صراع الأشباح!
أدرك «أحمد» أن أحد الأعداء قد قفز عليه من فوق شجرة، وبسرعة ضربه ضربةً موجعة … وتبعها بضربة أخرى قوية … وأفلت الرجل من «أحمد» وهو يتأَّوه، والتفت «أحمد» إليه … ولكن لم يكن يرى منه شيئًا في الظلام الكثيف، ومع ذلك أطلق يده في ضربة ساحقة أمامه، وقد أصابت هدفها، فترنَّح الرجل وسقط على الأرض … وانحنى «أحمد» عليه وأطلق أشعة مصباحه … ولكن قبل أن يُمسك به، أحسَّ بأقدام مسرعة خلفه، فارتمى على الأرض مسرعًا، وطار فوق رأسه سهم مضى بعيدًا، وأطلق «أحمد» الرصاص مرَّتَين، وأطفأ المصباح حتى لا يعرف أحد مكانه … ثم تدحرج بعيدًا بين الحشائش النامية.
وقف «أحمد» مسرعًا، ومضى يشق طريقه بين أشجار الغابة الكثيفة، وكانت الأغصان المتدلية تضربه في كل مكان من رأسه حتى ساقيه … وكثيرًا ما داس على حيوانات صغيرة كانت تُطلق صيحاتها الفزِعة وتُولِّي هاربة … ولكنه ظلَّ ماضيًا في طريقه، ولم يتوقَّف إلَّا عندما أحسَّ بالتعب يُسيطر عليه تمامًا، فألقى بنفسه على الأرض، وتمدَّد على ظهره، ومدَّ ذراعه بالمسدس إلى الأمام، وبقي مُنصتًا … وفكَّر أن هذا الصراع ليس في صالحه مطلقًا … خاصةً بعد أن انفصل عن زملائه.
أمضى فترةً من الوقت مستلقيًا مكانه، ثم تحامل على نفسه ووقف … وفكَّر لحظات وقرَّر أن يُمضي بقيَّة الليل مكانه … فمن العبث البحث عن الأصدقاء في الليل وظلام الغابة الكثيف لا يسمح له بالرؤية … ولا يمكن تتبُّعهم بالأصوات فقط … فالأصوات تملأ الغابة.
ثم أطلق مسرعًا بعض ومضات من بطاريته حتى اختار شجرةً من الماهوجني الضخمة قفز إليها، ثم صعد إلى أغصانها القوية، وأطلق بطاريته حوله؛ فقد يجد فهدًا رابضًا بين الأغصان، أو مجموعةً من القردة … ولكن البطارية لم تقع إلَّا على بعض الطيور التي انطلقت فزِعة.
استطاع بعد بحث شاق أن يجد مجموعةً من الأغصان تُكوِّن ما يُشبه الفِراش من أوراق الشجر، فاستلقى عليها ووضع يده وبها المسدس على صدره، ويده الأخرى وبها البطارية بجواره، وأخذ يُفكِّر. ولم يطل به التفكير فقد استسلم للنوم وهو يُفكِّر في زملائه وفي المغامرة المحفوفة بالمخاطر.
أطلَّ الفجر على الغابة الرهيبة … وبدأت الطيور تطير وتُغنِّي، وسمع من بعيدٍ صوت فيل ضخم … وأحسَّ ببعض الرضا … وبقي مكانه مستلقيًا … وأحسَّ بالجوع … ونظر حوله. كانت هناك العشرات من أشجار الفاكهة … الأناناس والموز، وجوز الهند. وأخرج خنجره وانطلق يجمع كميات منها، ثم جلس يتناول إفطاره … ولم ينسَ أن يُلقي للقردة الصغيرة ببعض الفاكهة.
أحسَّ «أحمد» بعد الإفطار أن نشاطه يتجدَّد … فانطلق في اتجاه الشمال الغربي بعد أن حدَّده بمكان الشمس البازغة … وظلَّ يسير مسرعًا حتى شاهد عن بُعد قطيعًا من الفيلة تخرج من الغابة … كانت أقدام عشرات الفيلة تهز الأرض وهي تسير مسرعة … وفكَّر وهو واقف في مكانه في انتظار مرور القطيع أن الفيلة قد تكون ذاهبةً للشرب والاستحمام كعادتها … ومعنى ذلك أنه قريب من المياه … وربما من نهر «كاتونجا» الصغير الذي سيقطعه مع زملائه … وتبع قطيع الفيلة على مبعدة، وزاد الضوء في الغابة … وبدت ألوانها الزاهية في الزهور والأشجار والأعشاب والطيور، وتمنَّى «أحمد» لو أنه جاء إلى هذه الغابة للزيارة فقط للاستمتاع بهذا الجمال البكر … وفجأةً أحسَّ بحركة بجواره، واستدار مستعدًّا ومسدسه في يده … وكم كانت دهشته عندما وجد القردة الصغيرة التي أطعمها على مقربة منه! … كانت تحمل إصبعًا كبيرًا من الموز يكاد يكون في حجمها، وكانت تنظر إليه بعينَين برَّاقتَين … وكأنها تقول له: خذني معك.
اقترب منها محاذرًا فلم تهرب … ومدَّ يده فأمسكها فاستسلمت له … ووضعها على كتفه ومضى.
أخيرًا أشرف على حافَّة الغابة … واشتدَّ ضياء الشمس حتى أغشى عينَيه … وعلى بعد ١٠٠ متر تقريبًا شاهد النهر الصغير يلمع في ضوء الشمس كأنه ثعبان … وأسرع إلى حافَّته ووقف … وأخذ ينظر هنا وهناك لعله يرى بقيَّة الأصدقاء … وفجأةً سمع القردةَ الصغيرة تصيح وتقفز هاربة … وتنبَّه أن هناك خطرًا قريبًا … ووقعت عيناه على تمساح ضخم اقترب من حافَّة النهر ورفع ذيله الهائل ليضربه … وقفز إلى الخلف وأطلق رصاصةً محكمةً أصابت التمساح في عينه؛ فاضطرب جسده بعنف ثم انساب عائدًا إلى الماء … ونظر «أحمد» شاكرًا إلى القردة الصغيرة التي عادت تقترب منه، ثم عادت تتسلَّق كتفه في أُلفة … فربت عليها بعطف ومحبة.
وفي نفس اللحظة سمع طلقًا ناريًّا صادرًا من قريب … وانطلق محاذرًا في اتجاه الصوت، ثم انفرجت أغصان الغابة عن «كالنجانو»، ثم «بو عمير» … ثم «زبيدة» … و«عثمان» … ورفعوا أيديهم له … ورفع يده وأسرع إليهم.
روى «أحمد» باختصار ما جرى له … ولم يكن عند الأربعة أحداث يروونها سوى أنهم بحثوا عنه طويلًا، وأنهم يئسوا من العثور عليه، وقرَّروا الاتجاه إلى النهر حسب الخطة.
قال «أحمد»: أين سنجد القارب يا «كالنجانو»؟
ردَّ الولد المخلص: على مبعدةِ بضعة أميال من هنا. تُوجد قبيلة صغيرة تُؤجِّر القوارب وسنجد عندها ما نريده.
وساروا معًا، وحاولت «زبيدة» أن تأخذ القردة الصغيرة، ولكنها قاومت وتمسَّكت ﺑ «أحمد».
قالت «زبيدة»: هل ستُبقيها معنا؟
أحمد: إذا لم تهرب أو تخاف؛ فسوف أستبقيها.
زبيدة: لنُطلق عليها اسمًا.
أحمد: «سير سير».
وابتسمت «زبيدة» … وابتسم «بو عمير» و«عثمان» … ومضوا ينادون القردة الصغيرة باسمها … حتى شاهدوا على حافَّة النهر مجموعةً من الأكواخ وحولها عدد من الأفدنة المزروعة بالذرة … وقد انصرفت النسوة إلى العمل أمام الأكواخ. واقتربوا من القرية الصغيرة، واتجهوا إلى أكبر كوخ فيها، وقال «كالنجانو»: إنه كوخ الزعيم.
أخذ سُكَّان القرية ينظرون لهم في حذَر وهم يقتربون من كوخ الزعيم … ولاحظ «أحمد» أن نظرات السكان ليست ودية … وعرف السبب عندما وصلوا إلى الزعيم الذي كان نائمًا في فراشه المصنوع من الخيزران … فقد رفض الزعيم أن يُؤجِّر لهم أي قارب … وقال إن القوارب كلها قد استؤجرت من الصباح الباكر.
أخذ «كالنجانو» يُلح على الزعيم ويُشير بيدَيه إلى الشياطين الأربعة … ولكن الزعيم أصرَّ على الرفض … ولم يعد أمام «كالنجانو» إلَّا أن يُشير للأصدقاء بالخروج … وبعد أن غادروا الكوخ قال «كالنجانو»: شيء مدهش! … إن القوارب كلها تُستأجر في يوم واحد شيء مستحيل!
أحمد: إن نفوذ شركة «ك. وراء البحار» وصل إلى هنا.
كالنجانو: هذا واضح. لقد فشلوا في القضاء علينا، وهم الآن يُحاولون منعنا من الوصول إلى «رونزوري».
بو عمير: وما العمل؟
كالنجانو: سأحل المشكلة … هيا بنا نمضي وكأننا استسلمنا!
أحمد: ولكن كيف ستحل المشكلة؟!
كالنجانو: لقد نظرت إلى شاطئ النهر فلم أجد القوارب … لقد أخفوها، وسأعرف مكانها، وأسرق قاربًا.
أحمد: ولكن ذلك يُعرِّضك لخطر شديد!
كالنجانو: لا تخَف … إن شاطئ النهر كما ترى مغطًى بالأعشاب وأغصان الشجر، وسأتمكن من السير بالقارب تحت هذه الأغصان، ولن يراني أحد … سنمشي حتى نختفي عن أعينهم ثم أعود وحدي.
ساروا حتى ابتعدوا عن القرية، واختفت عن أعينهم خلف الأشجار والأعشاب، وطلب منهم «كالنجانو» أن ينتظروه ثم خلع ثيابه، وانساب إلى النهر فصاح «أحمد» به: احذر التماسيح!
ابتسم «كالنجانو» بثقة وقال: عليك أن تُحذِّر التماسيح مني … فقد قتلت منها الكثير.
واختفى الولد الشجاع تحت الأغصان، وجلس الأصدقاء يستريحون ويتحدَّثون.
ومضت نصف ساعة، ثم سمعوا صوت مجاديف تضرب صفحة المياه، وظهر «كالنجانو» يبتسم في القارب … وقفز الأربعة واقفين، ثم أوقف «كالنجانو» القارب ببراعة بجوار الشاطئ تمامًا، وقفزوا إليه، وانطلقوا مسرعين.
قال «كالنجانو»: سنصل إلى منطقة الشلَّالات بعد حوالي ثلاثين ميلًا، وسنحتاج إلى مهارة في التجديف للمرور منها.
بو عمير: لا تخشَ شيئًا؛ إننا متمرِّنون على التجديف والسباحة.
ومضوا يُجدِّفون بنشاط، وسألت «زبيدة»: متى نصل إلى «رونزوري»؟
كالنجانو: سنصل في المساء إذا سرنا بهذه السرعة … وتبقى مسافة أخرى سنقطعها على الأقدام، ثم نصل إلى مقر قبيلة «الهوتو» أصدقاء «ميجيا»، وهؤلاء سوف يُساعدوننا.
ابتسم «أحمد» قائلًا: لقد فعلتَ الكثير من أجلنا يا «كالنجانو»، ولا ندري كيف نكافئك؟!
هزَّ «كالنجانو» رأسه وهو يُجدِّف بنشاط قائلًا: لا تنسَ أننا أصدقاء.
كان الجو حارًّا، ولكن المياه المحيطة بهم والأشجار والحشائش، كل ذلك جعل رحلتهم النهرية متعة. ومرَّت الساعات وبدأ صوت الشلَّالات يقترب، وقال «كالنجانو»: هذا هو الجزء الخطِر من رحلتنا النهرية … استعدوا!