على حافَّة الفشل في «رونزوري»!
عندما اقتربوا من الشلَّالات ازدادت سرعة القارب تدريجيًّا … وأخذ التيَّار يدفعهم بشدة ناحية رأس الشلَّال … وكان «أحمد» يجلس على دفَّة القارب يُوجِّهه، بينما استخدم الباقون المجاديف للحد من سرعة القارب … ووصلوا إلى قمة الشلَّال … كانت محصورةً بين جبلَين مرتفعَين اختفيا تحت الأشجار الخضراء العالية … ولم تكن المسافة بينهم وبين الجبل الأيمن تزيد على خمسين مترًا … ولاحظ «أحمد» أن الطيور تطير فزِعةً من مكامنها على الجبل، وأدرك أن ثمة شخصًا أو أشخاصًا يُفزعونها … وأحسَّ بخطر وشيك، وفجأةً شقَّ الهواء صوت رصاصة اصطدمت بمقدمة القارب … ثم تبعتها رصاصة ثانية … كادت تُصيب «زبيدة»، فصاح «أحمد»، وقد ظلَّت يده ممسكةً بدفة القارب … وانهال الرصاص … وأُصيب القارب في أكثر من مكان بالثقوب، وبدأت المياه تملؤه … ثم وصلوا إلى حافة الشلَّال وانحدر القارب مسرعًا مع التيَّار العنيف، وسمع «أحمد» طلقةً قريبة، ثم انكسرت الدفة، وفقد السيطرة على القارب الذي اندفع كريشة صغيرة في قلب التيَّار الدافق.
انقطع سيل الرصاص لأنهم ابتعدوا عن الجبل بمسافة كبيرة، وأخذ القارب يترنَّح، ورفع الشياطين الأربعة و«كالنجانو» رءوسهم، وشاهدوا القارب يندفع ناحية صخرة ضخمة، وفجأة قفز «عثمان» وأمسك بأحد المجاديف، ووقف على مقدمة القارب … واقترب القارب مسرعًا كالقذيفة ناحية الصخرة، ولكن «عثمان» استطاع برشاقة أن يغرس المجداف في الصخرة فيُحوِّل القاربَ عن طريقه المخيف. وانكسر المجداف، وسقط «عثمان» في النهر، ولكنهم كانوا قد اجتازوا الشلَّال، فهدأت سرعة القارب تدريجيًّا، خاصةً بعد أن ملأته المياه تمامًا، فحملوا أسلحتهم وألقوا بأنفسهم في المياه … وسبحوا في اتجاه الشاطئ … وكان «عثمان» قد استطاع أن يصعد إلى سطح الماء بعد سقطته، وأخذ يعوم مسرعًا في اتجاههم.
اجتمعوا على الشاطئ ونظروا إلى الشلَّالات العالية، وقالت «زبيدة»: لو رأيتها من هذا الجانب لتردَّدت في عبورها.
أحمد: لقد عبرناها رغم التيَّار والرصاص … إن شركة «ك. وراء البحار» تضع رجالها في كل مكان.
كالنجانو: لم تبقَ إلَّا ساعة واحدة ونصل إلى حدود قبيلة «الهوتو» أصدقاء «ميجيا»، وهناك لن يستطيع أحد التعرُّض لنا.
وسمعوا في تلك اللحظة صرخات قصيرةً تصدر من رأس «أحمد»، وتذكروا القردة، لقد ظلَّت ملتصقةً برقبة «أحمد» طول الوقت، دون أن يُحس بوجودها أحد. وابتسموا جميعًا عندما وجدوها تعبث بشعر «أحمد».
جلسوا على العشب الأخضر حتى تجف ثيابهم … وكان منظر الشلَّالات جذَّابًا ومثيرًا … ولكن لم يكن هناك وقت للاستمتاع؛ فقد كانت الشمس تميل للمغيب، وبعد قليل يهبط الظلام. وبدءوا سيرهم سريعًا خلف «كالنجانو» … وعادوا مرةً أخرى إلى منطقة كثيفة الأشجار ترتفع فيها صيحات الحيوانات المتوحشة، وبرزت المسدسات في أيديهم انتظارًا لأي هجوم … ولكن المسيرة مضت دون حوادث … وأحسُّوا جميعًا بالرضا … فلم تبقَ سوى مسافة قصيرة ويصلون إلى قبيلة «الهوتو». ولكن ذلك كان تفاؤلًا سابقًا لأوانه؛ ففي لحظة انهالت طلقات الرصاص عليهم من كل جانب، وأسرعوا جميعًا ينبطحون أو يختفون خلف الأشجار … لقد أعدَّ لهم أعوان شركة «ك» كمينًا غير متوقَّع … وأطلقوا مسدساتهم في اتجاه المعتدين … ثم خرج «عثمان» فجأةً من مكمنه، وقفز كالقرد إلى الجانب ثم إلى الأمام، ثم إلى شجرة عالية … وسمعوا صوت صراع يدور فوق شجرة … ثم سقط «عثمان» ممسكًا برجل أبيض ضخم. ودارت معركة شرسة بين الولد الأسمر الرشيق والرجل الضخم. وكان «عثمان» يستخدم فنون الكاراتيه ببراعة، ثم وجَّه إليه ضربةً قوية، على أثرها سقط الرجل مترنِّحًا على الأرض، وفي نفس الوقت كان «بو عمير» يصطاد رجلًا آخر … وبرز إلى ساحة الصراع أربعة رجال آخرون كلهم من البيض المسلَّحين … واندمج الشياطين في معركة مع الرجال الستة. وقفز «أحمد» إلى غصن شجرة ثم سقط فوق المتصارعين … وتعلَّقت «زبيدة» بغصنٍ آخر ووجَّهت ضربةً إلى أحد الرجال؛ فسقط على الأرض دون أن ينطق بحرف. ورغم أن «كالنجانو» اشترك في المعركة، إلَّا أنه كان ينظر بين لحظة وأخرى مذهولًا إلى الشياطين الأربعة وهم يتحرَّكون في خفة وسرعة؛ فلم يكن يتصوَّر أبدًا هؤلاء الشبَّان الأربعة الظرفاء يمكن أن يتحوَّلوا إلى مقاتلين أشدَّاء في لحظات … واستمرَّ الصراع حتى سقط أربعة من المعتدين على الأرض … وفرَّ اثنان.
قال «كالنجانو»: إننا لن نسير أكثر؛ فقد يكون في انتظارنا كمين آخر … وسوف أتصل برجال «الهوتو» الآن.
أحمد: كيف؟
كالنجانو: بالطبل.
أحمد: ولكن ليس معك طبلة؟
كالنجانو: سترى!
وأسرع «كالنجانو» فقطع غصنًا غليظًا من شجرة، ثم بحث حوله واختار شجرةً مجوَّفة، وأمسك بالغصن وبدأ يدق … ولدهشة الشياطين الأربعة خرج نغَم مُنسَّق يُسرع أحيانًا ويُبطئ أحيانًا … وشقَّ سكون الغابة صوت الطبل … واستمرَّ «كالنجانو» يدقُّ ببراعة على الشجرة المجوَّفة … وسرعان ما برز من بين الأشجار رجال طوال القامة يُمسكون برماحهم. وأسرع «كالنجانو» إليهم … وتحدَّث معهم … فتقدَّموا بالسلام إلى الشياطين الأربعة.
أحاط الرجال الطوال بالشياطين، ولأول مرة منذ أن دخلوا الغابة، أحسَّ الأربعة بالأمان وهم يسيرون وسط حرسهم المسلَّح … وعندما وصلوا إلى مقر القبيلة وجدوا حفلًا ضخمًا مُقامًا لهم … طبول تُدق … نيران مشتعلة … فرسان يرقصون … غزلان تُشوى على النار … واستقبلهم زعيم القبيلة بحركات راقصة تعبيرًا عن ترحيبه.
قال «أحمد» محدِّثًا «كالنجانو»: هل نُحدِّثهم في العمل الآن؟
ردَّ «كالنجانو» محذِّرًا: لا … لا بد من حضور حفل الاستقبال أولًا … إن الحديث في الحفل الآن فيه إهانة لمشاعرهم.
وزاد دقُّ الطبول … وبرز إلى الساحة رجل يلبس جلد النمر … يُمسك برمح طويل أخذ يُراقصه ويدور به … ثم دعا الشياطين للرقص … فقام «بو عمير» وأمسك برمح هو الآخر. ولدهشة الأصدقاء كان «بو عمير» راقصًا ماهرًا … وزادت حدة الطبل … وأسرعت الرقصة إلى نهايتها … ثم جلس الجميع … وعزف أحد الرجال على ناي موسيقى خفيفةً شجيَّة … وبدأت قطع اللحم المشوي الساخن تصل … وشرب الأصدقاء من أكواب صُنعت من جوز الهند سائلًا حلوًا هو مشروب الصداقة كما قال «كالنجانو».
استمرَّ الحفل نحو ثلاث ساعات … ثم هدأت الضجة، وجلس الأصدقاء مع الزعيم وبعض أعوانه … وبدأ «كالنجانو» الحديث فشرح للزعيم مُهمَّتهم … وردَّ الزعيم بأنه تلقَّى رسالةً بالطبول من «ميجيا» … وأنه على استعداد لخدمتهم … فقال «أحمد» ﻟ «كالنجانو»: اطلب منه أن يُخبرنا ماذا يفعل رجال شركة «ك. وراء البحار» في «رونزوري».
وردَّ الزعيم أن هناك عشرين رجلًا … بعضهم يلبس ملابس بيضاء، وبعضهم يقوم بالحفر في الجبال. وأن عندهم بيتًا تحت الأرض يُحضِّرون فيه أشياء تُشبه الأصابع، وأن رجاله أحضروا بعضًا منها، وعندما قرَّبوها من النار انفجرت وقتلت بعض رجالهم.
قال «أحمد»: إنه ديناميت!
وطلب «أحمد» من «كالنجانو» أن يسأل الزعيم أين يُرسَل هذا الديناميت. وردَّ الزعيم أنهم يضعونه في صناديق ويُهرِّبونه خلال الغابة إلى جنوب السودان.
قال «عثمان» بانفعال: إنهم يُرسلونه إلى المتمرِّدين في جنوب السودان لإشعال نار الفتنة هناك … وإن هذه معلومات على أكبر جانب من الخطورة بالنسبة لحكومة السودان.
وطلب «أحمد» من الزعيم بواسطة «كالنجانو» أن يُساعدهم في تدمير هذا المصنع أو الحصول على ما به من أوراق … وتردَّد الزعيم لحظات، ثم قال: إن رجالي يخافون من هذه الأصابع القاتلة؟
ردَّ «أحمد» على الزعيم بواسطة «كالنجانو» قائلًا: قُل للزعيم إننا سنتولَّى أمر هذه الأصابع، وإننا نُريدهم فقط أن يقودونا إلى هناك.
ورحَّب الزعيم بذلك، وأبدى استعداده أن يقوم الرجال فورًا بهذا العمل … وهكذا انطلق الشياطين الأربعة ومعهم عدد من الرجال الطوال في الطريق إلى مقر شركة «ك. وراء البحار» في ظل الجبال الشاهقة.
بعد ساعتَين من السير المتصل في الغابة خرجوا فجأةً إلى الفضاء … وظهرت على الفور أمام القافلة «جبال القمر».
وقال أحد الرجال مشيرًا إلى الجبال: «رونزوري»!
وأمامهم على مرمى البصر بدت القمم الرائعة للجبال … وفوقها كان القمر معلَّقًا كأنه صورة مرسومة … وقالت «زبيدة» بانفعال: معهم حق أن يُسمُّوها «جبال القمر» … فهي تبدو والقمر واحدة، وكأنه معلَّق في قِمَّتها.
وضاعفوا سرعتهم في الخلاء، وبعد ساعة كانوا قد وصلوا إلى قاعدة الجبال، وتحدَّث «كالنجانو» مع الرجال فشرحوا له مكان معمل الديناميت … واستعدَّت «زبيدة» و«بو عمير» للعمل، فزحفا أمام الرجال حتى أشرفوا على المعمل … كان واضحًا أنه مبنيٌّ في كهوف الجبل، ولا يبدو منه فوق السطح إلَّا بعض الأسطح من الصفيح المدهون.
واقتربا أكثر … وفجأةً ارتفع صوت ميكروفون في السكون قائلًا: إنكم محاطون بحقلٍ من الألغام … فإذا تحرَّكتم حركةً واحدةً نُسفتم جميعًا … نحن ندعوكم إلى الاستسلام فورًا وإلَّا فجَّرنا الألغام.
أحسَّ «أحمد» بالضيق يجتاحه … فبعد هذه المغامرة المذهلة، والانتصارات التي حقَّقوها حتى وصلوا وأصبحوا على قيد خطوات من الانتصار النهائي، ها هم يُواجهون الفشل عند «رونزوري».
ودون كلمة واحدة أخرجت «زبيدة» بطاريتها الصغيرة، وأطلقت شعاعًا من الضوء حولها … كانوا على ممر صخري بين الجبال … وبنظرة مدقِّقة إلى الأرض أدركتْ أن هناك شحنات من الديناميت تُحيط بالممر من كل جانب!
قالت ﻟ «أحمد»: إننا فعلًا محاطون بالديناميت من كل جانب. وأقترح أن تتقدَّموا أنتم واتركوني هنا. إنهم لن يعرفوا أنني تخلَّفت إلَّا بعد أن تصلوا إليهم … وسأقوم أنا بنزع الأسلاك الموصلة إلى الديناميت، ثم أُطلق رصاصةً فتعرفون أنني انتهيت من مهمَّتي.
أحمد: كوني على حذر.
وتقدَّم الجميع وانبطحت «زبيدة» على الأرض في الظلام، ثم زحفت إلى رأس الممر، وأخذت تتحسَّس الأرض في الظلام.
تقدَّم «أحمد» ومعه بقية الأصدقاء والرجال إلى الممر، وعندما وصلوا إلى الساحة التي أُقيم فيها المعمل، أُضيئت أنوار قوية أحاطت بهم من كل جانب، وصاح الميكروفون: ألقوا أسلحتكم!
وأخرج الأصدقاء أسلحتهم … ولكن قبل أن يُلقوها على الأرض، انطلقت رصاصة «زبيدة»، وفي نفس اللحظة صاح «أحمد»: أطلقوا الرصاص على الأنوار.
وانطلقت المسدسات الثلاثة على الأنوار الكاشفة … ثم انهال الرصاص من كل جانب، واندفع «أحمد» وخلفه «بو عمير» و«عثمان» … والرصاص يتطاير من مسدساتهم، واندفع خلفهم رجال «الهوتو» الأشدَّاء يقذفون برماحهم على كل من يظهر تحت ضوء القمر.
وتمَّ اقتحام المعمل … واشتبك الشياطين ورجال «الهوتو» مع رجال شركة «ك. وراء البحار» … ودخل «أحمد» ومعه «عثمان» إلى غرفة الإدارة … وشاهدوا آلةً كاتبةً كالتي وصفها «خالد»، وجلس «أحمد» إليها. كان عليها رسالة بيضاء … وعندما ضغط على بعض أزرارها أصدرت الماكينة صوتًا خافتًا، ثم بدأت الرسالة تدور في الماكينة … وتظهر عليها الكلمات.
صاح «أحمد»: إنها الآلة التي طلبها رقم «صفر»، وسنجمع كل الأوراق والملفات وننسف معمل الديناميت.
حضرت «زبيدة» بعد لحظات، وطلب منها «أحمد» أن تُلغِّم المعمل كله لنسفه، وجمع «أحمد» و«عثمان» و«بو عمير» كل الأوراق والملفات التي عثروا عليها، بينما كان «كالنجانو» ورجال «الهوتو» يطاردون رجال شركة «ك. وراء البحار» في الجبال.
بعد ساعة انسحب الشياطين من المعمل ومعهم «كالنجانو» ورجال «الهوتو»، وأشعلت «زبيدة» النار في الفتيل؛ فأخذت تسري فيه حتى وصلت إلى الديناميت، وانفجرت الشحنات بصوت مدوٍّ هزَّ الجبال.
بعد ثلاثة أيام كان الشياطين الأربعة يُودِّعون «كالنجانو» على حدود السودان، وسافروا إلى «جوبا» عاصمة جنوب السودان، حيث وضعوا معلوماتهم أمام المسئولين. وفي بيروت جلس «أحمد» يكتب تقريره لرقم «صفر»، وبقية الشياطين يبتسمون لهذا المشهد الظريف.