«إذا رأى جراس ميكروفونًا»
باكتمال ثلاثية دانتسج، ومع تعيينه عضوًا في أكاديمية برلين للفنون، أصبح جراس رمزًا للمثقف المثير للجدل من ناحية، والكاتب الناجح لدى القراء والنقاد معًا من ناحية أخرى. وخلال النصف الأول من الستينيات ظهرت ترجمات عديدة للثلاثية في الدول الأوروبية وفي أمريكا زادت من شهرة الكاتب محليًّا وعالميًّا. كان القراء والنقاد معًا يتوقعون إنجازات كبيرة من الكاتب الشاب؛ ولذلك — وكما يلاحظ الناقد هاينريش فورمفيج عن حق — كانت العقود التالية سجلًا للتوقعات الخائبة. لكن لماذا؟
كان هدف جراس بالثلاثية تناولَ موضوع النازية والذنب الألماني، والتحرر من هذا الموضوع بالكتابة، ثم الالتفات إلى موضوعات أخرى. وهو ما فعله في سنوات الستينيات حيث بدأ يتدخل تدخلًا مباشرًا في شئون السياسة العامة في ألمانيا، وراح يعلن رأيه في كافة النقاشات المطروحة على الرأي العام. وهناك مقولة ساخرة أطلقها عليه زميله السويسري ماكس فريش، وهي: «إذا رأى جونتر جراس ميكروفونًا، فلا بد من أن يصدر تصريحًا!» وبالفعل، كان الكاتب السياسي جراس هو الذي يشغل الرأي العام الألماني بدءًا من الستينيات أكثر من الروائي والشاعر جراس. أصبح صاحب «ثلاثية دانتسج» عندئذ رمزًا للمثقف اليساري، ليبرالي الفكر، الذي لا يكتفي بالكتابة بل يتدخل في الشئون السياسية، ولا يتوقف عن مواجهة كافة أشكال الفاشية والديكتاتورية.
في تلك السنوات أيضًا خاض جراس حربًا ضارية مع صحيفة «بيلد» واسعة الانتشار، ومع دار نشر «شبرينجر» التي تمتلك أكثر من ٣٠٪ من الصحف الألمانية. وتَعهَّد الروائي مع عدد من أعضاء «جماعة ٤٧» بمقاطعة صحف شبرينجر، وهو تَعهُّد ظل ملتزِمًا به حتى وفاته. أما السبب فهو «الأساليب الفاشية» التي تستخدمها صحف الدار لزيادة المبيعات. تفجرت هذه المعركة إثر رسالة نُشرت في صحافة شبرينجر، ونُسِبت إلى الأديب اليهودي أرنولد تسفايج الذي كان يعيش في برلين الشرقية. ادعت الرسالة أن الحياة في ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) «جحيم لليهود». وعلى الفور، ودون التأكد من صحة الرسالة أو الرجوع إلى الأديب، انتهزت الصحف الفرصة لتشن حربًا شعواء على الشيوعيين وألمانيا الشرقية. غير أن تسفايج سارَع إلى نفي الخبر جملة وتفصيلًا، وقال إن هذه الادعاءات أسوأ مما كان يحدث أيام وزير الدعاية النازي يوزف جوبلز. وبالفعل كانت الرسالة مدسوسة من وكالة أنباء تدعى «برانتل برس»، كان يقف وراءها — كما يبين ميشائيل يورجس في كتابه عن جراس — جهاز المخابرات الإسرائيلية «الموساد».
لم يقتصر جراس في نشاطه السياسي على الاشتراك في النقاشات السياسية أو كتابة المقالات، بل تَعدَّاه إلى النشاط الحزبي، فأعلن استعداده لكي يقوم بتحرير خطب صديقه فيلي برانت، وهو ما أثار الحيرة والدهشة لدى بعض من زملائه الذين كانوا يرون أن دور الأديب يختلف عن ذلك. ولم يكتفِ جراس بتحرير خطابات برانت، بل خاض الحملات الانتخابية لصالح الحزب الاشتراكي الديمقراطي في أعوام ١٩٦٥ و١٩٦٩ و١٩٧٢م، وكانت ثمرة تلك الحملات كتابه «من يوميات حلزون». في هذا الكتاب يحكي جراس لأطفاله عن نشاطه السياسي وأسفاره خلال المعركة الانتخابية، كما يعود إلى دانتسج ويحكي لهم عن مُلاحَقة اليهود خلال الحقبة النازية، وكذلك عن مصيرهم في المدن التي زارها خلال الحملة الانتخابية. والصورة التي يستخدمها جراس في العنوان تمثل بالنسبة إليه التطور البشري الطبيعي، أو التقدم الذي يتسم بالبطء والإصرار في الوقت نفسه، «فالحلزون هو التقدم». لكن الكاتب نفسه سيعود ليشكو من بطء «الحلزون» في إحداث التغييرات المطلوبة في المجتمع بعد تولي فيلي برانت رئاسة الحكومة. وسيجهر جراس بهذا النقد بعد إعادة انتخاب برانت في عام ١٩٧٢م، وسيكتب برانت في مذكراته الأخيرة التي صدرت عام ١٩٨٨م، أنه لم يكن سعيدًا بهذا التشبيه، فالحلزون من السهل أن يُدهَس بالأقدام، كما أنه لا يستطيع القفز. أما في السياسة فإن النكسات والقفزات والطفرات جزء من التطور التاريخي.
رغم كل شيء، كان برانت الأبَ الروحي للكاتب في تلك الفترة. وإذا كان من المعروف عن جراس أنه لم يطمح لمنصب سياسي في الحزب، فإن ميشائيل يورجس ينقض في كتابه هذا الرأي، ويؤكد أن ساسة الحزب فكروا بعد نجاح فيلي برانت عام ١٩٦٩م في أن يعهدوا لجراس بأحد المناصب، ليصبح، مثلًا، سفيرًا لألمانيا في بولندا، إلا أنهم تخلوا سريعًا عن الفكرة؛ لأن صاحب «طبل الصفيح» لم يكن أبدًا طبالًا، بل مواطنٌ ذو رأي مستقل يتعارض في كثير من الأحيان مع الحزب؛ مواطنٌ لا يكفُّ عن إلقاء الدروس السياسية إلى درجة أزعجت المستشار الجديد الذي قال ذات مرة، والعهدة على يورجس، «أزيحوا هذا المُتحذْلِق المُتعالِم من طريقي.»
العامَّة يُجرِّبون الانتفاضة – ولكن، أين الشاعر؟
وتعالج الأعمال الأدبية التي نشرها جراس في تلك الفترة — مثل مسرحية «العامة يجربون الانتفاضة» (١٩٦٦م) ورواية «تخدير موضعي» (١٩٦٩م) وقصة «من يوميات حلزون» (١٩٧٢م) — قضية مسئولية المثقَّف في المجتمع، وتبين كذلك نشاطه السياسي.
في مسرحيته «العامة يجربون الانتفاضة»، التي أطلق عليها «مأساة ألمانية»، يتناول جراس موقف الشاعر والمسرحي برتولت برشت — الذي عاش وعمل بعد الحرب في ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) — من انتفاضة العمال في برلين في السابع عشر من يونيو ١٩٥٣م. خلال الانتفاضة كان الشاعر في المسرحية منشغلًا بإعداد مسرحية شكسبير «كريولانس» للعرض. يذهب الثوار إلى الشاعر ويسألونه أن يكتب لهم مانفيستو، لكنه يخوض معهم نقاشًا يستمر ساعات، فيفقدون بذلك وقتًا ثمينًا يقضونه في الكلام، بدلًا من الفعل. وفي النهاية يمتنع الشاعر (في المسرحية) عن مساعدة العمال، معتبرًا أن الفشل مصير انتفاضتهم؛ لأنهم «لم يحتلوا مبنى الإذاعة ولم يعلنوا الاضراب العام».
كان على الشاعر — يقول جراس — أن ينزل إلى الشارع ويختلط بالواقع القذر. وهذا بالتحديد ما أراد جراس أن يفعله. ليس على المسرح، بل في الواقع. لقد أراد أن يتدخل في الحياة العامة، فراح يدعو الألمان إلى الإقدام على المزيد من الديمقراطية، وانتهاج سياسة «الخطوات الصغيرة» التي تتيح التغيير البطيء إلى الأفضل كما كتب فيما بعد في «يوميات حلزون». وقد كانت عبارات مثل «الإقدام على مزيد من الديمقراطية.» و«سياسة الخطوات الصغيرة.» من الشعارات التي استخدمها الحزب الاشتراكي الديمقراطي في معاركه الانتخابية بقيادة فيلي برانت.
وعندما حصل جراس عام ١٩٦٥م على جائزة بوشنر، وهي أرقى الأوسمة الأدبية في ألمانيا، انتهز الفرصة لكي يعبر في كلمة الشكر التي ألقاها عن خيبته السياسية، كما انتقد زملاءه الأدباء، مثل هاينريش بُل وألفريد أندرش؛ لأنهم يَنْأَون بأنفسهم عن أوحال النشاط السياسي المباشر.
«تخدير موضعي»
في أعقاب الثورة الطلابية التي تفجرت عام ١٩٦٨م — والتي وقف جراس منها موقفا نقديًّا رافضًا لراديكالية بعض قادة تلك الثورة — نشر جراس عملين تَناوَلا موضوع الثورة والإصلاح. العمل الأول كان مسرحية بعنوان «قبل ذلك» ١٩٦٩م، أما الثاني فكان رواية نُشرت في العام نفسه بعنوان «تخدير موضعي»، وتعتبر معالجة نثرية للمسرحية. كان رد فعل النقاد على العملين متشابهًا، وهو أن جراس الآن لم يعد يصل إلى مستوى صاحب ثلاثية دانتسج. وكان حكم ناقد شهير مثل رايش-رانتسكي معبرًا عن خيبة أمل النقد الأدبي في جراس عندما قال إن سنوات الستينيات «أضعفت» صاحب «طبل الصفيح»، بل لقد «أصابته بالشلل».
المشكلة في نقد رايش-رانتسكي، وهو نقد شارَكه فيه معظم زملائه الألمان، هي أنه ينتقد جراس؛ لأنه خالف توقعاته، ولأنه كان ينتظر رواية تستنسخ أجواء «طبل الصفيح»، أو رواية محكمة ومنضبطة مثل «قط وفأر». افتقد معظم النقاد في «تخدير موضوعي» لغة جراس الثرية بالصور، كما افتقدوا قدرته على سرد حكايات مفعمة بالحياة والخيال، في حين رأى البعض — مثل الناقد فورمفيج — أن جراس أثبت بهذه الرواية أنه لا يريد تكرار نفسه، وأنه قادر على تجربة أشكال فنية جديدة، حتى وإن كانت النتيجة غير مقنعة بعد. ورغم أن «تخدير موضوعي» كان مصيرها الفشل في ألمانيا، فقد حققت نجاحًا كبيرًا في الولايات المتحدة بعد ترجمتها، وظلت لأسابيع في عام ١٩٧٠م تتصدر قائمة أفضل المبيعات، وهو ما يُظهر أن تَلقِّي عَمَل ما قد يختلف باختلاف المكان أو الزمان.
وبطل رواية «تخدير موضوعي» معلم في الأربعينيات من عمره (أي في عمر جراس وقت ظهور الرواية) اسمه إبرهارد شتاروش. هذا المعلم يعاني من آلام في الأسنان ويُكثر من استخدام المسكنات. تحت التخدير الموضعي يسترجع شتاروش حياته، ويتحدث عنها وعن التطورات السياسية في البلاد، ممتدحًا «سياسة الخطوات الصغيرة»، كما يتناقش مع الطبيب حول خطة أحد تلاميذه، فيليب شرباوم، الذي يريد الاحتجاج على الحرب في فيتنام عبر إشعال النار في كلبه علانية. تدور النقاشات بين الطبيب والمعلم بلا رابط أو تصاعد درامي، ويصفها رايش-رانتسكي بأنها كولاج غير متناسق من التأملات والأقوال المأثورة والمونولجات الداخلية والملاحظات.
مثَّلت هذه الأعمال الذروة في حياة جراس ككاتب سياسي في ألمانيا. صحيح أنه ظل يتدخل في الحياة العامة، وظل يشارك في بعض الحملات الانتخابية، غير أن الفترة اللاحقة شهدت تراجعًا كبيرًا في دوره السياسي لصالح دوره الأدبي.