«أخيرًا أستطيع أن أقول أخيرًا»
بعد مرور أربعة شهور على وفاته، أثبت جراس أن ما زال لديه ما يقوله، وأن كتابًا جديدًا له يستطيع — في قبره — أن يُحدِث ضجة في دنيا الأدب الألماني.
بدأ جراس حياته المهنية بِتعلُّم نحت الأحجار، وكحِرفي ظل يعمل على كتابه ليقدم آخر تحفة فنية في حياته. لم يَمتدَّ به العمر ليلمسه بعد طبعه، ويُقلِّبه في يده، ويجري بشأنه اللقاءات الصحفية. وهكذا صدر «عن الزوال» (١٧٦ صفحة من القطع المتوسط) بعد وفاة جراس ليكون وصيته الأدبية.
يضم المجلد الجميل نصوصًا نثرية وقصائد ورسومًا تدور معظمها حول الشيخوخة والوهن. إنها نصوص رجل يعرِّي نفسه طواعية، ويتحدث عن ضعفه وهشاشته بصدق، ويسخر من ذاته برفق؛ وهي نصوص رجل راضٍ عن نفسه وإنجازه وحياته، ومُتصالِح مع ذاته؛ رجل يَترقَّب مَقْدِم الموت، ليس لأنه ملَّ الحياة — فهو مستمتع بها، حتى لو لم يَبقَ في فمه سوى سِن واحدة — ولكن لأن قلب المُدخِّن الشره أنذره مرارًا بدنو الأجل. وجد الشاعر نفسه يتردد على المستشفيات التي يُطلِق عليها «ورش التصليح»، وهناك كان يُجْبَر على ابتلاع أكوام من الأقراص مختلفة الأحجام والألوان. راح يسأل: كم يَتبقَّى؟ ولمَ الحياة؟
أدرك عندئذ أن «وقت التمرن على الوداع» قد حان، فأخذ يستحضر حياته، ويودِّع أصدقاءه وجسد المرأة والآلة الكاتبة اﻟ «أوليفتي»، «عشيقة الجد»، كما يطلق عليها أحفاده. فَقدَ الجسد حواسه، وضاقت دنيا الكاتب الذي كان كثير الأسفار: «لم يعد السفر ممكنًا/إلا بالأصابع فوق الخريطة/بلا جواز سفر، ولا أمتعة» (من قصيدة «شكوى مسافر أصبح مقيمًا»). ولعله رأى في الموت خلاصًا وراحة: «لا ألم في الأسنان بعد اليوم/أخيرًا أستطيع أن أقول أخيرًا» (من قصيدة «نقطة النهاية»).
ما يُبِعد هذه النصوص عن رثاء النفس والشكوى المُرة هي نبرة السخرية من الذات، والمرح الخافت الذي يتخللها، وأيضًا روح المُقاوَمة التي لم يَتخلَّ عنها قارع الطبل. بسنِّه الأخيرة ينوي جراس ألا يقول «نعم» بعد اليوم: «لن أقول إلا: لا، لا لا، ولا» (من قصيدة: «بورتريه شخصي»).
اختار جراس للغلاف لوحة يغطيها الريش، ريش خفيف أبيض تتلاعب به الرياح. كما رسم في الكتاب غليونه الشهير، دخان الغليون يتلاشى أيضًا في الهواء دون أن يترك أثرًا باقيًا. لكنه هنا غليون بارد، فالأطباء منعوه عن التدخين. أما الحلزون — الذي حمل عنوان أحد أعماله في مطلع السبعينيات — فهو يخلِّف وراءه أثرًا لزجًا، لكنه أيضًا زائل. يقول جراس في قصيدة «رسائل الحلزون»:
«كنتَ تبدو سعيدًا راضيًا»
وأطول نصوص المجلد هو النص النثري الذي يحمل عنوان «أين سنرقد»، وهو نص مُؤثِّر يحكي فيه جراس بالتفصيل، وبنبرة تقريرية محايدة تزيد من تأثيره، عما راودته من أفكار بشأن التابوت الذين سيُدفن فيه. استدعى جراس نَجَّارَه، السيد إرنست أدومايت، وتحدَّث معه عن رغبته في صُنع تابوت له وآخر لزوجته. تناول جراس منديلًا ورقيًّا، ورسم عليه «ما لا يحتاج إلى رسم»، وطلب من النجار صُنْع تابوته من خشب البتولا، في حين انحازت زوجته أوته إلى خشب الصنوبر الأغمق قليلًا. لم يعترض النجار، وأخذ مقاس كل منهما، ثم طلب جراس أن يزوَّد كل تابوت بثمانية مقابض، بعدد أولادهما معًا، أربعة على كل جانب. ولكن كيف سيُثبت غطاء التابوت؟ يتذكر جراس عندئذ أنه حصل بعد الحرب — خلال عمله نحاتًا لشواهد القبور وأثناء ازدهار المقايضة — على عدد من مسامير التوابيت، مسامير صنعها حداد بيديه، وذلك مقابل خمس سجائر من ماركة «لاكي سترايك». وهكذا أضحت تلك المسامير مادة لرسومه عندما كان طالبًا في أكاديمية الفنون (وتزين الآن كتابه). استمع النجار إلى حكايته بتهذيب، ولكن دون اهتمام كبير، ثم اقترح أن يستخدم لتثبيت غطاء التابوت خوابير من الخشب، وليس مسامير.
بعد ذلك شغل بال جراس السؤال التالي: ما هي نوعية البطانة في التابوت؟ وكيف سيكون الكفن؟ راح يستعرض كافة الإمكانيات مع زوجته، ثم استقر أخيرًا على ورق الشجر، إذا حانت ساعته في الربيع فليكن ورق الشجر البض هو الذي يغطي جثمانه، وفي الصيف سيكون الورق أخضر في كامل زهوه، أما في الخريف — أحب الفصول إلى قلبه — فسيكون سعيدًا بالأوراق الملونة التي ستغطيه، وفي الشتاء سيكتفي بالورق الجافِّ الهشِّ من شجرة الجوز وشجرة الحور في حديقته، مع بعض ثمار الجوز. من قمة الرأس حتى أصابع القدمين يجب أن يغطي ورق الشجر جسده، وعلى العينين المغلقتين يجب وضع ورق الورد مثلما رأى في كلكتا بالهند.
عندما ورَّدَ النجار التابوتين في الخريف، رقد كل منهما في تابوته، على سبيل التجربة. بعد ذلك مدت أوته يدها لجراس وساعدته على النهوض قائلة: خسارة، ليس معي آلة تصوير. وعندما سألها عن السبب قالت: «كنتَ تبدو سعيدًا راضيًا.»
بعد ذلك راح جراس يفكر في القبر. كانت رغبته في البداية أن يُدفن في حديقة بيته. لكن القانون الألماني يمنع ذلك. هل يأمر بحرق جثمانه ليقوم أولاده بنثر الرماد في الحديقة؟ لا، ينبغي أن يتغذى الدود على رفاتهما، يقول جراس. لذلك قرر الذهاب مع زوجته إلى قس القرية، وطلبَا منه — بعد أن صارحاه بأنهما لم يَعُودَا يؤمنان بالله — توفيرَ مكان لهما في المقبرة التابعة للكنيسة. لم يُمانِع القس، وخصَّص لهما قطعة أرض تحت شجرة سامقة، يرقد الكاتب تحتها الآن راضيًا.
البحث، دون جدوى، عن مِمْحَاة
ورغم الرضا الذي يشعر به القارئ في عدد من نصوص الكتاب، فإن جراس كان يتملكه الخوف أحيانًا؛ الخوف من انزلاق الحجر الذي دحرجه، و«الخوف من الفقدان» مثلما يقول عنوان إحدى قصائده:
ولن يكون جراس هو جراس، لو خلا كتاب له من السياسة، حتى لو كان كتابه الأخير الذي يتحدث عن الشيخوخة والزوال. وربما كان يجدر بالناشر حذف بعض تلك القصائد التي تبدو مُقحَمة ومُستهلَكة، والتي يتحدث فيها عن البورصة والحروب وأزمة اليونان المالية.
ولعل قصيدة «ماما» (وهو اللقب الذي يُطلق على المستشارة أنجيلا ميركل في ألمانيا) هي أطرف القصائد السياسية وأجملها. في هذه القصيدة ينتقد جراس الاشتراكي بسخرية لاذعة أسلوبَ المستشارة اليمينية في الحكم، ويقول:
الغائب الحاضر
لو كان جراس يعيش في ألمانيا خلال أزمة اللاجئين (٢٠١٥-٢٠١٦)، لما ترك الساحة السياسية للمتطرفين اليمنيين وممتهني السياسة. في كل يوم تصحو البلاد على نبأ حريق مُتعمَّد في أحد مقرات استقبال اللاجئين؛ وبينما يهلل أنصار اليمين، لا يَسمع أحد للكُتَّاب صوتًا. نعم، لقد تغير الزمن، ولم يَعُد الأدباء في ألمانيا يقومون بدور المُحذِّر والناصح والواعظ، مثلما كان يفعل جونتر جراس الذي انحاز دائمًا للاجئين والضعفاء، وخاصة على خلفية ما شهدته عائلته بعد الحرب. هذا ما يتعرض إليه جراس في قصيدة آنية للغاية بعنوان «معاداة الأغراب»، يصل فيها الماضي بالحاضر، ويستحضر خبراته الشخصية، ليبدو في القصيدة وكأنه يتكلم عَمَّا تعيشه أوروبا الآن خلال نزوح مئات الآلاف من اللاجئين إليها.
آنذاك، عندما نزح ملايين من الألمان، «بأمتعة قليلة، وذكريات ثقيلة»، من المناطق الشرقية التي فقدتها ألمانيا بعد الحرب، أجبرت الدولة سكان المناطق الغربية على استضافة اللاجئين في بيوتهم. وبالطبع لم يكن مُرحَّبًا بهم، كأفراد عائلة جراس الذين كانوا يسمعون في كل يوم مَن يصرخ في وجه أفرادها: «عودوا من حيث أتيتم!»
مكث الغرباء ولم يُغادِروا، يقول جراس في قصيدته، ولكن بَقِيَت الصيحة، عودوا من حيث أتيتم: «وعندما أصبح السكان الأصليون/غرباء تمامًا عن أنفسهم/بَدءُوا يَتعرَّفون على ذاتهم/عند النظر إلى كل هؤلاء الغرباء/الذين بمشقة تَعلَّموا/أن يتحملوا غُربَتهم/ثم شرعوا يعيشون معهم.»
يضم مجلد «عن الزوال» قصائد ونصوصًا عديدة يتأمل فيها جراس في حياته ككاتب، فيما يبقى وما يزول. ويلاحظ قارئ جراس أنه يعبر عن أفكار قرأها في أعمال سابقة له، كما تتكرر رسوم تُزيِّن بعض أعمال جراس القديمة. لم يكن ذلك غائبًا عن حامل نوبل الذي يقول في قصيدة «النهاية» إنه عندما يكتب جملة بعد عناء، يكتشف أنه كتبها بشكل أجمل وأدق قبل سنوات: «هذه هي النهاية، صِحتُ،/ولكن هذه الصيحة أيضًا/مكتوبة منذ سنوات على ورق ذابل.»
ينظر الكاتب، «مدمن الحبر»، إلى أعماله المتجاورة على رفوف مكتبته، ويتعجب: أهو الذي دوَّن كل هذه الكلمات؟ أهو الذي سَوَّد كل تلك الصفحات؟
رغم كل شيء بقي إيمان جونتر جراس بالكلمة وبالكِتاب، أو كما يقول في قصيدة «النَفَس الطويل»: