ملاحق

(١) التُّبُو في مشاهدات الرحَّالة والجغرافيين

لم يأخذ الحديث عن التُّبُو شكلًا مباشرًا إلا بعد أن وصلتهم أولى رحلات المستكشفين والجغرافيين الذين عبروا الصحراء الليبية نحو مجاهل أفريقيا في القرن الثامن عشر، ولا نعثر قبل ذلك سوى على بعض الإشارات التي ربما دلت على عزلة التُّبُو أو تفضيلهم تجنب الأغراب، وبالرغم من أن العديد من الرحَّالة تحدثوا عن استضافتهم من قِبل قبائل الصحراء، إلا أننا لم نر رحَّالة واحدًا يتحدث عن استضافته من قِبل التُّبُو، وإن تحدث بعضهم عن مرافقتهم واللقاء بهم أدلَّاء أو زوَّارًا، ولهذا السبب فإن مثل هذه الكتابات تكتفي عادةً بوصفهم ظاهريًّا أو من خلال مصادر ثانوية، فقد كان الرحَّالة يمرون بقبائل التُّبُو لمامًا ليصفوا بلداتهم ولغتهم وأنماط إنتاجهم في بيئة صحراوية بالغة القسوة والجفاف، وعَلاقاتهم بالأقوام المجاورة، وغير ذلك مما يرونه من مظاهر حياتهم الاجتماعية والاقتصادية. ونقتصر في هذا الملحق على ثلاثة نماذج من:

  • مذكِّرات الرحَّالة فريدرك هورنمان (١٧٩٧م).

  • ملاحظات الجغرافي إيلزي ريكلوس (١٨٩٢م).

  • مذكِّرات الرحَّالة أحمد محمد حسنين (١٩٢٣م).

مع تصحيح بعض الأخطاء الواردة في النصوص الأصلية، والتعليق عليها، وتصويب أسماء بعض البلدان والأقوام، والتعريف بها.

(١-١) التُّبُو في مشاهدات هورنمان١ (١٧٩٧م)

يسكن التُّبُو شرق وجنوب وجنوب شرق فزان، ويحكمون أيضًا الإقليم الذي يقع في المنطقة الصحراوية ما بين فزان ومصر. إن أقرب بقعة مسكونة شمال التُّبُو هي أوجلة وسيوة، ويجاورهم من ناحية الجنوب العرب الرحل، ومن ناحية الغرب — فيما بعد فزان — أراضي الطوارق.

بشرة التُّبُو ليست سوداء تمامًا، قَوامهم نحيل، سواعدهم مفتولة، مشيتهم رشيقة، وعيونهم ذكية، وشفاههم غليظة، وأنوفهم فطساء وليست كبيرة، وشعرهم طويل جدًّا ولكنه أقل تجعدًا من شعر الزنوج. يبدو كما لو كانت لديهم طاقات طبيعية هائلة ولا يملكون الفرصة لاستخدامها، فهم محاطون بالشعوب البربرية والمسلمين، ويتهمهم العرب بأنهم سيئو الظن غادرون مخادعون، ولهذا فإن أهل فزان لا يسافرون فرادى خوفًا من بطشهم.

يتكون لباس أهل التُّبُو من جلد الخراف شتاءً ويلبسونه دون صوفه صيفًا، وهم حينما يذهبون إلى فزان يلبسون قميصًا كبيرًا أزرق ويلفون رءوسهم حتى لا يبدو منها سوى العينين، وسلاحهم رمح طوله ستة أقدام وسكين طولها ما بين عشرة وعشرين بوصة يعلقونها على الكتف الأيسر ويلبسون حول وسطهم حزامًا من الجلد يتدلى منه جراب عرضه ثلاث بوصات.

ويتكون التُّبُو من قبائل عديدة يأتي على رأسها قبيلة بِلما Bilma٢ ويسكن زعيمهم «دِرِك»٣ على مسافة رحلة يوم واحد من بِلما. وقبيلة بِلما خليط من أجناس عديدة، وقد استطاعت أن توطد نفسها بالقوة بين قبائل الزنوج الذين ما زالوا يعيشون في هذه المنطقة، ومعظم سكان بلما من الزنوج بينما نجد أن سكان دِرِك جميعهم من التُّبُو.

تعمل قبيلة بلما بالتجارة ما بين فزان وبُرنو، ويسافرون في جماعات صغيرة العدد ما بين ستة وثمانية رجال، وهم مشهورون بسوء طباعهم، لدرجة أن عبيد بُرنو الذين أُعتِقوا يرفضون السفر معهم خوفًا من القتل أو السرقة.

ويدين التُّبُو بالإسلام، ويقال أنهم غير متدينين. أما قبيلة تبو رشاد Tubu Reshadeh — وهي تعني صخور التُّبُو٤ — وهم يحملون هذا الاسم نظرًا لطبيعة منازلهم التي تبنى من الصخور أو يسكنون في الغالب الكهوف أو الأكواخ في الصيف.
ويسكن زعيم «تبو رشاد»٥ مدينة آبو Abo وهي تقع بالقرب من تبستي أكبر مدن هذه المنطقة. ويذهب رجال هذه القبيلة إلى فزان في جماعات كبيرة ويرتدون زي الطوارق، ولقد رأيت عددًا منهم يرتدون جلد الخراف، وقيل هم مسلمون متدينون.
أما قبيلة بُرگو Burgu٦ فهم لا يزالون وثنيين، وهم يسكنون منطقة خِصبة تزخر بالنخيل والبلح والكلأ.
وحدث أن قام بعض أهل بُرگو بالسطو على جماعة من فزان بينما كانوا يسافرون في ما بين برگامي٧ ومرزق، وأرسل إليهم سلطان فزان جيشًا صغيرًا قِوامه اثنان وثلاثون فارسًا وسبعون من المشاة ومئتان آخرون من قبيلة رشاد. وسافر الجيش إلى القَطْرون، وهي تقع جنوب مرزق على بعد أربعة وخمسين ميلًا، ثم إلى فقيري Feqherie،٨ وتقع جنوب غرب القطرون على بعد ثلاثة وثلاثين ميلًا، ثم إلى آبو Abo بعد سفر سبعة أيام، وسرقوا مئتين من أهلها وبِيع الجزء الأكبر منهم عبيدًا.

وتُمشِّط نساء قبيلة بُرگو شعورهن على هيئة جدائل طويلة تتدلى خلف رءوسهن ويقصصن شعرهن عند مقدمة الرأس.

وتقع بعيدًا ناحية الشرق على مسافة خمسة أو ستة أيام بلدة تدعى أرنا Arna٩ ويسكنها قبائل التُّبُو، ويسكن الفيبابو Febabo١٠ جنوب غرب أوجلة وهم معرضون لهجمات سكان بِنغازي وأوجلة إذ يسطون عليهم ويسرقون البلح والرجال. ولقد أوضح لي أهالي أوجلة أن فيبابو تبعد حوالَي عشَرة أيام باعتبار أن رحلة اليوم الواحد واحدٌ وعشرون ميلًا، وخلال الستة أيام الأولى لا يوجد ماء على الإطلاق.
ويسكن التُّبُو الرحَّل Nomadic Tubu أقصى الجنوب، وهم يقطنون واديًا خِصبًا يسمى بحر الغزال Bahr el-Ghazal١١ وهو يبعد سبعة أيام شمال باگرمي.

•••

وفي «ملاحظات جغرافية عن مسار هورنمان» كتبها الميجور رينيل (ص١٧٤–١٧٩): «تتكون إمبراطوريات بُرنو وهاوسا من ولايات عديدة، تتقاسم المسافة على طول نهر النيجر من تِمبُكتو١٢ حتى دارفور شرقًا وتمتد لمسافة معقولة إلى الشمال خلف مجرى النهر، ويتقاسم بقية المنطقة من الشمال التُّبُو والطوارق، وتحيط فزان من كل ناحية ما عدا الشمال وتقترب من المناطق الملاحية على طول البحر المتوسط من الصحراء القريبة لمصر حتى المحيط الأطلسي.»
ويبدو أن هورنمان هو أول رحَّالة يحصل على معلومات هامة عن التُّبُو والطوارق، ويمتلك التُّبُو المنطقة الشمالية لهذه البقعة الشاسعة ويمتلك الطوارق الجزء الغربي منها، ويفصل ما بينهما من الشمال فزان. وكما أوضح هورنمان فإن توطن التُّبُو بدأ في الجنوب والجنوب الشرقي من فزان وامتد شرقًا إلى جنوب الهَروج١٣ وصحراء أوجلة حتى صحراء ليبيا الواسعة التي تحدُّ مصر غربًا، وتشكل هذه الصحراء الحدود الشرقية للتُّبُو. وإلى الجنوب يعيش بدوٌ رحَّل في المنطقة ما بين التُّبُو وإمبراطورية بُرنو، ويعيش في الغرب طوارق آسبن.

وينقسم التُّبُو إلى القبائل الآتية: ١. رشاد (الصخر)، ٢. فيبابو، ٣. بوگو، ٤. آرنا، ٥. بِلما، ٦. التُّبُو الرحَّل.

أولًا: قبائل تبو رشاد١٤

وتمتلك هذه القبيلة الإقليم الذي يقع إلى جنوب وجنوب شرق فزان ومدنهم هي: آبو، وتبستي. ويمكن ملاحظة البلدان السابقة على الطريق الذي اتخذه هورنمان.

واسم قبيلة رشاد (أو الصخر) مشتقة من منازلهم الصخرية والكهوف التي يعيشون فيها قبل أن يبنوا أكواخًا من أوراق الشجر يقضون فيها شهور الصيف. ويمكن استخلاص بعض الحقائق عن هذه القبيلة من خلال ملاحظات بيوفوي عن الإقليم الذي يقع بين فزان وبُرنو، وكذا من وصف هورنمان للهَروج الأبيض.

ويؤدي الطريق الذي يبدأ بتمَسَّة١٥ بعد مسيرة سبع رحلات إلى وادي تبستي، ويسكن هذا الوادي قوم مسلمون (قبيلة رشاد تدين بالإسلام أيضًا) وتؤدي الأربعة أيام الأخيرة من الرحلة إلى ما يسمى تلالًا صحراوية رملية كما قال السيد بيوفوي.

وجبال الهَروج الأبيض التي عبرها هورنمان والتي تقع بالقرب من هذه المنطقة تمتد جنوبي أوجلة حتى مرزق، فإنه من المحتمل أن تكون التلال الصحراوية التي ذكرناها من قبل هي امتداد للهَروج الأبيض.

ومما يدعم هذا الافتراض أن هورنمان علِم أن صحراء سوداء تمتد على طول الطريق ما بين فزان وبُرنو، وكما أوضحنا من قبل فإن الهَروج الأسود تلتقي بالأبيض ناحية الشَّمال، وربما كانت هذه السلسلة تمتد جنوبًا في الاتجاه الذي أخبر هورنمان أن الهَروج الأسود تمتد على طوله خلف المسار الذي سار به.

ولقد وصف هورنمان الجزء التلِّي من الهَروج الأبيض بأنه يتكون من أحجار كِلسية هشة يوجد بها بعض الكائنات المتحجرة ويمكن فصلها بسهولة، إذا ليس هناك صخور يمكن أن تحتوي على كهوف طبيعية أو يمكن أن تُنحت. وعليه فإن هذه المنطقة كما اتضح من الحديث عنها ومن خلال موقعها يبدو أنها هي تبو رشاد.

ويمكن أن نستنتج من وصف هيرودوت أن تبو رشاد هم ساكنو الكهوف الإثيوبيين١٦   Ethiopian Troglodyte حيث كان يصطادهم الغَرَمنت، وفي رأيي أن الغَرَمنت هم أهل فزان، وها هم التروغلوديت (ساكنو الكهوف) يسكنون بالقرب منهم، وهم يتميزون بالرشاقة.

وقد قال هورنمان إن التُّبُو يتميزون بالرشاقة والخفة، ولكنه كان يتحدث عن التُّبُو بصفة عامة لا قبيلة بعينها، ومن ناحية أخرى يبدو لنا أنه رأى كثيرًا من تُبُو رشاد أكثر مما رأى من غيرهم، فقد قال: «إنهم يذهبون في جماعات إلى فزان»، ويحتمل أن يكون قد عمم ملاحظاته عن تُبُو رشاد على التُّبُو جميعهم.

ونحب أن نعرض رأيًا غريبًا لهيرودوت فقد قال إن التروغلوديت يتكلمون لغةً تماثل صرخات الخفافيش.

ثانيًا: فيبابو١٧

تقطن هذه القبيلة على بعد عشر رحلات جنوب الغرب من أوجلة، في منطقة صحراوية خالية من الماء. ونظرًا لقربهم من بِنغازي، فالمسافة لا تتعدى عشرين يومًا، كانوا معرضين لهجمات أهل بِنغازي وأوجلة لسرقة البلح والأهالي.

ثالثًا: بُرگو١٨

وهي خلاف «برقو» [بركو] إحدى ولايات دارفور. وقد ظهرت في كتابات دانفيل ودلسيل وليو أفريكانوس١٩ تحت اسم Berdoa،٢٠ وربما أخطأ هورنمان في كتابتها.

وتسكن هذه القبيلة على مسافة بضعة أيام جنوب فيبابو، وهي على مسافة ثمانية عشر يومًا من تبستي، وعليه فإنه يُحتمل أن تقع إلى الجنوب قليلًا من غرب أوجلة في موازاة جنوب فزان.

وعلى الرغم من أن هذه المنطقة خِصبة — كما يقال — إلا أن أهلها يتميزون باللصوصية، فقد تعرضت القافلة التي تسير ما بين برگامي وبُرنو — وذلك إبان زيارة هورنمان — إلى هجماتهم. وقد أرسل إليهم سلطان فزان حملة صغيرة مما يعطي انطباعًا أنهم قليلو العدد أو مشتتون.

وقد أشار السيد بيوفوي في مناسبة أخرى (الجزء الرابع سنة ١٧٩٠م) إلى أن تُبُو تبستي قد أغاروا على قافلة من فزان، وتدل الخرائط الجغرافية على أن القوافل المتجهة جنوب الشرق تتعرض لهجمات بُرگو، تبستي، في طريقها إلى فزان.

رابعًا: أرنا٢١

ويقال إن هذه القبيلة تسكن على مسافة خمس أو ست رحلات شرقي تبو Tubu وتحدها صحراء ليبيا، ويبدو أن السيد هورنمان لم يعرف عن هذه القبيلة سوى اسمها.

خامسًا: بِلما٢٢

وتعتبر أكبر قبائل التُّبُو، وهم يسكنون منتصف الطريق ما بين فزان وبُرنو. تتاخم صحراء بِلما، والتي يُعتقد أنها [بَلما] Balma التي ذكرها الإدريسي. وهم يعملون بالتجارة ما بين فزان وبُرنو. وربما يُقصد بها Billa التي أشار إليها بطليموس ولكنها تقع إلى الشرق.
وقد حدد بيوفوي المسافة ما بين قوافل الملح من أغادس٢٣ حتى بحيرة دَمبو التي تقع في صحراء Bilma بخمسة وأربعين يومًا. وبمعدل ١٣ ميلًا تكون المسافة حوالي ٥٨٥ ميلًا، بينما تظهر المسافة على الخريطة أقل من ستين ميلًا، وعليه فإما أن تكون أغادس أبعد ناحية الغرب، أو تقع دمبو أبعد ناحية الشرق.
ولدينا دليل يشير إلى أن أغادس تقع بالفعل بعيدًا إلى الغرب، فقد علِم السيد Magrah أنها تقع جنوب خط عرض ٣٠ غرب فزان وشمال كاشنا، علمًا بأن هذا الجزء من الخريطة العامة لم يَعْترِه أي تغيير.

سادسًا: التُّبُو الرحل٢٤

وتعيش هذه القبيلة أقصى الجنوب، وتسكن بحر الغزال الذي علِم هورنمان أنه وادٍ طويل خصيب على بعد سبع رِحلات شمالي باگرمي.

ومسافة السبع رحلات شمال باگرمي هذه ربما تضع التُّبُو الرحل في إمبراطورية بُرنو. وعلى أية حال فربما لقوافل التُّبُو الرحل أكثر من مكان، تمامًا كما هو موجود في بُرنو قديمًا وحديثًا. ولهذا فلعل في قولنا إنهم يسكنون أقصى الجنوب مغالطة لأنه قيل إن بحر الغزال في صحراء بِلما.٢٥

(١-٢) التُّبُو في ملاحظات ريكلوس٢٦ (١٨٩٢م)

(أ) المجموعة الحامية-فرع التُّبُو٢٧

إن صلات التُّبُو الحقيقية هي موضوع نقاش بين الأنثروبولوجيين، وربما نستطيع الآن تحديدها في ضوء المواد الحديثة التي أحضرها د. ناختيغال Dr. Nachtigal مؤخرًا إلى أوروبا، ونُشرت جزئيًّا في عمله التذكاري: «الصحراء والسودان».

يتضمن نطاق التُّبُو كل شرق الصحراء من خط ١٢ طولًا إلى الحدود المصرية، وبالاتجاه جنوبًا من فزان إلى كانم، وواداي، ودارفور. والتُّبُو فرعان:

  • (١)
    التدا The Teda أو التُّبُو الشماليون، وربما أمكننا مماثلتهم ﺑ «تدامنسي» Tedamansii، القبيلة الغَرَمنتية التي جعل بطليموس Ptolemy موقعها في تريبوليتانيا Tripolitania (طرابلس).
  • (٢)
    الدزا The Daza أو التُّبُو الجنوبيون، الذين اندمجوا تدريجيًّا في كانمبو Kanembu، كانوري Kanuri، زَغاوة Zaghawa، بايلي Baele، وأقوام زنجية أو شبه زنجية أخرى في وسط وشرق السودان.
وتنتمي لغة التُّبُو إلى هذا السياق تمامًا، مرورًا من التدا الشماليين البُدائيين إلى الدزا الأكثر تحضرًا إلى الكانوري وغيرهم من الأقوام التي تستوطن حوض تشاد، ولكن السمات الطبيعية واللُّغوية تتعاقب عادةً. أي إن التنافر — بمستويات مختلفة — واضح بين الأوضاع الإثنية والفيلولوجية. ويمكن إيجادها في حالتها النقية والأكثر أصالة بين التدا الشماليين، وهي خاصية أثبتها ناختيغال بوضوح، بينما يجب ألا يُميَّز نمط التدا الطبيعي عن نمط الإيموشاغ Imoshagh المجاور أو الطوارق (البربر الحاميين) في غرب الصحراء.
إن لغة التدا لا تُظهر أية صلة سواء بالحامية أو المجموعات الزنجية. إنها تبدو منفردةً،٢٨ لتُنشئ بذلك نواةَ عائلة لُغوية واسعة الانتشار، مع شُعَب منتشرة في دارفور، واداي، كانِم، بُرنو، باگرمي، وبشكل عام في معظم وسط السودان. وهي تبدو في هذه المنطقة متأثرة بشكل عميق بتأثيرات زنجية، ولكن لا يمكن كشف مثل هذه التأثيرات في مرتفعات تبستي التي ربما كانت مهد عرق التُّبُو ومركز انتشار لغتهم.
يجب اعتبار التُّبُو فرعًا من الجذع الحامي، وقد كان لديهم — خلال عزلتهم الطويلة في تبستي — ما يكفي من الوقت لتطوير لهجتهم المستقلة التي لا تقبل التتبع وصولًا إلى مصدر التُّبُوية-البربرية الشائعة.٢٩

وثمة سمة جديرة بالملاحظة في هذه اللهجة وهي غياب الجنس النحوي (أي التذكير والتأنيث)، وتصنيفه في مستوًى أدنى مما في الألسنة الزنجية في مناطق النيل الأعلى وكيليمانجارو، وهي تبدو — على كل حال — كأنها تزوِّدنا بما يمكن تسميته «مادة خام» من الجنس النحوي المتطور في اللغات الحامية.

(ب) التُّبُو.. سكان تبستي٣٠

التُّبُو — وفقًا لناختيغال Nachtigal — هم رجال الجبل أو الصخر Men of Tu، واسمهم العربي: «تبو رشادة» Tubu Reshadeh تكرار للمعنى نفسه تقريبًا، حيث تدل «رشادة» [في اللهجة الليبية] على الصخر والجبل. والتُّبُو — الذين يسمون تِدا في الشمال — يستوطنون منطقة صخرية بالفعل، فعدد كبير منهم مكتهفون Troglodytes يقيمون في كهوف طبيعية، أو في فراغات بين جلاميد صخرية مسقوفة بجريد النخل أو أغصان السَّنط.
وينتشر التُّبُو على مساحات واسعة من الصحراء الشرقية، حيث يُعتبرون العرق الذي يتوطن الجزء الجنوبي من واحة كبابو Kebabo في الكُفرة إلى فزان، ومن واجانغا Wajanga إلى كوار Kawar، على امتداد الطريق بين مرزق Murzuk وكوكا Kuka، أي إن مجالهم يفوق ٢٠٠٠٠٠ ميل مربع في مساحته.
ويبدو أن التُّبُو قد تعرضوا لإزاحة كبرى بالاتجاه من الشمال إلى الجنوب. فهم على الأقل قد سيطروا في السابق على واحة الكُفرة التي يستوطنون منها الآن عددًا قليلًا من القرى التابعة، كما إن مستوطناتهم في فزان أصبحت نادرةً، بينما وطَّن مهاجروهم أنفسَهم جنوبًا بأعداد كبيرة في كانِم Kanem وبرنو Bornu.٣١

ولكن ما دام الاسم معروفًا لدى العرب فإن مركز قوتهم كان على الدوام جبال تبستي، بلد الصخور، حيث توطنوا هذه المرتفعات منذ أزمنة سحيقة، ولم تستطع أي حملة حربية اختراق هذه النجود العالية، فهم محاطون هنا من جميع الجوانب بالصحارى أو بالسبل الوعرة التي تحول دون الوصول إليهم، بعيدًا عن طرق القوافل، كما أنهم لا يملكون ما يجذب القبائل المعادية.

إن أي شعب آخر ينتقل فجأة إلى هذه المرتفعات القاحلة سيجد أنه من المستحيل عليه البقاء هنا، فهذه المناطق نادرة الموارد حتى بالنسبة إلى سكانها الأصليين، والوديان في اتجاه الشمال الغربي لا يمكن توطنها، وفي هذه المنطقة الجدباء فإن نقص المؤن الذي يدوم عدة أشهر يُعَد أمرًا معتادًا.

بعد مطر الصيف تجد قطعانُ الماعز المرعى الذي تحتاجه، وبوفرة تنتج الحليب الذي يُعتبر طعام التدا المعتاد. كما أنهم يجمعون ثمار بعض النباتات، ويزرعون القليل من المحاصيل، ويجمعون ثمار الدوم Doum-Palm، وبدرجة أقل في أمكنة أخرى يجمعون الحنظل الذي يمزجونه بمكونات أخرى لإزالة مرارته، فيُطحن مع الدقيق ويُعجن مع التمر،٣٢ وبهذا الشكل يصنعون أحد أهم مواردهم الغذائية.

ويتردد التدا خلال موسم التمور على بساتين النخيل لجمع التمر المتساقط الذي يُعتبر ملكيةً عامة للجميع، أو لشراء المؤن ومقايضتها بالحيوانات والأسلحة والمنسوجات.

إنهم نادرًا ما يأكلون اللحم، وهم لا يذبحون حيواناتهم باستثناء الهرِم أو المريض أو المصاب منها، وفي هذه الحالة فإنهم يستهلكون الأضحية بأكملها، وبعد تجفيفها في الشمس يتم سحقها بالحجارة وطحن العظام وتليين العروق، بل حتى الجلود فإنها تؤكل. وخلال زيارة ناختيغال سُرقت أحذيته بينما كان نائمًا وأقام بها اللصوص الجريئون وليمةً لهم.

والتدا الذين يعانون من ندرة المؤن وحياة الشح هذه يستطيعون في المناسبات مع ذلك استهلاك عدة كَميات من الطعام دون قلق، ولكن رفاهيةً كهذه مستهجنةٌ من قِبل كل الذين يفتخرون بسلوكهم القويم!

وبالحياة على نحو ثابت بنظام حِمية شحيح كهذا فإن السكان الأصليين في جبال تبستي بعيدون بشكل طبيعي عن البدانة، ومع ذلك فإن جميعهم أقوياء ورشيقو الأجسام على نحو مذهل. إن الغريب يُذهَل لرؤيتهم يثِبون مرافقين أخفَّ جمالهم في مسير سريع يدوم عدة أيام.

وبأحجامهم المتوسطة غالبًا، فإن مظهرهم يبدو متناسبًا قياسًا بأطرافهم، باستثناء الأيدي والأقدام التي تبدو صغيرة جدًّا على نحوٍ ما. أما البشرة فهي أخف من بشرة السود الذين يقطنون السهول الجنوبية، كما لا يظهر في هيئتهم الأنف الأفطس، والشفاه الغليظة، أو بقية العلامات التي تسِم الزنجي الحقيقي. والشعر أطول وأقل تجعدًا، واللحية كثة بأكثر مما لدى الأقوام السودانية.

نساؤهم فاتنات وهن في ريعان الشباب، كما أنهن متميزات عن أخواتهن اللواتي من شمال أفريقيا بجمالهن الطبيعي، وملامحهن المرنة الرشيقة.

وتبدو الأمراض نادرة في هذه المرتفعات العالية. مثل دودة غينيا، والدودة الشريطية الحبشية، والجذام الشائع بين العرب، والتهابات الكبد المتفشية في معظم البلدان الحارة، وأمراض الحمى والإسهال التي تبث الرعب في الأراضي الساحلية الأفريقية. إن اعتلال الصحة لا يُعرف في تبستي، وهم أيضًا معافون من الزُّهْري، والغُدَب (سُلُّ الغدد اللنفاوية أو داء الملِك Scrofula)، وكساح الأطفال، وجميع الأوبئة باستثناء الجدري.

ودون أن تكون غير معروفة على الإطلاق فإن أمراض الصدر نادرة هنا جدًّا، ربما بأكثر مما يوجد بين أي شعب آخر، والفضل في ذلك يعود لاضطرارهم لحياة التقشف واعتدال الطعام.

يستطيع التدا مقاومة الجوع عدة أيام، وعندما يتيهون في الصحراء دون طعام أو ماء فإنهم يمضون النهار في مكان ظليل، ويسافرون ليلًا فقط. وإذا وجدوا عظم جمل طحنوه وجعلوا منه نوعًا من العجين بخلطه بدماء يأخذونها من أوردة مطاياهم. وموردهم الأخير، عندما تبدأ غيبوبة الجوع بالزحف عليهم، هو أن يثبِّتوا أنفسهم على ظهور مطاياهم معتمدين على غرائزها في الوصول إلى أقرب مكان آمن.

ومما هو جدير بالملاحظة — بقدر ليس أقل من قوتهم وجمالهم الطبيعي — هو دهاء وذكاء التُّبُو. فالضرورة — وهي معلِّم عظيم — طورت قدراتهم الذهنية وشحذت حواسهم، فهم يجدون طريقهم عبر برية غير مطروقة أبدًا بنوع من الإلهام غير المفهوم بالنسبة إلى الأوروبي، وهم يُظهرون — في جميع الظروف — مهارةً وبراعةً مذهلتين متَّسمتين بقدر كبير من الفصاحة والمكر والابتكار. إن نضالهم الصارم من أجل الوجود جعلهم خشني الطباع، شرهين، ومتشككين. وتنعكس عواطفهم في ملامحهم وتعابيرهم القاسية، وتبدو عبارة: «كل شخص لنفسه» كأنها موسومة على ملامح التُّباوي الذي نادرًا ما يُرى ضاحكًا أو مسترخيًا مع رفاقه. وليست الولائم الأهلية مفعمة بالغناء والرقص كما هي مآدب اللهو الزنجية، ولكنها تُستخدم وسيلةً لجدل لا يخلو من ارتجال وتنافس.

التباوي مرتابٌ دائمًا، فهو إذا ما التقى بابن بلده في الصحراء يكون يقظًا ألا يقترب منه دون حذر. وما إن يكون أحدهما على مرأًى من الآخر فإنه عادةً ما يتوقف فجأة، ويجثم ثم يرمي لثامه على الجزء الأدنى من وجهه — كما يفعل الطوارق — ويُمسك بيمينه رمحَه الذي يلازمه دائمًا، كما يمسك بيساره الشنگر منگر Shangermanger، أو المِخطاف Bill-Hook، وبعد هذه المقدمات التمهيدية يبدآن تبادل المجاملات، متسائلَيْن عن صحة كل منهما وقراباته العائلية، ويستقبل كل منهما إجابة الآخر بتعابير الشكرِ لله. وعادةً ما تستغرق هذه الشكليات بعض الدقائق، وهو الوقت الذي يستغرقه كل منهما في دراسة مظهر الآخر، ومراعاة الطريقة الأمثل للتعامل معه.
ويُبدي التُّبُو في تعاملاتهم التأثيرات المتعددة لدى مختلِف الأعراق من الزنوج والعرب والطوارق الذين يتصلون بهم. فمِثل شيلوك Shilluks٣٣ النيل الأبيض يعلِّمون أصداغهم بندوب قليلة، ومِثل الطوارق يرتدون اللثام كلما استدعى الأمر المرور في جو الصحراء المغبَّر الجاف، وأخيرًا فإنهم باعتناق دين العرب قد تبنوا عدة أعراف وتقاليد من هذا العِرق، ولكنهم يَبدون أساسًا منتمين إلى الأصل الزنجي الحقيقي.
[والتدا] أقارب الدزا الذين يتوطنون إلى الجنوب في بُركو Borkou والأقاليم المتاخمة لبحيرة تشاد Tsad.
اللغتان متصلتان، وقريبتان من لغة كانوري Kanuri التي تنتشر على ضفاف البحيرة غربًا، لتؤلف بذلك عائلة لُغوية متميزة. وتُعَد لهجات البايلي Baeles وزَغاوة Zaghawas على تخوم دارفور فروعًا نائية من هذه العائلة.
يبدو أن الأقدم في هذه المجموعة [اللُّغوية] والأكثر عتاقةً هي اللهجة التي يتحدثها التدا، أو التُّبُو الشماليون الذين يمكن — بناء على ذلك — ملاحظة أنهم يمثلون هذا العرق نمطيًّا، فهم — في كل الأحوال — الأقل اختلاطًا. وسكان تبستي متجانسون تمامًا، وهم أنقياء تمامًا من التمازج مع المهاجرين العرب أو البربر. ولكن هذا العرق المتميز، وأحد أكثر الأعراق أهمية في شمال أفريقيا، على الأقل بالنسبة إلى الرقعة المترامية الأطراف التي يتوطنها، هو أحد أقل أعراق القارة ضآلةً من الناحية العددية. ووفق ناختيغال Nachtigal فإن «الأمة» بأسرها لا تكاد تناهز أكثر من ثمانية وعشرين ألف نسمة، منهم ما لا يقل عن اثني عشر ألفًا منتشرين حول مرتفعات تبستي الشاسعة.
إن الدزا بُركو هم أقل عددًا من أقاربهم تِدا تبستي،٣٤ على الرغم من أن إقليمهم يحتمل تعدادًا أكبر بكثير، ويقدرهم ناختيغال بعدد خمسة آلاف على الأغلب، بينما البدو المرتحِلون من الإقليم نفسه، وهم ينتمون إلى بولغِدا Bulgeda، ربما تراوح عددهم بين خمسة آلاف وسبعة آلاف، وهم بين فلاحين ورعاةِ مواشٍ.

الدَّزا وبُلغِدا يختلفون قليلًا عن الجبليين في تبستي [أي تِدا]، فهم مثلهم رفيعو القَوام ونشيطون وأذكياء، وعادةً ما يكونون أصحاء خالين من الأمراض، ولكنهم أقل رشاقة وجمالًا. وبوجهة نظر إثنولوجية فإنهم بهذا الاعتبار يشكلون عرقًا انتقاليًّا بين التُّبُو والزنوج الفعليين الذين يتاخمون بحيرة تشاد، كما أن كلامهم يشبه أيضًا كلام التُّبُو وزواغة والفروع الأخرى من هذه المجموعة.

الدزا يَسِمون أصداغهم بخطين رأسيين نادرًا ما يكونان مختلفَين عما لدى جيرانهم، ولكنهما كافيَين أمام عينٍ خبيرة كي تميز موطنهم الفعلي. وللدَزا أيضًا عادة إزالة لَهاة الحلق والأسنان القواطع من أبنائهم في سن مبكرة جدًّا.

من المعتقد أن كلًّا من التُّبُو [أي التدا] والدزا تحولوا إلى الإسلام منذ قرنين أو ثلاثة قرون خلت. فهم مسلمون غيورون ويؤدون الصلوات اليومية بانتظام كبير، وفي زمن زيارة ناختيغال، في ١٨٦٩م، لهم كانوا قد تبِعوا السنوسية،٣٥ وقام بعضهم برحلة شاقة إلى واحة واو Waw Oasis وزيارة فرع الزاوية السنوسية الذي تم تأسيسه هناك للاستفسار عن نقاط تتصل بالعقيدة وطلب المشورة حول بعض الأحكام.

وإذا كان الدزا قد وُصفوا مرارًا بأنهم وثنيون من قِبل القبائل المجاورة، فباستخدام صفة التوبيخ، يشعر أتباع النبي الغيورون أنهم محقون دون أن يساورهم الندم إذا ما قاموا باسترقاقهم. ولا شك في الوقت نفسه أن بعض الخرافات — المتبقية من الديانات القديمة — ما زالت تواصل حضورها بينهم. فالتضحيات — مثلًا — يستمر تقديمها للينابيع، والتعاويذ السحرية ذات الأصل الوثني، بجانب آيات القرآن والتمائم المتحدرة من جيرانهم الساميين، ما زالت أيضًا قيد الاستعمال. بينما العديد من شعائرهم الدينية تشبه تلك التي تمارسها المجموعات الوثنية في السودان.

الحدادون مرهوبو الجانب بوصفهم سحرة أقوياء، ويُنظر إليهم — في الوقت نفسه — باعتبارهم منبوذين. لا أحد من التُّبُو، بأدنى شعور من احترام الذات، يقبل أن يصاهر عامل حدادة، أو حتى أن يتنازل متلطفًا فيعتبره صديقًا له. وكلمة «حدَّاد» هي إحدى أكثر الكلمات دلالةً على التحقير في لغتهم، ولكنها لا تقال أبدًا لهؤلاء الذين يعملون في الحدادة، فالناس يحتاطون ألا يُهينوهم أو يُغضبوهم خشية التعرض لانتقامهم السحري.

إن نظام التُّبُو الاجتماعي ليس مؤسَّسًا على مبدأ المساواة، فكل قرية لها سلطانها (دَرْدَيْ Dardai)، ونبلاؤها (مَيْنا Maina)، مثلما لها عامَّتها تمامًا. وفي الوقت نفسه فإن الطبقة العليا لديها فعليًّا سلطة بالغة الضعف، أما السلطة الفعلية فهي للقانون العرفي غير المكتوب، فهم لا يحتفظون أبدًا بالجنود ليفرضوا أحكامهم أو مراسيمهم باستخدام القوة، كما لا يحافظون على أي نظام لتحصيل الضريبة يستطيعون به أن يحيطوا أنفسهم بالخدم المتملقين، ولكنهم يتصرفون كما يتصرف القضاة في كل الأحوال التي لا تتطلب الإقرار بقانون الثأر. وهم يناقشون أيضًا احتمالات السلم والحرب، كما يتم التعامل مع مجمعهم بكل احترام. والامتياز الوحيد الذي يتمتع به النبلاء دون العامة هي تلك الشهرة الجوفاء لكونهم قادرين على التباهي بما لديهم من «دم أزرق».

كما لا تُحكَم العائلة على نحو مستبد بأكثر مما يُحكم العامة. فالزوجة — كونها مميزة بمآثرها في التنظيم المنزلي، والحفاظ على النظافة، وحسن التسيير، والأمانة — يُنظر لها ندًّا مساويةً زوجها، وعلى الرغم من أن تعدد الزوجات مشرَّع في الإسلام إلا أنه من النادر الأخذ به، إلا أن المهاجرين إلى أراض أجنبيةٍ عادةً ما يتخذون زوجةً ثانية بشكل مؤقت.

الزواج عادةً ما تسبقه فترة خطوبة طويلة تُعَد رابطةً ملزمةً من روابط الزواج، وعند موت العريس فإن الخطيبة ترتبط بأخيه أو أقرب أقاربه. وكما لدى الكفار Kafirs وعدة شعوب أفريقية أخرى فإن تغير وضع الزواج حدثٌ بالغ الأهمية إلى درجة إبقائه سرًّا. الزوجة بشكل خاص تصبح ممنوعة بقواعد السلوك الاجتماعي من إبداء أدنى تلميح يشير إلى هذا الموضوع، أو مخاطبة زوجها على الملأ، أو الأكل معه. كما ليس له الحق أبدًا في أن يلمِّح إلى حماه أو حماته، وهو يتجاهل في الواقع عَلاقات زوجته، بل هو مطالب بأن يغير اسمه، كما لو كان مدانًا بجريمة قتل.

(ﺟ) سمات الإقليم

مركز السكان الرئيس في تبستي هو برْدَيْ Bardai الواقعة على المنحدر الجبلي الشمالي الشرقي، حول منتصف مسار وادي كُنري Cuneri الذي بعد استقبال عدة روافد يتدفق شمالًا في اتجاه واو Waw، والمياه الدافئة التي يُدفقها ينبوع يِرِكِه Yerikeh٣٦ الشهير هي جزء من الحوض الذي يشكله هذا السيل.
تنتشر حول برْدَي أكثر أيك النخيل كثافةً في تبستي، ولهذا السبب فإن هذه المنطقة يزورها جميع أهالي التدا تقريبًا بحثًا عن التمور. كما يألفون أيضًا التلال المحيطة في جماعات، ويحتفظ معظم تجارهم بعَلاقات تجارية مع مرزق في فزان، ويهاجر آخرون إلى الواحات الجنوبية في بُركو والمناطق المجاورة، لكنهم فقدوا طريقهم إلى واحة وادي كار Wadi Kar الغامض الذي يبعد قدر خمسة أيام سفرًا باتجاه الجنوب الغربي من الكُفرة والذي وُصف اكتظاظه بالنباتات النامية فيه على نحو أسطوري، بأنه — مثل كل الواحات التي نُسيت طريقها — «فردوس مفقود».
إن واحات بُركو التي ترويها المياه العذبة أو المالحة تنتج تمورًا أفضل مما تنتجه تبستي. كما تزدهر أشجار الدوم، ويمكن استزراع عدة نباتات سودانية هنا بنجاح. لكن خلال زيارة ناختيغال كانت الحدائق مهجورة، وغزت الرمال أيك النخيل في عدة أمكنة، وهجر السكان قراهم، وقلبت الحيوانات البرية أكواخهم المنسوجة من الحصير. أولاد سليمان، والطوارق في السهول الغربية، ومحاميد واداي Waday واصلوا القدوم إلى هذه الواحات لنهب مخازن القمح وأَسْر النساء والأطفال وذبح جميع من يقاوم عمليات السطو هذه.

هكذا يجد الدَّزا أنفسهم محرومين من كل ممتلكاتهم المنقولة، وكانوا إما يعودون إلى العمل من جديد، وإما يردُّون بجولة مضادة من الغزو والسلب بُغية جمع ما يكفي من المال لافتداء عائلاتهم المسترقَّة.

التُّبُو في مشاهدات حسنين٣٧ (١٩٢٣م)

«كانت واحات «الكُفرة» في أيام قبيلة «زوي» البدوية التي انتزعتها من قبيلة التُّبُو السود مركزًا مهمًّا للسطو والاغتيال في صحراء ليبيا، وكان أفراد هذه القبيلة المتمردة ميالين للقتال لا يخضعون لقوة أو قانون ولا يرحمون من يخترق أراضيهم، فلم تخْلُ قافلة تمر بالكُفرة من النهب والسلب أو الاضطرار لدفع جزية. وجاء المهدي [السنوسي] فجعلهم ينزلون عن طلب تلك الجزية لأنه أراد أن يؤمِّن الطريق الممتدة في صحراء ليبيا من الشمال إلى الجنوب، وأن ينمي تجارة تلك الأصقاع، وعمل على ذلك حتى قال لي مطاري (من شيوخ قبيلة «زوي» في الكُفرة) أنه صار في وسع المرأة السير من برقة إلى واداي دون أن يتعرض لها أحد» (ص٥٧-٥٨).

«إن البدوي يميز أثر جِماله، ويمكنه أن يتبين إن كانت الجمال التي سبقته في الطريق مِلكًا لرجال قبيلة مجاورة له أم لا، ويعرف أيضًا جِمال التُّبُو من شكل أخفافها واقتفاء خطواتها. وجِمال التُّبُو أصبر جِمال البدو على السير، ويمكن استخدامها في الشمال بصحراء برقة وفي الجنوب بأراضي السودان» (ص١٤٤).

«كان التُّبُو يجرون يمينًا ويسارًا يتقدمون القافلة للبحث عن رَوْث الجِمال ليتخذوا منه وقودًا، فقد اعتادوا أن يعيشوا بمعزِل عن بقية أفراد القافلة، ومالت نفوسهم إلى الاستئثار بنار خاصة يوقدونها ليلًا على مسافة قصيرة من مضرِب الخيام. وكان رَوْث الجمل كل ما تصل إليه أيديهم من الوقود فكانوا يستفيدون من سرعة عَدْوهم ويَحيدون عن طريق القافلة مسافات بلغت أربعة أميال في بعض الأحايين للبحث عن هذه المادة الثمينة!» (ص١٤٨).

التُّبُو «قلما يستعملون النار في تحضير طعامهم وإن أنِسوا إليها وفرحوا بها، وهم يجففون لحاء النخلة عند قمتها ويطحنونه ويصنعون منه مسحوقًا يضيفون إليه بلحًا وجرادًا مسحوقَين» (ص١٤٩).

«التُّبُو يتعمدون أن لا يتركوا في طريقهم شيئًا من أشيائهم لأنهم يخافون خرافة مؤداها: إن من يلتقط شيئًا سقط منهم لا بد أن يستولي عليهم يومًا من الأيام.

وهم قوم ذوو أجسام متينة البناء وأهل جِد وعمل ولكنهم شديدو السذاجة في نظام معيشتهم وتفكيرهم، على أنهم الآن آخذون في الاختلاط بالبدو ومحاكوهم في كثير من طبائعهم» (ص١٤٩).

«كنت أعلمُ أن «العوينات» كانت محط قبائل التُّبُو والقُرعان في طريقهم شرقًا إلى مهاجمة الكبابيش والفتك بهم، وكان موقع «أَركَنو» و«العوينات» صالحًا لهذا الغرض لما غزُر فيهما من الماء الذي تحتاجه هذه القبائل المغيرة. وكانت هاتان الواحتان من البعد عن الكبابيش بحيث لا يحسَرون على محاولة الانتقام أو استرداد ما ابتُز من أشيائهم» (ص٢٣٢).

figure
مسار رحلة محمد أحمد حسنين. المصدر: حسنين (١٩٢٣م) (لاحظ اختلاف خط الحدود ووقوع الجَغبوب وأَركَنو ضمن الحدود المصرية والعوينات ضمن حدود السودان).

(٢) السلطان شهاي

من أبرز سلاطين فرع تِدا من التُّبُو، وهو من قبيلة تمارة، من أَرْدِي دُگَا (أحفاد أردي) الذين يقتصر عليهم (مع أحفاد لاي وأحفاد أَرَمِهْ) تداول السلطنة أو المشيخة. وقد تولى شهاي السلطنة مذ كان شابًّا فتيًّا في أواخر القرن التاسع عشر، إلى أن تُوُفِّيَ في خمسينيات القرن العشرين، ويوجد قبره في بَرْدَيْ بشمال تشاد. وكان يوصف بلقب «كوندودي» أي الرجل الفخور، أو ذو الكبرياء.

يعرفه التُّبُو باسم «شهاي بوغر»، أو «دَرْدَي شهاي» أي السلطان شهاي. ويَرِد عند بول مارتي بالاسم المعروف لدى الفرنسيين: «ماي شافامي»، ويعتبره «أشهر زعيم في تبستي»، ولكن أيضًا: «قاطع طريق»، وهي صفة نمطية أطلقها الفرنسيون والإيطاليون على المقاتلين من حركة التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار،٣٨ وقد كان لشهاي أحد أكبر الأدوار في مقاومة الاستعمار الفرنسي والدفاع عن تشاد وفزَّان، بالرغم من أنه لم يكن معروفًا لدى الفرنسيين بادئ الأمر، إذ يبدو أنهم فوجئوا بقيادته الكاريزمية ودوره في تنظيم التُّبُو عسكريًّا. يقول مارتي: «حتى عام ١٩٠٠م لم تكن لنا عَلاقات تذكر مع زعيم تبستي، لكن قواتنا ظهرت في ذلك العام حول تشاد والتقينا به مرارًا في أثناء الاشتباكات المسلحة»، ثم يمضي بعد ذلك قائلًا: «قد يطول الحديث عن تفاصيل صراعاتنا مع ماي شافامي حيث يتطلب ذلك سرد تاريخ تشاد بأكمله.»٣٩ ﻓ «هذا الرجل الذي جال في الصحراء طيلة ٥٠ سنة واجه تغلغلنا بكل أشكال المقاومة الممكنة، لكنه يملك من الحكمة والحرية ما يجعله يدرك أن الزمان قد تغير وأنه ينبغي اللجوء إلينا.»٤٠
تميز عهد السلطان شهاي بالعمل على استقرار قبائل التُّبُو وتحولهم إلى كِيان مستقل بفضل جهوده التوحيدية وعمله الدءوب من أجل جمع قبائل التُّبُو ولم شمل التدا والدزا، وقد استطاع أن يجمعها حوله فألَّف بينها ووحَّدها على المصالحة والاتفاق، فكان التُّبُو في عهده أقرب إلى الكِيان المستقل الذي يجمع جنوب غرب ليبيا وشمال تشاد وشرق النيجر، وهذه هي حدود كِيان التُّبُو التاريخي-الاجتماعي، إلا أن زعيم التُّبُو الجنوبيين، گَتي٤١   Getty، ساءه أن يتبع قومه زعيمًا (دَرْدَي) من الشمال، فعمل على إحباط هدف شهاي بالتحالف مع الفرنسيين الذين أطلقوا عليه لقب «رجل فرنسا في تشاد».

في إطار سياسة شهاي التنظيمية قام هذا القائد بتدوين «كُتُبا»، وهو مجموع القوانين العرفية التي يحتكم إليها التُّبُو (انظر الفصل الثاني)، كما عمل على تكوين جيش من أبناء التُّبُو لمقاومة الاستعمار الفرنسي، ودعم حركة الجهاد الليبي ضد الاستعمار الإيطالي.

ويذكر الأهالي من التُّبُو أنه قام بتأسيس المنارات التعليمية (الكتاتيب) ومكافحة الأمية بنشر اللغة العربية والمعرفة الشرعية، وكان يطمح إلى إرسال المتفوقين من أبناء التُّبُو إلى الأزهر بمصر والزيتونة بتونس.

وفي ظل البيئة الصحراوية البالغة القسوة عمل على تحسين مستوى التُّبُو الاقتصادي وتطويره بتفعيل حركة التجارة بين الأقاليم الصحراوية، وتركز هذا النشاط في منطقة تِبستي وما حولها، وقد استطاع شهاي تنظيم التجارة وتوجيه مساراتها وقوافلها وَفْق ما تقتضيه مصلحة التُّبُو.

ولتركيز هذه الجهود والحيلولة دون تشتتها على نطاق الصحراء الشاسع أراد تكوين عاصمة للتُّبُو، وقد تركزت جهوده على النهوض بمدينة «بَرْدَيْ» بشمال تشاد واستقرارها ووَصْلها بالمستوى الحضاري الذي يؤهلها لأن تقوم بدور العاصمة السياسية، فأصبحت الإقليم الأكثر تحضرًا واستقرارًا.

إلا أن الصحراء آنذاك كانت مكتظةً بالصراع بين عدة قوًى خارجية؛ فالفرنسيون في السودان الغربي والأوسط، والأتراك في طرابلس وفزان، والسنوسيون في برقة والكُفرة، وكانت مواطن التُّبُو حول تبستي مسرحًا دائمًا للصراع، أما الإيطاليون في الشمال فكانوا يَدْنون شيئًا فشيئًا من احتلال طرابلس.

لم يرَ شهاي أن السنوسيين يختلفون كثيرًا عن الفرنسيين، إذ هم دخلاء أولًا، ويسعون إلى جباية الضرائب ثانيًا، وإن أعطوها اسمًا دينيًّا، ولم تتجاوز عَلاقتهم به جمع ريع الزكاة وتأمين طرق القوافل، كما لم يتلقَّ منهم دعمًا واضحًا لمواجهة الفرنسيين، لذلك فقد اتجه، بعد أن هُزم التُّبُو في معركة جَرَت في «عين قلق» أمام القوات الفرنسية، إلى باشا مرزق لدعمه بالسلاح والجنود الأتراك، إلا أن الباشا تذرَّع بصغر الحامية وانشغالها بتأمين القوافل. هكذا وجد أن التُّبُو يقفون وحدهم في مواجهة الفرنسيين الذين كانوا ينفذون سياسة الحصار والتجويع بأسلوب همجي، يقول عنه مارتي: «لأجل حمل التُّبُو على الاستسلام، وفي محاولة للقضاء عليهم بواسطة التجويع يتم كل عام منذ ١٩١٠م حرق محاصيل التمور على عين المكان. إنه أسلوب همجي نوعًا ما لكنه فُرض علينا عقب الوضع الذي أصبح فيه مستحيلًا علينا ضمان الأمن الدائم.»٤٢

بالإضافة إلى هذا كانت مجموعات الطوارق تتوغل شرقًا لتُغِير على قبائل التُّبُو، كما أعلن گَتِّي زعيم التُّبُو الجنوبيين، تبعيته غير المشروطة للفرنسيين، ولم يجد شهاي من وسيلة أخرى لتأمين قبائل التُّبُو سوى التفاوض.

أرسل شهاي إلى الفرنسيين ليعلن لهم عن رغبته تلك، على أن يتولوا هم إيقاف توغل الطوارق شرقًا، فطلب منه الفرنسيون أن يكتب بما يفيد رغبته تلك، فكانت رسالته التي وقعها معه متضامنًا زِطِّيمي (زعيم تُبُو تِبستي الغربي، وكان آنذاك رجلًا مسنًّا) وهي — كما نقلها مارتي — على النحو التالي:

«كل الأعيان وكل رجال تبستي.

دَرْدَي شهاي٤٣ وزطيني كتبا هذه الورقة.

لقد اجتمع الجميع وتحدثوا ويريدون الآن طاعة دَرْدَي شهاي.

إن دَرْدَي شهاي يريد أن يعيش بعَلاقات طيبة مع رجال إستانبول.

كل رجال تبستي يقولون: إنهم يريدون الاستماع إلى كلام دَرْدَي شهاي.

إن سلطان إستانبول يقول: إنه لا يريد رجالًا قراصنة، كذلك يقول دَرْدَي شهاي: إنه لا يريد رجالًا قراصنة. كل التُّبُو يقولون: بعد الآن لن نسرق أبدًا ولن نقوم بالحرب وسنطيع قائدنا، بعد الآن سيهدأ كل التُّبُو. إنهم يريدون تبادل الأسرى مع الطوارق، وينبغي للنقيب [الفرنسي] أن يقول للطوارق: التُّبُو لن يحاربوكم فلا تحاربوهم. عندما يهاجم الغزاة الطريق لا تستطيع القوافل السير فيها، لذلك هم يريدون أن تبقى الطريق سالمة.

لقد أصبح التُّبُو الآن يطيعون دَرْدَي شهاي وزِطِّيني، وينبغي على النقيب أن يبلِّغ الطوارق بذلك.

إن دَرْدَي شهاي وزِطِّيني وكل أعيان تبستي يطالبون بالسلام مع النقيب ومع الطوارق، ويريدون تبادل الاتصالات والمبعوثين بين النقيب ودَرْدَي شهاي ليحل السلام بينهما، وكذلك بين دَرْدَي شهاي والطوارق، وليكن بإمكان الطوارق الورود على تبستي ومرزق للاتجار، وإذ يأتون للاتجار لا ينبغي لهم أن يسرقوا منا كما كانوا يفعلون سابقًا.

وعندما يأتي رجال دَرْدَي شهاي إلى كوار سيكونون حاملين تراخيص منه، لذلك فإن رجال التُّبُو الذين لا يحملون مثل هذه الأوراق ليسوا من رجال دَرْدَي شهاي وقد يُقتَلون. أما الرجال الذين يقودهم دَرْدَي شهاي فيأتون حاملين الترخيص دائمًا، ولا يبقَون أكثر من ثلاثة أيام، وعندما يكتب النقيب رسالته ينبغي أن يسلمها لرجلين يحملانها إلى دَرْدَي شهاي، وعليه كذلك أن يبعث برسالة [مماثلة] إلى الطوارق.

دَرْدَي شهاي يحيي النقيب [الفرنسي].

كُتبت هذه الرسالة يوم الثلاثاء من الشهر القمري الموافق ١٠ من شهر عيد الأضحى.

كتبها المرابو (المرابط) خليل بن مَمَدو كْواكْوا.»٤٤

بعد هذه «الاتفاقية» اضطُر شهاي إلى القيام بتعهداتٍ مرافِقة، وهي:

  • وقف تحالفه مع أهالي الكُفرة والسنوسيين.

  • تسليم الأسرى الذين في حوزة التُّبُو.

  • إعادة قطعان الماشية التي تم السطو عليها.

  • تقديم ٢٠٠ قطعة سلاح.٤٥

كانت الحرب الأوروبية (١٩١٤–١٩١٨م) تستعر آنذاك، وتقهقر الإيطاليون إلى الساحل الليبي، وازداد ضغط المجاهدين الليبيين، الأمر الذي زاد من هشاشة وضع الفرنسيين في الصحراء وقدرتهم على الاحتفاظ بمستعمراتهم، وقد ترك زِطِّيمي جبال تبستي وانضم بقواته إلى شهاي في الشرق، وجرت معركة بردَيْ في ٢٣ يونيو ١٩١٤م التي انتهت بسيطرة الفرنسيين عليها بعد أن تكبدت قواتهم خسائر جمة. ولجأ شهاي وعدد كبير من قواته إلى أوزو وزوماري، ولاحقتهم القوات الفرنسية فتحصنوا بمواقع منيعة في أوزو، وانتقل بعضهم إلى أبو. وبسبب كبر سنه تم أسر زِطِّيمي وأُجبر على إعلان رضوخه لفرنسا.

دعا الفرنسيون شهاي إلى الالتزام بالاتفاقية السابقة، فأرسل مبعوثيه إلى بِلما يوم ١٥ مارس ١٩١٥م برفقة ٦ أسرى، و٤ جمال، مع رسالة شفوية تقول إنه لا يستطيع ضمان تسليم التُّبُو لأسلحتهم، إلا أن الفرنسيين اعتبروا ذلك إعلانًا منه عن التنصل من تعهداته، وأصبحوا يشيرون إليه في مراسلاتهم الرسمية باسم «زعيم المنشقين»، أما هو فقد استغل هذه الهدنة المؤقتة ليعيد تجميع قواته في الشمال، ثم تمكن في ٢٧ يوليو ١٩١٦م من تحرير تبستي، ولاحق القوات الفرنسية إلى تخوم بِلما، وهو التحرير الذي سجلته الوثائق الرسمية الفرنسية باعتباره «إخلاءً سريعًا لتجنب الفشل والإذلال.»٤٦

كان الفرنسيون يسعَون لاستكمال سيطرتهم على مواطن الطوارق في الغرب واستمالتهم لإلقاء السلاح، بالإضافة إلى دعمهم زعماءَ مجموعاتٍ صغيرة من التُّبُو في بِلما وكوار، وذلك لإحكام السيطرة على الصحراء بأسرها. وأمام إدراك شهاي نوايا الفرنسيين قرر أن يبادر إلى خطوة من شأنها تهدئة الأوضاع وتجنيب قبائل التُّبُو عبء حرب طاحنة، فرحل في ١٩ أكتوبر ١٩٢٠م مع عدد من أعيان التُّبُو الشماليين إلى بِلما، والتقى بالعقيد رويف مفوَّض الحكومة الفرنسية، ليعلن أمامه القبول بعدم مهاجمة الفرنسيين أو حلفائهم بغتةً، مع التعهد بالإيفاء بالتزاماته الأخرى، إلا أنه اشترط احتفاظه بالسلاح حتى يوافق، كما اشترط دعمه لإزاحة خصمه گَتِّي (رجل فرنسا في تشاد)، والتخلص من متمردي التُّبُو الذين كانوا يتحصنون بمناطق وعرة من جبال تبستي، وقد استجاب الفرنسيون لبعض شروطه، إلا أنهم رفضوا التخلص من الموالين لهم.

استمرت مقاومة شهاي دون انتظام، واستطاعت قواته تأمين وجود قبائل التُّبُو باللجوء إلى مواقع صحراوية منيعة في الشمال الشرقي، وكان مضطرًّا في أحيان كثيرة إلى القتال على جبهتين اثنتين؛ الأولى: باتجاه الجنوب ضد الفرنسيين في بَرْدَي، والثانية: باتجاه الشمال ضد الإيطاليين في الكُفرة.

لم ينل شهاي ثقة الفرنسيين في أيٍّ من مراحل حياته، ولا ثقة الإيطاليين بالطبع، وعاش شبه مطارد من الطرفين، ولكنه لم يستكِنْ أبدًا للتفاوض أو الرضوخ.

١  فريدريك هورنمان F. Hornemann (١٧٧٢–١٨٠١م) رحَّالة ألماني انضم في ١٧٩٦م إلى الجمعية الأفريقية في لندن، وتعلم اللغة العربية استعدادًا لرحلته إلى أفريقيا، وصل إلى مصر سنة ١٧٩٧م، وفي ١٧٩٨م التحق بقافلة متجهة إلى المغرب مدعيًا أنه مملوك مصري اسمه يوسف وأنه جاء للتجارة، ثم إلى فزَّان، فكان أول أوروبي يصل إلى الهَروج الأسود قادمًا من أوجلة إلى تمَسَّة، ووصل إلى مرزق سنة ١٧٩٨م، ومنها بعد عدة أشهر إلى طرابلس، ثم عاد ثانيةً إلى مرزق. ثم زار بلاد الهَوسا، فكان بذلك الأوروبي الأول الذي يصل إليها. وقد استطاع هورنمان أن يجمع معلومات قيمة عن أقوام الصحراء الكبرى والسودان الأوسط، ثم انقطعت رسائله وأخباره سنة ١٨٠١م، وهي السنة التي يرجَّح أنه مات فيها، إلا أن شهودًا بعد ذلك رأوه سنة ١٨١٩م في شمال نيجيريا، وقالوا إن الأهالي يعتبرونه شخصًا مباركًا، أي «مرابطًا»، وقيل إنه ظل هناك إلى أن مات سنة ١٨١٩م. كتب هورنمان مذكِّراته باللغة الألمانية، ونُشرت سنة ١٨٠١م، وظهرت ترجمتها الإنجليزية في لندن سنة ١٨٠٢م. ونقتطف هذه المختارات عن ترجمتها العربية: يوميات الرحَّالة فريدريك هورنمان، الرحلة من القاهرة إلى مرزق عاصمة فزان عام ١٧٩٧م، تعريب مصطفى محمد جودة، مكتبة الفرجاني، طرابلس – ليبيا، ١٩٦٨م.
٢  بِلما واحة توطنتها قبائل الدزا من التُّبُو، وتقع في منطقة أغادس شمال النيجر.
٣  من واحات إقليم أغادس بالنيجر، وتبعد عن بِلما رحلة يوم واحد.
٤  «تبو رشاد» ليس اسم قبيلة بل هي عبارة باللهجة الليبية تعني تبو الصخور، أي الذين يعيشون بين الصخور، ويُستدل بهذه الكلمة على جميع قبائل التُّبُو.
٥  يتحدث هورنمان هنا عن «زِطِّيمي» أو «زِطيني» أو «زِيتوني» كما يفضل بعض الأهالي تسميته، وهو زعيم المنطقة الغربية من جبال تبستي، وقد كان حليفًا للسلطان شهاي، ثم التحق به في مقاومة الفرنسيين إلى أن تم أسره، وكان مسنًّا، وأُجبر على إعلان رضوخه لفرنسا.
٦  بُركو Borkou أو بُرگو Borgou ليست قبيلة ولكنها سهوب تقع جنوب تبستي يرتادها رعاة التُّبُو.
٧  هي باقرمي أو باگرمي Baguirmi جنوب شرق بحيرة تشاد. أسس السلطان برني بيسي مملكة باگرمي حوالي سنة ١٥١٣م، وكان وثنيًّا، ثم اعتنق السلطان عبدالله بن مالو (١٥٦١–١٦٠٢م) الإسلام، وتوطن العرب مملكة باگرمي بالإضافة إلى قبائل كانوري وفَلاتة وكُتُكو.
٨  هي الفقارة أو الفجارة في تَراغِن بجنوب ليبيا، ومنها كانت تمتد شبكة مائية تقليدية تحت الأرض لمسافة ٥٠ كم على شكل آبار عمودية متصلة أفقيًّا لتزويد المناطق المجاورة.
٩  أرنا هي إحدى قبائل التدا من التُّبُو، وتعيش الآن في الكُفرة.
١٠  وتُسمَّى في كتابات أخرى: كيبابو، لم يتم تحديد موقعها، ويرجَّح أنها من واحات الكُفرة القديمة.
١١  بحر الغزال: هي الآن مقاطعة تشادية شرق مقاطعة كانِم، وليس المقصود إقليم بحر الغزال في جنوب السودان أو رافد النيل المعروف بهذا الاسم. ويقول هورنمان في خطاب له كتبه في ١٩ أغسطس ١٧٩٩م بطرابلس (ص١٣٤): «أما بحر الغزال فهو ليس بحرًا وإنما وادٍ خصيب يسكنه التُّبُو ويبنون منازلهم من الجلد.»
١٢  تِمبُكتو أو تِنبكت: أشهر مدن غرب أفريقيا من الناحية التاريخية، وهي حاليًّا مدينة جرداء متصحرة من مدن مالي. لعبت هذه المدينة دورًا كبيرًا في نشر الإسلام. احتلها الفرنسيون في أوائل القرن التاسع عشر. سكانها من الطوارق وغيرهم من القبائل العربية كالأدارسة والأفريقية كالصنگي.
١٣  تجمُّع من حوالي ١٥٠ جبلًا بركانيًّا خامدًا تمتد من جنوب منخفض القطَّارة إلى شمال وادي الحياة، وهو الأكبر من نوعه في شمال أفريقيا، وينقسم إلى الهَروج السُّود نسبة إلى لون الصخور البازَلتية، ولا تخلو قممها من البحيرات والنباتات والحيوانات، والهَروج البِيض نسبة إلى لون الصخور الكِلْسية.
١٤  «تبو رشاد» عبارة باللهجة الليبية تعني تبو الصخور أي الذين يعيشون بين الصخور، وهو ليس اسم قبيلة محددة.
١٥  تقع تمَسَّة شرق زَويلة الأثرية بالقرب من الهَروج السوداء.
١٦  حول ساكني الكهوف Troglodyte انظر: ١-٢-أ.
١٧  فيبابو ليست قبيلة من التُّبُو، ويرجَّح أنها من واحات الكُفرة القديمة، وقد سبق القول إنها غير محددة في الوقت الحاضر.
١٨  بُرگو Borgou أو بُركو Borkou ليست قبيلة ولكنها سهوب تقع جنوب تبستي يرتادها رعاة التُّبُو.
١٩  هو الحسن بن محمد الوزان، مؤلف «وصف أفريقيا». ولد بمدينة غرناطة عام ٩٠١ﻫ (١٤٩٥م)، ويجعل بعضهم تاريخ مولده عام ٩٠٦ﻫ (١٥٠٠م). وقع في أسر القراصنة الأوروبيين واقتيد إلى روما فاستبقاه البابا ليون العاشر لتدريس اللغة العربية، ثم حمله على اعتناق المسيحية.
٢٠  يعني برداوة، التي يدعوها الأهالي الآن: برداية، وقد نسب الوزان سكان برداوة إلى البربر، ووصفها قائلًا: «تمتد شرقًا إلى قفر أوجلة، وتتاخم شمالًا مفازات فزان وبرقة، ممتدة جنوبًا إلى تخوم مفازة بُرنو. الأرض شديدة الجفاف في هذه الناحية، ولا يمكن اختراق هذه البلاد بسلام، فأهل غدامس وحدهم يستطيعون ذلك لأنهم أصدقاء لبرداوة، يأخذون من فزان المؤن والثياب وغير ذلك مما هو ضروري للسفر» (وصف أفريقيا: ج٢، ١٥٤).
٢١  أرنا هي إحدى قبائل التُّبُو الشماليين، وتتوطن الآن جنوب مدينة الكُفرة، أما ملاحظة الميجور رينيل فمردُّها إلى طبيعة التَّرحال التي كانت سائدة لدى معظم قبائل التُّبُو حتى منتصف القرن العشرين.
٢٢  بيلما واحة توطنتها قبائل الدَّزا من التُّبُو، وتقع في إقليم أغادس شمال النيجر.
٢٣  تقع مدينة أغادس شمال النيجر وهي عاصمة إقليم أغادس الذي يتكون من صحراء تِنيري وجبال آير.
٢٤  التُّبُو الرحل ليسوا قبيلة محددة، فالتَّرحال سمة معظم قبائل تبو التدا حتى منتصف القرن العشرين، بينما تبدو قبائل تبو الدزا أكثر استقرارًا.
٢٥  لا يقع بحر الغزال في صحراء بِلما إلا إذا اعتبرناه امتدادًا لها من جهة الشرق، وتقع بِلما في الوقت الحالي شرق مقاطعة كانِم.
٢٦  إليزي ريكلوس Élisée Reclus (١٨٣٠–١٩٠٥م) جغرافي ومصور فرنسي، ألَّف عمله الرئيسي «الجغرافيا الكونية» Universal Geography في ١٩ جزءًا بين ١٨٧٦ و١٨٩٤م، وقد كرمته باريس بجائزة عن عمله، وعوقب في الوقت نفسه بسبب آرائه السياسية المتطرفة. لم يزر ريكلوس أفريقيا أو الصحراء الكبرى ولكنه اعتمد على مشاهدات وآراء رحَّالة أوروبيين قاموا بزيارتها، وعلى الأخص ناختيغال Nachtigal. وهذا المقتطف ترجمة عن الجزأين الأول والثاني من عمله الرئيسي بعنوان: الأرض وسكانها.
٢٧  Élisée Reclus, The Earth and Its Inhabitants, Africa, Vol. 1. North-East Africa. Edited by: A. H. Keane. New York, D. Appleton and Company. 1892. PP. 468-469.
٢٨  لأسباب تتعلق بعزلة التدا جغرافيًّا وبيئيًّا واجتماعيًّا عبر مختلِف مراحل التاريخ، فإن لغتهم تعتبر الأكثر «نقاءً» لعدم تأثرها بغيرها بشكل واضح، بينما نجد لغة الدزا متأثرة بلغات الأقوام المجاورة. انظر: ٣-٢.
٢٩  يفترض ريكلوس صلةً مباشرة بين اللغتين، إلا أن التُّبُوية-البربرية افتراض لُغوي لا يمكن تتبعه إلا عبر سلسلة من المقارنات الأفروآسيوية لاستخلاص المقاطع الجذرية التي تنبني عليها «مفردات الطبيعة» في هذه اللغات. انظر ٣-٣.
٣٠  Élisée Reclus, The Earth and Its Inhabitants, Africa, Vol. 2. North-West Africa. Edited by: A. H. Keane. New York, D. Appleton and Company. 1892. PP. 428–433.
٣١  انظر: حول الحراك الديموغرافي: ١-٣.
٣٢  من أطعمة التُّبُو التقليدية، وتسمى: «تني أبْرَه» أو «أبُرْ تني».
٣٣  الشلك أو الشلوك أو الشيلوك قبيلة سودانية من شعب اللوه أو اللوو Lou الذي يمثل مع الدينكا والنوير شعب دولة جنوب السودان الحالية.
٣٤  هذا صحيح بالنسبة إلى الزمن الذي كتب فيه ريكلوس مشاهداته (١٨٩٣م)، أما في الوقت الحالي (٢٠١٣م) فإن تعداد دَزا يفوق تعداد تِدا، لعدة أسباب أهمها أن دَزا مقبلون على التمازج مع الأعراق الأخرى بعكس تِدا الذين يعيشون شبه منعزلين في الصحراء.
٣٥  نفَذ السنوسيون عن طريق تبستي إلى كَوار وما يليها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولدعم سيطرتهم الدينية على الأهالي قاموا بتجريد حملة عسكرية سنة ١٨٩٥م لم تقابَل بمقاومة تذكر.
٣٦  تعني كلمة Yerikeh في لغة التُّبُو: ينبوع أو مصدر ماء.
٣٧  قام الرحَّالة المصري أحمد محمد حسنين برحلة على ظهور الإبل إلى الصحراء الكبرى عام ١٩٢٣م، بهدف جمع وإعداد البيانات الخاصة برسم الخرائط والمسافات والأرصاد الفلكية، فاتجه من السلُّوم على شاطئ البحر الأبيض المتوسط إلى الأُبَيِّض عاصمة مديرية كُردُفان بالسودان، مرورًا بواحة جالو والجَغبوب إلى الكُفرة والعوينات، قبل أن يتوغل في بلاد السودان، وهي مسافة قُدِّرت بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة كيلومتر. يقول حسنين في مقدمة هذا الكتاب: «كان أكبر همي طوال أيام حياتي أن أجوب صحراء ليبيا وأصل إلى «الكُفْرة»، وهي مجموعة من الواحات في صحراء ليبيا لم يزرها قبلي إلا مستكشف واحد. فقد نجح المستكشف الألماني المقدام رولفس سنة ١٨٧٩م في القيام بهذه الرحلة، ولكنه لم يخرج منها إلا بحياته بعد أن خسر جُلَّ مدوَّناته ونتائج ملاحظاته العلمية» (ص١٤-١٥). ولم يخصص الرحَّالة فصلًا واحدًا متكاملًا للتُّبُو، بل بث أحاديثه عنهم بين ثنايا كتابه المعنون: «في صحراء ليبيا».
٣٨  انتشرت هذه الصفة باللهجتين الليبية والتونسية باسم «الفَلَّاقة».
٣٩  مارتي: ٥٤.
٤٠  ن.م.
٤١  يُكتب اسمه في المصادر العربية: غيطي.
٤٢  مارتي: ٤٧.
٤٣  في الأصل: ماي شافامي، وقد أثبتنا هنا الاسم الذي عرَفته به قبائل التُّبُو.
٤٤  مارتي: ٥٥. لم أعثر على تأريخ هذه الرسالة، ويقول أبناء التُّبُو إنها كانت سنة ١٩١١م.
٤٥  مارتي: ٥٦.
٤٦  مارتي: ٦٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤