديب والمحرر
من الشخصيات التي لفتت أنظار المشاركين العرب في مؤتمر الرواية ذلك الرجل الهادئ الصموت الذي كان يجلس دائمًا بجانب جونتر جراس دون أن يتفوه بكلمة تقريبًا. تساءل كثيرون: من هذا الرجل؟ وماذا يفعل؟
كان هِلموت فريلينجهاوس طوال أعوام طويلة المحرر الأدبي لجونتر جراس، وهي وظيفة أثارت استغراب معظم الحاضرين من الكُتَّاب العرب. محرر؟ ماذا يعني ذلك؟ وماذا يفعل بالضبط؟ وكان أمرًا مثيرًا للدهشة عندما علموا أن المحرر يقرأ كل نص قبل نشره، وأن عمله لا يقتصر على التصحيحات اللغوية أو إزالة الأخطاء المطبعية، بل يتعداه إلى إدخال التعديلات والتصحيحات على المسودة الأدبية، بموافقة المؤلف طبعًا، كما أنه قد يقترح على المؤلف حذف صفحات بأكملها، أو إضافة مقطع أو أكثر إذا لزم الأمر.
كان وجود المحرر فريلينجهاوس طيلة الوقت إلى جانب جراس مثار استغراب البعض، وفي بعض الأحيان مثار استهجانهم؛ وأتذكر أن كاتبًا عربيًّا قال مفتخرًا: إنه لا يقبل أن يمس أحد مخطوطته أو أن يغير منها حرفًا!
ولعل أكثر مَن يفتقد وظيفة المحرر الأدبي في العالم العربي هو مترجم النصوص العربية إلى اللغات الأخرى؛ لأنه قد يكتشف خلال الترجمة تناقضات في النص وأخطاء تسلَّلَت إليه، ولا يعلم، هل يصححها في صمت، أم يرجع للكاتب (إن كان لا يزال على قيد الحياة، وإذا كان ممكنًا الاتصال به)، أم يترجم كل شيء كما هو؟ ولقد أعرب أكثر من مترجم ألماني عن استغرابه أمامي من خروج هذه الرواية أو تلك إلى القرَّاء بأخطائها، أو بالتكرار والتطويل الذي شاب بعض مقاطعها، أو بالأخطاء الموضوعية، مثل أخطاء في التواريخ، أو في كتابة بعض الأسماء، وكانوا — من ناحيتهم — لا يصدقون أن دور النشر العربية لا تعرف مهنة اسمها «المحرر الأدبي».
جراس وعلي عبد الله صالح
خلال الرحلتين — في عام ٢٠٠٢ و٢٠٠٤م — نُظِّم لقاء بين جونتر جراس والرئيس اليمني آنذاك علي عبد الله صالح. وفي كلا اللقاءين استغل حامل نوبل مكانته ليفعل شيئًا أو يطلب من الرئيس شيئًا. في اللقاء الثاني، في يناير ٢٠٠٤م انتهز جراس الفرصة ليعرب عن افتتانه البالغ بالطبيعة البكر في جزيرة سقطرى، طالبًا من الرئيس الحفاظ على هذه الطبيعة وعدم تشويهها بالسياحة الجماهيرية، كما ناشده أن يعيد التفكير في إنشاء طريق سريع يربط بين الميناء والمطار، لعدم الحاجة إليه من ناحية، ولما سيتسبب فيه من مخاطر بيئية من ناحية أخرى.
أما في المرة الأولى، في ديسمبر ٢٠٠٢م، فقد أراد صالح تكريم جراس ومنحه أرقى وسام في الدولة. غير أن جراس طلب الكلمة أولًا، والتمس من الرئيس العفو عن الكاتب المُلاحَق آنذاك والهارب من اليمن وجدي الأهدل، مؤلف رواية «قوارب جبلية». ويذكر الذين حضروا اللقاء أن صالح فوجئ بهذا الشرط، وطلب مهلة للتشاور مع مساعديه، ثم عاد وقال إنه يعفو عن الأهدل بشرط عودته إلى بلاده ليواجه منتقديه، فهو ليس ملاحَقًا بل هارب من اليمن خوفًا من الملاحقة. وبالفعل عاد الأهدل الذي التقى جراس في اللقاء الذي عقد في يناير ٢٠٠٤م وكتب رسالة إليه قُرئت في اللقاء، قال فيها: «إني مدين لك بحياتي.» ولاحقًا، وبعد وفاة جراس نشر الأهدل مقالة في صحيفة «الوطن» القطرية تحت عنوان «وصايا جونتر جراس» استرجع فيها ذكرياته عن لقائه بجراس، وعبَّر مرة أخرى عن امتنانه للكاتب الكبير الذي «أنقذ» حياته.
ماذا يبقى؟
واليوم، وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على زيارة جراس الأخيرة لليمن، يتساءل المرء: ماذا بقي منها؟ وهل استمر الحوار بالفعل؟
عندما أُتيحت لي الفرصة للحديث مع جراس الذي كان مُحاصرًا دومًا بالصحفيين والكتَّاب، سألته عن الأعمال التي قرأها من الأدب العربي، فقال لي إنه لم يقرأ سوى عدد قليل من روايات نجيب محفوظ، وأضاف أن رواياته أعجبته «بالرغم من كلاسيكيتها»، لا سيما أعماله الأخيرة. لم يستطع يومها أن يذكر لي عنوانًا معينًا، وكان واضحًا أنه قرأها بغرض الاطلاع على عالَم الروائي الذي سبقه في الحصول على نوبل بأحد عشر عامًا.
خلال المؤتمر لاحظ جراس أن الكُتَّاب العرب لا يعرفون الكثير عن بعضهم البعض، ولهذا ذكر أكثر من مرة «جماعة ٤٧» الأدبية، كما دعا إلى عقد ملتقى للناشرين والمترجمين، عربًا وألمانًا، باعتبارهم الجسور التي تنقل الأدب من ضفة إلى أخرى. كل هذه الاقتراحات لم تَلقَ صدًى يُذكر لدى الجهات الألمانية أو العربية، ولم تسفر عن جهد متواصل لتعميق الحوار الذي بدأ في صنعاء. وعندما حل العالم العربي ضيفًا بعدها بأشهر في معرض فرانكفورت للكتاب، في أكتوبر ٢٠٠٤م، لم تستفد الثقافة العربية من زخم اللقاء اليمني، ولم يشارك جراس في الأنشطة العربية في فرانكفورت إلا في قراءة يتيمة مع الشاعرة العراقية أمل الجبوري (التي كانت مقيمة آنذاك في برلين، وهي التي قامت بتنظيم كلتا الرحلتين إلى اليمن بوصفها ملحقة ثقافية في سفارة اليمن في ألمانيا).
على كلٍّ، لم يَبدُ جراس منبهرًا بالشعر العربي أو بأدب محفوظ، أو بأعمال أي كاتب عربي آخر قَدْرَ انبهاره بالعمارة اليمنية؛ فماذا حققت الزيارة في هذا المجال؟ ماذا حدث للمدرسة وقسم العمارة الطينية بوادي حضرموت؟ هل خرَّجت أجيالًا ساعدت في الحفاظ على هذا التراث المعماري الجميل؟ آنذاك وعد صاحب ثلاثية دانتسج بالحضور مرة أخرى إلى اليمن بعد أن يبدأ التدريس في مدرسة العمارة الطينية. وهو ما لم يحدث؛ لأن هذه المدرسة لم تفتتح حتى الآن! هذا ما أكده لي الروائي اليمني علي المقري الذي استقصى الأمر من أصدقائه في وادي حضرموت.
هل كانت زيارة الحاصل على نوبل في نهاية الأمر مجرد «شو» إعلامي استغله النظام اليمني الحاكم لتحسين صورة اليمن؟
وماذا كنت ستقول، يا ضارب «طبل الصفيح»، ويا أيها «المتدخل في أمور السياسة وفي شئون الغير» عن اليمن الغارق الآن في أهوال حرب بشعة بعد أن أصبح ساحة لصراعات أهلية وإقليمية عديدة؟ وماذا كنتَ ستقول عن استغلال اسمك في مشروع وهمي لم ينفذ حتى الآن؟
لقد كنتَ صادقًا في جهودك، وقمتَ بدعاية ثمينة للبلد الذي أحببته، وبادلتَ اليمنيين الحب والود، وكنتَ حريصًا على أن يحتفظ اليمن بخصوصيته الثقافية وتراثه المعماري الجميل، فهل كان القائمون على «الحوار» صادقين؟