بزوغ وأفول الوفاق بين القوتين العظميين (١٩٦٨–١٩٧٩)
خلال عقد السبعينيات، دخل مصطلح فرنسي الأصل مبهم إلى حد ما، يدل على تخفيف حدة التوتر بين الخصوم السابقين، إلى أحاديث رجال الدولة والمواطنين العاديين في العالم على حدٍّ سواء. صار مصطلح «الوفاق» اختزالًا ملائمًا للعلاقة الأكثر تعاونًا واستقرارًا التي تربط بين طرفي الصراع الرئيسيين في الشرق والغرب، وهي ظاهرة هيمنت على السياسة الدولية طيلة ذلك العقد. وتحت قيادة رئيس الحزب الشيوعي ليونيد بريجينيف من الجانب السوفييتي، والرؤساء ريتشارد إم نيكسون وجيرالد آر فورد وجيمي كارتر من الجانب الأمريكي، سعت القوتان العظميان لضبط تنافسهما المتواصل على نحو أكثر فعالية. وقد عملتا على تقليل خطر الحرب النووية من خلال التفاوض على اتفاقات مختلفة للحد من التسليح؛ هذه هي العلامة المميزة لحقبة الوفاق. وفي الوقت ذاته، توسعت القوتان في الروابط التجارية ونقل التكنولوجيا والمشاركة العلمية، وسعتا أيضًا بجهد لصياغة مجموعة جوهرية من «القواعد» لضبط علاقتهما.
لم يكن الوفاق يعني إحلال السلام محل الحرب الباردة بالطبع، وذلك بالرغم من خطب الثناء الصادرة عن الجانبين التي تصرح بهذا. بدلًا من ذلك، كان الوفاق يعني إدارة الحرب الباردة بطريقة أكثر أمنًا وسيطرة من أجل تقليل احتمال إقدام أي من الجانبين على حرب عرضية أو الإخلال باستقرار موقف التسليح. استمرت المنافسة بين الطرفين، خاصة في العالم الثالث الذي ظل يموج بعدم الاستقرار والتغيرات الثورية. علاوة على ذلك، كان لكل طرف نظرته المختلفة لمعنى الوفاق. وبنهاية عقد السبعينيات، استفحلت المشكلات إلى حدٍّ خطير مما تسبب في انتهاء حقبة الوفاق على نحو مفاجئ.
أصل الوفاق
كان التغير في واقع القوى هو الدافع الأساسي للوفاق. ومن الجلي أن أهم هذه التغيرات كان وصول الاتحاد السوفييتي، بنهاية الستينيات، للمساواة النسبية مع الولايات المتحدة من ناحية الأسلحة النووية الاستراتيجية. فبفضل الجهود الجبارة للعلماء والمخططين العسكريين، زاد الاتحاد السوفييتي من مخزونه التسليحي الضخم، وبحلول نوفمبر ١٩٦٩ كان يملك بالفعل تفوقًا رقميًّا على الولايات المتحدة من حيث الصواريخ البالستية العابرة للقارات؛ إذ بلغ العدد ١١٤٠ مقابل ١٠٥٤. وبالرغم من احتفاظ الأمريكان بمزية كبيرة من ناحية الترسانة النووية الإجمالية، وذلك بفضل التفوق المتواصل في عدد الصواريخ القابلة للإطلاق من الغواصات والقاذفات بعيدة المدى القادرة على حمل قنابل نووية، فإن المساواة التقريبية بين الجانبين كانت ظاهرة. لقد انتهت حقبة التفوق الأمريكي النووي الساحق التي امتدت لعقدين إلى غير رجعة، وكان لهذه الحقيقة تبعات عميقة على العلاقات المستقبلية بين القوتين العظميين. شكل التدهور النسبي في القوة العسكرية الأمريكية وأيضًا في السلامة والفعالية الاقتصادية، وهي الأمور التي تسبب الصراع المستنفد للموارد في فيتنام والنهوض الاقتصادي لأوروبا الغربية واليابان في استفحالها، دافعًا أساسيًّا آخر للوفاق. بكل بساطة، لم تعد الولايات المتحدة تملك من القوة الاقتصادية، أو الإرادة السياسية، ما يمكنها من مواصلة سياسة التفوق التي اتسم بها نهجها حيال الحرب الباردة منذ أواخر الأربعينيات. وأخيرًا، فإن التوترات المتصاعدة بين الاتحاد السوفييتي والصين، التي أكدتها المناوشات على الحدود بين قوات البلدين والاحتمال الجدي لنشوب حرب بين الغريمين الشيوعيين، قدمت دافعًا آخر لوضع العلاقة السوفييتية الأمريكية على أساس أكثر صلابة.
راقت الاستراتيجية الأمنية الهادفة لتقليل التوتر مع الاتحاد السوفييتي لمخططي السياسات الأمريكيين من عدة أوجه. أهم هذه الأوجه قاطبة هو أنها بدت أكثر السبل عقلانية لتقليل أخطار الصراع النووي مع الغريم الذي صار الآن أكثر تسليحًا على نحو يثير الخوف. علاوة على ذلك، يمكن أن يقلل الوفاق من الضغوط الواقعة على الميزانية الدفاعية الأمريكية المثقلة بالفعل بسبب الحرب المكلفة في فيتنام، خاصة لو أدى الوفاق إلى اتفاقات فعلية للحد من التسليح. وانصياعًا لذلك المنطق، أعلن جونسون عن نية إدارته الدخول في مفاوضات للحد من التسليح مع الاتحاد السوفييتي في عام ١٩٦٧. وفي يونيو من ذلك العام، تقابل مع رئيس الوزراء الروسي ألكسي كوسيجين في قمة مصغرة في جلاسبورو بنيو جيرسي، لمناقشة القضايا النووية وغيرها من المشكلات الثنائية الملحة. كان جونسون يخطط لزيارة موسكو لعقد مباحثات مستقبلية مع القادة السوفييت خلال النصف الثاني من عام ١٩٦٨، بيد أن هذه الرحلة ألغيت بسبب التدخل العسكري السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا.
مع توليه منصب الرئيس في يناير ١٩٦٩، اعتنق نيكسون سياسة الوفاق بقوة متجددة. شكلت هذه السياسة عنصرًا جوهريًّا من استراتيجية الحرب الباردة المعدلة التي عقد العزم على تنفيذها. كان نيكسون يخشى من أن الولايات المتحدة صارت منتشرة حول العالم على نحو خطير، وأن مواردها صارت موزعة بشكل ينبئ بالخطر، وقد شاركه في هذا التخوف معاونه لشئون السياسة الخارجية ومستشار الأمن القومي هنري إيه كيسينجر. كانا يريان أن حرب فيتنام ما هي إلا عَرَض منذر بالخطر لمشكلة أكبر بكثير. يقول كيسينجر في مذكراته: «كنا في سبيلنا أن نكون مثل الدول الأخرى؛ من حيث حاجتنا لإدراك أن قوتنا، حتى وإن كانت هائلة، فهي محدودة. لم تعد مواردنا لانهائية قياسًا لمشكلاتنا، وتعين علينا بدلًا من ذلك أن نحدد أولوياتنا، سواء الفكرية أو المادية.» ظلت الأولوية الملحة لكل من نيكسون وكيسينجر هي احتواء الدولة الوحيدة التي تملك من القوة ما يكفي لتعريض أمن الولايات المتحدة للخطر. ومع أن نيكسون يدين بجزء كبير من سمعته إلى نضاله ضد الشيوعيين، فإنه كشخص نفعي لم يعد يرى في الجاذبية الأيديولوجية للشيوعية تهديدًا كبيرًا. كانت القوة السوفييتية، بكل بساطة، هي ما يقض مضجعه. وقد عبر كيسينجر، صاحب التفكير المشابه، عن الأمر بقوله: «مشكلة عصرنا، هي التعامل مع بزوغ الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى.» فاق الجانب الجيوسياسي الجانب الأيديولوجي، وكان هذا — من منظور نيكسون وكيسينجر — هو العملة الرائجة في الشئون الدولية.
تدفقت سياسة الوفاق مع الاتحاد السوفييتي على نحو طبيعي من الرؤي الجيوسياسية المشتركة، والأمر عينه انطبق على سياسة التقارب مع الصين. هدفت إدارة نيكسون إلى كبح التسليح النووي المتزايد لموسكو، وتقليل كلٍّ من نفقات المنافسة ومخاطر الحرب من خلال مفاوضات الحد من التسليح. ومن خلال تأمين قبول موسكو الفعلي للنظام العالمي القائم في الوقت ذاته، يمكن للإدارة الأمريكية المساعدة في كبح النزعة السوفييتية لاتباع سياسة خارجية غير مسئولة في العالم الثالث. وفي الوقت ذاته لو أمكن للولايات المتحدة الانفتاح على الصين المنعزلة وقتًا طويلًا، فستتمكن من ضرب الغريمين الشيوعيين أحدهما بالآخر، وأن تضع نفسها في موضع محوري استراتيجي داخل العلاقة الثلاثية التي تجمع القوى الثلاث. كانت خطة جريئة، صيغت في الوقت الذي حتمت فيه التكاليف الباهظة لحرب فيتنام بالداخل والخارج قدرًا من التعديل في الاستراتيجية الأمريكية حيال الحرب الباردة. كان نيكسون يأمل أيضًا أن يسهل تنفيذ هذه الخطة الخروج الأمريكي المشرف من فيتنام، التي لا تزال أكبر مشكلة تواجهها السياسة الخارجية الأمريكية. كان هناك مردود سياسي كبير أيضًا. فلو أن نيكسون نجح في صياغة علاقة أقل توترًا مع الاتحاد السوفييتي والصين، وفي الوقت ذاته تمكن من إخراج الولايات المتحدة من فيتنام، فسيكون نجاحه في انتخابات الولاية الثانية لعام ١٩٧٢ مضمونًا، وستترسخ سمعته كرجل دولة.
رغب الاتحاد السوفييتي في تحسين العلاقات الثنائية لأسبابه الخاصة؛ فقد رأى الروس، المتخوفون من التهديد العسكري الصيني المتصاعد، أن تخفيف توتر العلاقة مع الولايات المتحدة سيمكنهم من التركيز على ذلك التهديد الأكثر إلحاحًا لأمنهم. إضافة إلى ذلك، ستؤكد اتفاقات الحد من التسليح مع الولايات المتحدة مكانة الاتحاد السوفييتي بوصفه قوة عظمى مكافئة، وسيثبت إنجاز التكافؤ النووي الذي تحقق بصعوبة قبل أن تتسبب أي طفرة تكنولوجية في استعادة الولايات المتحدة لتفوقها السابق. من الصعب المبالغة في تقدير الأهمية التي علقها الكرملين على أمور كالمكانة والاحترام في هذا الصدد. وكما أعلن وزير الخارجية الروسي جروميكو في فخر أمام المؤتمر الرابع والعشرين للحزب الشيوعي عام ١٩٧١: «اليوم لا يمكن حسم أي قضية على درجة من الأهمية دون وجود الاتحاد السوفييتي أو في ظل معارضته لها … إن الأهمية السياسية للتوازن الاستراتيجي المستقر لا يمكن التشكيك فيها … إنها ضمان ليس فقط لأمن الجانبين، بل للأمن الدولي أجمع أيضًا.» يمكن أيضًا الوفاء باحتياجات أخرى أكثر تحديدًا من خلال إرساء علاقة تعايش سلمي مشترك مع الولايات المتحدة، منها إمكانية الوصول إلى الحبوب والتكنولوجيا الأمريكية وتسهيل تسوية المشكلات الأوروبية المؤرقة؛ مثل برلين. ظل بريجينيف وكوسيجين وجروميكو، ورفاقهم بالمكتب السياسي، واثقين في هذا المنعطف أن التاريخ يقف إلى جوار العالم الاشتراكي، ولم يتقبلوا سياسة الوفاق من منطلق الضعف، بل كعلامة على قوتهم المتنامية. وقد عبر بريجينيف عن الأمر في إيجاز وكياسة في خطاب ألقاه عام ١٩٧٥ حين قال: «صار الوفاق ممكنًا بفضل إرساء علاقة جديدة في المحفل الدولي.»
ازدهار الوفاق
في التاسع عشر من أكتوبر ١٩٦٩، حدد نيكسون موعدًا للمباحثات مع الاتحاد السوفييتي بشأن الحد من الأسلحة الاستراتيجية. بدأت الجولة الافتتاحية لهذه المحادثات في نوفمبر، ودارت في كل من هلسنكي وفيينا. لكن على الفور، وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود بسبب الشك المتبادل والتفاصيل الفنية. كان أحد أسباب ذلك هو محاولة نيكسون ربط التقدم في محادثات المعاهدة بتعاون السوفييت في الضغط على فيتنام الشمالية من أجل الوصول إلى تسوية دبلوماسية مع الولايات المتحدة، على الأقل إلى أن توقف نيكسون عن محاولات الربط هذه. تمثل سبب آخر في مشكلة مؤرقة أخرى نشبت حول الأنواع المختلفة من الأسلحة النووية، وتحديدًا هل الاتفاق المقترح سيقتصر فقط على الصواريخ بعيدة المدى، أم أنه ينبغي تطبيقه بالمثل على الصواريخ الأمريكية متوسطة المدى المنتشرة في أوروبا والقادرة هي الأخرى على ضرب الأراضي السوفييتية. طرحت الابتكارات التكنولوجية الحديثة أمام المفاوضين تحديًا معقدًا آخر. فقد هدد الابتكار الحديث لتقنية الناقلات العائدة ذات الرءوس المتعددة فردية التوجيه، التي تتيح إمكانية تركيب رءوس نووية متعددة على الصاروخ الواحد، بتعميق قدرة كل طرف التدميرية لترسانة الطرف الآخر النووية على نحو بالغ. وأثار تطوير الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية الإمكانية النظرية لقدرة الأنظمة الدفاعية على صد هجمات الصواريخ النووية ومن ثم تحييد القوة الضاربة للطرف الآخر. وفي مايو ١٩٧١، توصل المفاوضون السوفييت والأمريكان إلى اتفاق. وبالأساس، وافقت الولايات المتحدة على منح السوفييت نسبة تفوق قدرها ٣ إلى ٢ فيما يخص الصواريخ البالستية العابرة للقارات، واختار السوفييت تجاهل الصواريخ النووية التي يمكن إطلاقها من أوروبا الغربية، وقرر الطرفان عدم حظر الناقلات العائدة ذات الرءوس المتعددة. مهدت هذه التسوية الطريق لعقد اجتماع قمة احتفالي ومراسم لتوقيع الاتفاقية في موسكو العام التالي.
جاءت زيارة نيكسون للاتحاد السوفييتي في مايو ١٩٧٢، وهي الزيارة الأولى لرئيس أمريكي منذ أن حضر روزفلت قمة يالطا منذ ٢٧ عامًا خلت، في أعقاب رحلته التي جذبت الاهتمام الكثير إلى الصين في فبراير من العام نفسه. كانت الرحلتان مرتبطتين باستراتيجية نيكسون الكبرى. وفي الواقع، قبل زيارة الرئيس الأمريكي الصين كان السوفييت مترددين في الموافقة على معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية، لكن عقب زيارة نيكسون الظافرة إلى الصين، استجابوا بكل سرعة. من الجلي أن السوفييت لم يرغبوا في أن يدخل الأمريكيون والصينيون في علاقة شراكة استراتيجية موجهة ضدهم، وبالرغم من الاعتراضات الأمريكية المنادية بالعكس، كان هذا تحديدًا ما يسعى نيكسون وكيسينجر لعمله. كان خوف الصينيين المتزايد من الغريم السوفييتي هو ما جعل التقارب من الأمريكيين، المكروهين من قبل، أمرًا مستساغًا من جانب ماو وكبار محلليه الاستراتيجيين. فهم أيضًا أعطوا الاعتبارات الجيوسياسية الأولوية على القناعات الأيديولوجية. يقول كيسينجر: «تجاوز القادة الصينيون قناعاتهم الأيديولوجية عند تعاملهم معنا. فقد أرسى خوفهم الأولوية القصوى للاعتبارات الجيوسياسية.» بالرغم من عدم تمخض مباحثات نيكسون مع ماو ورئيس الوزراء زو إنلاي وغيرهما من المسئولين الصينيين، عن كثير من النتائج الملموسة، فإن المعنى الرمزي للزيارة كان قويًّا للغاية. بدا وكأن الزيارة تبشر بحرب باردة أقل خطورة، تحركها الدوافع الأيديولوجية بدرجة أقل، وأيضًا تبشر بأمريكا أكثر دهاءً ومرونة من الناحية الدبلوماسية.
تعين على من كانوا يتمنون تخفيضًا حقيقيًّا في عدد الأسلحة النووية أن يعلقوا آمالهم على المفاوضات المستقبلية. وفي أواخر عام ١٩٧٢، افتتح خبراء التسليح النووي السوفييت والأمريكان بالفعل الجولة التالية من المحادثات. إلا أن الفوضى التي عمت أرجاء الحكومة الأمريكية بسبب فضيحة ووترجيت أضعفت موقف نيكسون في البداية ثم أجبرته في أغسطس ١٩٧٤ على الاستقالة، ومن ثم منعت تحقيق أي تقدم. وفي نوفمبر ١٩٧٤، تقابل جيرالد آر فورد، خليفة نيكسون، مع بريجينيف في فلاديفوستوك للتصديق على مجموعة من المبادئ العامة المرشدة لمفاوضات الجولة الثانية من محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية. لكن لم يلح في الأفق أي تقدم، وسريعًا ما انزوت المفاوضات المستمرة في الظل بسبب تشكك الكونجرس في قيمة هذه المحادثات والتخوف المتصاعد من الأفعال السوفييتية في العالم الثالث والانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة في عام ١٩٧٦.
حدثت عملية وفاق أوروبية بالتوازي مع الحراك صوب الوفاق بين القوتين العظميين، وكانت أكثر استمرارية. اضطلع فيلي برانت، المنتخب في أكتوبر ١٩٦٩ كمستشار ألمانيا الغربية، بالدور القيادي فيها. سعى برانت، عمدة برلين الغربية السابق صاحب الشخصية الكاريزمية، إلى التقليل التدريجي لحواجز التجارة والسفر بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية وجعل موقف ألمانيا في الحرب الباردة أقل ضعفًا وحساسية. ولتحقيق هذه المآرب، كان برانت مستعدًّا للإقرار بحقيقة وجود ألمانيا الشرقية كأمر واقع، وهو الانحراف الكبير عن الموقف التقليدي لقادة ألمانيا الاتحادية السياسيين. ركزت المرحلة الأولى من سياسة برانت الخارجية القائمة على التقرب من الكتلة الشرقية في تأمين الاتفاقات مع الاتحاد السوفييتي وبعض حلفائه في أوروبا الشرقية. وفي أغسطس ١٩٧٠، وقعت ألمانيا الغربية معاهدة مع الاتحاد السوفييتي استنكر فيها كلا الطرفين استخدام القوة وتعهدا باحترام الحدود الأوروبية القائمة وحرمة انتهاكها. وفي وقت لاحق من العام نفسه، وقعت ألمانيا الغربية معاهدة مشابهة مع بولندا. تبع هذا توقيع معاهدة دولية حول برلين. ففي سبتمبر ١٩٧١، توصلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا العظمى وفرنسا إلى اتفاق رباعي أقر أخيرًا بحقوق القوى الأربع الغربية في دخول برلين الغربية. وتكللت نجاحات سياسة برانت الخارجية بالمعاهدة بين ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية في ديسمبر ١٩٧٢. أقرت كل من الشقيقتين الألمانيتين بشرعية الأخرى، واستنكرتا استخدام القوة، وتعهدتا بزيادة التجارة والسفر بين الشرق والغرب.
حظيت عملية الوفاق الأوروبي باحتفاء بالغ في كلا جانبي الحرب الباردة في أوروبا، وهو ما أدى إلى زيادة كبيرة في التجارة بين أوروبا الشرقية والغربية، وحرية أكبر للأفراد في عبور الستار الحديدي، إلى جانب تهدئة كبيرة للتوتر في وسط أوروبا. أيضًا سهل تخفيف المخاوف والحواجز من التحرك صوب تسوية سلمية أوروبية عامة. وفي نوفمبر ١٩٧٢، افتتح مؤتمر تحضيري للأمن والتعاون في أوروبا أعماله في هلسنكي للإعداد لمثل هذه التسوية. تمخض عن تلك المناقشات تجمع لخمس وثلاثين دولة في العاصمة الفنلندية في يوليو وأغسطس من عام ١٩٧٥، إضافة إلى كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. تقبل المشاركون في المؤتمر التقنين الرمزي للتغيرات الإقليمية التي فُرضت على أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وهو الهدف الذي طالما سعت موسكو إلى تحقيقه. أظهرت الولايات المتحدة قدرًا أقل من الحماس لاتفاقات هلسنكي، ولسياسة التوافق مع الكتلة الشيوعية، وذلك مقارنة بالدول الأوروبية والاتحاد السوفييتي. وقد تحدث حاكم كاليفورنيا السابق رونالد ريجان، والطامح للرئاسة وقتها، قائلًا: «أعتقد أن كل الأمريكيين يجب أن يكونوا ضدها.» ما أقلق ريجان وغيره من منتقدي «وثيقة هلسنكي النهائية» — وعملية الوفاق الأوسع التي نبعت منها — كان الميل المتزايد للولايات المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية لمعاملة الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى يجب وضع مصالحها في الاعتبار بدلًا من معاملتها كعدو لا يزال سعيه الدءوب للهيمنة على العالم جليًّا وخطيرًا. وقد عززت تطورات الموقف في العالم الثالث من موقف هؤلاء المنتقدين.
وثيقة هلسنكي النهائية
تضمنت الاتفاقات التي جرى التوصل إليها في هلسنكي ثلاثة عناصر، أو «سلال»، منفصلة؛ أولها: كان الإعلان عن حرمة انتهاك الحدود الأوروبية القائمة وعبر عن المبادئ الأساسية التي ينبغي أن تحكم العلاقات بين الدول. العنصر الثاني: غطى التعاون الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي والبيئي. أما «السلة الثالثة»، التي عارضها الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة في البداية: فتعلقت بحقوق الإنسان الأساسية داخل الدول؛ إذ دعت ضمن أمور أخرى إلى ضمان حرية أكبر للتعبير والمعلومات وانتقال البشر. تقبلت القيادة السوفييتية السلة الثالثة بوصفها تسوية مقبولة، وإن كانت بغيضة، ما دامت ستحصل في الوقت ذاته على الاعتراف الرسمي بحدودها إلى جانب زيادة التدفق التجاري الذي تتوق إليه.
الوفاق تحت الحصار
لم يستطع الوفاق قط أن يصل إلى مستوى الطموحات العالية التي تولدت عن قمة موسكو. فقد فشلت تعهدات «الاتفاق الأساسي» العلنية الخاصة بسلوك القوتين العظميين في منع تكرار تصادم المصالح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي؛ سواء في الشرق الأوسط أو جنوب شرق آسيا أو أفريقيا أو في غيرها من البقاع. علاوة على ذلك، تسبب الصراع السوفييتي الأمريكي المتواصل في العالم الثالث في تناقص المساندة التي كان الوفاق يحظى بها داخل الولايات المتحدة. هاجم المنتقدون المحافظون — الذين لم يخففوا قط من نفورهم الأيديولوجي تجاه الشيوعية وعدم ثقتهم المتأصلة في الاتحاد السوفييتي — سياسة الوفاق على أساس أنه يمنح عباءة من الشرعية لخطط موسكو التوسعية التي لم تتغير. بل إن بعضهم ساوى على نحو استفزازي بين سياستي الوفاق والاسترضاء. تسببت المبتكرات التكنولوجية في زيادة الصعوبات التي يواجهها مناصرو الوفاق؛ نظرًا لأن كل تقدم تكنولوجي كان يساعد على جعل اتفاقات الحد من التسلح المتوازنة الراسخة التي تحظى بموافقة الطرفين أصعب في تحقيقها. واستجابة للقطاع العريض المتزايد من معارضي سياسة الوفاق، حظر الرئيس فورد في عام ١٩٧٦ الكلمة نفسها من اللغة التي تستخدمها المؤسسة الرئاسية.
كانت حرب عام ١٩٧٣ التي نشبت في الشرق الأوسط أولى الأحداث العظيمة التي أظهرت مدى قصور الوفاق. كان أنور السادات، الذي خلف جمال عبد الناصر في حكم مصر بعد وفاة الأخير في عام ١٩٧٠، يخشى من أن يتسبب دفء العلاقات بين القوتين العظميين في إعاقة تقدمه نحو هدفه الأساسي المتمثل في استعادة الأرض التي احتلتها إسرائيل في حرب عام ١٩٦٧ الكارثية. وفي عام ١٩٧٢ طرد السادات الخبراء الروس من الأراضي المصرية، وهو ما جاء في جزء منه كإعلان عن عدم رضاه عن التحول في سياسات راعيه الرئيسي. بعد ذلك، وفي السادس من أكتوبر، شنت مصر وسوريا، بالتنسيق فيما بينهما، هجومًا مباغتًا على إسرائيل في محاولة جريئة لانتزاع المبادرة العسكرية والدبلوماسية. لكن بعد خسارتها عدة معارك، تعافت إسرائيل وصارت لها اليد العليا. ساعد إسرائيل في هجومها المضاد قرار إدارة نيكسون بإعادة تزويد إسرائيل بالمعدات التي تلفت أو دمرت في أيام القتال الأولى. تزايد هذا الدعم بعد أن دعم الاتحاد السوفييتي، من جانبه، القوات المصرية والسورية. بدت أفعال الاتحاد السوفييتي — التي جاءت كرد فعل لقيام واشنطن بمساعدة حليفتها طويلة الأمد — لنيكسون كتهديد خطير، ليس فقط لإسرائيل، بل للوفاق أيضًا. وقد حذر كيسنجر علانية قائلًا: «إن سياستنا حيال الوفاق واضحة؛ فسوف نقاوم السياسات الخارجية العدوانية. لا يمكن أن يستمر الوفاق في ظل انعدام المسئولية في أي منطقة، بما في ذلك الشرق الأوسط.»
اتسعت الأبعاد الدولية للأزمة التي خلفتها ثالث الحروب العربية الإسرائيلية بسبب حظر النفط العربي على الولايات المتحدة عقابًا لها على سياساتها المساندة لإسرائيل، وهي الحركة التي ضربت المصالح الاقتصادية الأمريكية ضربًا مباشرًا.
اصطبغت أزمة الشرق الأوسط بالمزيد من روح المواجهة بين الشرق والغرب حين دعا بريجينيف إلى النشر الفوري لقوات حفظ سلام أمريكية سوفييتية مشتركة، مهددًا بفعل أحادي من جانب الاتحاد السوفييتي لو لزم الأمر. قدم الزعيم الروسي طلبه إلى الرئيس نيكسون نفسه، وذلك بسبب إحباطه من خرق إسرائيل لوقف إطلاق النار المتفق عليه، وتخوفه من تعرض الجيش المصري المحاصر في صحراء سيناء للتدمير على يد القوات الإسرائيلية. في ظل الظرف المرير الذي كان نيكسون يمر به بسبب فضيحة ووترجيت الآخذة في التفاقم وقتها، رأى أن مناورة بريجينيف تمثل تحديًا كبيرًا للمصالح الأمريكية في تلك المنطقة الحيوية الغنية بالنفط، وأنها تتطلب رد فعل قويًّا. ومن ثم، أخبر الأمين العام السوفييتي أن الولايات المتحدة تعتبر أن الفعل السوفييتي الأحادي الجانب المنتظر «أمر يبعث على القلق العميق وله عواقب لا يمكن التنبؤ بها». ولإظهار جديته، وضع نيكسون قواته التقليدية والنووية في شتى أرجاء العالم على أهبة الاستعداد، وهو ما لم يحدث منذ ذروة أزمة الصواريخ الكوبية. وسريعًا ما نجحت الضغوط الدبلوماسية التي أقنعت إسرائيل بقبول وقف إطلاق النار في نزع فتيل الأزمة. وبحلول السابع والعشرين من أكتوبر كانت الحرب قد انتهت، ودارت عملية البحث عن تسوية سلمية بقيادة الولايات المتحدة بأقصى سرعة. إلا أن الخلافات العارضة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة خلفت أثرها بكل تأكيد. فما قيمة «الاتفاق الأساسي» لو اقتتل السوفييت والأمريكان من أجل خلاف إقليمي لا أكثر؟ ومع كل ذلك الخطاب النبيل بين المسئولين الحكوميين، بأي مقدار اقترب العالم بالفعل من البيئة الدولية السلمية المستقرة التي وعد مهندسو الوفاق بتحقيقها؟
طرحت المراحل الأخيرة من حرب فيتنام أسئلة مشابهة. لا ريب أن الوفاق لم يقدم للولايات المتحدة أي هدنة من الحرب المضنية في الهند الصينية. في البداية، كان نيكسون يأمل أن يُمَكِّن التقارب مع كل من موسكو وبكين الولايات المتحدة من التفاوض للخروج من فيتنام على نحو مشرف ودون المساس بمصداقيتها. بيد أن الأمر لم يسر على هذا النحو؛ إذ لم يكن المفاوضون الفيتناميون مستعدين للتنازل عن أي من أهدافهم السياسية التي سعوا إليها منذ وقت طويل فقط من أجل الوفاء باحتياجات قوة عظمى في موقف ضعف واضح. وبالمثل، فشل التصعيد الدوري من جانب إدارة نيكسون للحرب في كسر جمود المفاوضات. وفي النهاية توصلت واشنطن وهانوي إلى تسوية سلمية في يناير ١٩٧٣، لكن مع أن الاتفاق سمح بالانسحاب الكامل للقوات الأمريكية، فإنه لم ينهِ القتال. وفي بدايات عام ١٩٧٥ شنت فيتنام الشمالية هجومًا على فيتنام الجنوبية أدى على نحو مدهش إلى انهيار النظام الذي مات أكثر من ٥٨ ألف أمريكي وهم يحاولون حمايته من الشيوعية. ومن المؤكد أن عجز إدارة فورد في الأيام الأخيرة لحكومة سايجون، ذلك العجز الذي فُرض عليها من جانب الكونجرس والرأي العام العازف عن تأييد أي التزامات إضافية حيال فيتنام، قد نال من منزلة الولايات المتحدة كقوة عظمى. وبطرق متعددة، كشفت الهزيمة في فيتنام هي الأخرى، بصورها المؤلمة للغزو الفيتنامي الذي تتقدمه الدبابات سوفييتية الصنع، عن المزيد من قصور الوفاق بين القوتين العظميين.
سببت تطورات الوضع في أنجولا، إحدى بؤر الاهتمام الدولية المعقدة والمثيرة للخلاف في منتصف السبعينيات، المزيد من الضرر للوفاق. فقد اندلعت حرب أهلية بين ثلاث فصائل متناحرة في المستعمرة البرتغالية السابقة عقب منح لشبونة الاستقلال لها في نوفمبر عام ١٩٧٥. وقد أدى تورط القوات الكوبية إلى جانب الحركة الشعبية لتحرير أنجولا اليسارية، التي كانت تقاتل الحركتين الأكثر اعتدالًا وموالاة للغرب والمدعومتين من الولايات المتحدة (والصين)، إلى خلق نوع من الحرب بالوكالة في غرب أفريقيا. وقد أصر كيسينجر، الجيوسياسي الصرف، على وجوب النظر إلى الصراع الأنجولي في إطار المواجهة بين الشرق والغرب؛ أي بوصفه اختبارًا للإرادة والتصميم بين موسكو وواشنطن ذا تبعات عالمية عظيمة الشأن. كان يرى أنه اختبار قد يخرج منه الاتحاد السوفييتي باستنتاجات مؤسفة حول القوة المتدنية لغريمه التي يبدو أنها ضعفت على نحو كبير بفعل التأثير المتراكم لإجبار نيكسون على الاستقالة والهزيمة في فيتنام والهجوم الدائر حاليًّا في الكونجرس على الرئاسة الاستبدادية. ومع هذا فقد باءت مساعي إدارة فورد لدى الكونجرس لتقديم مساعدات سرية مضاعفة للفصيلين الأنجوليين المفضلين لها؛ بالفشل. لقد أصيب المشرعون بالخوف من فكرة التدخل ثانية في العالم الثالث بعد فيتنام بهذا الوقت القصير. وقد حذر كيسينجر قائلًا إن الوفاق ليس بمقدوره «تحمل أي أنجولا أخرى». ومن جانبهم، وجد المحافظون المنتقدون للتقارب السوفييتي الأمريكي في قضية أنجولا مزيدًا من الدعم لرؤيتهم القائلة إن الوفاق يفيد طرفًا واحدًا هو الاتحاد السوفييتي الذي لم يتخل عن نزعته التوسعية.
تصاعد الهجوم المحافظ على الوفاق خلال منتصف السبعينيات وأواخرها. وقد اضطلع به مجموعة من المفكرين والصحفيين والسياسيين والمسئولين الحكوميين السابقين رفيعي الشأن الذين لا يجمعهم سوى تشككهم العميق في النوايا السوفييتية والقلق من تنامي القدرات التقليدية والنووية للكرملين. تمثل الدليل الأول الذي ساقه المعارضون للوفاق في تصرفات الاتحاد السوفييتي المتواصلة غير المسئولة في مختلف أنحاء العالم الثالث. أما الدليل الثاني فكان مفاوضات الحد من التسليح المعيبة بدرجة كبيرة. كان كل من السيناتور الديمقراطي هنري جاكسون وبول نيتز، المناهض المتحمس للشيوعية والرئيس السابق لإدارة تخطيط السياسات التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية في عهد إدارة ترومان، أبرز المتحدثين باسم المعارضين لسياسة الوفاق. وقد كتب نيتز، بعد استقالته من فريق التفاوض على معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الثانية، نقدًا لاذعًا في عدد يناير ١٩٧٦ من الجريدة واسعة التأثير «فورين أفيرز» حذر فيه قائلًا: «ثمة احتمال مؤكد أنه تحت شروط معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية سيواصل الاتحاد السوفييتي سعيه لتحقيق التفوق النووي ليس فقط من حيث الكم، بل من حيث تصميمه لإنتاج قدرة تكسبه الحرب. وفقط إذا بادرت الولايات المتحدة الآن بتصحيح الخلل الاستراتيجي القائم يمكن إقناع الاتحاد السوفييتي بالتخلي عن سعيه للتفوق واستئناف مسار الحد والتخفيض المعقول من خلال المفاوضات.»
كان المنطق الذي استند إليه هؤلاء المنتقدون مشكوكًا فيه. فقد رفض الكثير من المتخصصين في المجال النووي فكرة اتجاه الاتحاد السوفييتي لتحقيق تفوق نووي. وشككوا في الرأي ذي الصلة القائل إن الصواريخ البالستية العابرة للقارات الأثقل يمكنها مع الوقت أن تمنح السوفييت القدرة على حمل عدد أكبر من الرءوس النووية، تكون ذات «حمولة» أكبر تمكنها من «الفوز» في مواجهة نووية مع الولايات المتحدة. رد كيسينجر على سيناريو يوم القيامة هذا، الذي رسمه نيتز في شهادة له أمام الكونجرس، بغضب شديد قائلًا: «ما الذي يعنيه بحق السماء ذلك التفوق الاستراتيجي؟ ما أهمية هذا التفوق، من الناحية السياسية والعسكرية والتشغيلية، على هذا المستوى من الأرقام؟ ما الذي ستفعله به؟» قد يظن المرء أنه خلف هذا التهويل من جانب نيتز وجاكسون وريجان وغيرهم من منتقدي سياسة الوفاق يكمن ما هو أكبر من مجرد الإحصاء المعقد للعدد الإجمالي للرءوس النووية وقياس حمولة الصواريخ الإجمالية. على مستوى أكثر جوهرية، لم يستطع هؤلاء المنتقدون ببساطة أن يتقبلوا مفهوم المساواة والكفاية التي بني عليها الوفاق من الأساس. فمن منظور جنود الحرب الباردة المعارضين للتغيير، وحده التفوق الاستراتيجي — في كل منحى من مناحي التسليح التقليدي والنووي — هو الهدف الملائم للولايات المتحدة عند تعاملها مع خصم عنيد وغير جدير بالثقة كالاتحاد السوفييتي.
بث انتخاب جيمي كارتر قدرًا من الزخم في عملية الوفاق المتأزمة، بيد أنه سرعان ما تبدد. ترشح حاكم جورجيا السابق للرئاسة بوصفه المرشح الذي سيستعيد المثالية لسياسة أمريكا الخارجية، وقد جعل من حقوق الإنسان بندًا رئيسيًّا في حملته وهدفًا محوريًّا لرئاسته. إلا أن كارتر تعثر، من البداية، في تعاملاته مع الاتحاد السوفييتي؛ فسعى لتحقيق أهداف متعارضة وأرسل للسوفييت إشارات متناقضة. فبعد انتخابه بشهر واحد، كتب كارتر خطابًا دافئًا لأندريه سخاروف، الفيزيائي الشهير وأكبر المنشقين عن الاتحاد السوفييتي، وهو ما سبب الضيق في أوساط الكرملين. بعدها بقليل، أرسل وزير خارجيته، سايروس آر فانس، إلى موسكو حاملًا اقتراحًا سيئ الصياغة بالمزيد من التخفيضات للأسلحة النووية الهجومية عن تلك التي تم الاتفاق عليها في اجتماع فلاديفوستوك عام ١٩٧٤. وعبر الرئيس الأمريكي الجديد عن نيته في التحقق من الانخراط السوفييتي المتزايد في أفريقيا، وذلك كما كان التيار اليميني داخل الولايات المتحدة يصر. بيد أنه في أولى خطاباته عن السياسة الخارجية في مايو من عام ١٩٧٧ أعلن أن الوقت قد حان لتجاوز الاعتقاد بأن «التوسع السوفييتي أمر شبه حتمي لكن يجب احتواؤه»، وتجاوز «ذلك الخوف المبالغ فيه من الشيوعية الذي دفعنا من قبل للتعاون مع أي ديكتاتور شاركنا ذلك الخوف». أشار المؤرخ جون لويس جاديس في تهكم إلى أن إدارة كارتر كانت تحاول «أن تقوم بكل شيء في الوقت ذاته؛ بحيث تحقق تقدمًا في مباحثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية وتُفَعِّل حملة لحقوق الإنسان وتردع موسكو عن السعي لتحقيق تحولات متزايدة في ميزان القوة، وفي الوقت ذاته تبتعد عن الانشغال الزائد بالاتحاد السوفييتي الذي كان السمة الرئيسية لدبلوماسية كيسينجر». لكن بصرف النظر عن قيمة كل هدف من هذه الأهداف في حد ذاته، فإنه «ليس بمقدور المرء أن يتفاوض مع الاتحاد السوفييتي ويصلحه ويردعه ويتجاهله في الوقت ذاته».
من منظور الكرملين، بدا نهج الإدارة الجديدة نحو العلاقات السوفييتية الأمريكية محيرًا ومهددًا في الوقت عينه. فقد شجب بريجينيف تواصل كارتر مع ساخروف «المارق»، وأعلن أنه لن يسمح «بالتدخل في شأننا الداخلي، بصرف النظر عن التظاهر الإنساني الزائف المستخدم لهذا الغرض». أيضًا نظر واضعو السياسات السوفييت بعين التحفظ لاقتراح كارتر بإجراء تخفيضات أكبر في صيغة اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية المتفق عليها بالفعل. اعتبر بريجينيف، في حديثه للسفير دوبرينين، أن هذه «إهانة شخصية. وانتهاك وقح لتفاهمنا السابق». يقول دوبرينين متذكرًا: «ظننا أن الاقتراح لم يكن جادًّا، وأنه محاولة لمضايقتنا وإحراجنا.» كان القادة الروس، المتيقظون على الدوام لأي تقليل من مكانة دولتهم كقوة عظمى ذات مكانة مساوية، يخشون من أن تحاول الولايات المتحدة الحط من قدر أو شرعية مكانة الاتحاد السوفييتي على المستوى الدولي وفي الوقت ذاته تقوضها بالداخل. وبسبب رضاهم عن الإطار الرئيسي للوفاق، كانوا يشكون في أن الأمريكيين يسعون لقلب هذا الإطار من أجل تحقيق أفضلية استراتيجية.
الغريب في الأمر أن حكام الكرملين الطاعنين في السن بدوا عاجزين عن تفهم مدى الاستفزاز الذي اتسمت به بعض أفعالهم في نظر واشنطن، أو إدراك الدور الذي تلعبه هذه الأفعال كدليل مؤيد لمنتقدي سياسة الوفاق، وهو ما سيؤدي إلى انهيارها تبعًا لذلك. من المؤكد أن النشاط السوفييتي في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط كان أكبر حجمًا في السبعينيات عنه فيما سبق من الأوقات، وهي الحقيقة التي لم يكن بوسع الأمريكان أن يتجاهلوها. وقد بدأت موسكو، المنتشية بنجاحها في أنجولا الذي تمخض عنه تأسيس حكومة الحركة الشعبية لتحرير أنجولا في فبراير ١٩٧٦، في تزويد نظام يساري جديد في إثيوبيا بالسلاح في العام التالي. وفي بدايات عام ١٩٧٨ هزمت قوات كوبية، مزودة ومنقولة من جانب السوفييت، القوات الصومالية المدعومة بأمريكا في القتال حول شبه جزيرة أوجادين الاستراتيجية. لم يكن السوفييت يعتبرون فقط أنه من «واجبهم الدولي» أن «يساعدوا الأنظمة الثورية الجديدة التي تتعهد بالولاء للاشتراكية وللنموذج السوفييتي» وحسب، وفق رأي المؤرخ أود أرني فشتاد، بل استشعروا أيضًا «فرصة للتعجيل بالتناقضات الداخلية للعالم الرأسمالي ومن ثم التعجيل بانهياره المحتوم». إلا أن تحقيق التوافق بين مثل هذه الطموحات والأفعال بالتوازي مع الرغبة في بناء علاقات مثمرة مفيدة للطرفين مع واشنطن تأكد أنه أمر مستحيل.
كان الأمريكيون المتشككون بالفعل في نوايا موسكو، على غرار مستشار كارتر للأمن القومي زبجنييف بريجنسكي، مقتنعين بأنهم يشهدون هجمة جيوسياسية مدبرة ضد الغرب. وقد أثار قرار مكتب بريجينيف السياسي بنشر صواريخ نووية جديدة متوسطة المدى — الصواريخ المتقدمة تكنولوجيًّا من طراز إس إس ٢٠، بداية من عام ١٩٧٧ — حيرة المراقبين الأمريكيين، إلى جانب سكان أوروبا الغربية الذين كانت هذه الصواريخ مصوبة نحو مدنهم. ولاستعادة المبادرة الاستراتيجية، بدأت الولايات المتحدة وشركاؤها في حلف شمال الأطلسي في التفكير في النشر المضاد لجيل جديد من الصواريخ الأمريكية الجديدة متوسطة المدى في أوروبا. أيضًا أقنع بريجنسكي كارتر بأن وقت اللعب ﺑ «البطاقة الصينية» قد حان. وافق الرئيس ومضى صوب الفتح الرسمي للعلاقات الدبلوماسية مع الصين في الأول من يناير لعام ١٩٧٩، الذي استهدف في جزء منه تقوية الشراكة الاستراتيجية الوليدة مع أكثر غريم يخشاه الاتحاد السوفييتي ومن ثم تعزيز جدار الاحتواء.
في مواجهة هذه المشكلات المتصاعدة، اجتمع جيمي كارتر وبريجينيف في الثامن عشر من يناير ١٩٧٩ في فيينا للتوقيع على معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الثانية. كان الاجتماع هادئًا ولم يتسم بأي من اللغة الخطابية المتقدة التي اتسمت بها قمة موسكو منذ سبع سنوات. يقول المؤرخ جاديس سميث: «كانت مجرد لحظة من الشعور الطيب، سريعة الزوال كفقاعة الصابون، أو وقفة قصيرة في علاقة متدهورة.» من الواضح أن التوتر الناجم عن صراعات العالم الثالث ونشر الصواريخ إس إس ٢٠ والحملة الأمريكية لحقوق الإنسان وتعميق العلاقات الصينية الأمريكية كان يتصدر المشهد. عاد كارتر إلى دياره ليجد المعادين للوفاق يفرضون هيمنتهم. ومن اللحظة الأولى لجلسة التصديق على المعاهدة، سجل السيناتور جاكسون معارضته التامة للمعاهدة؛ إذ هاجمها قائلًا: «إن الدخول في معاهدة تحابي السوفييت على هذا النحو على أساس أننا سنكون في موقف أسوأ من دونها ليس إلا استرضاء في أنقى صوره. وفي مواجهة الأدلة الدامغة على استمرار الاتحاد السوفييتي في زيادة قدراته العسكرية الاستراتيجية والتقليدية، لم نجد من الإدارة الرسمية سوى تيار من التبريرات والتفسيرات.»
تسببت الإطاحة بديكتاتور نيكاراجوا أناستاسيو سوموزا ديبايلي، الحليف القديم للولايات المتحدة على يد حركة التحرير ذات القيادة الماركسية اللينينية، الساندنيستا، التي تربطها بكوبا علاقات وثيقة؛ في قض مضاجع من يخشون صعود نجم القوات الثورية المعادية للغرب، كما حدث في إيران.
الثورة الإيرانية وأزمة الرهائن
في فبراير ١٩٧٩ تولت حركة ثورية إسلامية، بقيادة الزعيم الشيعي آية الله الخميني، مقاليد الحكم في إيران. نظر حكام إيران الجدد إلى الولايات المتحدة نظرة عدم ثقة وشك، وهو ما يرجع بالأساس إلى أنها كانت الداعم الرئيسي للشاه المعزول، الذي حكم البلاد فترة طويلة، والذي كان مكروهًا. وفي الرابع من نوفمبر ١٩٧٩، بعد سفر الشاه إلى الولايات المتحدة لتلقي العلاج، استولى مسلحون على السفارة الأمريكية في طهران، بدعم ضمني من الخميني، واحتجزوا ٥٢ أمريكيًّا رهائن. تسببت هذه الأحداث الدرامية في إثارة إحباط كارتر والشعب الأمريكي ومثلت إهانة لهم، وهو ما عزز صورة الولايات المتحدة كأمة متدهورة؛ أشبه بعملاق عاجز.
بعد ذلك، في نهاية ديسمبر ١٩٧٩ غزا الاتحاد السوفييتي أفغانستان واحتلها، مطلقًا رصاصة الرحمة على الوفاق. اتصل كارتر ببريجينيف على الخط الساخن وأخبره أن حكومة الولايات المتحدة تعتبر غزو الاتحاد السوفييتي «تهديدًا صريحًا للسلام» يمكن أن «يشكل نقطة تحول جوهرية دائمة في علاقاتنا». أخبر الرئيس محاوره أن «الفعل الذي أقدم الاتحاد السوفييتي عليه تسبب في تغير جذري في رأيي بشأن أهداف السوفييت النهائية أكثر من أي شيء آخر فعلوه خلال الفترة السابقة وأنا في منصبي». استجاب الرئيس للخطوة السوفييتية بكل قوة؛ فسحب مشروع معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الثانية من أمام مجلس الشيوخ، وفرض عقوبات اقتصادية على الاتحاد السوفييتي، وأخذ خطوات جادة على سبيل إعادة إحياء سياسة الاحتواء، وطالب بزيادة كبيرة في الإنفاق الدفاعي الأمريكي. لقد عادت الحرب الباردة، وبكل قوة.
ما الذي قتل الوفاق؟ يقول السفير السوفييتي دوبرينين في مذكراته: «إجمالًا، يمكن القول إن الوفاق دُفن في حقول المنافسة السوفييتية الأمريكية في العالم الثالث.» من الصعب الاختلاف مع هذا التقييم. فالأمريكان والسوفييت، من البداية، كانوا يحملون معاني متباينة لمعنى الوفاق. كان الوفاق يعني للأمريكيين أن الاتحاد السوفييتي مقر بالنظام العالمي القائم، وأن الاتحاد السوفييتي سيتصرف كقوة عالمية تعين على الاستقرار. أما السوفييت، فقد بشر الوفاق بوصولهم لمكانة القوة العظمى المكافئة واعتراف الجميع بهذا في العالم ثنائي القطب، بيد أنه لم يثنِهم عن دعمهم المتواصل للحركات والأنظمة الثورية في العالم الثالث. في منتصف الستينيات، تنبأ رئيس الاستخبارات والحاكم المستقبلي للاتحاد السوفييتي يوري أندروبوف بهذه التوترات حين عبر عن الرأي القائل إنه لا شيء ينبغي أن يمنع الاتحاد السوفييتي من استكشاف الفرص التي تقدمها له أي حركة معادية للرأسمالية والغرب. وقد تنبأ أن «التنافس المستقبلي مع الولايات المتحدة لن يكون في أوروبا أو المحيط الأطلسي، بل سيكون في أفريقيا وأمريكا اللاتينية» كما شدد أندروبوف على «أننا سننافس على كل قطعة أرض، ومن أجل كل دولة». ثبت قطعًا أن هذا التصور لا يتماشى البتة مع التصور الذي روج له نيكسون وكيسينجر عن العصر الجديد للتعاون بين القوتين العظميين. وإذا أضفنا لهذا صعود نجم القوى السياسية المحافظة المعادية كل العداء للشيوعية في الولايات المتحدة في منتصف السبعينيات وأواخرها، فسنجد أن تلك التناقضات الجوهرية ضمنت أن تكون حقبة الوفاق قصيرة العمر.