لعبة القط والفأر
في نص جميل بعنوان «الباليرينا» يقول جراس: «تحيا الباليرينا مثل راهبة، معرضة لكافة الإغواءات، لكنها تعيش في زهد صارم … والفن هو دائمًا ثمرة التركيز المنضبط، ولم يكن يومًا نتيجة شطط عبقري.» هذا التركيز المنضبط لم يحققه الكاتب في عمل من أعماله كما فعل في «قط وفأر»، ولذلك احتفى عديد من النقاد بهذه الرواية، أو «النوفيلا» كما صنَّفها مؤلفها، بل إن الروائي الأمريكي جون إرفينج يعتبرها «درة أعمال جراس».
كانت «قط وفأر» في الأساس جزءًا من الرواية الثانية التي كان جونتر جراس بصدد كتابتها بعد «طبل الصفيح»، وهي الرواية التي أطلق عليها فيما بعد «سنوات الكلاب». غير أنه اقتطع هذا الجزء، جاعلًا منه عملًا مستقلًّا صدر عام ١٩٦١م. وحسنًا فعل.
وعندما يُلقي أحد الضباط محاضرة في المدرسة، ويرى «مالكه» وسام «صليب الفارس» الذي يزين رقبته، ويلاحظ مدى التقدير الذي يحظى به العسكر في المجتمع الألماني، يصبح حلم حياته هو الحصول على وسام مشابه. في البداية يسرق مالكه وسام أحد الضباط، وبعد ذلك يلتحق بالجيش، وينال وسامًا تقديرًا ﻟ «بطولته» في إحدى المعارك الحربية. خلال إجازته يتمنى «مالكه» أن يلقي محاضرة أمام تلاميذ مدرسته، غير أن ناظر المدرسة يمنعه لارتكابه جريمة السرقة فيما مضى. عندئذ يقرر عدم استكمال الخدمة العسكرية وعدم العودة إلى فرقته.
يبحث «مالكه» عن مكان يتوارى فيه عن الأنظار قبل أن يواصل الفرار، ويطلب من صديقه بيلنتس أن يسمح له بالاختباء في قبو منزله، غير أن بيلنتس يرفض، ويقترح عليه الاختباء في كاسحة الألغام شبه الغارقة التي كانوا يقضون عليها وقت فراغهم أيام المدرسة. ويدبر بيلنتس مئونة تكفي صديقه عدة أيام، ومنها علب لحم محفوظة، ثم يستأجر قاربًا ويجدِّف حتى موضع السفينة، وهناك يعطيه الزاد. يطلب مالكه من صديقه العودة إليه في المساء بالقارب ذي المجداف، لكي يلحق بباخرة سويدية محايدة ويهرب على ظهرها. ينسى مالكه فتاحة العلب، فيرمي بها بيلنتس في البحر، ولا يعود إلى صديقه في المساء كما اتَّفقَا، وكأنه بذلك يصدر حكم الإعدام على صديقه ذي الحنجرة البارزة.
اتسمت علاقة الراوي بيلنتس بصديقه «مالكه العظيم» بخليط من الإعجاب والحب والكراهية؛ فمن ناحية يظهر بيلنتس إعجابه البالغ بقدرات مالكه الرياضية وبشجاعته، ومن ناحية أخرى يكرهه بسبب تفرده وتفوقه الدائم على الآخرِين. ونلاحظ هنا أن مالكه لا يتقرب أبدًا إلى صديقه بيلنتس، وأن بيلنتس هو الذي يتعلق بصديقه تعلقًا شديدًا، بل ويلاحقه، ثم يفتقده خلال غيابه، وخاصة بعد اختفائه في السفينة الغريقة. ويظل الراوي لسنوات يسأل عن صديقه، شاعرًا بالذنب، آملًا أن يكون قد نجا بطريقة ما؛ فإذا جاء سيرك إلى البلدة، يذهب للسؤال عنه. ولكن، «لا أحد يعرف مالكه». وعندما يسافر الراوي إلى مدينة ريجنسبورج لحضور أحد اجتماعات الناجين من الحرب، يطلب خلال إحدى الاستراحات من الضابط المسئول أن ينادي على ضابط الصف مالكه ليحضر إلى مدخل القاعة. «لكنك أبيتَ أن تظهر» يا مالكه.
ومن اللافت أن الرواية تبدأ بالجملة التالية: «… وذات مرة»، وكأن الراوي يسرد بالمصادفة، من المنتصف، حكاية طويلة، لا يعرف من أين يبدأها وكيف ينهيها؛ حكاية شعوره بالذنب الذي يلاحقه دائمًا. ولكن، أي ذنب يتحمله الراوي بيلنتس تجاه صديقه «مالكه»؟ هل هو الذي ألقى به إلى التهلكة؟ لماذا لم يمد له يد المساعدة؟ لماذا رفض أن يخبئه لديه وأن ينقذ حياته؟ ولماذا راح ينكر أنه هو الذي أمسك ذات يوم بالقطة وقربها من حنجرة مالكه الشبيهة بالفأر؟ لماذا راح يَدَّعِي عدم القدرة على تَذكُّر تلك الواقعة الصبيانية، قبل أن يعترف أخيرًا بذلك؟
القط والفأر، هذه اللعبة الأبدية، الرمزية، ما بين الهجوم والفرار، والتذكر والنسيان، بين محاولة إخفاء الضعف والهشاشة وشجاعة الاعتراف بهما، إلى هذه «اللعبة» عاد جراس في روايته اللاحقة «سنوات الكلاب» ثم في آخر سنوات حياته في سيرته «تقشير البصلة» متسائلًا عن مسئوليته، وذنبه، أو براءته.