ملاحق
(١) التُّبُو في مشاهدات الرحَّالة والجغرافيين
لم يأخذ الحديث عن التُّبُو شكلًا مباشرًا إلا بعد أن وصلتهم أولى رحلات المستكشفين والجغرافيين الذين عبروا الصحراء الليبية نحو مجاهل أفريقيا في القرن الثامن عشر، ولا نعثر قبل ذلك سوى على بعض الإشارات التي ربما دلت على عزلة التُّبُو أو تفضيلهم تجنب الأغراب، وبالرغم من أن العديد من الرحَّالة تحدثوا عن استضافتهم من قِبل قبائل الصحراء، إلا أننا لم نر رحَّالة واحدًا يتحدث عن استضافته من قِبل التُّبُو، وإن تحدث بعضهم عن مرافقتهم واللقاء بهم أدلَّاء أو زوَّارًا، ولهذا السبب فإن مثل هذه الكتابات تكتفي عادةً بوصفهم ظاهريًّا أو من خلال مصادر ثانوية، فقد كان الرحَّالة يمرون بقبائل التُّبُو لمامًا ليصفوا بلداتهم ولغتهم وأنماط إنتاجهم في بيئة صحراوية بالغة القسوة والجفاف، وعَلاقاتهم بالأقوام المجاورة، وغير ذلك مما يرونه من مظاهر حياتهم الاجتماعية والاقتصادية. ونقتصر في هذا الملحق على ثلاثة نماذج من:
-
مذكِّرات الرحَّالة فريدرك هورنمان (١٧٩٧م).
-
ملاحظات الجغرافي إيلزي ريكلوس (١٨٩٢م).
-
مذكِّرات الرحَّالة أحمد محمد حسنين (١٩٢٣م).
مع تصحيح بعض الأخطاء الواردة في النصوص الأصلية، والتعليق عليها، وتصويب أسماء بعض البلدان والأقوام، والتعريف بها.
(١-١) التُّبُو في مشاهدات هورنمان١ (١٧٩٧م)
يسكن التُّبُو شرق وجنوب وجنوب شرق فزان، ويحكمون أيضًا الإقليم الذي يقع في المنطقة الصحراوية ما بين فزان ومصر. إن أقرب بقعة مسكونة شمال التُّبُو هي أوجلة وسيوة، ويجاورهم من ناحية الجنوب العرب الرحل، ومن ناحية الغرب — فيما بعد فزان — أراضي الطوارق.
بشرة التُّبُو ليست سوداء تمامًا، قَوامهم نحيل، سواعدهم مفتولة، مشيتهم رشيقة، وعيونهم ذكية، وشفاههم غليظة، وأنوفهم فطساء وليست كبيرة، وشعرهم طويل جدًّا ولكنه أقل تجعدًا من شعر الزنوج. يبدو كما لو كانت لديهم طاقات طبيعية هائلة ولا يملكون الفرصة لاستخدامها، فهم محاطون بالشعوب البربرية والمسلمين، ويتهمهم العرب بأنهم سيئو الظن غادرون مخادعون، ولهذا فإن أهل فزان لا يسافرون فرادى خوفًا من بطشهم.
يتكون لباس أهل التُّبُو من جلد الخراف شتاءً ويلبسونه دون صوفه صيفًا، وهم حينما يذهبون إلى فزان يلبسون قميصًا كبيرًا أزرق ويلفون رءوسهم حتى لا يبدو منها سوى العينين، وسلاحهم رمح طوله ستة أقدام وسكين طولها ما بين عشرة وعشرين بوصة يعلقونها على الكتف الأيسر ويلبسون حول وسطهم حزامًا من الجلد يتدلى منه جراب عرضه ثلاث بوصات.
تعمل قبيلة بلما بالتجارة ما بين فزان وبُرنو، ويسافرون في جماعات صغيرة العدد ما بين ستة وثمانية رجال، وهم مشهورون بسوء طباعهم، لدرجة أن عبيد بُرنو الذين أُعتِقوا يرفضون السفر معهم خوفًا من القتل أو السرقة.
وتُمشِّط نساء قبيلة بُرگو شعورهن على هيئة جدائل طويلة تتدلى خلف رءوسهن ويقصصن شعرهن عند مقدمة الرأس.
•••
وينقسم التُّبُو إلى القبائل الآتية: ١. رشاد (الصخر)، ٢. فيبابو، ٣. بوگو، ٤. آرنا، ٥. بِلما، ٦. التُّبُو الرحَّل.
أولًا: قبائل تبو رشاد١٤
وتمتلك هذه القبيلة الإقليم الذي يقع إلى جنوب وجنوب شرق فزان ومدنهم هي: آبو، وتبستي. ويمكن ملاحظة البلدان السابقة على الطريق الذي اتخذه هورنمان.
واسم قبيلة رشاد (أو الصخر) مشتقة من منازلهم الصخرية والكهوف التي يعيشون فيها قبل أن يبنوا أكواخًا من أوراق الشجر يقضون فيها شهور الصيف. ويمكن استخلاص بعض الحقائق عن هذه القبيلة من خلال ملاحظات بيوفوي عن الإقليم الذي يقع بين فزان وبُرنو، وكذا من وصف هورنمان للهَروج الأبيض.
وجبال الهَروج الأبيض التي عبرها هورنمان والتي تقع بالقرب من هذه المنطقة تمتد جنوبي أوجلة حتى مرزق، فإنه من المحتمل أن تكون التلال الصحراوية التي ذكرناها من قبل هي امتداد للهَروج الأبيض.
ومما يدعم هذا الافتراض أن هورنمان علِم أن صحراء سوداء تمتد على طول الطريق ما بين فزان وبُرنو، وكما أوضحنا من قبل فإن الهَروج الأسود تلتقي بالأبيض ناحية الشَّمال، وربما كانت هذه السلسلة تمتد جنوبًا في الاتجاه الذي أخبر هورنمان أن الهَروج الأسود تمتد على طوله خلف المسار الذي سار به.
ولقد وصف هورنمان الجزء التلِّي من الهَروج الأبيض بأنه يتكون من أحجار كِلسية هشة يوجد بها بعض الكائنات المتحجرة ويمكن فصلها بسهولة، إذا ليس هناك صخور يمكن أن تحتوي على كهوف طبيعية أو يمكن أن تُنحت. وعليه فإن هذه المنطقة كما اتضح من الحديث عنها ومن خلال موقعها يبدو أنها هي تبو رشاد.
وقد قال هورنمان إن التُّبُو يتميزون بالرشاقة والخفة، ولكنه كان يتحدث عن التُّبُو بصفة عامة لا قبيلة بعينها، ومن ناحية أخرى يبدو لنا أنه رأى كثيرًا من تُبُو رشاد أكثر مما رأى من غيرهم، فقد قال: «إنهم يذهبون في جماعات إلى فزان»، ويحتمل أن يكون قد عمم ملاحظاته عن تُبُو رشاد على التُّبُو جميعهم.
ونحب أن نعرض رأيًا غريبًا لهيرودوت فقد قال إن التروغلوديت يتكلمون لغةً تماثل صرخات الخفافيش.
ثانيًا: فيبابو١٧
تقطن هذه القبيلة على بعد عشر رحلات جنوب الغرب من أوجلة، في منطقة صحراوية خالية من الماء. ونظرًا لقربهم من بِنغازي، فالمسافة لا تتعدى عشرين يومًا، كانوا معرضين لهجمات أهل بِنغازي وأوجلة لسرقة البلح والأهالي.
ثالثًا: بُرگو١٨
وتسكن هذه القبيلة على مسافة بضعة أيام جنوب فيبابو، وهي على مسافة ثمانية عشر يومًا من تبستي، وعليه فإنه يُحتمل أن تقع إلى الجنوب قليلًا من غرب أوجلة في موازاة جنوب فزان.
وعلى الرغم من أن هذه المنطقة خِصبة — كما يقال — إلا أن أهلها يتميزون باللصوصية، فقد تعرضت القافلة التي تسير ما بين برگامي وبُرنو — وذلك إبان زيارة هورنمان — إلى هجماتهم. وقد أرسل إليهم سلطان فزان حملة صغيرة مما يعطي انطباعًا أنهم قليلو العدد أو مشتتون.
وقد أشار السيد بيوفوي في مناسبة أخرى (الجزء الرابع سنة ١٧٩٠م) إلى أن تُبُو تبستي قد أغاروا على قافلة من فزان، وتدل الخرائط الجغرافية على أن القوافل المتجهة جنوب الشرق تتعرض لهجمات بُرگو، تبستي، في طريقها إلى فزان.
رابعًا: أرنا٢١
خامسًا: بِلما٢٢
سادسًا: التُّبُو الرحل٢٤
وتعيش هذه القبيلة أقصى الجنوب، وتسكن بحر الغزال الذي علِم هورنمان أنه وادٍ طويل خصيب على بعد سبع رِحلات شمالي باگرمي.
(١-٢) التُّبُو في ملاحظات ريكلوس٢٦ (١٨٩٢م)
(أ) المجموعة الحامية-فرع التُّبُو٢٧
يتضمن نطاق التُّبُو كل شرق الصحراء من خط ١٢ طولًا إلى الحدود المصرية، وبالاتجاه جنوبًا من فزان إلى كانم، وواداي، ودارفور. والتُّبُو فرعان:
-
(١)
التدا The Teda أو التُّبُو الشماليون، وربما أمكننا مماثلتهم ﺑ «تدامنسي» Tedamansii، القبيلة الغَرَمنتية التي جعل بطليموس Ptolemy موقعها في تريبوليتانيا Tripolitania (طرابلس).
-
(٢)
الدزا The Daza أو التُّبُو الجنوبيون، الذين اندمجوا تدريجيًّا في كانمبو Kanembu، كانوري Kanuri، زَغاوة Zaghawa، بايلي Baele، وأقوام زنجية أو شبه زنجية أخرى في وسط وشرق السودان.
وثمة سمة جديرة بالملاحظة في هذه اللهجة وهي غياب الجنس النحوي (أي التذكير والتأنيث)، وتصنيفه في مستوًى أدنى مما في الألسنة الزنجية في مناطق النيل الأعلى وكيليمانجارو، وهي تبدو — على كل حال — كأنها تزوِّدنا بما يمكن تسميته «مادة خام» من الجنس النحوي المتطور في اللغات الحامية.
(ب) التُّبُو.. سكان تبستي٣٠
ولكن ما دام الاسم معروفًا لدى العرب فإن مركز قوتهم كان على الدوام جبال تبستي، بلد الصخور، حيث توطنوا هذه المرتفعات منذ أزمنة سحيقة، ولم تستطع أي حملة حربية اختراق هذه النجود العالية، فهم محاطون هنا من جميع الجوانب بالصحارى أو بالسبل الوعرة التي تحول دون الوصول إليهم، بعيدًا عن طرق القوافل، كما أنهم لا يملكون ما يجذب القبائل المعادية.
إن أي شعب آخر ينتقل فجأة إلى هذه المرتفعات القاحلة سيجد أنه من المستحيل عليه البقاء هنا، فهذه المناطق نادرة الموارد حتى بالنسبة إلى سكانها الأصليين، والوديان في اتجاه الشمال الغربي لا يمكن توطنها، وفي هذه المنطقة الجدباء فإن نقص المؤن الذي يدوم عدة أشهر يُعَد أمرًا معتادًا.
ويتردد التدا خلال موسم التمور على بساتين النخيل لجمع التمر المتساقط الذي يُعتبر ملكيةً عامة للجميع، أو لشراء المؤن ومقايضتها بالحيوانات والأسلحة والمنسوجات.
إنهم نادرًا ما يأكلون اللحم، وهم لا يذبحون حيواناتهم باستثناء الهرِم أو المريض أو المصاب منها، وفي هذه الحالة فإنهم يستهلكون الأضحية بأكملها، وبعد تجفيفها في الشمس يتم سحقها بالحجارة وطحن العظام وتليين العروق، بل حتى الجلود فإنها تؤكل. وخلال زيارة ناختيغال سُرقت أحذيته بينما كان نائمًا وأقام بها اللصوص الجريئون وليمةً لهم.
والتدا الذين يعانون من ندرة المؤن وحياة الشح هذه يستطيعون في المناسبات مع ذلك استهلاك عدة كَميات من الطعام دون قلق، ولكن رفاهيةً كهذه مستهجنةٌ من قِبل كل الذين يفتخرون بسلوكهم القويم!
وبالحياة على نحو ثابت بنظام حِمية شحيح كهذا فإن السكان الأصليين في جبال تبستي بعيدون بشكل طبيعي عن البدانة، ومع ذلك فإن جميعهم أقوياء ورشيقو الأجسام على نحو مذهل. إن الغريب يُذهَل لرؤيتهم يثِبون مرافقين أخفَّ جمالهم في مسير سريع يدوم عدة أيام.
وبأحجامهم المتوسطة غالبًا، فإن مظهرهم يبدو متناسبًا قياسًا بأطرافهم، باستثناء الأيدي والأقدام التي تبدو صغيرة جدًّا على نحوٍ ما. أما البشرة فهي أخف من بشرة السود الذين يقطنون السهول الجنوبية، كما لا يظهر في هيئتهم الأنف الأفطس، والشفاه الغليظة، أو بقية العلامات التي تسِم الزنجي الحقيقي. والشعر أطول وأقل تجعدًا، واللحية كثة بأكثر مما لدى الأقوام السودانية.
نساؤهم فاتنات وهن في ريعان الشباب، كما أنهن متميزات عن أخواتهن اللواتي من شمال أفريقيا بجمالهن الطبيعي، وملامحهن المرنة الرشيقة.
ودون أن تكون غير معروفة على الإطلاق فإن أمراض الصدر نادرة هنا جدًّا، ربما بأكثر مما يوجد بين أي شعب آخر، والفضل في ذلك يعود لاضطرارهم لحياة التقشف واعتدال الطعام.
يستطيع التدا مقاومة الجوع عدة أيام، وعندما يتيهون في الصحراء دون طعام أو ماء فإنهم يمضون النهار في مكان ظليل، ويسافرون ليلًا فقط. وإذا وجدوا عظم جمل طحنوه وجعلوا منه نوعًا من العجين بخلطه بدماء يأخذونها من أوردة مطاياهم. وموردهم الأخير، عندما تبدأ غيبوبة الجوع بالزحف عليهم، هو أن يثبِّتوا أنفسهم على ظهور مطاياهم معتمدين على غرائزها في الوصول إلى أقرب مكان آمن.
ومما هو جدير بالملاحظة — بقدر ليس أقل من قوتهم وجمالهم الطبيعي — هو دهاء وذكاء التُّبُو. فالضرورة — وهي معلِّم عظيم — طورت قدراتهم الذهنية وشحذت حواسهم، فهم يجدون طريقهم عبر برية غير مطروقة أبدًا بنوع من الإلهام غير المفهوم بالنسبة إلى الأوروبي، وهم يُظهرون — في جميع الظروف — مهارةً وبراعةً مذهلتين متَّسمتين بقدر كبير من الفصاحة والمكر والابتكار. إن نضالهم الصارم من أجل الوجود جعلهم خشني الطباع، شرهين، ومتشككين. وتنعكس عواطفهم في ملامحهم وتعابيرهم القاسية، وتبدو عبارة: «كل شخص لنفسه» كأنها موسومة على ملامح التُّباوي الذي نادرًا ما يُرى ضاحكًا أو مسترخيًا مع رفاقه. وليست الولائم الأهلية مفعمة بالغناء والرقص كما هي مآدب اللهو الزنجية، ولكنها تُستخدم وسيلةً لجدل لا يخلو من ارتجال وتنافس.
الدَّزا وبُلغِدا يختلفون قليلًا عن الجبليين في تبستي [أي تِدا]، فهم مثلهم رفيعو القَوام ونشيطون وأذكياء، وعادةً ما يكونون أصحاء خالين من الأمراض، ولكنهم أقل رشاقة وجمالًا. وبوجهة نظر إثنولوجية فإنهم بهذا الاعتبار يشكلون عرقًا انتقاليًّا بين التُّبُو والزنوج الفعليين الذين يتاخمون بحيرة تشاد، كما أن كلامهم يشبه أيضًا كلام التُّبُو وزواغة والفروع الأخرى من هذه المجموعة.
الدزا يَسِمون أصداغهم بخطين رأسيين نادرًا ما يكونان مختلفَين عما لدى جيرانهم، ولكنهما كافيَين أمام عينٍ خبيرة كي تميز موطنهم الفعلي. وللدَزا أيضًا عادة إزالة لَهاة الحلق والأسنان القواطع من أبنائهم في سن مبكرة جدًّا.
وإذا كان الدزا قد وُصفوا مرارًا بأنهم وثنيون من قِبل القبائل المجاورة، فباستخدام صفة التوبيخ، يشعر أتباع النبي الغيورون أنهم محقون دون أن يساورهم الندم إذا ما قاموا باسترقاقهم. ولا شك في الوقت نفسه أن بعض الخرافات — المتبقية من الديانات القديمة — ما زالت تواصل حضورها بينهم. فالتضحيات — مثلًا — يستمر تقديمها للينابيع، والتعاويذ السحرية ذات الأصل الوثني، بجانب آيات القرآن والتمائم المتحدرة من جيرانهم الساميين، ما زالت أيضًا قيد الاستعمال. بينما العديد من شعائرهم الدينية تشبه تلك التي تمارسها المجموعات الوثنية في السودان.
الحدادون مرهوبو الجانب بوصفهم سحرة أقوياء، ويُنظر إليهم — في الوقت نفسه — باعتبارهم منبوذين. لا أحد من التُّبُو، بأدنى شعور من احترام الذات، يقبل أن يصاهر عامل حدادة، أو حتى أن يتنازل متلطفًا فيعتبره صديقًا له. وكلمة «حدَّاد» هي إحدى أكثر الكلمات دلالةً على التحقير في لغتهم، ولكنها لا تقال أبدًا لهؤلاء الذين يعملون في الحدادة، فالناس يحتاطون ألا يُهينوهم أو يُغضبوهم خشية التعرض لانتقامهم السحري.
كما لا تُحكَم العائلة على نحو مستبد بأكثر مما يُحكم العامة. فالزوجة — كونها مميزة بمآثرها في التنظيم المنزلي، والحفاظ على النظافة، وحسن التسيير، والأمانة — يُنظر لها ندًّا مساويةً زوجها، وعلى الرغم من أن تعدد الزوجات مشرَّع في الإسلام إلا أنه من النادر الأخذ به، إلا أن المهاجرين إلى أراض أجنبيةٍ عادةً ما يتخذون زوجةً ثانية بشكل مؤقت.
(ﺟ) سمات الإقليم
هكذا يجد الدَّزا أنفسهم محرومين من كل ممتلكاتهم المنقولة، وكانوا إما يعودون إلى العمل من جديد، وإما يردُّون بجولة مضادة من الغزو والسلب بُغية جمع ما يكفي من المال لافتداء عائلاتهم المسترقَّة.
التُّبُو في مشاهدات حسنين٣٧ (١٩٢٣م)
«كانت واحات «الكُفرة» في أيام قبيلة «زوي» البدوية التي انتزعتها من قبيلة التُّبُو السود مركزًا مهمًّا للسطو والاغتيال في صحراء ليبيا، وكان أفراد هذه القبيلة المتمردة ميالين للقتال لا يخضعون لقوة أو قانون ولا يرحمون من يخترق أراضيهم، فلم تخْلُ قافلة تمر بالكُفرة من النهب والسلب أو الاضطرار لدفع جزية. وجاء المهدي [السنوسي] فجعلهم ينزلون عن طلب تلك الجزية لأنه أراد أن يؤمِّن الطريق الممتدة في صحراء ليبيا من الشمال إلى الجنوب، وأن ينمي تجارة تلك الأصقاع، وعمل على ذلك حتى قال لي مطاري (من شيوخ قبيلة «زوي» في الكُفرة) أنه صار في وسع المرأة السير من برقة إلى واداي دون أن يتعرض لها أحد» (ص٥٧-٥٨).
«إن البدوي يميز أثر جِماله، ويمكنه أن يتبين إن كانت الجمال التي سبقته في الطريق مِلكًا لرجال قبيلة مجاورة له أم لا، ويعرف أيضًا جِمال التُّبُو من شكل أخفافها واقتفاء خطواتها. وجِمال التُّبُو أصبر جِمال البدو على السير، ويمكن استخدامها في الشمال بصحراء برقة وفي الجنوب بأراضي السودان» (ص١٤٤).
«كان التُّبُو يجرون يمينًا ويسارًا يتقدمون القافلة للبحث عن رَوْث الجِمال ليتخذوا منه وقودًا، فقد اعتادوا أن يعيشوا بمعزِل عن بقية أفراد القافلة، ومالت نفوسهم إلى الاستئثار بنار خاصة يوقدونها ليلًا على مسافة قصيرة من مضرِب الخيام. وكان رَوْث الجمل كل ما تصل إليه أيديهم من الوقود فكانوا يستفيدون من سرعة عَدْوهم ويَحيدون عن طريق القافلة مسافات بلغت أربعة أميال في بعض الأحايين للبحث عن هذه المادة الثمينة!» (ص١٤٨).
التُّبُو «قلما يستعملون النار في تحضير طعامهم وإن أنِسوا إليها وفرحوا بها، وهم يجففون لحاء النخلة عند قمتها ويطحنونه ويصنعون منه مسحوقًا يضيفون إليه بلحًا وجرادًا مسحوقَين» (ص١٤٩).
«التُّبُو يتعمدون أن لا يتركوا في طريقهم شيئًا من أشيائهم لأنهم يخافون خرافة مؤداها: إن من يلتقط شيئًا سقط منهم لا بد أن يستولي عليهم يومًا من الأيام.
وهم قوم ذوو أجسام متينة البناء وأهل جِد وعمل ولكنهم شديدو السذاجة في نظام معيشتهم وتفكيرهم، على أنهم الآن آخذون في الاختلاط بالبدو ومحاكوهم في كثير من طبائعهم» (ص١٤٩).
«كنت أعلمُ أن «العوينات» كانت محط قبائل التُّبُو والقُرعان في طريقهم شرقًا إلى مهاجمة الكبابيش والفتك بهم، وكان موقع «أَركَنو» و«العوينات» صالحًا لهذا الغرض لما غزُر فيهما من الماء الذي تحتاجه هذه القبائل المغيرة. وكانت هاتان الواحتان من البعد عن الكبابيش بحيث لا يحسَرون على محاولة الانتقام أو استرداد ما ابتُز من أشيائهم» (ص٢٣٢).
(٢) السلطان شهاي
من أبرز سلاطين فرع تِدا من التُّبُو، وهو من قبيلة تمارة، من أَرْدِي دُگَا (أحفاد أردي) الذين يقتصر عليهم (مع أحفاد لاي وأحفاد أَرَمِهْ) تداول السلطنة أو المشيخة. وقد تولى شهاي السلطنة مذ كان شابًّا فتيًّا في أواخر القرن التاسع عشر، إلى أن تُوُفِّيَ في خمسينيات القرن العشرين، ويوجد قبره في بَرْدَيْ بشمال تشاد. وكان يوصف بلقب «كوندودي» أي الرجل الفخور، أو ذو الكبرياء.
في إطار سياسة شهاي التنظيمية قام هذا القائد بتدوين «كُتُبا»، وهو مجموع القوانين العرفية التي يحتكم إليها التُّبُو (انظر الفصل الثاني)، كما عمل على تكوين جيش من أبناء التُّبُو لمقاومة الاستعمار الفرنسي، ودعم حركة الجهاد الليبي ضد الاستعمار الإيطالي.
ويذكر الأهالي من التُّبُو أنه قام بتأسيس المنارات التعليمية (الكتاتيب) ومكافحة الأمية بنشر اللغة العربية والمعرفة الشرعية، وكان يطمح إلى إرسال المتفوقين من أبناء التُّبُو إلى الأزهر بمصر والزيتونة بتونس.
وفي ظل البيئة الصحراوية البالغة القسوة عمل على تحسين مستوى التُّبُو الاقتصادي وتطويره بتفعيل حركة التجارة بين الأقاليم الصحراوية، وتركز هذا النشاط في منطقة تِبستي وما حولها، وقد استطاع شهاي تنظيم التجارة وتوجيه مساراتها وقوافلها وَفْق ما تقتضيه مصلحة التُّبُو.
ولتركيز هذه الجهود والحيلولة دون تشتتها على نطاق الصحراء الشاسع أراد تكوين عاصمة للتُّبُو، وقد تركزت جهوده على النهوض بمدينة «بَرْدَيْ» بشمال تشاد واستقرارها ووَصْلها بالمستوى الحضاري الذي يؤهلها لأن تقوم بدور العاصمة السياسية، فأصبحت الإقليم الأكثر تحضرًا واستقرارًا.
إلا أن الصحراء آنذاك كانت مكتظةً بالصراع بين عدة قوًى خارجية؛ فالفرنسيون في السودان الغربي والأوسط، والأتراك في طرابلس وفزان، والسنوسيون في برقة والكُفرة، وكانت مواطن التُّبُو حول تبستي مسرحًا دائمًا للصراع، أما الإيطاليون في الشمال فكانوا يَدْنون شيئًا فشيئًا من احتلال طرابلس.
بالإضافة إلى هذا كانت مجموعات الطوارق تتوغل شرقًا لتُغِير على قبائل التُّبُو، كما أعلن گَتِّي زعيم التُّبُو الجنوبيين، تبعيته غير المشروطة للفرنسيين، ولم يجد شهاي من وسيلة أخرى لتأمين قبائل التُّبُو سوى التفاوض.
أرسل شهاي إلى الفرنسيين ليعلن لهم عن رغبته تلك، على أن يتولوا هم إيقاف توغل الطوارق شرقًا، فطلب منه الفرنسيون أن يكتب بما يفيد رغبته تلك، فكانت رسالته التي وقعها معه متضامنًا زِطِّيمي (زعيم تُبُو تِبستي الغربي، وكان آنذاك رجلًا مسنًّا) وهي — كما نقلها مارتي — على النحو التالي:
«كل الأعيان وكل رجال تبستي.
لقد اجتمع الجميع وتحدثوا ويريدون الآن طاعة دَرْدَي شهاي.
إن دَرْدَي شهاي يريد أن يعيش بعَلاقات طيبة مع رجال إستانبول.
كل رجال تبستي يقولون: إنهم يريدون الاستماع إلى كلام دَرْدَي شهاي.
إن سلطان إستانبول يقول: إنه لا يريد رجالًا قراصنة، كذلك يقول دَرْدَي شهاي: إنه لا يريد رجالًا قراصنة. كل التُّبُو يقولون: بعد الآن لن نسرق أبدًا ولن نقوم بالحرب وسنطيع قائدنا، بعد الآن سيهدأ كل التُّبُو. إنهم يريدون تبادل الأسرى مع الطوارق، وينبغي للنقيب [الفرنسي] أن يقول للطوارق: التُّبُو لن يحاربوكم فلا تحاربوهم. عندما يهاجم الغزاة الطريق لا تستطيع القوافل السير فيها، لذلك هم يريدون أن تبقى الطريق سالمة.
لقد أصبح التُّبُو الآن يطيعون دَرْدَي شهاي وزِطِّيني، وينبغي على النقيب أن يبلِّغ الطوارق بذلك.
إن دَرْدَي شهاي وزِطِّيني وكل أعيان تبستي يطالبون بالسلام مع النقيب ومع الطوارق، ويريدون تبادل الاتصالات والمبعوثين بين النقيب ودَرْدَي شهاي ليحل السلام بينهما، وكذلك بين دَرْدَي شهاي والطوارق، وليكن بإمكان الطوارق الورود على تبستي ومرزق للاتجار، وإذ يأتون للاتجار لا ينبغي لهم أن يسرقوا منا كما كانوا يفعلون سابقًا.
وعندما يأتي رجال دَرْدَي شهاي إلى كوار سيكونون حاملين تراخيص منه، لذلك فإن رجال التُّبُو الذين لا يحملون مثل هذه الأوراق ليسوا من رجال دَرْدَي شهاي وقد يُقتَلون. أما الرجال الذين يقودهم دَرْدَي شهاي فيأتون حاملين الترخيص دائمًا، ولا يبقَون أكثر من ثلاثة أيام، وعندما يكتب النقيب رسالته ينبغي أن يسلمها لرجلين يحملانها إلى دَرْدَي شهاي، وعليه كذلك أن يبعث برسالة [مماثلة] إلى الطوارق.
دَرْدَي شهاي يحيي النقيب [الفرنسي].
كُتبت هذه الرسالة يوم الثلاثاء من الشهر القمري الموافق ١٠ من شهر عيد الأضحى.
بعد هذه «الاتفاقية» اضطُر شهاي إلى القيام بتعهداتٍ مرافِقة، وهي:
-
وقف تحالفه مع أهالي الكُفرة والسنوسيين.
-
تسليم الأسرى الذين في حوزة التُّبُو.
-
إعادة قطعان الماشية التي تم السطو عليها.
-
تقديم ٢٠٠ قطعة سلاح.٤٥
كانت الحرب الأوروبية (١٩١٤–١٩١٨م) تستعر آنذاك، وتقهقر الإيطاليون إلى الساحل الليبي، وازداد ضغط المجاهدين الليبيين، الأمر الذي زاد من هشاشة وضع الفرنسيين في الصحراء وقدرتهم على الاحتفاظ بمستعمراتهم، وقد ترك زِطِّيمي جبال تبستي وانضم بقواته إلى شهاي في الشرق، وجرت معركة بردَيْ في ٢٣ يونيو ١٩١٤م التي انتهت بسيطرة الفرنسيين عليها بعد أن تكبدت قواتهم خسائر جمة. ولجأ شهاي وعدد كبير من قواته إلى أوزو وزوماري، ولاحقتهم القوات الفرنسية فتحصنوا بمواقع منيعة في أوزو، وانتقل بعضهم إلى أبو. وبسبب كبر سنه تم أسر زِطِّيمي وأُجبر على إعلان رضوخه لفرنسا.
كان الفرنسيون يسعَون لاستكمال سيطرتهم على مواطن الطوارق في الغرب واستمالتهم لإلقاء السلاح، بالإضافة إلى دعمهم زعماءَ مجموعاتٍ صغيرة من التُّبُو في بِلما وكوار، وذلك لإحكام السيطرة على الصحراء بأسرها. وأمام إدراك شهاي نوايا الفرنسيين قرر أن يبادر إلى خطوة من شأنها تهدئة الأوضاع وتجنيب قبائل التُّبُو عبء حرب طاحنة، فرحل في ١٩ أكتوبر ١٩٢٠م مع عدد من أعيان التُّبُو الشماليين إلى بِلما، والتقى بالعقيد رويف مفوَّض الحكومة الفرنسية، ليعلن أمامه القبول بعدم مهاجمة الفرنسيين أو حلفائهم بغتةً، مع التعهد بالإيفاء بالتزاماته الأخرى، إلا أنه اشترط احتفاظه بالسلاح حتى يوافق، كما اشترط دعمه لإزاحة خصمه گَتِّي (رجل فرنسا في تشاد)، والتخلص من متمردي التُّبُو الذين كانوا يتحصنون بمناطق وعرة من جبال تبستي، وقد استجاب الفرنسيون لبعض شروطه، إلا أنهم رفضوا التخلص من الموالين لهم.
استمرت مقاومة شهاي دون انتظام، واستطاعت قواته تأمين وجود قبائل التُّبُو باللجوء إلى مواقع صحراوية منيعة في الشمال الشرقي، وكان مضطرًّا في أحيان كثيرة إلى القتال على جبهتين اثنتين؛ الأولى: باتجاه الجنوب ضد الفرنسيين في بَرْدَي، والثانية: باتجاه الشمال ضد الإيطاليين في الكُفرة.
لم ينل شهاي ثقة الفرنسيين في أيٍّ من مراحل حياته، ولا ثقة الإيطاليين بالطبع، وعاش شبه مطارد من الطرفين، ولكنه لم يستكِنْ أبدًا للتفاوض أو الرضوخ.