دوي الطبل وصداه
اختار جراس شكل الرواية البيكاريسكية، أو روايات الصعاليك، وكان اختيارًا ذكيًّا أتاح له أن يُوجِّه النقد إلى المجتمَع الألماني والبورجوازية الصغيرة خلال فترة النازية عبر قزم خارج عن المجتمَع، لا يأخذه أحد مأخذ الجد؛ قزم يتسلل إلى كل مكان، ويفعل البالغون أمامه ما يخجلون من فعله على الملأ. سردَ جراس الأحداث متعاقبة زمنيًّا على لسان بطله أوسكار، رغم أن هذا الشكل لم يَعُد حداثيًّا مثلما يقول أوسكار قبل أن يهمَّ بكتابة قصة حياته: «يستطيع المرء أن يبدأ القصة من الوسط، ثم يسير بها متقدمًا، أو متراجعًا إلى الخلف، بجرأة، مخلفًا وراءه الحيرة والارتباك. ويمكن أن يبدو المرء معاصرًا، فيلغي الزمان والمسافات كلها، ليعلن، أو يدع الآخرِين يعلنون أنه قد حل معضلة المكان-الزمان، وكذلك يستطيع المرء أن يدعي، ومنذ البداية، بأن من المستحيل كتابة رواية هذه الأيام، لكنَّ يَرَاعه سيجود فيما بعد، ومن خلف ظهره كما يقال، بتسطير عمل لا نظير له، فيسجل سبقًا أدبيًّا، ثم يتوج نفسه في آخر المطاف باعتباره آخر من استطاع كتابة رواية.» (ص١٩ وما بعدها من الترجمة)
في رواية أوسكار للأحداث تتداخل فترتان زمنيتان: الأولى من عام ١٩٥٢ حتى ١٩٥٤م، وهي الفترة التي يكتب فيها أوسكار قصة حياته، وفيها يحدثنا عن جهده الدءوب لإحباط محاولات الاحتواء التي يقوم بها الممرضون والزوار في مصحة الأمراض العقلية، ويحكي أيضًا بكل تَهكُّم عن القيم الشكلية الزائفة التي تسود المجتمع بعد الحرب. أما الفترة الزمنية الثانية فتمتد من عام ١٨٩٩ حتى ١٩٥٢م، ويروي فيها قصة أسلافه. وفي نهاية الرواية يلتحم الخطان الزمنيان عندما يحتفل أوسكار بعيد ميلاده الثلاثين.
يبدأ أوسكار الرواية بقصة جدته آنا برونسكي، ومنها يتتبع حكايات بقية أفراد عائلته. في عام ١٩٢٤م يولد أوسكار، ولا يعرف القارئ حتى النهاية بشكل مؤكد، هل هو ثمرة زواج أمه بألفريد ماتسرات، أم ابن العلاقة الغرامية التي ربطت بين الأم أجنيس وابن خالها يان برونسكي. في عيد ميلاده الثالث يتلقى أوسكار — وكما وعدته الأم — طبلة من الصفيح، ويقرر في اليوم ذاته أن يتوقف عن النمو: «كان واضحًا لي منذ البداية بأن الكبار سوف يعجزون عن فهمي، فإذا نَمَوتَ أمامهم بشكل مرئي فإنهم يسمونك متخلفًا، ثم يجرجرونك، ومعهم نقودهم، إلى الأطباء، ليبحثوا على الأقل عن تفسير لمرضك إذا لم تتماثل للشفاء. ويجب أن أسوق هنا من ناحيتي تعليلًا معقولًا لفقر النمو الجسدي، لأختصر الاستشارات الطبية إلى حجم مقبول» (ص٨٠). أما السبب الذي يقدمه أوسكار للمحيطين به لتبرير عدم نموه فهو سقوطه من سلم القبو. منذ ذلك اليوم بدأ أوسكار يعبر عن رفضه لعالم الكبار عن طريق التطبيل والصراخ الذي كان يرعب الكبار؛ إذ إنه كان يستطيع بصراخه أن يهشِّم الزجاج.
قسَّم جراس روايته إلى ثلاثة كتب. الكتاب الأول يمتد من عام ١٨٩٩ حتى عام ١٩٣٨م، ويتعرض إلى طفولة أوسكار وصباه وقراره إيقاف النمو في سن الثالثة. وينتهي الكتاب بوفاة أمه الحبيبة أجنيس. أما الكتاب الثاني فيتعرض إلى سنوات الحرب في ألمانيا، ويبدأ بحادث الهجوم على مبنى البريد البولندي، وهو الحادث الذي يشعل نيران الحرب العالمية الثانية. وخلال أحداث هذا الكتاب ينضم القزم أوسكار إلى فرقة موسيقية تُرفِّه عن جنود الميدان بالعروض الفنية، ويقابل حبه الكبير، روزفيتا راجونا، التي تلاقي حتفها خلال الحرب. وفي نهاية الكتاب الثاني يحاول والد أوسكار، ألفريد ماتسرات، أن يبتلع الدبوس المعدني المطبوع عليه شارة النازية حتى لا يعرف الجنود الروس أنه من أتباع النازية، فيكاد يختنق، ثم يطلق جندي روسي عليه النار فيرديه قتيلًا. ويمكن القول إن أوسكار قتل الأب؛ لأنه هو الذي أعطاه الدبوس عندما هاجَم الجنود الروس الدار، فلم يجد الأب المُحاصَر مفرًّا من بلعه. بعد موت الأب، أو قتله، يتخلى أوسكار عن قراره عدم النمو، فيواصل النمو كي يتحمل المسئولية. وفي الكتاب الثالث نتابع حياة أوسكار بعد الحرب، وعمله كطبَّال مشهور في دسلدورف، إلى أن يُتهم بارتكاب جريمة قتل، فيُحاكم، ولكنه يُبرَّأ، ويُودَع مصحة للأمراض العقلية والنفسية.
غواية النازية
بشخصية القزم هذه، الرافضة عن وعي لقيم البطولة والعظمة، والفاضحة لزيف الكبار وأكاذيبهم، وجَّه جراس نقدًا لاذعًا إلى مجتمعه في فترة النازية، وما أعقبها من محاولة الملايين التطهر من الذنب النازي عبر إنكار مشاركتهم فيه، أو ادعاء عدم معرفتهم بحدوث جرائم النازيين، أو إنكار حدوثها أصلًا. عبر أوسكار — القزم الذي يَتعمَّد ألا يصبح إنسانًا «عاديًّا» — انتقد جراس المجتمع الألماني الذي سعى بعد الحرب بكل قوته إلى العودة بسرعة إلى الحياة «العادية».
مشاهد عديدة من «طبل الصفيح» ستظل عالقة في ذهن القارئ، وهي مشاهد تبين سهولة وقوع البشر ضحية إغواء الشر: هذا ما يرسمه لنا جراس في مشاهد قصصية صغيرة، بلا خطابة أو مواعظ؛ مثلًا، عندما يصبح ألفريد ماتسرات مؤيدًا للنازية، أو سابحًا مع السابحين في تيار النازية، فنراه ينزع صورة بيتهوفن عن الجدار فوق البيانو، واضعًا مكانها صورة هتلر؛ أو عندما يصرخ أوسكار أمام واجهة عرض أحد المحلات، فتقف امرأة بعد سماع تهشم الزجاج، ثم تتردد، وتتطلع، وتمد يدها لتسرق حذاء تخفيه في حقيبة يدها؛ أو عندما يصرخ محطمًا واجهة عرض محل مجوهرات، مُتيحًا لعشيق أمه، يان، أن يمد يده ليخطف عقدًا تزينه ياقوتة جميلة. أمام واجهة العرض يتعرف الناس على أنفسهم، ويعرفون أنهم انتهازيون ولصوص، إذا سنحت لهم الفرصة. ولعل من أكثر المقاطع التي تعبر عن عبثية الحرب وضعف الإنسان الفرد في مواجهتها هو فصل الهجوم على مبنى البريد البولندي؛ يحاول يان مع أوسكار وأحد المصابين الهروب من الموت بلعب الورق، والانتصار على المهاجمين الألمان عبر الاستمرار في اللعب. اللعب هنا، كوجه من أوجه الحياة، يقف في مواجهة الموت والحرب. وعندما يقتحم الجنود الألمان المبنى، ويسوقون يان كي يُعدم مع المقاومين، يرفع يده «منتصرًا»، ويلوح لأوسكار بورقة اللعب في كفه.
من الصعب الإمساك بأوسكار الصغير، أو تلخيصه في صفات مُعيَّنة، فهو مزيج من السذاجة والبراءة الطفولية والشر الخبيث الماكر. هذا البطل المضاد يكسر التوقعات دائمًا، يقاوم — على طريقته — النازية، لكنه يعمل طبالًا في فرقة للترفيه عن جنود الجيش النازي؛ يكشف زيف الكبار، غير أنه يساعدهم على سرقة البضائع من المحلات. أوسكار يقود يان إلى حتفه، ويذهب إلى محل ماركوس، بائع اللعب اليهودي، فيراه قد انتحر قبل استيلاء النازيين على المدينة، فيسرق طبلة من دكانه.
لم يكن أوسكار من أبطال المُقاوَمة، وهو لا يدعي ذلك. إنه أيضًا مُدان، ومتورط في جرائم قتل، أو على الأقل كان المتسبب في موت آخَرِين، وإنْ ظلت تلك الجرائم بدون إثبات. لكن أوسكار عرف كيف يزعج ذوي السلطة، مثلًا عندما يتسلل تحت منصة الاحتفال النازي، ويقرع طبله، فيفسد الإيقاع العسكري، ويجعل الفرقة الموسيقية تعزف فالس «الدانوب الأزرق» بدلًا من المارشات العسكرية المُعَدَّة لاستقبال قادة النازيين، فيخرج الشبان لمراقصة الفتيات ببهجة على أنغام يوهان شتراوس!
باكورة روايات الواقعية السحرية
بشخصية أوسكار حقق جراس «خبطة» روائية مذهلة، وسرعان ما أصبح هذا القزم بطل الرواية الألمانية في القرن العشرين، ورمزًا لجيل كامل «توقف نموه»، جيل أراد أن يتنصل مما حدث، مفضلًا أن يعيش في حماية «المصحة» عن أن ينخرط في الواقع من جديد. وعندما نُشرت الرواية في عام ١٩٥٩م، صدرت في العام نفسه روايتان مهمتان في تاريخ الأدب الألماني؛ الأولى هي «بلياردو في التاسعة والنصف» لهاينريش بُل، والثانية هي «تكهنات حول ياكوب» للروائي أوفه يونسون، غير أنهما سقطتا — مؤقتًا — في بئر النسيان، ولم يحتفِ النقاد والصحفيون في معرض فرانكفورت للكتاب في ذلك العام إلا بطبل جونتر جراس وقزمه أوسكار. وجدير بالذكر أن نجاح الرواية في وقت ظهورها أواخر الخمسينيات كان لافتًا؛ لأنها ظهرت في وقت كان النقاد التقدميون يبشرون فيه بموت الرواية التقليدية، ووفاة ذلك النوع من الأدب المحلي.
في هذه الرواية أظهر جراس كافة قدراته ومواهبه: اللغة المفعمة بالصور والاستعارات، والأسلوب الشعري، والحوارات الدرامية الحية، وإيقاع السرد الفاتن. في «طبل الصفيح» نجد مزيجًا رائعًا من الحكايات الواقعية والخيالية، بل لعل الرواية أول عمل في تيار الواقعية السحرية. ومن اللافت أن الكاتب الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز صرح ذات مرة، حسبما يذكر المترجم حسين الموزاني في أحد أحاديثه، بأن رواية «مائة عام من العزلة» ما كان لها أن ترى النور لولا «طبل الصفيح».
كانت «طبل الصفيح» بلا شك «ضربة معلم»، لكنها لم تكن «بيضة الديك». كتب جراس بعدها أعمالًا تراوحت في جودتها، وكانت في معظمها مثيرة للنقاش أو الجدل، غير أنه لم يصل إلى الذروة التي احتلتها روايته الأولى. وقد عانى جراس من ذلك، وظل حبيس طبلته في نظر عديد من النقاد والقراء. وأتذكر أنه قال لي أثناء مؤتمر الرواية العربي الألماني في اليمن: إنه يعتبر «سنوات الكلاب» أهم أعماله، ثم أضاف متحسرًا: «ولكن للنقاد رأيًا آخر».
صدى «الطبل»
ظهرت الرواية في زمن المعجزة الاقتصادية التي أنهضت ألمانيا على قدميها، وجعلتها قوة صناعية من جديد. في تلك الفترة حاول ألمان كثيرون نسيان الحقبة النازية، أو تناسيها بكل جرائمها وآثامها، وكذلك نسيان فترة الحرب بكل ما كانت تعنيه لهم من حرمان ومعاناة ودمار. كان شعار المرحلة هو النظر إلى الأمام. من ناحية أخرى، شعر عديد من الألمان بعد النهوض الاقتصادي والرخاء الذي عمَّ البلاد أن الحرب والهزيمة لم يستطيعا أن ينالا من الألمان، وأنهم عادوا ليحتلوا المكانة اللائقة بهم. كانت القيم المحتفى بها في فترة حكم المستشار آدناور (١٩٤٩–١٩٦٣م) هي التواضع والاجتهاد والعمل والنظافة؛ ولذلك أثارت «طبل الصفيح» ضجة كبيرة؛ لاحتوائها، من ناحية، على مشاهد نُظر إليها على أنها إباحية ومثيرة للتقزز ومهينة للكنيسة الكاثوليكية، ومن ناحية أخرى لموضوعها الكاشف والمُعرِّي للبورجوازية الصغيرة وانسياقها وراء حلم القوة النازي.
آنذاك، كان عدد من الكُتَّاب والمثقفين الشبان، مثل جراس وبُل وإنتسنسبرجر، ينظرون بعين القلق والنقد إلى عودة رجال «النظام القديم»، وتصدرهم المشهد؛ إذ إن تلك الفترة شهدت صعود نجم كثيرين ممن تعاطفوا مع النظام النازي أو تعاونوا معه، لا سيما من قطاعي الاقتصاد والصناعة. ولعل شخصية بيبرا في «طبل الصفيح» تجسد ذلك، فهذا الموسيقي يتعاون مع النازيين، ويعمل في وزارة الدعاية والبروباجندا النازية، ويُرقَّى إلى رتبة نقيب، وبعد الحرب يتناسى ذلك كله، ويصبح رجل أعمال ناجحًا بعد أن يصير متعهدًا موسيقيًّا.
بعد صدور الرواية انقسم النقاد في ألمانيا إلى معسكرين: المعسكر الأول امتدح موضوع الرواية المهم، والقدرات اللغوية والأسلوبية للكاتب، وكذلك التشابك الساحر بين الواقع والخيال، والتراجيديا والكوميديا في الرواية، وكان من بين أعضاء هذا المعسكر الشاعر والناقد هانز ماجنوس إنتسنسبرجر الذي وصف جراس بأنه «سمكة قرش في بركة سردين، ووحش مفترس يسير منفردًا وسط حقل الأدب الألماني المستأنس الأليف.» وتوقع إنتسنسبرجر أن تشغل هذه الرواية النقد الأدبي في ألمانيا لعشر سنوات على الأقل، وأن تثير «صيحات البهجة والاستهجان».
أما المعسكر الثاني، ومن أبرز أنصاره الناقد رايش-رانتسكي، فقد انتقد عدم تَحكُّم الكاتب في شهوة السرد لديه، فروايته تحتشد بقصص وتفاصيل يمكن الاستغناء عنها، كما هاجم نقاد هذا المعسكر نزعة الكاتب إلى الوصف المسهب لمشاهد مثيرة للتقزز، والاستفاضة في وصف المشاهد الجنسية، وهجومه على الكنيسة الكاثوليكية واستهزاءه بالتدين. وجدير بالذكر أن الناقد الشهير رايش-رانتسكي كتب بعد نجاح الرواية مقالًا تراجع فيه عن رأيه في الرواية، واعترف بخطئه في تقييمها. والجدير بالذكر أن رايش-رانتسكي تراجع عن رأيه في مقاله بعد نجاح الرواية الساحق!
حقَّقت الرواية نجاحًا عالميًّا بعد ترجمتها إلى الإنجليزية وعدد آخر من اللغات. وازدادت شهرة «طبلة» جراس بعد أن حولها فولكر شلوندورف إلى فيلم سينمائي، نال السعفة الذهبية في مهرجان «كان» كأول فيلم ألماني بعد الحرب العالمية الثانية، وجائزة الأوسكار عام ١٩٨٠م كأفضل فيلم أجنبي.