إنك تُدخِّن كثيرًا!
في اليوم السادس لوصول «خالد» إلى «بيروت» جاءت التعليمات الأخيرة من رقم «صفر»: «نجح رجلنا في إفساد الآلة الكاتبة … بدأت الشركة في البحث عمن يُصلح الآلة … إعلانات الصحف سوف تجذبهم إلى المقر. توقَّعوا في أية لحظة أن يصل مندوب الشركة … على «خالد» أن يقف في قسم الآلات بشخصيته الجديدة طوال الوقت.»
ومضت التعليمات تُوضِّح الخطة: «إذا وافقت الشركة على إرسال الآلة إلى المقر؛ فعليكم بفحصها تمامًا … ومعرفة أسلوب عملها وتجرِبتها … إذا لم تُوافق الشركة وطلبت إصلاح الآلة في مكانها … فستصل إليكم الآن ولَّاعة سجائر بها كاميرا سرية … والكاميرا تعمل كلما اشتعلت الولَّاعة … وعلى «خالد» أن يُلاحظ كلما أشعل الولَّاعة أن يُصوِّر الآلة … ولا بأس أن يُصوِّر غرفة مكتب رئيس مجلس الإدارة ورئيس مجلس الإدارة إذا كان موجودًا … إن بالكاميرا السرية فيلمًا به ٦٠ صورة، ويجب على «خالد» أن يقضي أطول فترة ممكنة في إصلاح الآلة حتى يُصوِّر أكبر مجموعة من الصور.»
انتهى التقرير … وتحوَّل «خالد» الشاب الوسيم إلى رجل في منتصف العمر، يُمسك سيجارةً دائمةً بين أصابعه دون أن يُدخِّنها؛ لأنه يكره التدخين لأضراره الجسيمة بالصحة. ويقف في انتظار حضور مندوب الشركة … ومضى يوم آخر ثم حدث ما توقَّعه رقم «صفر» … وظهر مندوب الشركة.
كان رجلًا نحيلًا سريع الحركة … يضع على عينَيه نظارةً طبيةً ذات إطار ذهبي، شديد الأناقة … ويحمل حقيبةً سوداء. تقدَّم مسرعًا إلى حيث كان يقف «خالد»، فحيَّاه في أدب، ثم قال: جئت في طلب مندوب لفحص آلة كاتبة في شركتنا.
قال «خالد» برقة: أي نوع من الآلات يا سيدي؟
الرجل: آلة كاتبة معقَّدة نوعًا ما … وقد حضر بعض مندوبين من شركات الإصلاح ولكن أحدًا لم يستطِع إصلاحها.
خالد: ألا يمكن نقلها إلى هنا؟ إن آلات الفحص هنا متوفرة!
الرجل: آسف … نحن نُفضِّل أن تُصلحها هناك … إنها آلة دقيقة، وقد تتعرَّض لعطب أكبر إذا نُقلت من مكانها.
تظاهر «خالد» بأنه يُفكِّر في حديث الرجل، ثم قال: وأين مكان الشركة؟
الرجل: ليست بعيدةً من هنا، إنها شركة «ك. وراء البحار»!
خالد: أسمع عنها. إنها شركة محترمة جدًّا.
ابتسم الرجل وقال: هل تستطيع أن تأتي معي الآن؟
مرةً أخرى تظاهر «خالد» بالتفكير ثم قال: أرجو أن تمر بعد ساعة، فعندي بعض العمل هنا، وحتى يحضر زميلي الذي يقوم بالعمل مكاني.
أخرج الرجل من جيبه كارتًا صغيرًا أنيقًا تركه ﻟ «خالد» قائلًا: سأنتظرك بعد ساعة في مقر الشركة. اسمي موجود في الكارت، ثم حيَّا «خالد» وخرج.
أسرع «خالد» لإبلاغ «إلهام» لترسل تقريرًا سريعًا إلى رقم «صفر» بما حدث … وردَّ رقم «صفر» بكلمات قليلة إلى «خالد»: كن حذرًا للغاية … إنهم يُقيمون نطاقًا كبيرًا من السرية حول هذه الآلة.
وبعد ساعة غادر «خالد» المقر السري ومعه حقيبة بها مجموعة من الآلات والأجهزة الدقيقة، وفي جيبه الولَّاعة التي أرسلها رقم «صفر»، واشترى في الطريق علبةً أخرى من السجائر غير التي معه … وفي الموعد تمامًا كان يقف أمام العمارة الضخمة التي تُمثِّل مكاتب الشركة ثلاثة أدوار فيها، ثم ركب المصعد، وعندما توقَّف أمام باب الشركة ركَّز تفكيره في اللحظات القادمة ثم دخل.
كان مقر الشركة غايةً في الفخامة والأناقة … أواني الزهور والورد في مختلِف أرجاء الغرف الواسعة … الأرض لامعة … الجدران كأنها زجاج … رائحة غريبة نوعًا ما تشيع في المكان … وعند الاستعلامات توقَّف ثم أحنى رأسه بتحية سريعة لفتاة حسناء كانت خلف المكتب، وقال: جئت لفحص الآلة الكاتبة. أريد مقابلة الأستاذ «جان».
قالت الآنسة: الغرفة الثالثة على اليسار.
ومشى «خالد» متمهِّلًا كما يليق برجل في الأربعين قد ابيضت بعدُ شعيرات رأسه، ودقَّ الباب وسمع صوتًا من الداخل يطلب منه الدخول.
كانت غرفةً واسعةً مريحة، بها مكتب ضخم، وعلى جدرانها عدد من اللوحات الثمينة. وظن «خالد» لأول وهلة أنها غرفة رئيس مجلس الإدارة، ولكن لاحظ على الفور أنها ملحقة بغرفة أخرى بواسطة باب مبطَّن بالقطيفة الصفراء الذهبية؛ فعرف على الفور أنها غرفة السكرتير … وكان «جان» يجلس خلف المكتب … واستقبل «خالد» بحماس ورجاه أن يجلس قليلًا حتى يُخطر الرئيس بحضوره. وقام «جان» ودخل الغرفة … وبنظرة شاملة حفظ «خالد» تفاصيل الغرفة التي يجلس فيها … ولاحظ أن النوافذ محصَّنة بالحديد رغم ارتفاعها.
وعاد «جان» وطلب من «خالد» أن يتبعه، ووجد «خالد» نفسه أمام رئيس الشركة … الذي تأمَّله بسرعة ثم أشار إلى الآلة الكاتبة قائلًا: نرجو أن تتمكَّن من إصلاحها فقد حضر قبلك شخصان ولم يتمكنا من ذلك.
قال «خالد» بهدوء: سنرى ما يمكن عمله؟
كان قلبه يدق بشدة، ولكن مظهره ظل هادئًا تمامًا … ووضع حقيبة الأدوات بجوار المكتب الذي عليه الآلة … ثم أخرج علبة سجائره وسحب سيجارة، وأخرج الولاعة من جيبه، ووجَّه العدسة الصغيرة الموجودة بجانب الولَّاعة تجاه رئيس الشركة … وضغط … فالتقط بذلك أول صورة.
رفع «خالد» غطاء الماكينة … كم كانت دهشته أن وجد الماكينة عاديةً وإن كانت تعمل بالكهرباء! فقال متمتمًا: ما هو الشيء المعطَّل فيها؟
ردَّ الرئيس: لا أعرف … لقد أوقعها أحد الأغبياء على الأرض؛ فتوقَّفت عن العمل.
وأدرك «خالد» أن الغبي المشار إليه هو عميل رقم «صفر»، وبدأ يفحص الآلة وسرعان ما أدرك خطأه حين تصوَّر أنها آلة عادية؛ لقد كانت بلا شريط للكتابة، وهو جزء هام جدًّا في أي آلة عادية؛ لأن الشريط هو الذي يحمل الحبر … وعرف لماذا تكتب هذه الآلة حروفًا بيضاء لا تُرى.
وأخرج بعض أدواته … وتعمَّد أن يترك السيجارة جانبًا لتحترق وليشعل غيرها حتى يحصل على صورة أخرى … وفكَّ الجزء العلوي من الآلة بسرعة، وانكشفت الأجهزة الداخلية للآلة … ولاحظ على الفور أن الحروف لا تتصل بدوائر الضغط بأذرع كما في الآلات العادية … لقد كانت الأحرف كلها تدور حول كرة من الصلبة، وبدوران الكرة يتم ضغط الحروف على الورق … ومدَّ أصابعه يتحسَّس الكرة … ومرةً أخرى عرف أحد أسرار الآلة … إن الحروف ليست حادَّةً كباقي حروف الآلات الكاتبة. إنها حروف ناعمة ومحدَّبة وليست مدبَّبة … وأدرك أن مهمته صعبة … وأخرج سيجارةً أخرى … ثم وجَّه العدسة السرية إلى الآلة والتقط صورةً أخرى.
وبدأ يتحسَّس الكرة بأصابعه … واكتشف أنها معوجَّة في أحد جوانبها؛ ممَّا أدَّى إلى التصاق الحروف بعضها ببعض. وكان يعرف أن إعادة الكرة إلى استدارتها العادية ليست بالمهمة السهلة … ولكنه كان قد تمرَّن بما يكفي …
قال رئيس الشركة: هل عرفت أين العطب؟
رفع «خالد» رأسه ونظر إلى الرئيس نظرةً طويلةً ثم قال: سيستغرق ذلك بعض الوقت.
قال الرجل بضيق: لقد قال أحد الفنيين إن الكرة التي تحمل الحروف قد أُصيبت.
خالد: ذلك صحيح!
الرجل: وإن ذلك لا يمكن إصلاحه …
خالد: ممكن ولكن ذلك سيستغرق بعض الوقت.
الرجل: كم من الوقت؟!
فكَّر «خالد» لحظات ثم قال: يومَين تقريبًا.
ابتسم رئيس مجلس إدارة الشركة لأول مرة ثم قال: عظيم … إن ذلك ليس وقتًا طويلًا على كل حال.
قال «خالد» متمهِّلًا: إن ذلك سيُكفلِّكم مبلغًا.
وقبل أن يتم جملته قال رئيس الشركة وهو يرفع سمَّاعة التليفون: أصلحها وسوف نُعطيك ما تطلب.
تمادى «خالد» في التظاهر وقال: أعتقد أنه من الأفضل أن نتفق أولًا … إنني أطلب مائة ليرة لأن …
ومرةً أخرى قاطعه الرجل برفع يده قائلًا: اتفقنا … ولك مني شخصيًّا مكافأة فوق هذا المبلغ.
وابتسم «خالد» وتظاهر بالسعادة، ثم جلس إلى المكتب … وشمَّر عن ساعدَيه وبدأ يفك الآلة قطعةً قطعة …
ولم ينسَ أن يُشعل سيجارةً إثر أخرى كلما فكَّ جزءًا. ومضى الوقت … ولاحظ «خالد» أن الرجلَين لم يُغادرا الغرفة مطلقًا، فقال متظاهرًا بالتعب: إنني أُفضِّل أن أنقل الآلة إلى المعمل عندنا فذلك سيكون أفضل!
رفع رئيس الشركة يده بضيق وقال: إننا نُريد إصلاحها هنا … فهل هذا ممكن أم لا؟
تظاهر «خالد» بالاستسلام وقال: سأحاول.
ومضى الوقت في فك أغلب أجزاء الآلة … رغم أن العمل لم يكن يستدعي ذلك كله، ولكنه كان يُريد أن يكسب أطول وقت ممكن حتى يمكن تصوير الفيلم كله … ولكن «جان» لاحظ ما فعله «خالد» فقال: أعتقد أنه لم يكن من اللازم فك الآلة كلها!
ردَّ «خالد» بهدوء: من الأفضل أن نفحص كل جزء في الآلة … فقد لا يكون العطب مقصورًا على الكرة الصلبة وحدها … وبدلًا من أن نفك الآلة مرتَين نفكها مرةً واحدةً رغم أن هذا متعب لي.
وصمت «جان» ومضى «خالد» يستكمل فك الآلة وهو يُفكِّر في الطريقة التي يمكنه أن يحصل على نماذج ممَّا تكتبه الورقة لإعادة فحصه بطرق مختلفة … فقد كان متأكِّدًا أن رقم «صفر» لم يستطِع فحص الرسالة البيضاء جيدًا، وإخضاعها لوسائل الكشف المتعدِّدة حتى لا يظهر أن يدًا عبثت بها.
وانتهى «خالد» من فك أجزاء الآلة كلها … ثم أخرج زجاجةً بها سائل تنظيف وأخذ يُنظِّف كل جزء في الآلة بعناية، ويُجفِّفه ويضعه جانبًا. وعندما انتهى من كل ذلك أمسك بالكرة الصلبة. كانت كرةً مجوَّفةً من الداخل، وقد امتدَّت فيها أسلاك كثيرة، تُوصل النبض الكهربائي إلى الحروف، ممَّا يجعل الكتابة أسهل وأسرع … وفتح الكرة الصلبة، ثم أشعل سيجارة … وتركها تحترق، ثم أشعل سيجارةً أخرى … كان يُريد أن يُصوِّر كل جزء في الكرة الصلبة من الداخل … وفجأةً قام رئيس الشركة من مكتبه، واقترب من «خالد» وقال: إنك تُدخِّن كثيرًا … أكثر من المعتاد!
ردَّ «خالد» بثبات وإن كان قلبه قد ارتفعت دقَّاته: إنها عادة قديمة يا سيدي!
قال الرجل وهو ينظر إليه بعينَين مستريبتَين: إن هذه العادة تُكلِّفك كثيرًا؛ فقد دخَّنت أكثر من ثلاثين سيجارةً في أقل من ساعتَين … رغم أنك لا تُدخِّن السيجارة لنهايتها.
وقبل أن يرد «خالد» مدَّ الرجل يده وأمسك بعلبة السجائر وفحصها، ثم أمسك بالولَّاعة وأخذ يُقلِّبها بين يدَيه ويُقرِّبها من عينَيه … وأحسَّ «خالد» أن الدنيا تدور به … ففي إمكان الرجل بفحص دقيق للولَّاعة أن يعرف سرها … وتفشل الخطة الدقيقة التي وضعها رقم «صفر» وأنفق فيها الشهور الطويلة.