«رونزوري» … «رونزوري»!
استمرَّ السير … وكلما أوغلوا في الغابة ازداد دقُّ الطبول ارتفاعًا … ولم يتمالك «أحمد» نفسه من الإحساس برِعدة سرت في جسده. الظلام … والمطر المتساقط بانتظام متخلِّلًا الأغصان … وأصوات الحيوانات والطبول ورائحة الغابة الثقيلة … والساحر الذاهبين إليه.
وانحرفوا إلى طريق فرعي ووقف «كالنجانو» فجأةً وقال: انتظرا لحظات واحتفظا بالهدايا معكما حتى أُقابل «ميجيا» … وأُخبره بحضوركما وبما تحملان له من الهدايا.
واختفى «كالنجانو» في الظلام … ووقف «أحمد» و«عثمان» يلتقطان أنفاسهما بعد رحلة الليل الطويلة في أحشاء الغابة، وقال «عثمان»: يا له من موقف!
ردَّ «أحمد» وهو يتنهَّد: لقد قرأتُ عن الغابات كثيرًا، ولكني لم أكن أتصوَّر أن تكون بهذه الوحشة والرهبة.
عثمان: المهم أن يكون هذا اللقاء مثمرًا، وأن نحصل على المعلومات التي نُريدها، ولا يكون كمينًا لا نستطيع الفكاك منه.
أحمد: معك حق، فلو أن «كالنجانو» روى لقريبه «بوسو» الحديث الذي دار بيننا، ونقل «بوسو» هذا الكلام إلى رؤساء الشركة؛ لكنا كمن يُلقي نفسه في فم الأسد.
عثمان: لا أظن أن الوقت قد اتسع ﻟ «كالنجانو» و«بوسو» أن يتحدَّثا، وأن يقوم أصحاب الشركة بإعداد كمين.
أحمد: لا أدري لماذا أُحس أنني واثق في هذا الولد «كالنجانو» … إنه أسود اللون، ولكن قلبه كما أعتقد شديد البياض.
عثمان: هذا أيضًا كان شعوري منذ لقائنا الأول معه.
أحمد: لهذا إذا نجحتْ هذه المقابلة؛ فسوف أُشركه في المغامرة دون أن نُحيطه علمًا بكل التفاصيل.
عثمان: إنني أوافق!
وظهر «كالنجانو» فجأةً كما اختفى وقال: لقد وافق «ميجيا» العجوز على مقابلتكما. وسارا خلفه على ضوء مشاعل بعيدة، ثم وجدوا أنفسهم في ساحة واسعة بها بِركة من الماء الراكد، وعلى طرف البركة كوخ صغير من أغصان الشجر، وعلى باب الكوخ وقف «ميجيا» مستندًا على عصًا طويلة.
كان يقف على ساق واحدة، وساقه الأخرى مثنية، ولم يكن عليه من الثياب إلَّا عِقد كبير من عُقود الخرز قد تدلَّت من رقبته والتمعت حبَّاتها على ضوء المشاعل. وقُرب وسطه التفَّ جلد نمر قديم. وفي ذراعَيه وساقَيه التفَّت عشرات الأساور. كان صورةً لساحر الغابة كما يوصف في الكتب.
انحنى «كالنجانو» ﻟ «ميجيا»، فانحنى «أحمد» و«عثمان» أيضًا. وتحدَّث «كالنجانو» في صوت لاحظ «أحمد» و«عثمان» أنه يحمل علامات الخشوع والاحترام، رغم أنهما لم يفهما كلمةً واحدةً ممَّا قاله. وردَّ الساحر بثلاث كلمات بصوت عميق كأنه يأتي من مكان سحيق.
ورفع «كالنجانو» رأسه وقال: لقد وافق الساحر العظيم «ميجيا» على أن يتحدَّث إليكما بعد أن يرى الهدايا.
ومدَّ «أحمد» يده بالهدايا إلى «كالنجانو» … الذي سلَّمها بدوره بكل احترام إلى «ميجيا»، ودخل «ميجيا» إلى الكوخ ثم عاد بعد لحظات ودعاهم للدخول.
دخل الثلاثة خلف «ميجيا» … وكان الكوخ من الداخل مكوَّنًا من أغصان الأشجار وجلود الحيوانات … وقد أضاءه مشعل واحد كبير كان يُلقي بدخانه الكثيف في حَلق «أحمد» و«عثمان». وعلى الأرض كانت ثمة نار مشتعلة وعليها إناء من الفَخار به سائل أخضر يغلي.
جلس الساحر أمام النار المشتعلة، وعندما وقع بصر «أحمد» على وجهه كاد يفر هاربًا؛ كان وجهه يشبه مومياء محنطة، وقد تشقَّق خدَّاه وجبهته بشقوق عميقة، وتدلَّت من أذنَيه ومن أنفه أساور لامعة. وعلى رأسه كانت طاقية من جلد قرد أَسود … وقد أحاط عينَيه الناريتَين بالكحل الأسود.
تحدَّث «كالنجانو» إلى «ميجيا» بحديث طويل استخدم فيه يدَيه، وبين لحظة وأخرى كان يُشير بإصبعه إلى الصديقَين … وكانت نظرات الساحر مركِّزةً عليهما حتى أحسَّ «أحمد» بركبتَيه ترتعشان.
استمع الساحر إلى حديث «كالنجانو» حتى انتهى، ثم هزَّ عصاه في يده وأخذ يرد. ولاحظ «أحمد» كما لاحظ «عثمان» أن كلمة «رونزوري» كانت تُردَّد كثيرًا في حديثه. وتذكَّر «أحمد» أنه سمع هذه الكلمة من قبلُ عندما كان يتحدَّث مع موظَّف الاستقبال في الفندق عن الأماكن السياحية. وعندما انتهى الساحر من حديثه قال «كالنجانو» موجِّهًا حديثه إلى الصديقَين: إن «ميجيا» يقول إنه يعرف كل شيء … وهو يعرف لماذا حضرتما إلى أرضنا الخضراء.
وأحسَّ «أحمد» و«عثمان» بارتجاف شديد … هل صحيح أن الساحر يعرف لماذا حضرا؟ ومضى «كالنجانو» يقول: إن «ميجيا» قرَّر أن يساعدكما على تحقيق الهدف الذي حضرتما من أجله؛ فقد قالت له الأرواح إنكما طيبان.
وحمد «أحمد» و«عثمان» الله في سرهما أن «ميجيا» المخيف قد تعطَّف عليهما بالمساعدة، وأنه وصفهما بالطيبة.
ثم جلس الساحر العجوز وأشار إليهم أن يجلسوا حول النار، ومدَّ يده على مجموعة من الأكواب الخشبية، وبدأ يملؤها بالسائل الأخضر الذي كان يغلي على النار … وشعر «أحمد» أن أمعاءه تضطرب؛ فمن المؤكَّد أن الساحر سيُكرمه بكوب من الشراب السحري.
وهذا ما حدث؛ فقد مدَّ يده بالأكواب إلى «كالنجانو» بعد أن قرأ عليها تعويذةً سريعة. وقال «كالنجانو» وهو يمد يده بالكوب إلى «عثمان»: إن «ميجيا» يطلب منكما أن تشربا معه عربون الصداقة. إنه سائل مقدَّس قرأ عليه «ميجيا» تعويذةً سحريةً تحميكما من الأخطار وتنصركما على الأعداء.
وتناول كلٌّ من «عثمان» و«أحمد» كوبَيهما، واختلسا نظرةً كان في عينَي كلٍّ منهما خوف غامض من هذا السائل، ولكن لم يكن هناك بد من شُربه.
على غير ما توقَّع «أحمد» … كان طعم السائل حلوًا … واكتشف أنه جذور أعشاب … وحمد الله أن معدته لم تنقلب. وأشار «أحمد» إلى «كالنجانو» وقال: هل سألتَ «ميجيا» عن بريد شركة «ك. وراء البحار»؟
ردَّ «كالنجانو»: نعم، وسأتحدث إليه مرةً أخرى.
وبلغتهما الغريبة تحدَّث «كالنجانو» و«ميجيا» فترةً طويلة، ثم التفت «كالنجانو» إلى «أحمد» وقال: إن «ميجيا» يعرف كل شيء. وأعوانه المنبثُّون في كل أنحاء الغابة ينقلون له الأخبار، وهو يقول لك إن البريد يُنقل بوسائل كثيرة … منها الدراجات النارية، والقوارب، والأشخاص، وبالطبول أيضًا. وذلك عبر الغابة إلى داخل حدود السودان.
دُهش «أحمد» وقال: السودان!
كالنجانو: نعم. الرسائل تُنقل إلى السودان، وأحيانًا تكون في شكل طرود ثقيلة تُنقل إلى الحدود ويتسلَّمها هناك بعض الأشخاص.
وتحدَّث «كالنجانو» مع «ميجيا» مرةً أخرى، ثم عاد يقول ﻟ «أحمد»: إن «ميجيا» يعرف من أين تأتي الطرود؛ إنها تأتي من «رونزوري».
أحمد: ماذا تعني كلمة «رونزوري»؟
كالنجانو: إنها تعني جبال القمر حيث توجد مناجم النحاس، وهو أهم مستخرجات الأرض من المعادن في «أوغندا».
أحمد: قل ﻟ «ميجيا» إننا نشكره جدًّا، وإننا سنُحضر له هدايا أخرى … ولكن لنا طلب أخير … إننا نُريده أن يُوصي بعض أصدقائه في «رونزوري».
وتحدَّث «كالنجانو» إلى «ميجيا» … ثم عاد يقول: إن «ميجيا» ينصح ألَّا يذهب أحد منكم إلى «رونزوري»؛ إنها رحلة خطرة.
أحمد: قل له إننا لا بد أن نذهب لنعرف حكاية الطرود.
وعاد «كالنجانو» يتحدَّث إلى «ميجيا»، ثم قال: إن «ميجيا» سيوصي عليكما … ستُدق الطبول عندما يرتفع القمر إلى منتصف السماء … وستصل رسالة الطبول خلال الغابة إلى قبيلة «الهوتو» أصدقاء «ميجيا».
ووقف «أحمد» و«عثمان» وانحنيا إعلانًا لشكرهما ﻟ «ميجيا» الذي رفع يدَيه إلى أعلى كالطائر ثم أطلق مجموعةً من الأصوات، ثم خفض ذراعَيه وأغمض عينَيه … وأشار «كالنجانو» للصديقَين وانسحب الثلاثة في هدوء.
عادوا يسيرون في دروب الغابة المظلمة … وقال «كالنجانو»: لحسن الحظ أن «ميجيا» هو «ويركوا» هام جدًّا في بلادنا وهو راضٍ عنكما.
أحمد: ماذا تعني بكلمة «ويركوا»؟
كالنجانو: معناها العرَّاف أو الساحر!
واستمروا يسيرون حتى أشرفوا على نهاية الغابة.
واستأذن «كالنجانو» قائلًا: إنني أسكن قريبًا من هنا، وسأترككما الآن.
أحمد: إننا نُريدك معنا في الرحلة إلى «رونزوري».
كالنجانو: ولكن لا بد أن أبيع بعض مصنوعاتي حتى أجد ثمن الطعام لي ولأسرتي.
أحمد: سوف ندفع لك ما يكفي للتعويض عن الأيام التي ستقضيها معنا.
كالنجانو: هل ستذهبون سيرًا على الأقدام؟!
أحمد: لا طبعًا.
كالنجانو: سنحتاج إلى سيارة قوية، ثم نركب زورقًا في النهر، ثم نسير حتى نصل إلى «رونزوري».
أحمد: تعالَ غدًا صباحًا لنُجهِّز كل شيء للرحلة … إن معنا ما يكفي لشراء السيارة وبقية ما نحتاجه للذهاب إلى «رونزوري».
وافترق عنهما «كالنجانو» … وواصلا سيرهما تحت المطر حتى وجدا تاكسيًا حملهما إلى الفندق.
وجدا «زبيدة» و«بو عمير» في غاية القلق … يجلسان في صالة الفندق وعيونهما على الباب … وجلس الأربعة وتولَّى «عثمان» رواية ما حدث … وانتهى إلى القول: سنُجهِّز أنفسنا غدًا للذهاب إلى «رونزوري» … هناك سنعرف سر الشِّحنات التي تُرسلها شركة «ك. وراء البحار» خلال الغابة إلى السودان، وإلى جهات أخرى متفرِّقة من «أوغندا».
وتناولوا العشاء في مطعم الفندق، ثم صعدوا إلى أسِرَّتهم، فقضوا بعض الوقت في الحديث، ثم استلقى كلٌّ منهم على فراشه.
ظلَّ «أحمد» مستيقظًا بعض الوقت … كان يُفكِّر في مغامرة الغد … لقد كانت تعليمات رقم «صفر» أن يحصلوا على نماذج من رسائل شركة «ك» السرية، ولكن من الواضح أن من المستحيل دخول مقر الشركة سواء نهارًا أو ليلًا … فلْتكن إذن محاولتهم بعيدةً عن «كمبالا» العاصمة، وتكون في قلب الغابة أو عند «جبال القمر» … وكان يعرف أنها مغامرة مخيفة … فشركة «ك» شركة قوية ذات نفوذ … ومن المؤكَّد أن لديها مجموعةً ضخمةً من الحرَّاس، وأن الحصول على معلومات عن حقيقة نشاطها السري يستدعي شجاعةً منقطعة النظير … ولكن في نفس الوقت لا بد من تنفيذ التعليمات.
وأغمض عينَيه وهو يتمتم: «رونزوري» … «رونزوري».