بحكم المحكمة: جراس كاتب إباحي!
ولم يَمضِ وقت طويل حتى كانت أعمال جراس، وتحديدًا روايته الثانية «قط وفأر»، محل نزاع قضائي. ومن المهم أن نتوقف بشيء من التمهل أمام هذه القضية، لنرى كيف تعامل معها المثقفون من ناحية، والمجتمع المحافظ في ألمانيا آنذاك من ناحية أخرى.
في عام ١٩٦٢م تَقدَّم كاتِب مجهول يُدعى كورت تسيزل ببلاغ إلى النيابة، يتهم فيه جراس بنشر مؤلَّفات إباحية، وهو ما كان يُعاقِب عليه القانون آنذاك. قال تسيزل في بلاغه إنه قرأ الرواية واكتشف فيها «قذارات لن يجرؤ إنسان عادي على كتابتها حتى على حائط مرحاض.» لكن نيابة مدينة كوبلنتس خيبت أمله وحفظت القضية. وأعتقدُ أن الحيثيات التي أوردتها النيابة الألمانية آنذاك ما زالت جديرة بالقراءة اليوم.
لقد أكدت النيابة أن رواية «قط وفأر» تحتوي بالفعل على «أوصاف عديدة قصيرة لأفعال جنسية، إذا نظرنا إليها على حدة، فسيتضح لنا أنها لا تمثل خطورة جسيمة على الشباب فحسب، بل إنها أيضًا يمكن — من الناحية الجنسية — أن تخدش حياء الإنسان العادي وتفسد الأخلاق الحميدة»، ولعل النيابة قصدت بصورة خاصة المشهد الذي يمارس فيه «مالكه» الاستمناء مع زملائه. غير أن النيابة أشارت في الجملة التالية إلى أن التقدير الملائم للظواهر الأدبية يستلزم فهمًا أدبيًّا وفنيًّا، وأن هذا هو المعيار. وتوصلت النيابة إلى الحكم التالي: «إن القارئ المتوسط لا يستسيغ الأدب الحديث؛ ولذلك لا ينبغي … اعتبار «الإنسان العادي» هو المقياس. إن المعيار الوحيد الموثوق به في هذه الحالات هو الإنسان المهتم بالفنون والأدب الحديث. وإذا اعتمدنا هذا المعيار، فلا شك في أن كتاب «قط وفأر» لا يمكن اعتباره إباحيًّا … فالفقرات الواردة في الكتاب التي تثير استياءكم لا يمكن النظر إليها منفصلة عن السياق العام. والفيصل هنا هو التأمُّل الموضوعي النزيه لهذه الفقرات، وهو يبين أنها جزء طبيعي من الإطار العام للأحداث، وأنها تتوارى إلى الخلفية بفضل المهارة الفنية والقدرة الإبداعية للكاتب.»
وهكذا رفضَتْ نيابة واعية مُتبصِّرة، تَفْهَم خصوصيات الأدب والفن، هذه الوشاية التي قُدِّمَت في صورة بلاغ. غير أن تسيزل لم يرضخ ولم يستسلم، بل نشر ردًّا في الصحف كرَّر فيه اتهاماته لجراس، واستخدم فيه عبارات مثل: «دناءات بورنوجرافية»، و«أفظع القذارات الإباحية»، و«عمل دنيء يطفح بالبورنوجرافيا والتجديف على الذات الإلهية»، و«أفعال خنازير»، و«كلام مراحيض»، و«شطح جنسي»، و«استهزاء بدولة القانون المسيحية التي نعيش فيها»، و«تدمير للأخلاق والتقاليد الحميدة».
كلمات وعبارات قد تذكرنا بأزمات مشابهة شهدها ويشهدها العالم العربي، ومنها أزمة نشر رواية الكاتب السوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر» في مصر عام ٢٠٠٠م عندما شن ممثلو التيار الإسلامي في مصر حملة عنيفة على المسئولين عن نشر الكتاب وعلى وزير الثقافة فاروق حسني، مُعتبِرِين أن الرواية تمثل إساءة وتطاولًا على الله ورسوله، وأنها تدعو إلى الإلحاد. وخرجت مظاهرات بالقرب من جامعة الأزهر ضمَّت آلافًا من الطلبة، وحدثَت مواجهات بين المتظاهِرِين والشرطة أدت إلى إصابة عديدين. وانتهت الأزمة بسحب نسخ الكتاب من السوق، وإغلاق صحيفة «الشعب» التي أطلقت الحملة ضد الرواية بمقال لكاتب غير معروف يدعى محمد عباس كان عنوانه «مَن يبايعني على الموت؟» وهكذا تم إغلاق ملف «الوليمة» بإجراءات سلطوية بحتة؛ أي بسحب نُسخ الرواية من الأسواق وإغلاق الجريدة التي نشرت مقالًا تحريضيًّا ضد الرواية، ومن دون أن يجري نقاش مجتمعي حول المسموح والممنوع في الأدب والفن، ومن دون أن يستطيع المثقفون، أو أن يُتاح لهم الدفاع دفاعًا حقيقيًّا عن حرية الرأي.
منع كتب جراس لحماية الشبيبة
لم يطالب أحد في ألمانيا بمنع رواية جراس، ولم يخرج وزير ليعلن سحب نسخ الرواية من الأسواق، رغم أن التيار المحافظ كان قويًّا في الستينيات. غير أن حكومة إحدى الولايات، وهي ولاية هسن، تَقدَّمَت بطلب إلى مصلحة حماية الشبيبة في بون لوضع الرواية على قائمة الكتب التي تُمثِّل خطرًا على الشباب. ولم يتذرع الطلب بالمادة الخاصة بالبورنوجرافيا في قانون العقوبات، بل بقانون نشر الأعمال التي تمثل خطرًا على الشبيبة. أما الحيثيات فهي أنَّ الكتاب يضم «عددًا من الفقرات الخليعة التي تمثل خطرًا على أخلاقيات الأطفال والشبيبة.» وأن هذه الفقرات «مبثوثة في أنحاء القصة بدون أي معنى ظاهر.»، وأنها «لا تستهدف سوى الإثارة الإباحية.»، وأن هذه الفقرات يمكن أن «تؤثر تأثيرًا سلبيًّا على خيال القُرَّاء المراهِقِين، وأن تحثَّهم على الإتيان بأفعال جنسية، وتؤثر بالتالي سلبًا على التربية.» واللافت للنظر هنا أن حكومة الولاية كانت مُشكَّلة من أعضاء في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي كان جراس مُقرَّبًا منه، والذي سيخوض الحملات الانتخابية لاحقًا باسمه. وعلى ما يبدو، فإن الخوف من خسارة أصوات ناخِبِين كانت أهم لدى الحزب من مساندة كاتِب مُقرَّب من الحزب، وأهم من الدفاع عن حرية الأدب والفن.
اعترضت دار لوخترهاند التي نشرت «قط وفأر» و«طبل الصفيح» على القرار، مستندةً إلى قانون حماية الشبيبة نفسه الذي يستثني من قائمة الأعمال المُهدِّدة للشباب تلك المؤَلَّفات التي تعتبر فنًّا. وطالبَت دار النشر بالنظر إلى كافة أعمال الأديب حتى يمكن الحكم على إذا ما كان يكتبه فنًّا أم لا. وهذا تحديدًا ما كتبه أيضًا الناقد والشاعر إنتسنسبرجر الذي قال إن جراس بأعماله حتى الآن قد أصبح من حقه «إما أن يوصم بتكدير الصفو العام»، أو أن «يُمجد باعتباره كاتبًا من الطراز الأول».
لم يصمت كثيرون من الكتَّاب والنقاد على ما حدث، فراحوا يدافعون عن جراس، أو بالأحرى يدافعون عن حريته الفنية، ومنهم الناقد هلموت كاراسك الذي قال إن الفقرات التي أُطلق عليها «خليعة داعرة» تنبثق من منظور السرد الذي اختاره جراس، وبالتالي فإن غرَضَها ليس الإثارة الجنسية. وتقدَّمَت دار النشر بتقرير كتبه نقاد وباحثو أدب مشهورون — منهم فالتر ينس وهانز ماجنوس إنتسنسبرجر — للاعتراض على قرار وضع «قط وفأر» على قائمة الأعمال الممنوعة على الشباب. ولكن قبل أن تنعقد جلسة المحاكمة، قرَّرَت وزارة العمل والصحة في هسن سحب الطلب المُقدَّم، وحفظ القضية؛ أي إن ضغط الرأي العام أدى إلى تراجُع حكومة الولاية.
لم تسعد دار النشر كثيرًا بهذا الأمر؛ لأنها كانت تأمل أن تكون القضية سابقة قضائية تبيِّن على نحو نهائي المشروع والممنوع في عالم الأدب، وأن تفصل المحكمة في ماهية الفن وماهية البورنوجرافيا، وأن تُوضِّح بشكل جلي: أين تبدأ حرية الأدب؟ وأين تنتهي؟
حُفظت القضية في نهاية عام ١٩٦٢م. غير أن الجدل حول جراس تجدد مرة أخرى عندما تَقرَّر عام ١٩٦٥م منحه جائزة «جيورج بوشنر» التي تعتبر أعلى وسام أدبي في ألمانيا، فخرج المئات من المحافظِين إلى الشوارع متظاهِرِين، ورافعين لافتات كُتب عليها: «عشرة آلاف مارك من نقود دافعي الضرائب لتكريم الفن أم الأدب الداعر؟»
وفي الثالث من أكتوبر عام ١٩٦٥م شهدت المعارك حول أدب جراس ذروة جديدة؛ إذ قام عدد من أعضاء جماعة إنجيلية شبابية بحرق أعمال أدبية على ضفاف نهر الراين في دسلدورف بعد الحصول على مُوافَقة السُّلطات، ومن بينها أعمال ألبير كامو وإريش كستنر وجونتر جراس.
«مؤلِّف أبشع القذارات البورنوجرافية»
عندما خاض جراس فيما بعد المعركة الانتخابية لصالح الحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامة فيلي برانت، انتهز أعداؤه من معسكر اليمين الفرصة مرة أخرى لوصفه بأنه «مؤلِّف أبشع القذارات البورنوجرافية، ومؤلِّف أسوأ الإهانات المُوجَّهة إلى الكنيسة الكاثوليكية»، وكان من هؤلاء الكاتب كورت تسيزل مرة أخرى، وهو ما دفع جراس في عام ١٩٦٧م بتقديم طلب لدى محكمة الولاية لاستصدار حكم عاجل يمنع تسيزل من استخدام مثل هذه العبارات. لكن تسيزل اعترض على الحكم، وأجبر جراس على رفع قضية. وفي الثامن والعشرين من سبتمبر ١٩٦٧م صدر الحكم الذي قضى بمنع تسيزل من وصف جراس بأنه كاتب بورنوجرافي «في المقالات الصحفية ورسائل القراء»، فإذا فعل، وقع تحت طائلة قانون العقوبات.
غير أن تسيزل تَقدَّم بطلب لاستئناف الحكم لدى محكمة الولاية العليا في ميونيخ. وفي الثامن من يناير ١٩٦٩م صدر الحكم الختامي والنهائي: «لقد توصلت هيئة المحكمة (…) إلى أن على المُدَّعِي (أي جراس) أن يتقبل أن يصفه المُدَّعَى عليه (أي تسيزل) في الصراع الفكري الدائر علانية بأنه مؤلف «أبشع القذارات البورنوجرافية، ومؤلِّف أسوأ الإهانات الموجهة إلى الكنيسة الكاثوليكية». وليس هناك فرق إذا حدث ذلك على الساحة السياسية أو في إطار التعبير عن رأي نقدي ثقافي عام، لا سيما وأن المُدَّعِي (…) مُعتاد على خوض الصراع على كلتا الساحتين.»
أما تعبير «الكاتب البورنوجرافي» فإن المحكمة تعتبره حكمًا يستوفي أركان الإهانة الشكلية. هذا «الوصف المهين» — كما أطلقت عليه المحكمة — ليس من حق تسيزل أن يستخدمه بعد اليوم، أو على الأقل ليس من حقه أن يستخدمه «استخدامًا عشوائيًّا دون مناسبة محددة وسياق معين.» وينص القرار على السماح باستخدام هذا الوصف في سياق النقد الأدبي.
وهكذا انتهى الصراع القضائي الذي اندلع في ألمانيا في الستينيات بين جراس ومنتقديه من معسكر اليمين دون حسم، ودون تقديم إجابة قاطعة عن الأسئلة التي طُرِحَت آنذاك. وأصبح — بحكم المحكمة — من الجائز إطلاق وصف «الكاتب البورنوجرافي» على جراس في سياق النقد الأدبي.
لم تُمنع كتب جراس، ولم تُسحب من الأسواق، ولم توضع على قائمة الكتب التي تفسد الشبيبة؛ على العكس، لقد أدت هذه المعارك القضائية والضجة الإعلامية إلى ترسيخ سمعة جونتر جراس، وزيادة مبيعات أعماله. والأهم هو أن جراس ومعه عدد كبير من النقاد والمفكرين لم يقبلوا أن تتدخل السلطات الحكومية في الفن والأدب، وخاضوا المعارك من أجل ذلك، ونجحوا في ترسيخ حرية الرأي في ألمانيا المحافظة، رغم أن القضاء الألماني لم يكن حاسمًا تمامًا في هذه القضية.