جراس يقشر بصلة حياته
هناك أعمال أدبية يجني عليها أصحابها، وذلك بمجرد وَضْع أسمائهم عليها؛ أو فلنكن أدق ونقول: إن اسم المؤلف يحكم على طريقة تَلقِّينا للكِتاب، ويدفع بنا إلى اتجاه مُعيَّن، ويذكرنا بمواقف سياسية ومعارك خاضها صاحب الاسم. الاسم يرتبط بتاريخ صاحبه، ما يقف حائلًا في بعض الأحيان أمام قراءة العمل بدون أحكام مسبقة.
في هذه السيرة الروائية — التي يعتبرها الناقد هوبرت شبيجل، عن حق، أهم أعمال جراس بعد «الثلاثية» — يعود قارع الطبل إلى طفولته في دانتسج، وكأنه يستكمل ما بدأه في روايته الأولى، ولكن بصورة ذاتية بحتة. ليس الحديث هنا عن أوسكار، بل عن الطفل جونتر الذي كان يريد الهرب من المنزل الضيق الذي يطلق عليه في سيرته «الثقب المكون من حجرتين».
يصف جراس «أثناء تقشير البصلة» معايشاته خلال الحرب، والجوع الذي عاناه في معسكرات الأسرى بعد نهاية الحرب، الجوع الذي شغله عن أي شيء آخر، فالهزيمة في الحرب، يقول مؤلف ثلاثية دانتسج، «كانت تعني — أولًا — الجوع» الذي احتل كيان الكاتب «كما يحتل المرء بيتًا خاويًا».
وربما يكون فصل «مع الضيوف على المائدة» من أجمل فصول الكتاب، وفيه تحدث مؤلف «سمكة موسى» عن طباخ أسير معهم في معسكرات الجوع، كان «أستاذًا في الإيحاء». كان الطباخ يسوق «الأحلام المُسمَّنة» إلى الذبح، و«من اللاشيء ينتزع مذاقًا طيبًا، يقلِّب الهواء فيتحول إلى عصيدة. بكلماته كان الحجر يرق ويلين»، فيستحضر أشهى الأطعمة، ويصف لهم كيفية تقطيع اللحم، وأي قطعة من جسم البقرة أو الخنزير تتناسب مع أي وصفة، وما هي التوابل الواجب إضافتها إلى لحم الخرفان … كان يقيم لهم الولائم الشهية، فيسيل لعاب الجوعى، ويسمع كل جندي صوت البلع لدى رفيقه.
وربما لولا الجوع لما أصبح جراس فيما بعد ذلك الطباخ الأسطوري في الوسط الأدبي، ذلك الروائي الذي يعشق دعوة ضيوفه إلى المنزل ليطهو لهم طبخته الشهيرة: حساء العدس بلحم الضأن. ولم يندم جراس على شيء ضاع منه، قدر ندمه على فقدان الكراسة الصغيرة التي دوَّن فيها وصفات طباخ معسكر الأسرى وتعليماته ونصائحه.
في مذكراته يتحدث جراس أيضًا عن أمه وأخته وما مرَّا به «عندما جاء الروس»، وعندما دخل الجيش الأحمر المناطق الشرقية من ألمانيا، كما يتناول معاناة الأم وتهربها الدائم من الإجابة عن تساؤلاته حول تلك الفترة. بعد وفاة الأم يعرف من أخته أن الجنود الروس اغتصبوها مرات ومرات، وأنها قدمت جسدها لهم حمايةً لابنتها.
إشكالية الكتاب هي سيرة صاحبه
لماذا أصبح هذا الكتاب المتأمل فضيحة بمجرد صدوره عام ٢٠٠٦؟ وكيف كان الوسط الأدبي، في ألمانيا وخارجها، سيحكم على هذه السيرة الروائية لو كان جراس كتبها في الستينيات مثلًا؟ أو لو كان كاتِبَها شخص آخر لم يتحول عبر العقود إلى «ضمير الأمة الألمانية»؟
هل هو اعتراف متأخر يخفف من مشاعر الذنب التي ظلت تعذبه طوال ستين عاما؟ ولماذا صمت طوال تلك العقود؟ هل كان السبب هو الخوف من فقدان مكانته الأدبية أو الأخلاقية؟ أم السعي وراء جائزة نوبل والرغبة في الحفاظ على «نظافة صحيفته البيضاء»؟ أم هي — بكل ابتذال، وكما اتهمه خصومه — الرغبة في تفجير قنبلة، قد تكون الأخيرة في حياته؛ قنبلة تسلط عليه الأضواء مرةً أخرى، وتتيح لكتابه الجديد أن يغدو «الأفضل مبيعًا»؟
لم يكن اعترافًا سهلًا هذا الذي باح به صاحب «طبل الصفيح»، وهو يقول في حوار نُشر في صحيفة «فرانكفورتر ألجماينه» بأنه كان على يقين بأنه سيبوح يومًا ما بهذا السِّر، غير أنه ظل يُؤجِّل ذلك حتى أوشك أن يبلغ الثمانين. وعندما قرر أن يكتب سيرته الذاتية، وجد الفرصة مواتيةً لكي يبوح ويعترف، أخيرًا.
هل نقول إن جراس كان ضحية البروباجندا النازية صبيًّا مبهورًا بالقائد، مؤمنًا حتى آخر لحظة «بالنصر النهائي» للألمان؟
كل هذا لم يكن سرًّا، ولم يخفه جراس يومًا. بل إن هذا هو الموضوع الرئيسي في أعمال صاحب «ثلاثية دانتسج»، وسبب شهرته ونجاحه. لم يتخذ كاتب ألماني من التاريخ النازي بكل جرائمه مادةً روائية مثل جونتر جراس. وفي كل أعماله — من «طبل الصفيح» إلى «خطو السرطان» — لم يتوقف جراس عن نبش الماضي النازي الكريه الذي لا يمضي. لم يحاول جراس أن يخفي انبهاره بالنازية، ولم يَسعَ أبدًا إلى التماس الأعذار لنفسه أو لجيل الآباء الذي ارتكب الجرائم، أو صمت عنها، أو أغمض عينيه حتى لا يراها. عبَّر جراس عن هذا الموقف في أعمال ومقالات وأحاديث صحفية لا تحصى.
لماذا أراد جراس، إذن، تناسي انتمائه إلى سلاح اﻟ «إس إس»، وهو الأديب الذي لم يَدَع فرصة إلا وهاجم فيها صمت الأكثرية ورغبتها في تناسي الماضي النازي؟ لماذا لم يبيِّن — طوال تلك السنوات — «تشابك جذور الخير والشر» في سيرته هو، مثلما وصفت لجنة نوبل إنجازه الروائي؟ هذا هو التناقض الرئيسي في حياة جراس، إنسانًا وكاتبًا، ولعله كان أحد دوافعه إلى الكتابة طيلة هذه السنين.
لا يمكن توجيه اتهامات جادة إلى جراس. لقد كان صبيًّا في السابعة عشرة من العمر، وهو لم يطلق خلال الحرب رصاصة، مثلما يؤكد في مذكراته، كما أنه لم يدَّعِ يومًا أنه من أبطال المقاومة ضد النازية. السؤال الذي يطرحه عدد كبير من أصدقاء جراس ومريديه — بغض النظر عن خصومه الذين رأوا الفرصة سانحة لكي ينهالوا عليه بالاتهامات — ليس لماذا كان عضوًا؟ بل لماذا لم يعترف بذلك عبر ستين عامًا، ورغم كل الكتب التي كتبت عن حياته، والتي استندت إلى أحاديث مسهبة أُجريت معه، تحدث فيها عن كل صغيرة وكبيرة في حياته؟ لماذا الآن؟ لماذا متأخرًا إلى هذا الحد؟
لعلنا نتذكر أن هذا هو تحديدًا السؤال الذي بدأ به جراس آخر رواياته «في خطو السرطان»: «لماذا الآن تحديدًا؟» الموضوع الذي تناوله في تلك الرواية هو قصة المُشرَّدِين الألمان الهاربين من وجه الجيش الأحمر، أي إنه تناول أحد المحرمات في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية: الألمان كضحايا. أنْ ينتمي «ضمير ألمانيا الأخلاقي» في شبابه إلى سلاح اﻟ «إس إس» هو لا شك «تابو» آخر، تحاشى حائز نوبل طويلًا الاقتراب منه. كان صمته «حجرًا على قلبه»، كما صرح جراس لصحيفة «فرانكفورتر ألجماينه»، كما كان السبب الذي حمله على البوح، أخيرًا.
التضامن العربي مع جونتر جراس
في أعقاب صدور الكتاب والضجة التي أُثيرت حوله، صدر بيان حسن النية من عدد من المثقفين العرب، تضامنوا فيه مع صاحب «طبل الصفيح»، قائلين: «كيف يمكننا أن نحاسب صبيًّا مراهقًا واقعًا تحت سيطرة الدعاية النازية الجهنمية على تصرف كان في حقيقته اضطرارًا لا اختيارًا؟»، وامتدح الموقعون على البيان شجاعة جراس الأخلاقية؛ لأنه قدَّم اعترافه بدون أي ضغط خارجي. واعتبر الموقعون أن الحملة الموجهة ضد جراس «تدبير سياسي غير أخلاقي هدفه تحويل الأنظار عن جرائم الاسرائيليين التي تُرْتَكب الآن في فلسطين ولبنان بالحديث عن جرائم النازيين في حق اليهود.»
وإذا كان صحيحًا أن جراس كان صبيًّا عندما انضم إلى قوات اﻟ «إس إس»، وأن اعترافاته تَنمُّ حقًّا عن شجاعة، فإن هذا البيان — في رأيي — يعبر عن سوء فهم للجدل الذي دار آنذاك في ألمانيا. لقد ظن البعض في العالم العربي أن الهجوم الشرس على جراس سببه انتقاد إسرائيل، فسارعوا إلى التضامن مع الكاتب اليساري الشجاع. ولكن المتابع للحملة التي شُنَّت على جراس في عام ٢٠٠٦م يعرف عدم صحة ذلك، وأن الحملة لم يكن هدفها «تحويل الأنظار عن جرائم الإسرائيليين»؛ لأن جراس ظل يؤكد منذ سنوات الستينيات أنه صديق إسرائيل؛ وحتى عندما وَجَّه النقد إلى إسرائيل بعد ذلك في قصيدته «ما ينبغي أن يُقال» (٢٠١٢م) لامتلاكها السلاح النووي وتهديدها لجيرانها، لا سيما إيران، فقد فعل ذلك باعتباره صديقًا لإسرائيل.
لم تكن إسرائيل، في رأيي، هي سبب تلك الحملة. لقد كان السبب صَمْتَ جراس عن ماضيه طيلة ستة عقود، وعدم تورعه في الوقت نفسه عن مهاجمة الآخَرِين؛ لأنهم لم يواجهوا ماضيهم بشجاعة. لقد تناسى الموقعون أن الضجة التي أُثيرت في ألمانيا كانت حول رجل تحوَّل برواياته ومقالاته ومواقفه السياسية إلى مؤسَّسة أخلاقية وضمير ألمانيا بعد الحرب، فإذ بالقراء يكتشفون أن «واعظ» ألمانيا منافق، صمَتَ ستين عامًا عندما تَعلَّق الأمر بشخصه.
ما أثار اهتمام قطاع كبير من الألمان آنذاك هو: هل ما زالت مواقف جراس السياسية تتمتع بالنزاهة والمصداقية السياسية؟ هل تتطابق الأقوال مع الأفعال لديه؟ وأعتقد أن النِّقاش الألماني كان دليلًا على تعامُل صِحِّي مع الماضي. قد يبالغ الألمان في جلد الذات؛ نظرًا لضخامة الكارثة النازية، وقد يبدو موقفهم غريبًا في بلدان تنزع إلى الإزاحة والنسيان. ولعل ردود الفعل الألمانية على اعترافات جراس تبدو غريبة في مصر مثلًا؛ لأننا اعتدنا فصل الأدب عن صاحبه، وفصل المواقف السياسية المنافقة عن إبداع الكاتب. كثيرًا ما يقولون عندما يُنتقد أديب أو شاعر أو مطرب ينافق السلطة الحاكمة: دعونا من آرائه السياسية العابرة، يكفينا أدبه الخالد أو فنه الباقي!
في إحدى مقالاته تحدث الشاعر اللبناني عباس بيضون عن ظاهرة فريدة لاحظها في ألمانيا، ألا وهي «مديح الهزيمة». والمديح هنا يعني النظر إلى الهزيمة باعتبارها فرصة لتصحيح المسار وتقويم الأمور. وإذا نظرنا إلى الجماهير العربية وكيفية تعاملها مع جرائم حكامها وأخطاء ساستها أو نفاق كتَّابها، وإذا تَمعَّنا النظر في موقف المثقفين العرب في البيان المذكور، نجد أننا نكره الهزيمة والضعف والتناقضات البشرية، وأن معظمنا يرى أن من الأفضل تجاهُل الماضي، ونسيان أخطاء الذات، وإلقاء الذنب على الآخَرِين الذين يكيدون لنا المكائد، وينسجون المؤامرات.
من هنا تبدو شجاعة جونتر جراس كبيرة حقًّا، حتى وإنْ كانت متأخرة جدًّا. لقد استراح جراس بعد اعترافه؛ ولهذا صرح بعد صدور سيرته أنه يستطيع، أخيرًا، «أن يفرح كطفل».