مئوية قارِع الطبل
مع اقتراب انتهاء القرن العشرين، صدرت تلال من الكتب التي تسترجع أحداث القرن الفائت، وتتوقف أمام أبرز أحداثه وشخصياته. ويبدو أن جونتر جراس أراد أن يدلي بدلوه في هذه المناسبة، فأصدر في عام ١٩٩٩م كتابًا بعنوان «مئويتي» يتناول فيه أحداث القرن الذي عاش معظمه. صدر الكتاب في طبعتين، الأولى فاخرة، من القطع الكبير ومزودة برسومات لجراس، والثانية في الحجم العادي، بغلاف من رسمه وتصميمه.
احتفت بعض الصحف بالكتاب فور صدوره، وحتى قبل صدوره، فقالت صحيفة «دي تسايت» مهللة: هذا قرن جونتر جراس! أما أسبوعية «دي فوخه» فتحدثت عن «كِتاب القرن». غير أن معظم النقاد واصلوا حملتهم على جراس وأعماله، واعتبروا «مئويتي» دليلًا على نضوب خيال جراس، وعلى أنه لم يَعُد يجد ما يقوله.
يتكون الكتاب من مائة لوحة قصصية بعدد سنوات القرن، ويبلغ طول كل أقصوصة من ثلاث إلى أربع صفحات، وهي تُسلِّط الضوء على حادِث مُعيَّن مرتبط بهذا العام. وتتنوع الأصوات التي تروي أحداث سنوات القرن العشرين، فمنها الكاتب نفسه، وكذلك شخصيات مشهورة أو مجهولة، كما تتنوع الأحداث التي يتناولها جراس في «مئويته»، فهو يتحدث أحيانًا عن أحداث شخصية، مثلًا مولده في عام ١٩٢٧م، ومشاركته في الحملة الانتخابية لصالح فيلي برانت عام ١٩٦٥م، وأحيانًا عن أحداث عامة؛ مثل الحرب العالمية الأولى والثانية، وتولِّي هتلر السلطة في عام ١٩٣٣م والإصلاح النقدي في ألمانيا عام ١٩٤٨م، وفوز ألمانيا بكأس العالم في بيرن عام ١٩٥٤م، وانهيار الجدار عام ١٩٨٩م، وحرب الخليج عام ١٩٩١م والمظاهرات المناهضة للحرب في ألمانيا، ونجاح الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الانتخابات الألمانية عام ١٩٩٨م. وفي آخر أعوام القرن يبعث جراس أمه هلينه المتوفاة منذ أربعة عقود إلى الحياة مرة أخرى؛ لترى أحفاده وتحتفل هي أيضًا بالألفية الجديدة في دار المسنين حيث أودعها جراس. «لا، لم يجبرني الصبي»، تقول الأم، بل أقنعها، إلى أن وافقت في النهاية حتى تعيش في زمن اليورو أيضًا.
وقصص الكتاب، في معظمها، طريفة ومسلية، لكنها لا تترك أثرًا كبيرًا في نفس القارئ الذي قد يتساءل: ما الذي يدفع كاتبًا كبيرًا مثل جونتر جراس إلى كتابة قصص كهذه؟ ماذا كان هدفه؟ هل أراد رسم صورة القرن الذي عاش معظمه؟ هل هي صورة ذاتية عن القرن العشرين، عن «مئويته»؟
بالتأكيد لا؛ قليلة هي الفصول التي يتحدث فيها عن ذاته، عن أحداث شخصية مرَّ بها، عن أدبه، أو عن إحدى زوجتيه أو أولاده الستة. الفصول الذاتية في «مئويتي» شائقة وممتعة، وتتسم بالحيوية في السرد، مثل الفصل الخاص بعام ١٩٥٩م، وفيه يحكي جراس عن صدور «طبل الصفيح» واحتفاله في معرض فرانكفورت مع زوجته الأولى «أنَّه» ودار النشر بأرقام المبيعات الآخذة في الارتفاع يومًا بعد يوم، وفرحته بعقود الترجمة التي راحت تتوالى. ويصف جراس فرحته الكبرى في تلك الأمسية التي سهر فيها «على حساب دار النشر» بالكتاب الذي أضحى «الأكثر مبيعًا»، وراح يرقص مع «أنَّه» على وقع هتافات الحاضرِين باسم بطله أوسكار ماتسرات، مستمتعين معًا بطعم النجاح والشهرة. ويختتم جراس هذا الفصل بالجملة التالية التي تنبئ عن طلاقه اللاحق من «أنَّه»: «شاعت شهرتنا، وقلَّ معها، من رقصة إلى أخرى، ما نتبادله من كلام.»
هل كان جراس يهرب من الحديث عن الذات؟ هل كان يفضل أن يتوارى خلف شخصياته عند التحدث عن فترة النازية، خلف أوسكار ماتسرات وبيلنتس وهاري ليبناو؟ هل فضَّل الصمت عن ماضيه؛ لأنه كان يترقب في كل عام فوزه بجائزة نوبل التي حصل عليها بالفعل في العام نفسه؟