غرفة الذاكرة المظلمة
عندما قرأ جراس من كتابه الصادر في عام ٢٠٠٨م بعنوان «الصندوق» على خشبة مسرح تَاليَا بمدينة هامبورج، اندفع شابَّان من الصفوف الخلفية ورفَعَا لافتة تتهمه بأنه يكتب نثرًا ضبابيًّا يغطي على الحقيقة. بالطبع لم يكن الشابَّان يقصدان كتابه الجديد فَهُما بالتأكيد لم يقرآه، ولكنهما كانا يقصدان سيرته «أثناء تقشير البصلة». باستثناء هذه الشوشرة المحدودة، صدر الجزء الثاني من سيرة جونتر جراس بعنوان «الصندوق» بهدوء تام، ولم يثر أي ضجة، أدبية كانت أو سياسية.
«الصندوق» كتاب عائلي، أبوي، يتحدث فيه «البطريرك» جراس عن نفسه وعن أولاده الثمانية، وذلك في الفترة منذ صدور باكورة رواياته «طبل الصفيح» عام ١٩٥٩م وحتى الحصول على جائزة نوبل عام ١٩٩٩م. «الصندوق» كتاب مُسالِم، ألَّفه جراس على شكل حكاية يحكيها لأولاده وبناته، ويبدأ بالجملة التقليدية التي تبدأ بها حكايات الأطفال: «كان يا ما كان، كان هناك أب تَقدَّم به العمر فنادى على أولاده وبناته الأربعة، الخمسة، الستة، الثمانية، إلى أن رضخوا لإرادته بعد تردد طويل، وجاءوا. وها هم الآن يجلسون حول مائدة، ويتجاذبون أطراف الحديث.»
هل تبوح الحكايات التي استخرجها جراس من «الغرفة المظلمة» بأسرار جديدة عنه؟ هل يواصل بهذا الجزء من سيرته الكشف عن المجهول في ماضيه؟ لا، فالكتاب لا يضم سوى حكايات عن رب العائلة جراس، أما ماضيه ونشاطُه السياسي فيبقى مدفونًا في ذلك «الصندوق» المظلم. وعلى ما يبدو فإن ضجة «تقشير البصلة» دفعت بالأديب الذي كان في شبابه من قارعي الطبول أن يختار للبوح صوتًا هامسًا.
عاشق اللغة الألمانية
في عام ٢٠١٠م صدر الجزء الثالث من سيرة جراس تحت عنوان «كلمات جريم»، وفيه يتحدث عن الأخوين جريم اللذين وضعَا أول معجم شامل للغة الألمانية. وكأي معجم مُرتَّب ترتيبًا أبجديًّا، يبدأ جراس كتابه بفصل يحمل حرف الألف وينهيه بفصل يحمل حرف الياء. في كتابه يأخذ جراس القارئ إلى القرن التاسع عشر، كما يتحدث عن موضوعه الأثير؛ أي عن نفسه وحياته.
في «كلمات جريم» يطلع جراس القارئ على الأسباب التي دفعته ليكون كاتبًا ملتزمًا ومواطنًا مشاركًا في الهم السياسي، متخذًا من الأخوين جريم سبيلًا، ومعبرًا عن إعجابه بصلابة الموقف السياسي للأخوين جريم اللذين تُمرَّدَا مع خمسة آخرين ضد ملك هانوفر إرنست أوجست عندما قرر الملك إلغاء الدستور عام ١٨٣٧م. هذا المزج بين السيرتين، سيرة الأخوين جريم وسيرة صاحب «طبل الصفيح»، نراه في فقرة كهذه:
«أقف بجانب ياكوب جريم الذي يجلس القرفصاء وأحاول أن أجعله يقرأ بعناية رسائل الموسيقار مندلسون بارتولدي، غير أن الموسيقى والموسيقيين لا يثيرون اهتمامه، حتى إذا كانوا من المشاهير في كافة أنحاء العالم. وعندما ألفتُ انتباهه إلى الرسالة الشهيرة التي وجهها كلاوس مان في عام ١٩٣٣م إلى الشاعر جوتفريد بن، والرد البشع للشاعر على الكاتب الشاب، فإن جريم يظل مستغرقًا فيما يفعله ولا يعيرني أدنى انتباه. وحتى عندما حكيت له عن مراسلاتي مع الكاتب التشيكي بافل كوهوت الذي كان مفعمًا بالأمل خلال ربيع براغ، أو عن مراسلاتي مع الكاتب الياباني «كانيابورو أو» التي تحدثنا فيها عن تاريخ الحروب التي تسبَّبتْ بَلدَانَا فيها، عَاقدين المقارنة بين اليابان وألمانيا، كل ذلك لم يُثِر اهتمامه. وعندما هممت بترك غرفته، بدا وكأنه يود أن يعيرني آذانه عندما تسنح الفرصة بذلك.»
وهكذا يطالع القارئ حكايات من العالم المحيط بجونتر جراس، مثلًا عن المستشار الأسبق فيلي برانت، وعن الأديب هاينريش بُل. غير أن الرواية أكثر من ذلك، مثلما قال جونتر جراس: «الرواية بالأحرى إعلان حب للغة الألمانية، ليست إعلان حب للأخوين جريم اللذين يتمتعان بلا شك بمكانة عالية في التاريخ، إنه إعلان حب للغة التي أشتغل بها منذ ستة عقود متواصلة.»
ترجمة «الكلمات»
للترجمة سحر جذاب وبريق خلَّاب. عبر الترجمة يشعر الكاتب بالتواصل مع الآخَر الذي يعيش في بلد مختلِف وثقافة مُغايِرة. ولكن، مَن يفكر في الاتصال بمترجميه وشرح ما غمض عليهم من معانٍ؟
عندما ظهرت ترجمة «طبل الصفيح» عام ١٩٦٣م في الولايات المتحدة، حققت نجاحًا أذهل كاتبها الذي ظن أن موضوعها لا يهم القارئ الأمريكي من قريب أو بعيد. منذ ذلك الحين التفَتَ جراس إلى دور الترجمة، وإلى أهمية التعاون مع المترجمين حتى تظهر الترجمة في أفضل صورة. وجراس هو الكاتب الألماني الوحيد الذي يشترط على الناشرين الأجانب أن يدعموا سفر المترجِمِين إلى ألمانيا للاشتراك في حلقة دراسية يعقدها جراس مع المترجمين من مختلف اللغات لمناقشة مشاكل الترجمة معهم، والتي قد تستمر أسبوعًا (لدى ترجمة عمل ضخم مثل «سمكة موسى») أو ثلاثة أيام (كما في «خطو السرطان»). وقد تحدث مترجمو جراس عن خبراتهم في أثناء الترجمة في الكتاب الشيق الذي ترجمه الى العربية د. علي يحيى منصور، وصدر في صنعاء عام ٢٠٠٤م بعنوان «سمكة موسى تتحدث بلغات عديدة».
وكانت آخر مرة التقى فيها جراس بمترجميه في مارس ٢٠١١م لمناقشة صعوبات ترجمة «كلمات جريم» التي اعتبرها كثيرون غير قابلة للترجمة، فالكتاب موضوعه اللغة الألمانية؛ ولهذا يحفل بالتلاعب اللفظي والابتكارات اللغوية، ما يجعل ترجمتها إلى اللغات الأخرى أمرًا صعبًا، إن لم يكن مستحيلًا، لا سيما إلى لغات بعيدة كل البعد عن اللغة الألمانية، كاللغة العربية أو الصينية أو اليابانية.
هذه الصعوبات الجَمَّة جعلَت المترجم الأمريكي مايكل هنري هايم يترك جُملًا بأكملها باللغة الألمانية دون ترجمة، وتحديدًا تلك الجمل التي يتلاعب فيها جراس بالكلمات، أو التي تتسم بوزن وقافية وسجع، ثم أعقب تلك الجمل بشروح داخل قوسين. فهل يمكن اعتبار ترجمة كهذه موفقة؟ وَمن سيقرأ كتابًا يحتشد بمثل هذه الشروح والتعليقات اللغوية المرهِقة؟
إن ترجمة كهذه تذهب تمامًا بطلاوة لغة العمل الأصلي وجمالها، وهي تشبه أن يشرح المرء نكتة شرحًا مطولًا قبل أن يحكيها، فهل سيضحك عليها أحد في النهاية؟ إن عملًا ﻛ«كلمات جريم» يثير من جديد قضية قابلية الترجمة واستحالتها. مَن ينهض بترجمة عمل كهذا، لا بد أن يتمتع بقدرات لغوية كبيرة تتيح له أن يتلاعب بلغته الأم وأن يشكل عملًا موازيًا للأصل، مثلما حدث في ترجمة رواية جيمس جويس «عوليس» التي تستعصي ترجمتها أيضًا.
لكن كل هذه القضايا لم تكن تشغل بال المؤلِّف خلال الكتابة، وهو قال أكثر من مرة: «يجب أن أعترف بأن صعوبات الترجمة لا تشغل بالي أبدًا أثناء الكتابة، فالكاتِب إذا فعل ذلك، سيبدأ في الكتابة بلغة قد تخدم العولمة، لكنها ستكون لغة مسطحة لا تغني ولا تشبع.»