محاضرة السيد الأستاذ عباس محمود العقاد
فلسفة الغزالي موضوع واسع الأطراف، بعيد الغور، إذا أردنا به تفصيل مذهبه في حقائق الوجود ومطالب المعرفة؛ لأنه بحث مع الفلاسفة كما بحث مع المتكلمين والمعتزلة، ومع الفقهاء والمتصوفة، ومع علماء الدين الإسلامي وغيرهم من علماء الأديان، وكان له في كل بحث من هذه البحوث اجتهاد من عنده وتعقيب على قول غيره، وموافقات تقترن بها مخالفات لكثير ممن ناقشهم وناقشوه، تتعذر الإحاطة بها في الحديث الواحد، بل يتعذر الإلمام بها في الحديث الواحد، إلا أن يكون من قبيل الفهارس التي تسرد العناوين ولا تتعداها إلى شرحٍ وافٍ أو إجمالٍ مفيد.
ولكنني لم أقصد بفلسفة الغزالي هذا القصد، وإنما قصدت بها «تفلسف» الغزالي أو ملكته الفلسفية، أو قدرته على بحث المسائل من الوجهة الفلسفية، وهو موضوع على اتساعه يتقبل التلخيص في مثل هذا الحديث، ويجزئنا فيه أن نعرف الملكة الضرورية للفيلسوف، وأن نعرف دلائل هذه الملكة في الإمام الكبير وهي ظاهرة بيِّنة في منهجه الذي يتوخاه كلما عرض لمسألة من مسائل الوجود، ولا سيما المسائل التي اصطلح الباحثون على تسميتها بمسائل «ما بعد الطبيعة».
لو سئل الغزالي رحمه الله: هل أنت فيلسوف؟ فما عسى أن يكون جوابه يا تُرى؟
أكبر الظن أنه كان يجيب بالنفي، ولا يعدو الحقيقة في نفيه شبهة الفلسفة عن نفسه، إذ كان للفلسفة في ذلك العصر مدلول غير مدلولها الذي نفهمه الآن في العصر الحاضر، وغير مدلولها الذي أراده من وضعوا الكلمة تواضعًا منهم، ولم يشاءوا أن يصفوا أنفسهم بالحكمة فقنعوا بمحبة الحكمة، وهي معنى كلمة الفلسفة باليونانية كما هو معلوم.
لقد كان معناها في عصر الغزالي أنها كلام يستحق منه الرد، ويظهر تهافته من المناقشة بالحجة والبيِّنة، ولولا ذلك لما اختار لمناقشته اسم «تهافت الفلاسفة» كأنه يعني به تهافت الفلسفة على الإطلاق.
فلو سُئل الغزالي: هل أنت فيلسوف؟ لأنكر انتسابه إلى القوم الذين يبطل حجتهم ويدحض آراءهم ويقضي على أقوالهم بالتهافت، وهو الضعف الذي لا يقوى المتصف به على التماسك والثبوت.
لكننا ننظر الآن إلى أقوال الغزالي في مناقشته للفلاسفة فنعلم أنه ناقش الفلسفة بالفلسفة، وحطم السلاح بسلاح مثله، بيد أنه أنفذ وأمضى، فهو على هذا فيلسوف أقدر من الفلاسفة الذين أبطل حجتهم، أو هو فارس في هذا الميدان أو في عدة من سائر الفرسان، ولو أنه تصدى لهذه الصناعة بغير أداتها لما وضحت حجته بين الحجج ولا استطاع أن يكشف بطلانهم ولو كانوا مبطلين.
والواقع أن حجة الإسلام رضي الله عنه لم تكمل له أداة قط كما كملت له أداة الفلسفة، فهو عالمٌ، وهو فقيهٌ، وهو متكلمٌ، وهو صوفيٌّ ولا مراء، ولكن هذه المطالب لا تستغرق كل ملكاته ووسائله إلى المعرفة، وقد يبلغ فيها غايتها ببعض تلك الملكات والوسائل، وتبقى له بعدها ملكة لا ضرورة لها في غير الفلسفة وحدها، وأوجز ما يقال عنها بكلمة واحدة: أنها هي ملكة التجريد.
إن المفكرين يختلفون في مناهج التفكير كما يختلفون في غايات التفكير، وإذا أردنا أن نعبر عن الفوارق بينهم بلغة العصر الحاضر قلنا: إن بعضهم قد يصلح للعلم التجريبي ولا يصلح للرياضة، وإن بعضهم قد يصلح للرياضة ولا يصلح لعلم من العلوم التجريبية، وإن العلماء التجريبيين والرياضيين قد يبلغون الغاية في مجالهم ولكنهم يقصرون عن متابعة البحث الفلسفي إلى غايته؛ لأن التفكير في كل باب من هذه الأبواب له أداته التي يتم بها ولكنها لا تغنيه عن أداة التفكير في غير ذلك الباب.
ونعود هنا إلى إجمال الفوارق بينهم في أهم مناهج التفكير التي نعرفها في زماننا، أو التي نعرف نظائرها فيما تقدم من الأزمنة.
فالتفكير العلمي يكفي فيه أن تكون للباحث قدرة على ملاحظة التجارب المحسوسة والمقابلة بين المتشابه منها والمختلف، والإفضاء من هذه المقابلة إلى نتيجة عامة محسوسة، قلَّما تتعدى الوصف والإحصاء.
والتفكير الرياضي يكفي فيه أن يتفهم الباحث علاقات المدركات الذهنية التي يسلمها العقل فرضًا وتقديرًا ولو لم يكن لها وجود في الخارج، وأكثر ما تكون الحقائق الرياضية تقديرات ذهنية لا تُرى بالحواس، بل لا يتصورها العقل نفسه إلا من قبيل التسليم بفرض لا بد منه، كالنقطة الهندسية التي لا طول لها ولا عرض ولا عمق ولا امتداد، أو كالبسيط الذي يخالف المركب في الأشكال والأبعاد فإن الذهن الرياضي يعقل من هذه الفروض ما لا وجود له في الطبيعة، ولا دليل عليه إلا أنه مستلزم بحكم البداهة، وليس هذا الفرض من ضروب التفكير التي يطبع عليها من طبع على جمع المعلومات بالمشاهدة والتجريب.
والتفكير الفلسفي ملكة أخرى لا تشبه كل الشبه ملكة العلم التجريبي أو ملكة الفروض الرياضية، ولكنها تشترك فيها بنصيب لا غنى عنه، وقوامها الأكبر أن تحسن الفهم في المسائل المجردة، أو المفارقة، كما يقول المتقدمون، وهي بهذا قد تشبه الرياضة إلى حد بعيد لولا أن الرياضة تنتهي إلى الفرض ولا يعنيها أن تتصوره أو تحوم حوله بوجدانٍ أو إلهام، وقد يتعذر على الرياضي أن يفصل بين الممكن والمستحيل، وبين الجائز والواجب، إذا تلبس الأمر بالمألوفات والمتكررات التي تلازم التصور وتلازم التخيل وراء الحس المتفق عليه.
هذه القدرة على تجريد الذهن من قيود المألوف قد بلغت أتمها وأقواها في الإمام الغزالي رضوان الله عليه، ولا يُعرف من مفكري المشرق ولا المغرب من هو أتم منه أداة ولا من هو أقدر منه على محو مألوفاته في هذا الضرب من التفكير.
وقد يُظَن أن طبيعة التصوف وطبيعة الفلسفة لا تتلاقيان، وقد يصح ذلك في التصوف الذي يقوم على رياضة الأخلاق وتهذيب السلوك ولا يتجه إلى البحث في معضلات الطبيعة وما بعد الطبيعة، إلا أنه لا يصح في التصوف الذي يقوم على التأمل الطويل والبحث العويص ويذهب بالفكر إلى غاية أشواطه لكي يلاقي بعد ذلك بين حدود الفكر وحدود الإلهام، فإن هذا التصوف مدد للفلسفة يتمم لها أداتها ولا ينقصها، ووسيلة ناجعة للتغلب على الذاتية أو «الأنانية» فضلًا عن المألوفات التي تلصق بالذات وتحصر الإنسان فيما هو فيه.
ولقد عرَّف الغزالي أن التصوف هو: (قطع علائق القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود … والهرب من الشواغل والعلائق … وأن يصير القلب إلى حالة يستوي فيها وجود كل شيء وعدمه) …
وبهذه القدرة على التجرد من النفس وعاداتها ومألوفاتها أصبح الغزالي أقدر على (التجريد الذهني) من المتصوف الذي لا يشغل فكره باستقصاء البحث، ومن الفيلسوف الذي لا يروض نفسه على الفرار من تحكم (الذاتية) ولوازم الأشياء التي لا تفارقها في حسه وفي إدراكه، فلا جرم، كانت السليقة الصوفية فيه أداةً يغلب بها الفيلسوف الذي لا تصوف عنده، وكان التفكير المنتظم عنده أداة تعينه على الفهم حيث يقنع المتصوف بالتسليم ويستريح إليه.
وقد تمكن بملكته النادرة بين أصحاب الفلسفة وأصحاب التصوف أن يواجه المعضلات التي حيرت جمهرة الفلاسفة فلم تطل حيرته فيها، ولم يلبث أن وضعها في موضعها الصحيح من التفكير الإنساني، لأنه وجد (الممكن) حيث غمَّ الأمر على سواه فلم يجدوا ثمة غير المستحيل.
وأكبر هذه المعضلات التي شقت على عقول الفلاسفة قضية القدم والحدوث، وقضية الخلق وقضية السببية، وقضية البعث، وهي جميعًا محل الخلاف الشديد بين جمهرة الفلاسفة وجمهرة الفقهاء كافة من علماء الدين في كل ملة.
فالغالب على الفلاسفة أنهم يقولون بقدم العالم، ويستوجبون هذا القدم لأنهم لا ينتزعون فكرة الزمن من أخلادهم ومخيلاتهم، ويعتقدون أن وجود الزمن لزوم عقلي لا مفر منه، ولا يقدرون أن إدراك الزمن كما يدركه الخلق المحدودون إنما هو لزوم ضرورة بالنسبة إلى المخلوق المحدود، كأنه ضرورة إدراك الألوان لهذه الهزات الضوئية في الأثير، ويجوز أن تدرك على غير هذا النحو إذا اختلف تركيب العين.
قالوا: إن العالم ليس بحادث، وإنه لا يكون قبله زمن فهو قديم منذ الأزل، وانقسموا في جملتهم قسمين: منكرون دهريون وهم يقولون: إنه — لقدمه — لا يحتاج إلى خالق محدث، ومؤمنون وهم يقولون: إنه واجب الوجود، ويفرقون بين واجب الوجود بذاته وهو الخالق جل وعلا، وواجب الوجود بغيره وهو العالم المخلوق، وعندهم أنه لا يلزم من القول بخلقه أنه محدث، وكل ما يلزم منه أن له فاعلًا في القدم، وفاعله هو الله.
كل ذلك لأنهم لم يستطيعوا أن يخرجوا مألوف الزمن من حسابهم، وأن يسألوا: وماذا كان قبله إن كان حادثًا؟ وليس للقول بالقبل والبعد مدلولٌ غير الزمان.
أما الغزالي، فهو لا يستلزم من حدوث العالم حيث كان إلا وجود ذات بعد ذات، فهما ذاتان ولا ثالث هناك، وهذا في الحق كل ما يستلزمه العقل بغير توهم لذاتٍ ثالثة، لا موجب لها عقلًا إلا العجز عن التجرد من فكرة الزمان.
قال في تهافت الفلاسفة: «معنى قولنا: إن الله متقدم على العالم والزمان أنه سبحانه وتعالى كان ولا عالم، ثم كان ومعه عالم، ومفهوم قولنا: كان ولا عالم وجود ذات الباري وعدم ذات العالم فقط، ومفهوم قولنا: كان ومعه عالم وجود الذاتين فقط، فنعني بالتقدم انفراده بالوجود فقط، والعالم كشخص واحد، فلو قلنا: كان الله ولا عيسى مثلًا، ثم كان الله وعيسى معه، لم يتضمن اللفظ إلا وجود ذات وعدم وجود ذات ثم وجود ذاتين، وليس من ضرورة ذلك تقدير شيء ثالث، وإن كان الوهم لا يسكت عن تقدير شيء ثالث وهو الزمان — فلا التفات إلى أغاليط الأوهام.»
نعم، وعنده أننا لو سألنا: ماذا كان خارج العالم؟ بدلًا من سؤالنا: ماذا كان قبله؟ ذهبت فكرة القبلية والبعدية، وتحولت مشكلة الزمان إلى مشكلة المكان، فماذا يكون خارج المكان؟ أمكان آخر؟ أخلاء غير الفضاء فهو العدوم الذي لا يوجد؟ أم ملاء وراء ملاء؟ فهو العالم إذن يمتد وراء امتداده، وقولنا في أمر المكان: إنه لا خلاءَ وراءه كقولنا في أمر الزمان: إنه لا حركة قبله، وإنما هناك الخالق في وجوده الذي لا يتقيد بالزمان ولا بالمكان.
فالوهم وحده هو الذي يخلط بين الوجود الأبدي والوجود الزمني، فيحسب أن الأبد زمنٌ ممتد وأن الزمن قطعةٌ من الأبد، وهما في الحقيقة شيئان مختلفان جد الاختلاف، فنحن لا نتصور الزمن بغير حركة، ولا نتصور الحركة مع الأبد الذي لا أول له يتحرك منه ولا آخر له يتحرك إليه، ولا أجزاء فيه يتحرك بعضها إلى بعض.
ومتى كان العقل لا يستلزم وجود الزمن أبدًا سرمدًا فالوهم كما قال الغزالي رحمه الله هو الذي يتطلب زمانًا قبل الزمان.
ومشكلة الخلق عند الفلاسفة قريبة من مشكلة القدم والحدوث، بل هي مشكلة تابعة لها متفرعة عليها.
يقولون: كيف يكون خلق العالم من العدم؟ أيوجد العدم؟ فإن كان لا يوجد فكيف يوجد شيءٌ منه؟
والمشكلة كلها أنهم يخلطون بين عدم العالم وبين العدم المطلق، فعدم العالم ليس بالعدم المطلق كما يقول حجة الإسلام، بل هو عدم العالم وكفى.
وما دام الوجود المطلق لا شك فيه — وهو وجود الله الفرد الدائم الصمد — فلا محل للعدم المطلق ولا استحالة في الخلق، بل هي آية قدرة الله، ولا بد للقدرة من معنى، وخلق العالم هو معنى قدرة الله القدير.
وهنا يسعف التصوف عقل إمامنا الكبير حيث تتعثر العقول الكبار، ومنها عقل أرسطو الذي يندر مثاله بين عقول بني الإنسان.
يقول أرسطو: إن الخلق يحدث من سعي الهيولى إلى الله؛ لأن الهيولى ناقصة تطلب الكمال، ولأن الله كامل لا يسعى إلى غاية وراء كماله، وهو فوق كل غاية.
ونحسب أن طبيعة التصوف هونت على الغزالي هذه المعضلة التي غاص فيها جبروت أرسطو فلم ينته منها إلى قرار.
إن قطع العلائق والغايات على ديدن المتصوفة هو الذي هداه إلى عمل الله بغير غاية، فإذا كان العبد يعمل بغير غاية فأحرى بالمعبود أن يعمل لأنه قدير منعم، ولا بد للقدرة من عمل، ولا بد للإنعام من عطاء يفيض به المنعم سبحانه وتعالى ويتلقاه المخلوق، صنيعة الإنعام.
•••
وآية الملكة الفلسفية عند الغزالي الفيلسوف رأيه في السببية وقدرته على التخلص من خداع التكرار، ولو تتابع من أول الزمان، فلا يلزم من سبق صياح الديك لطلوع الفجر أنه سببه الذي لا ينفك عنه، ولو تكرر كل يوم في كل مكان، وكل ما يلزم أنهما يحدثان معًا، وأنهما قرينان متتابعان، وهكذا كل قرينين، وكل متتابعين في جميع الحوادث التي يقال: إنها أسباب ومسببات، أو كما يقول: «إن الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببًا، وما يعتقد مُسببًا ليس ضروريًّا عندنا بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر.»
إلى أن يقول ما فحواه: إن هذه الظواهر قد ترجع إلى مقارنات أخرى تخفى علينا، ونص عبارته: «من أين يأمن الخصم أن يكون في المبادئ للوجود علل وأسباب تفيض منها هذه الحوادث عند حصول ملاقاة بينها، إلا أنها ثابتة ليست تنعدم، ولا هي أجسام متحركة فتغيب، ولو انعدمت أو غابت لأدركنا التفرقة وفهمنا أن ثَمَّ سببًا وراء ما شاهدناه وهذا لا نخرج منه على قياس أصلهم.»
رحم الله أبا حامد. ما أبعد نظره! وما أوسع رحابه! وما أقدره على الفرض المحتمل! بل على الفرض الصحيح الذي أثبته العلم بعده وسبق هو شأو العلم فرآه في أطوائه بعين البديهة الصادقة، والفهم النافذ واللب الرجيح!
لقد كان الأقدمون يذكرون خواص النار، والهواء، والماء، والتراب، ويلزمونها صفات الخفة والثقل، وصفات الرطوبة واليبوسة، وصفات الحركة والسكون؛ ويرجعون في ذلك إلى اقتران الريح باللهب، واقتران الماء بالبلل، واقتران العلويات بالسفليات، إلى غير هذه المقارنات التي يحسبونها أسبابًا ومسببات، وما هي إلا دليل على حصول شيء مع شيء، ولا دليل فيها على حصوله بسببه وفعله الذي لا ينفك عنه.
فما الذي ظهر بعد ذلك بحكم العلم والتجربة؟ ظهر أن في المبادئ — كما قال أبو حامد — عللًا وأسبابًا تفيض منها هذه الحوادث غير اقتران النار والهواء واقتران الماء والتراب.
ظهر أن هذه الظواهر جميعًا من أثر موجودات أخرى تسمى النوى والكهارب، وظهر أنها لا تنعدم ولا تغيب في حركات الرياح والأمواء والأتربة والنيران، ولهذا لم تنقطع عن مشاهديها انقطاعًا يريهم الفارق بين وجودها ومغيبها.
وسيظهر غدًا وراء النوى والكهارب حقائق أخرى عن المغناطيسية والكهرباء والجاذبية ترينا أن الفعل لشيء آخر في تركيب العناصر غير كهاربها ونواها وغير سالبها وموجبها، وغير ذريراتها وأمواجها.
فرأي الغزالي في السببية ليس من شأنه أن يعطل العقل عن البحث كما فهم بعض الجاهلين بقدره وأقدارهم، ولكنه الرأي الذي يفتح الأبواب المغلقة بحكم المألوف المسيطر على العقول فتنفذ منها إلى ظواهر أصدق من ظواهر، ومقارنات ألزم من مقارنات، وأصول — في المبادئ — أثبت من أصول.
وينبغي أن نفرق هنا بين السببية في رأي الغزالي، والسببية في رأي غيره من القاصرين عن البحث وعن إدراك الممكنات من وراء حجب العادة والتقاليد.
فقبل الغزالي قال أناس: إن الله جل وعلا هو مسبب الأسباب ووقفوا بهذا القول عند حدود التسليم والإيمان، فلا بحث هنا ولا تفرقة بين الظواهر والخفايا ولا بين الأصول والفروع.
وغير هذا رأي الغزالي التفرقة بين القول بالسبب والمسبب والقول بالظواهر المقترنة التي تحصل إحداها بفعل أخرى، فإنه رأي الباحث الذي وصل ببحثه إلى ما وراء أمد الباحثين، ولم يقف في أول الطريق مساويًا بين الفهم والتسليم بل جعل للتسليم سندًا من الفهم يصحح أخطاء الباحثين.
وما منع الغزالي قط أن نراقب الظواهر ونحصيها ونبني عليها علمنا بترتيبها واشتراكها (فاستمرار العادة بها — مرة بعد مرة أخرى — يرسخ في أذهاننا جريانها على وفق العادة الماضية ترسيخًا لا ينفك عنه). إلا أنه يقول: إننا لم ندع وجوب هذه الأمور بل هي ممكنة يجوز أن تقع ويجوز ألا تقع … وأن الله تعالى خلق لنا علمًا بما لم يقع منها وبما هو محتمل الوقوع.
وهذا العلم بجواز أسباب غير الأسباب الظاهرة لا يعطل البحث ولا ينقض المعرفة، بل هو الذي يفتح الباب للتعليل بعناصر النوى والكهارب بعد التعليل بعناصر النار والهواء والماء والتراب.
•••
أيسر من هذه المعضلات جدًّا معضلة البعث بالأنفس المجردة أو البعث بالأنفس والأجسام، فإن الغزالي لا ينكر قول بعض الفلاسفة باستحالة البعث بالأجسام، لاعتقاده أن البعث بالأنفس لا يجوز في العقول، ولكنه ينكر منهم الحكم باستحالته تعجيزًا لله سبحانه وتعالى عن فعله، واقتدارًا منه على تجريد الحقائق من المألوفات حيث يقصرون عنه، فإن الشخصية الإنسانية، تثبت لصاحبها في الأربعين وقلما تبقى له بقية في جسمه في الخامسة أو العاشرة، فإذا جاز بقاء هذه الشخصية بعد انحلال جسدها مرات فليس بالمستحيل على الله أن يعيدها بعد الممات.
وآية الغزالي هنا كآيته في معضلة الأسباب، لقد كان الفلاسفة القدم يخبطون في التفرقة بين الجوهر البسيط والجسم المركب خبطًا لا يستندون فيه إلى غير الظنون، وفرقوا من أجل ذلك بين بساطة النور التي لا تقبل الانحلال وبين تركيب الأجسام المادية التي تنحل ولا تقبل البقاء، فماذا بقي اليوم من هذه الفوارق بعد العلم بأن الأجسام جميعًا من ذرات وأن الذرات جميعًا من شعاع وتصير إلى شعاع؟! وما أصدق ذلك النظر الذي سبق العلم قبل ألف سنة فأبطل هذه التفرقة بين المركب والبسيط، وبين ما ينحل ولا يقبل البقاء وما يبقى ولا يقبل الانحلال!
وبعد، فهذه أمثلة تدل على فلسفة الغزالي — أي على ملكته الذهنية التي يعالج بها معضلات ما وراء الطبيعة ويصيب فيها المحز حيث يضرب غيره ولا يقطع، أو حيث يقطع في غير مفصل، ومن هذه الأمثلة نرى أن الغزالي لم يعطل عمل العقل في مباحث العقيدة، بل كان عمل العقل فيها على أقواه وأنفعه في كل ما تشتغل به العقول من هذه المعضلات.
وللفلسفة — كما نعلم — معنى آخر يشيع في مباحث الأخلاق، عند الذين يتكلمون عن الفيلسوف ويريدون به الحكيم، ويريدون بحكمته طريقته في أدب السلوك ومزاولة العيش أو معاملة الناس … فالغزالي الحكيم في هذه الفلسفة كذلك لا يعطل عمل العقل ولا يستضعف الفائدة التي يجنيها العابد والعالم والسالك في سبيل دينه ودنياه من احتكامه إلى تفكيره، ولا بد أن يحتكم إليه إمام مسلم يعلم من آيات كتابه وأحاديث نبيه أن التفكير فريضة واجبة في الإسلام.
ولعلنا نقرِّب الأمر بالتشبيه المحسوس لإدراك موقف الغزالي من العقل، وموقف المعطِّلين للعقل من القائلين باستلهام الكشف بغير مقدمات من التفكير.
فإذا جاز أن يقال عن هؤلاء الكشفيين: إن الكشف عندهم جناح يغنيهم عن سلم العقل، فالعقل عند الغزالي درجٌ يرتفع به إلى درجٍ أرفع منه، وأدنى إلى أن يبلغ به أسباب السماء.
ويخطئ الذين حسبوه في رياضته لنفسه قد تجافى عن العقل وراض نفسه على قمع خواطره كما راض نفسه على قمع أهوائه وشهواته، فأتى في اجتهاده وتعليمه لنفسه بسنة غير سنن التفكير المستقيم، أو سنن الحياة العملية في مصطلحات العصر الحديث.
من ذاك أنه كان يدمن الخلوة ويزاول العمل المهين مما تعافه النفوس ويمعن في التقشف والاشتداد على الجسد، ويهرب كما قال من الشواغل والعلائق، ويكاد يخرج من عالمه ما وسعه الخروج منه وهو بقيد الحياة.
هذه خطة من الرياضة الخلقية لا يرتضيها الكثيرون من (المفكرين العمليين) بمصطلح العصر الحديث، وليس عليهم أن يرتضوها إذا بدا لهم أنهم يملكون رياضة الأخلاق ومعالجة الأهواء على غير منحاه.
ولكننا إذا تتبعنا أقوال الغزالي وأعماله قبل هذه الرياضة وأثناء هذه الرياضة وبعدها، علمنا أنها خطة واحدة معقولة، ومسلك واحد يتأدى بعضه إلى بعض، وتجربة متلاحقة تلائم فلسفة التفكير، كما تلائم فلسفة النسك والرياضة، وتقوم على أساس واحد وتمضي إلى غاية واحدة وهي القدرة على التجرد أو على التجريد.
يقول رضي الله عنه: «أقل درجات العالم أن يتميز عن العامي الغمر، فلا يعاف العسل وإن وجده في محجمة الحجام، ويتحقق أن المحجمة لا تغير ذات العسل، فإن نفرة الطبع منه مبنية على جهل عامي منشؤه أن المحجمة إنما صنعت للدم المستقذر، فيظن أن الدم مستقذر لكونه في المحجمة ولا يدري أنه مستقذر لصفة في ذاته، فإذا عدمت هذه الصفة في العسل فكونه في ظرفه لا يكسبه تلك الصفة فلا ينبغي أن يوجب له استقذار، وهذا وهم باطل وهو غالب على أكثر الخلق، فمهما نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم قبلوه وإن كان باطلًا، وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقًّا …»
تلك أقل درجات العالم، أن يفصل بين العسل وظرفه.
وعلى هذه الدرجات بعينها يرتقي ويمضي مصعدًا في ارتقائه حتى يجرد الفكر من ملازمات الصور المألوفة، ويعلم الوهم الباطل في الملازمة بين الزمان والوجود، فقد يكون وجود ولا زمان … وما استلزام وجود الزمان أبدًا إلا من أباطيل الأوهام كما قال.
ولقد أحس أن قمعه لذاته خطوة لازمة — عقلًا — لانتزاع الفكر من مألوفاته وتجريد المعاني من ظواهرها، والإفضاء من قرائن الأسباب إلى حقائق الأسباب.
وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي يكسب الجاه وأدعو إليه بقولي وعملي وكان ذلك قصدي ونيتي، أما الآن فأدعو إلى العلم الذي به يُترك الجاه ويُعرف به سقوط رتبة الجاه، وهذا هو الآن نيتي وقصدي وأمنيتي يعلم الله ذلك مني، وأنا أبغي أن أصلح نفسي وأصلح غيري.
فما كانت الرياضة إذن إلا تربية عقلية ودراسة علمية، تمت بما استفاده من التجرد عن ضلال (الأنانية) وأباطيل المألوف والمعهود، فذاك هو اقتداره الفلسفي على التفكير المجرد، وهو هو اقتداره الصوفي على التجرد من معرفة الجاه، خلوصًا إلى معرفة الحقيقة، ومن شواغل الحياة إلى شواغل الخلود.
•••
ونختتم هذه الكلمة سائلين: هل كان إمامنا رضي الله عنه فيلسوفًا أو متصوفًا؟
فلعلنا نستطيع أن نجيب قائلين: إنه كان قدوةً للفلاسفة، ونموذجًا من نماذج التفكير الرفيع، نتعلم منه أن للفلسفة أداة لا تتم بغير قسط من التصوف؛ لأن التصوف قدرة على انتزاع النفس من المألوف، وتلك قدرة لا يستغني عنها الفيلسوف المفكر ولا الفيلسوف الحكيم.
والسلام عليكم ورحمة الله.