الشاعر: «بهلوان يغير العالم»
•••
•••
•••
ارتبط جونتر جراس في أذهان معظم القراء بروايته الفذة «طبل الصفيح»، ولذلك لا يعرف كثيرون خارج ألمانيا أنه أيضًا نحَّات ورسَّام وشاعر، وأنه، أساسًا، دخل دنيا الأدب من باب الشعر، وكان في أوائل الستينيات من أهم الأصوات الأدبية المُجدِّدة في ساحة الشعر الألماني.
في قصيدته السابقة، «نداء صغير لفتح الفم – أو: النافورة»، تتجلَّى سِمات الشاعر والأديب الرافض، الباحث في اللغة عن بداية جديدة بعيدة عن سيطرة التقاليد والتراث، شاعر يبحث عن الخبرات الملموسة والمحسوسة، وليس عن الأفكار المُجرَّدة السامية. كان جراس شاعرًا حسِّيًّا بكل معنى الكلمة، وقد عبَّر مرَّةً عن ذلك قائلًا: «إني أقف موقف المتشكك أمام كل ما لم ألمسه بإصبعي، أمام كل ما لم أشمه أو أتذوقه، أمام كل شيء لا يعدو أن يكون سوى أفكار.» هذه الفكرة صاغها في قصيدته «ديانا»، إلهة الصيد عند الرومان:
«أقرب وسائل التعبير الفنية»
في عام ١٩٥٤م نَظَّمت إحدى الإذاعات الألمانية مسابقة للشعر، فاختارت شقيقة جراس وزوجته عددًا من قصائده التي لم يَسعَ حتى ذلك اليوم إلى نشر إحداها، وأرسلتاها إلى الإذاعة، فإذا بهم جميعًا يُفاجَئُون بفوز الشاعر الشاب بالمركز الثالث. كشفت تلك المسابقة عن موهبة جراس المبكِّرة وتعامله الجريء مع الكلمة. بعدها، وبناء على توصية أحد أعضاء لجنة تحكيم المسابقة، تلقَّى دعوة من «جماعة ٤٧» الأدبية الشهيرة ليحضر اجتماعهم السنوي. هناك ألقى جراس بعضًا من أشعاره فلفت الانتباه، وسرعان ما وجد نفسه محاطًا بزمرة من الناشرِين الذين انتزعوا تلك القصائد من يده، هامسين في أذنه بأسماء دور النشر الكبرى. يقول جراس: «ظننت أن العصر الذهبي سوف يبدأ بالنسبة إليَّ، إلا أنني لم أسمع بعد ذلك حرفًا واحدًا من هؤلاء الناس.» وفي عام ١٩٥٨م صدر أول دواوينه «مزايا دجاج الريح»، ومنه القصيدة التالية بعنوان «خزانة ملابس مفتوحة»:
تُبيِّن هذه القصيدة سمات شعر جراس في تلك الفترة: كان الشعر بالنسبة إليه جَرْدًا وإحصاء للأشياء، ثم بَعْثًا للحياة فيها وتشخيصها. شعر جراس، مثله في ذلك مثل شعر هانز ماجنوس إنتسنسبرجر الذي ظهر في الفترة نفسها، كان يستمد كلماته من لغة الحياة اليومية، وهي لغة تتعامل مع الواقع بوعي وبصراحة صادمة في كثير من الأحيان. في شعر جراس نجد مفردات مثل: الحذاء، والخنفساء، وخزانة الملابس، والكرنب، والكرسي، والتقيؤ، وأيضًا كرة القدم، كما في قصيدته القصيرة «الاستاد الليلي»:
بعد هذه البداية الشعرية أصدر جراس عام ١٩٥٩م روايته الأولى، واعتقدَ كثيرون أن الكاتب الشاب سيتفرغ للرواية التي منحته الشهرة العالمية، إلا أن جراس لم يَسعَ أبدًا إلى التخصص، بل ظل يتنقل بين مختلف أدوات التعبير الفني من كلمة وصورة، دون أن يشعر بالالتزام بنمط واحد. بعد عام واحد من صدور «طبل الصفيح» عاد جراس إلى الشعر الذي اعتبره — مثلما كرر في أكثر من حديث — أقرب وسائل التعبير الفنية إلى قلبه؛ لأنه يتيح للشاعر «أن يضع نفسه بكل دقة تحت المجهر، معيدًا في كل مرة اكتشاف الذات.» وفي عام ١٩٦٠م صدر ديوانه الثاني «مثلث القضبان».
بلا مظلة
عند الدرجة مائة
«القصيدة لا تعرف الحلول الوسط»
في عام ١٩٦٧م صدر ديوان جراس الثالث «مطر الأسئلة» الذي غلب عليه الشعر السياسي، وتباينت قصائده تباينًا كبيرًا في المستوى، فمنها شعر يُعد من أجمل ما كتب، ومنها قصائد سياسية مباشرة تموت بمرور الأيام.
في خطاب له عن الشعر قال جراس: «القصيدة لا تعرف الحلول الوسط، أما نحن فإننا نعيش على الحلول الوسط. مَن يتحمل هذا التناقض المتوتر ويقدم على الفعل، فهو بهلوان يغير العالم.» هذا التناقض المتوتر لا يشعر به قارئ أشعار جراس دائمًا، ولكنه واضح تمامًا في القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها، وفيها يدور حوار بين رجل أخلاقي وبين الشاعر البهلوان الذي يعلن عن رغبته في البوح (هاجس جراس على ما يبدو منذ بداياته الفنية)، وعزمه على الاستغناء عن كل الحيل الفنية؛ عن رغبته في الرقص دون شبكة، والتحدث دون مواربة، ثم يتراشقان سؤالًا وجوابًا على النحو التالي:
كيف الأحوال؟ – مرت أيام كانت أسوأ.
هل كنتَ محظوظًا؟ – الطُّعم كان السبب.
وماذا فعلتَ منذ ذلك؟
– مكتوب في الكتب كيف تتحسن الأمور.
أعني ماذا فعلتَ أنتَ؟
– كنتُ معارضًا. دائمًا معارضًا.
وهل أُدنتَ؟ – لا، فأنا لم أفعل شيئًا.
وهل أدركتَ ما يمكن إدراكه؟
– نعم، أدركتُ المطاطَ بقبضتي.
•••
وماذا عن أمَلِك؟ – أوهمني أن الصحراء خضراء.
وغضبك؟ – ثلجٌ يقرقع في كأس.
الخجل؟ – نتبادل التحية عن بعد.
خطتك العظيمة؟ – لن تُحقِّقَ إلا نصف ما تمنيتُ.
هل تنسى؟ – في الفترة الأخيرة: رأسي.
والطبيعة؟ – غالبًا ما أمرُّ بها أثناء سفري.
الناس؟ – أحب أن أراهم في الأفلام.
ستموت ثانية. – نعم، قرأتُ عن ذلك.
مَن يدلكني بالصابون؟ ظهري
بعيدٌ عني مثل – لا!
لم أعد أريد التشبيهات
والاجترار، ووخز المقاطع،
والانتظار حتى أكتب بمداد المرارة.
هل تحسنت الأمور الآن؟ – يبدو ذلك.
هل أواصل الأسئلة؟ – أمطرني بالأسئلة.
بعد صدور ديوانه الثالث، صمت جراس شعريًّا سنوات طويلة متفرغًا فيها لكتابة الرواية والعمل السياسي، مثلما رأينا في فصل سابق. وفي عام ١٩٧٧م صدرت روايته الضخمة «سمكة موسى» التي ضمَّنها عددًا كبيرًا من القصائد المرتبط معظمها بأحداث الرواية. في «سمكة موسى» مزج جراس النثر بالشعر، واختتم العديد من المقاطع بقصيدة ذات صلة بالأحداث، ولم يتورع عن كتابة قصائد عن أشياء مثل البراز «المألوف لنا» الذي يحمل «دفء أجسادنا». ومن القصائد الواردة في الرواية هذه القصيدة بعنوان «دردشة حول الطقس»:
•••
•••
«رقصات أخيرة»
ومن آخر دواوين جراس الكبيرة ديوان «رقصات أخيرة» الذي صدر عام ٢٠٠٣م. كتب جراس قصائد هذا الديوان خلال عمله على روايته «في خطو السرطان». أثقلت مادة الرواية على كاتبها، فأمسك بالطمي وراح يشكل، وتناول الفحم وأخذ يرسم، وأمسك بالقلم ليكتب الشعر ترويحًا عن نفسه. كتب جراس قصائد حسية عن الرقص الذي تَعلَّمه وأحبه منذ صباه وظَل من عشاقه، وعن الحب والجنس، أيضًا بعد أن تجاوز السبعين. ومن القصائد التي «أعادت إليه الشباب» وأشعرته بأنه، حسب تعبيره، «شبيه الرب» القصائد الثلاث التالية:
جنوح
بلا خجل
من فِراش مألوف
ومن الممكن اعتبار «رقصات أخيرة» سيرة ذاتية شعرية شديدة الخصوصية لحامل نوبل. في أشعار الديوان يعرِّي جراس ذاته، كاشفًا عن نقائصه وعيوبه وهشاشاته وأهوائه، ومفتخرًا بنفسه أيضًا. هنا يقابل القارئ جراس الراقص، العاشق، رب العائلة المفتخر ﺑ «قبيلته» الكبيرة، جامع الفُطر في الغابات، والمتأمل في الطبيعة. كما نتعرف إلى جراس السياسي الذي ينتقد أوروبا قائلًا: «آه يا أوروبا القديمة/بعد كل هذا الفالس/وتصدير السلاح/تتفرجين على ما يحدث/بأعين عمياء دامعة» (قصيدة: «عندما شاع الفالس»). كما يَوجِّه النقد إلى ممارسات الولايات المتحدة لاستخدامها القنابل العنقودية التي «تتعرف على الكل/سواء كان امرأة أو رجلًا أو رضيعًا/وحتى كلب الجار» (قصيدة «تنويعات على نغمة قديمة»)، أو الجنرالات السود (مثل كولن باول) الذين أصبحوا «أكثر بياضًا من البيض»، الذين «ينجزون — بلا شكوى —/الصفقات الكونية التي يأمر بها سادتهم الرؤساء» (قصيدة «أغاني البلوز العسكرية»).
ولعل القصيدة المفتاح في الديوان هي «اعترافات ناقصة لآثم لا يتوب»، ليس فقط لأنها أطول القصائد؛ في هذه القصيدة يقدم جراس اعترافاته، وهو الكاثوليكي التربية الذي كان شمَّاسًا قبل أن ينشق عن الكنيسة ويبتعد عن الإيمان، ويتحدث عن ذنوبه وعن نظرته إلى ذاته في خريف عمره:
«من بين كل مباهج الحياة» كان جراس يعشق، مثل سيزيف، «دحرجة الصخرة»، «ثم كنت راقصًا/على حبل شددته بنفسي/يبحث عن خلاصه في الجُب». وفي الوقت الذي كان يهرب فيه من الرقص ودحرجة الأحجار، كان «يُوفق في كتابة قصيدة/ليس للوزن فيها مكان/ولكن بين السطور تَنبت بذرة الحقيقة/أبياتي كانت تعرج، لكنها لم تُصَب أبدًا بالشلل.» وتظل الاعترافات ناقصة، يبوح جراس؛ لأنه كان يشتري دومًا «صكوك غفران، قطعة قطعة، وبالتقسيط.» وعلى نحو ما، استكمل جراس هذه الاعترافات الشعرية عندما كَتَب سيرته الذاتية «أثناء تقشير البصلة».
إنه هو، ما زال
في السنوات العشر الأخيرة أصدر جراس عدة مجلدات شعرية فخمة مزودة برسوماته بالفحم، وهي: «غنيمة شِعرية» ٢٠٠٤م، و«أغسطس الغبي» ٢٠٠٧م، و«أمور عابرة» ٢٠١٢م، وفي عام ٢٠١٢م عاد جراس ليثير الجدل بقصيدته عن إسرائيل، ثم بقصيدة أخرى حول أزمة اليونان المالية نَشَرها في صحيفة «زود دويتشه» بعنوان «عار أوروبا»، انتقد فيها سلوك أوروبا مع بلاد الإغريق، مهد الحضارة الأوروبية.
وعندما تُوفِّي جونتر جراس في الثالث عشر من أبريل ٢٠١٥م، كان النقاش حول مواقفه السياسية طاغيًا، وكادت رواياته وقصائده تتوارى عن الأنظار. ومن المؤكَّد أن جراس سيظل بأدبه ومواقفه مشاكسًا، حتى بعد وفاته، وستظل بعض هذه المواقف مثيرة للضجيج والجدل، أو كما كتبَ هو يومًا تحت عنوان «زاد الطريق»: