التُّبُو والتاريخ المجهول
تبدو الصحراء الكبرى على قدر عظيم من ثبات طبيعتها، إلا أننا لا نستطيع الجزم — على الإطلاق — بثباتها أو سكونها الديموغرافي والاجتماعي في أيٍّ من عصورها الماضية؛ فقد كانت الصحراء عبر التاريخ مجالًا خِصبًا للتنوع الديموغرافي وتمازج الأعراق واللغات، وتنبئ كتابات المؤرخين الإغريق، منذ القرن الرابع (ق. م.)، وكتابات المؤرخين الرومان بعد ذلك، عما شهدته الصحراء من تحولات تدريجية في بعض الأحيان، ومفاجئة في أحيان أخرى. بل إن الكتابات القديمة لهؤلاء المؤرخين، وإن مثَّلت في حينها مفاتيح مهمة لتجار دولهم وجيوشها، إلا أنها أصبحت في الوقت الحاليِّ مثار جدل بسبب تداخل تسمياتها وعدم دقة تعيينها الأقوامَ الصحراوية ومَواطنَها، وهو انطباع قد لا يُلغيه سوى اتفاق الباحثين على أن التَّرحال يظل سمة مميزة تسِم أقوام الصحراء، كما هو الأمر بالنسبة لمَواطنها التي تتسم بالانزياح بين زمن وآخر فيتم تعيينها بناءً على ذلك في أماكن مختلفة.
أما كتابات الرحَّالة ابتداءً من القرن الثامن عشر، مع بدايات استكشاف ليبيا التي كانت بوابة ممهَّدة نحو المجاهل العصية في قارة أفريقيا، فقد اتسمت هي الأخرى بنوع من عدم الدقة وضبابية التحيين، ولكنها تبقى — مع ذلك — مصدرًا أساسيًّا للتعرف على ماضي الصحراء ووصْل عصورها بعضها ببعض، ومتابعةِ ما شهده سكانها من تنوع وتداخل.
(١) التُّبُو في المحيط الجغرافي
أما اليوم فإن وجودهم يتركز في مناطق مختلفة من تشاد والنيجر وليبيا، منحسرين بذلك عن بعض أطراف الصحراء الكبرى وبلاد السودان الشرقي والمتوسط، بعد أن عاشوا لعدة عصور جوَّالين مترحلين في هذا المحيط الجغرافي الكبير دون تخوم محددة، ودون أن يعرفوا — أو يعرف غيرهم — على وجه التدقيق تاريخ تَرحالهم ذاك، ومَدْوَنَة توطُّنهم هذا.
لا يعرِّف التُّبُو أنفسهم بهذا الاسم، إذ يسمُّون كل قبيلة منهم باسم عام هو «أَرْبِي»، وهي كلمة نلمح فيها بوضوح كلمة «عَرْبِي»، في صيغة محلية شائعة في أفريقيا لكلمة «عَرَبِي»، فحرف العين يتلاشى عادةً في الألِف في نطق التُّبُو.
وربما يكون اللجوء إلى «التأثير البيولوجي للشبَه» مسألة غير علميةٍ تمامًا، ويشوبها التخمين؛ إذ لا يُخلَص منها إلا إلى تعميمات غير مؤكدة تكون قابلة للتحوير أو النقض، ولكن ماضي شمال أفريقيا والصحراء الكبرى كان على الدوام مسرحًا تعتمل فيه التفاعلات بجميع أنواعها، ويعتبر التمازج العرقي والثقافي نتيجة منطقيةً تمامًا لهذه التفاعلات، ومن هنا فقط يمكننا أن نتحدث عن تنوع «الطباع الوراثية» التي تكونت عبر هذا التاريخ الطويل.
إننا قد لا نستطيع الحديث عن نَموذج صحراوي محدد مثلًا، أي ضمن مسطرة عرقية وإثنية ثابتة لا تتغير، ولكننا نستطيع — بكل تأكيد — أن نتحدث عن نموذج متأثر ببيئة الصحراء الطبيعية أو الثقافية أو الاجتماعية، بما يشكل مظاهر هوية متقاربة وإن لم تكن متطابقةً تمامًا.
(٢) التُّبُو في المحيط الإثني
-
(١)
الغوانش (جزر الكناري).
-
(٢)
الحاميُّون الأطلسيون (يقاربهم بيتس مع الحَرَاطِين والترازا).
-
(٣)
حاميُّو المتوسط (وهم مختلطون مع أعراق أخرى كالساميين العرب).
-
(٤)
حاميُّو الصحراء (خليط من الزنوج والعرب، ولكنهم أنقى في الوقت الحالي من بقية الأعراق الحامية).
-
(٥)
الزنوج البربر: خليط من العِرقَين الزنجي والبربري مع تأثيرات سامية وعربية، وموطنهم الأصلي هو شرق أفريقيا.
-
(٦)
التُّبُو (الحاميون السُّمر وربما كانوا مزيجًا من حاميي الصحراء وزنوج السودان).
-
(٧)
المصريون (عرق مختلِط منذ قديم الزمان وفيه تأثيرات من حاميي الصحراء والزنوج النيليين والساميين).
-
(٨)
النوبيون (عرق يشابه التُّبُو ولكن بزنوجة أكبر).
-
(٩)
البِجا (نتاج اندماج حاميي الصحراء والنوبيين والساميين).
-
(١٠)
الإثيوبيون (التكوين نفسه مع تأثيرات زنجية).
-
(١١)
الدناكلة (التكوين نفسه مع درجة سامية أكبر).
-
(١٢)
الصوماليون (التكوين نفسه مع درجة زنوجة أكثر).
-
(١٣)
الغالا (التكوين نفسه مع درجة سامية أقل).
-
(١٤)
الماساي (عرق شبه زنجي ربما بتأثير حاميٍّ خفيف وتأثير ساميٍّ قديم، وإثنولوجيا هذا العرق يحيطها الشك).
وقد اقترح بيتس أن يعاد تصنيف هذا التقسيم إلى أربع مجموعات كبرى تتفرع إلى وحدات أصغر، وهي:
-
(١)
الحاميون الليبيون أو الغربيون: (الغوانش، حاميو الأطلسي والمتوسط، التُّبُو).
-
(٢)
الساميون الحاميون أو الشماليون الشرقيون: (المصريون، البجا، الدناكلة).
-
(٣)
الحاميون الإثيوبيون أو الشرقيون: (الإثيوبيون، الصوماليون، الغالا، النوبيون).
-
(٤)
الحاميون الجنوبيون المختلطون: (الماساي، الزنوج البربر).
وبالرغم مما يشوب هذه التصنيفات الجامعة من تعميم وعدم دقة، فضلًا عن أن التصنيف الأفروآسيوي يحل بكفاءةٍ بدلَ التصنيف السامي والحامي الذي كان متداولًا، إلا أن ما يميز هذه التصنيفات هو عدم اختلافها الكبير مع التصنيف الإثني اللُّغوي اللاحق الذي حافظ في وحداته الكبرى على هذه التقسيمات.
ومهما كانت حقيقة هذه التصنيفات الإثنية اللُّغوية فإن ذلك لا ينقض بحال من الأحوال الرأي المرجَّح حول بُدائية التُّبُو وكونهم أحد الأعراق التي أسست في نطاقها الجغرافي ما نشهده من تركيبة عرقية ولُغوية أفريقية.
(أ): المكتهفون Troglodyte
ولعل القول بأن التُّبُو هم المكتهفون الوارد ذكرهم لدى المؤرخين اليونانيين والرومان ليس إلا من قبيل التخمين الذي لا يعتمد إلا على لون البشرة وسُكنى الكهوف لا غير، إذ إن هذه الصفة أصبحت كما لو كانت تقليدًا تاريخيًّا يجري الأخذ به كلما تحدث المؤرخ عن المكتهفين.
ولعل في هذا المثال ونحوه ما يدل على نوعٍ من التقليد الذي كان سائدًا بين المؤرخين القدامى الذين يُطلقون بسهولة صفة أو اسم «مكتهفين» على الأقوام السوداء التي تعيش في المناطق الجبلية، سواء كانوا في الصحراء الكبرى أو على أطرافها من المحيط الأطلسي غربًا إلى غرب نهر النيل شرقًا.
(ب): التدامنسي Tedamansii
وبمقارنة ذلك مع ما نجده لدى بيتس من جمْع بين التُّبُو وعدة أعراق أخرى هم الغوانش وحاميو الأطلسي وحاميو المتوسط تحت تسمية «الحاميين الليبيين أو الغربيين» قد لا نتردد على الإطلاق في القول إن التُّبُو (أو التدا على الأخص) قد توطنوا في مرحلة سابقة إلى الشمال الغربي أكثر بكثير مما يُعتقد الآن، وهو الأمر الذي يشي به ترجيح صلة قبيلة التدامنسي التي استوطنت غدامس بالتُّبُو الشماليين (التدا) الذين استوطنوا جبال تِبِستي.
أما المكتهفون الذين ذكر هيرودوت (٤: ١٨٣) الذي عاش بين ٤٨٤ و٤٢٤ق.م. أن الغَرَمنت كانوا يطاردونهم، فإنهم يبعدون زمنيًّا عن تَرحال التدا إلى الجنوب بحوالَي ٦٥٠ سنة. ونرجح أنهم كانوا أسلاف القبائل الزنجية التي تعيش قرب بحيرة تشاد (بُرنو، كانِم، … إلخ) بعد أن تم دفعهم باتجاه الجنوب لتحتل قبائل التدا مواطنهم وبعد أن أصبح تَرحال التدا إلى الشمال حيث مواطنهم الأصلية واختراق خط الدفاعات الرومانية المسمى «خط التخوم الطرابلسية» مستحيلًا دون الدخول في حرب خاسرة مع الفرقة الإمبراطورية.
لهذه الأسباب مجتمعةً فإن أسبقية اسم «تدا» على اسم «تِبو» لها ما يبررها من حيث إن عصورًا سبقت توطُّنَهم مرتفعات تِبِستي التي نُسب إليها اسمهم الجديد «تِبُو» دون أن يُعرَفوا قبل ذلك إلا باسمٍ أقدم هو «تدا» الذي تم اختزاله من اسمهم الأكثر قدمًا أي: «تِدامنسي»، وصلة هذه القبيلة بالغَرَمنت تجعلنا بالتالي نرى في التدا خلفًا للغَرَمنت، كما تجعلنا نبحث عن لغة الغَرَمنت المفقودة في لغة التدا دون سواها.
لقد حافظت بعض القبائل الليبية القديمة على أسمائها الأصلية محورة بهذا الشكل أو ذاك، بينما استبدلت معظم القبائل أسماءها بين زمن وآخر، ونادرة هي القبائل التي احتفظت بأسمائها الأولى كما هي، ولربما نستنتج مما مر من تحليل أن الاسم الذي ساد طوال التاريخ، أي «تدامنسي»، ثم تم اختزاله إلى «تدا» قد عاش إلى ما قبل القرن السابع بقليل، أما مع بدء انتشار الإسلام في شمال أفريقيا، فإن كلمة «تبو» قد كانت تدل على قبائل التِّدا وغيرها من التفرعات القبلية؛ لاشتراك هذه الكلمة في اللغتين التِّدَويَّة والعربية في معانٍ دالة على أبرز سمات هذا الشعب، فهي تؤدي في اللغة العربية معنى الغزو والنهب والغُنْم. وتؤدي في لغة التِّدا معنى اللجوء إلى الجبال وتوطنها، فكانت بذلك اسم عَلَم جامعًا نالَ قبول الأهالي والأقوام المجاورة في الوقت نفسه، وشاع استعماله ليشمل التدا الأصليين والقبائل التي نزحت لاحقًا نحو الجنوب فالتحقت ببحيرة تشاد أو سهول السافانا، وهي صالحة للتوطن والرعي، وكونت بذلك فرعًا مستقلًا نما وازداد تَعداده حتى أصبح أكبر بكثير من الأصل الذي تحصن بمرتفعات تبستي دون أن يتجاوز الواحات والوديان القريبة من موطنه هذا.
(٣) التُّبُو في المحيط الديموغرافي
ويبدو الحراك الديموغرافي الذي عرَفته قبائل التُّبُو متداخل المسارات، فإذا افترضنا قِدم التُّبُو الشماليين على التُّبُو الجنوبيين فإن ذلك يعزز فرضية صلة التدا بقبيلة التدامنسي القديمة، أي إن جبال تبستي تكون في هذه الحالة مهد التُّبُو الثاني الذي ربما استوطنته بين ١٩٣–٢١١م كما ذكرنا. على أن هذه الفرضية لا تُلغي طبيعة التَّرحال الدائم التي ميزت قبائل التدا، والتي تبدو قبائل الدزا مقارنةً بها أكثر استقرارًا وتوطنًا.
نستطيع من خلال فك نسيج الخليط الذي ذكره ناختيغال أن نعود — بهذا الشكل أو ذاك — بكل عِرق إلى موطنه الأم. إن ناختيغال يتحدث عن: التُّبُو الشماليين، والتُّبُو الجنوبيين، والطوارق، والعرب المقيمين، والعرب الرحل، والبربر الشماليين، والبربر الرحل، والأرقاء والأحرار من بُرنو والهَوسا، والزَّغاوة. أما الفزازنة (نسبةً إلى فزَّان) فإنهم يبدون بالنسبة له: «غير محدَّدي الهوية ولا ينتمون إلى أي من هذه المجموعات»، وإذا كان من الممكن لهذه المجموعات أن تندرج بشكل ما تحت اسم «الليبيين» فلأن هذا الاسم بالغ المرونة من الناحية التاريخية، وهو قد يشمل شمال أفريقيا، كما قد يشمل القارة بأسرها — باستثناء مصر — وفقًا لزمن استخدامه، أما أثناء الحديث عن «الصحراء الليبية» فإن الدلالة تذهب مباشرة إلى ذلك الجزء من الصحراء الكبرى الذي يقع غرب النيل ويتلاشى تدريجيًّا كلما اتجهنا غربًا وصولًا إلى الأطلسي. وبعبارة أخرى تبدو الصحراء الليبية كما لو كانت اصطلاحًا تاريخيًّا (تعبره المسارات العرقية واللُّغوية) قبل أن تكون اصطلاحًا جغرافيًّا، أما فزَّان فإنها الصورة الجغرافية المصغرة عن الكِيان التاريخي للصحراء.
وبالعودة إلى الخليط الناختيغالي في فزان فإن المجموعات العرقية تبدو وقد توطنت الصحراء قادمةً إليها من موطنها الأم. يمكننا الحديث عن أغادس بالنسبة للطوارق، وجبال الأطلس بالنسبة للبربر. أما الأرقاء والأحرار الزنوج فهم قادمون من بُرنو، بينما كان الزَّغاوة وما زالوا بين دارفور وتشاد، في حين أن العرب يشكلون الجسم الديموغرافي للحوض الأفروآسيوي فيتوطنون شمال أفريقيا وينتشرون في جيوب قبلية على امتداد الصحراء. والفزازنة عرب لا يخلون من تأثيرات أفريقية. إن المجموعة الوحيدة التي يمكننا استثناؤها هنا هي التُّبُو الذين لا تشير أيٌّ من المصادر التاريخية — على الإطلاق — إلى مغادرتهم الصحراء، منذ أن توطنوا مرتفعات تبستي.