الرجل الذي فقَد ذاكرته مرَّتَين
١
لم يبقَ في الحديقة الصغيرة أحدٌ سواه. ذهب الذين تناولوا عشاءهم سواء في الحديقة أم في البهو الصغير المُتصل بها من الداخل. أكثرهم صعدوا إلى حُجراتهم في الفندق وقِلَّة مضت في الطريق الذي يشقُّ الخلاء. انتظر النادل أن يذهب هو أيضًا، ليُخلي الحديقة من الكراسي والموائد، ولكنَّه لم يذهب. ولم يُبدِ استعدادًا للذهاب. جلس وحدَه يستقبل الهواء الجاف المُنعش الهابط من سفح الجبل فيما وراء الخلاء. ولم يجد النادل بدًّا من نقل الموائد والكراسي إلى الداخل عدا مائدته وكُرسيه ثم حام حوله كأنما ليُذكِّره بأنه آنَ له أن ينصرِف. وتجرَّأ أكثرَ فوقف أمامَه وهو يسأل: هل من خدمة؟
فسأله بدوره: أتُوجَد في الفندق حُجرة خالية؟
– أعتقد ذلك، تفضَّل بمقابلة صاحب الفندق.
– تلك الفتاة في نهاية البهو؟
– كلَّا، إنه في الداخل فيما يلي البهو.
– ومَن تكون الفتاة إذن؟
– مدير المطعم وابنة المدير.
– شكرًا.
ولمَّا لم يُزايل مكانه قال النادل: هلَّا تفضَّلتَ بالذهاب لأتمكَّن من نقل المائدة؟
– معذرة، يلزمني بعض الوقت لأستعيد نشاطي من تعبٍ طارئ.
ذهب النادل فلبث وحدَه كما كان. ونظر نحو الفتاة كما فعل مرارًا وهو يتناول عشاءه. وبادلته النظَر أيضًا. وقال لنفسه: ليتَها كانت هي صاحبة الفندق!
ثم بنبرة مُنتشِية: ما أجمل أن يحوز الإنسان فتاةً حسناء مثلها.
ومضى الوقت وهو لا يُريد أن يتحرك. وإذا بصاحب الفندق يمضي نحوه على حين وقفت كريمته في نهاية الممرِّ المُوصِّل بين البهو والحديقة رغبةً في إشباع حُب استطلاعها. وقال صاحب الفندق للفتى: نحن في خدمتك.
فقال الشابُّ بارتباك: شكرًا.
– أخبرَني النادل أنك تريد حجرةً خالية.
– أجل أريد حجرةً للمبيت.
– تفضَّل بالدخول للقيام بإجراءات الحجز.
– إن أردتَ الحق …
– أفندم؟
– لا أدري في الواقع ماذا أقول!
– ولكن لديك بلا شك ما تقوله.
– لا أدري كيف أقوله.
اقتربت الفتاة أكثر حتَّى وقفت جنب أبيها وقال الرجل: ولكن لا مفرَّ من الكلام!
– أمهِلني قليلًا.
– لعلك ليس معك نقود؟
– معي من النقود ما يكفي وزيادة.
– إذن فما المشكلة؟
– مشكلتي أنني مُرهَق جدًّا.
– ولكنك تبدو في صحةٍ جيدة!
– الحق أنني لا أعرف مَن أنا!
– ماذا قلت؟
– لا أعرف مَن أنا.
– أأنت مالكٌ لقواك العقلية؟
– أعتقد ذلك.
وسألته الفتاة: كيف لا تعرف مَن أنت؟
– لا أعرف لي أصلًا ولا هويةً ولا اسمًا.
فسأله الأب: كيف تواجدتَ في حديقة فندقنا؟
– وجدت نفسي في الخلاء، الجبل ورائي، ومبنًى وحيد أمامي هو الفندق، لم أجرؤ على التوغُّل في المدينة فتسلَّلتُ إلى حديقة الفندق.
– أليس معك بطاقة شخصية؟
– كلَّا، لعلي سُرِقتُ.
– ولكن معك نقود كما تقول؟
– وجدتُها ملفوفة في حزامٍ حول بطني.
– أليست نقودك؟
– هذا ما استنتجتُه.
تبادلوا النظرات في صمتٍ حتَّى قال الأب: ستتذكَّر أشياء بلا ريب، لا بد أنك تذكُر من أين أتيت؟
– لا أدري.
– أين كنت ذاهبًا؟
– لا أدري.
– أُسرتك؟
– لا أدري.
– عملك؟
– لا أدري.
وسألته الفتاة: ألك زوجة؟
– لا أدري!
فتفكَّر الرجل مليًّا ثم سأله: وماذا تنوي أن تفعل؟
– لا فكرة لي بعد.
فتفكَّر الرجل مرةً أخرى ثم قال: لا شكَّ أنك ستجدُّ في البحث عن أصلك وفصلك.
– هذا هو المعقول.
– كأن تنشُر صورتك في الجرائد؟
– تفكير صائب.
– وهو ما سيفعله المُهتمُّون بأمرك.
– أعتقد ذلك.
– هي مشكلة نادرة حقًّا ولكنها سرعان ما تُحَلُّ بنهاية سعيدة.
– أرجو ذلك.
وسألته الفتاة برقة: تُرى بمَ تشعر؟
– بأنني لا شيء ينحدِر من لا شيء، ماضٍ إلى لا شيء.
وتبادلوا النظرات مرةً أخرى ثم قال الشاب: سأذهب أول ما أذهب إلى طبيب.
– عين الصواب.
– ولكن يلزمني مأوًى مع إعفائي من الإجراءات المُتبَّعة.
فقال الأب: إنها مغامرة قد تدفع بي إلى س و ج.
– وقد تمرُّ بسلام.
– الله المُستعان.
– سأذكر لك صنيعك ما حييتُ.
وأرسله إلى حجرةٍ مع فرَّاش ووقف مع ابنتِه يُتابعانه في سيره في ذهولٍ صامت. وتبادلا نظرةً طويلة ثم قال الأب: عجيبة تلك الحال لدرجةٍ تعزُّ على التصديق.
فتمتمت الفتاة: ولكنه صادق في مرضه.
– وهذا هو العجَب.
– أجل.
– تُرى هل أخطأتُ في قراري؟
فقالت بهدوء: إنك لا تخطئ أبدًا.
٢
كانت شرفة الفيلَّا — فوق الجبل — تسبح في ظلامٍ دامس. وكان يُوجَد بها رجلان. بدا الرجلان شبحَين جلس أحدهما فوق كرسيٍّ هزَّاز ومَثُل الآخر بين يدَيه. وسأل الجالس: ماذا وراءك؟
فقال الآخر: ساقته قدماه إلى الفندق!
– لا أعجب لذلك.
– وهو على حال من العدم.
– لا جديد في ذلك.
– بل حال جديدة تمامًا.
– حقًّا؟
– بالدقة نطقتَ.
– كُن يقظًا وسجِّل كل شيء.
– سمعًا وطاعة.
٣
تفرَّق النُّزلاء بعد العشاء فلم يبقَ في الإدارة سوى الأب والفتاة والشاب. وكان القلق بارزًا في قسمات الشاب فقال له الأب بنبرةِ رثاء: لم تستقر بعد.
فقال الشاب: نشرتُ صورتي في الصحف ولم يسعَ ورائي أحد!
– ثمَّة شيء طيب وهو أن الشرطة لم تسعَ وراءك كذلك!
– وأكاد أجزم بأنني لن أصبر على أسلوب العلاج.
– طويل ومُعقَّد!
– وكثير التكاليف.
وبعد صمتٍ قصير عاد يقول: وبت أشعر بأني حمل ثقيل عليك.
– كلَّا.
– حقًّا؟
– أصبحنا فيما أعتقد أصدقاء.
– الحق أنكم كل شيءٍ لي في هذه الدنيا.
– ولم أعد أخشى مسئوليةً من إيوائك.
وقالت الفتاة: وستعرف نفسك عاجلًا أو آجلًا.
فقال بشيءٍ من الحياء: يُخيَّل إليَّ أنني لن أكتشف شيئًا ذا قيمة.
– إنك رشيد ولا حاجة بك إلى أحد.
– ولكن هل أُمضي وقتي كلَّه في الانتظار؟
فقال الأب: يحسُن بك أن تُفكر في الحاضر والمستقبل.
– قبل أن تنفد النقود؟
– أجل.
– فعليَّ إذن أن أجد لنفسي عملًا.
– ماذا تُحسِن من الأعمال؟
– أُجرِّب.
فتفكر الأب مليًّا وقال: عندي فكرة.
فنظر الشاب إليه مُستطلعًا فقال: الفندق يحتاج إلى تجديدات.
– ماذا تعني يا سيدي؟
– أقترح أن تشترك فيه بمالك وأن تعاون في أعمال الحسابات.
– فكرة طيبة.
– لنبدأ إذن.
– ولكني أخشى أن نكتشِف أن المال هو مال الغير.
– مضى وقت منذ إعلانك عن نفسك، وهو يكفي لإبراء ذمتك.
فالتفت الشاب نحو الفتاة وسألها: ما رأيك؟
– أوافق أبي على رأيه.
– عظيم.
فقال الأب: اتفقنا.
– آن لي أن أُصارحك برغبةٍ تضطرم في نفسي.
– إني مُصغٍ إليك.
فقال بعد صمتٍ قليل: أود أن أطلب منك يدَ كريمتك.
– لا تتعجَّل الأمور.
– انتظرتُ من الشهور ما فيه الكفاية.
– ربما كنتَ مُتزوجًا.
– لم يسع إليَّ أحد.
– لقد تبادلنا الرأي على أوسع نطاقٍ وأنا مُضطر الآن إلى الذهاب إلى مشوارٍ عاجل.
قال الرجل ذلك وذهب. وقف الشاب والفتاة يتبادلان النظر. سألها: أأنت مُتردِّدة مثل أبيك؟
فقالت بهدوء عذب: أنت تعرف رأيي تمامًا.
– أترغبين أن أنتظر حتَّى يتكشَّف لي الماضي؟
– لا يُهمني أن تهتدي إلى ماضيك أو أن يهتدي ماضيك إليك.
– أنا سعيد ولكن القلق يُطاردني.
– وتُحبني أليس كذلك؟
– لا يربطني بهذا المكان إلا حُبك.
– حسْبنا ذلك.
– سأعمل وأتزوَّج ولكن والدك مُتردِّد.
– كلَّا، إني أعرف والدي تمامًا.
– يُخيَّل إليَّ أني نلتُ ثقته.
– أنت أهل للثقة.
– لندعُ الله أن يُهيئ لنا السعادة.
– لنَدْعُه من صميم قلوبنا.
٤
وفي شرفة الفيلَّا — فوق الجبل — جرى الحديث في ظلامٍ دامس. سأل الشبَح الجالس فوق الكرسي الهزاز: ما وراءك؟
فأجاب الشبح الماثل بين يدَيه: آواه صاحِب الفندق.
– رجل طيب وداهية ماكر.
– وعمل كل ما يمكن عمله للاهتداء إلى هويَّته.
– ولِمَ لمْ ينظر الفتى في نفسه مباشرةً؟
– إنهم يفضلون الوسائل غير المباشرة.
– وثار فضول الناس؟
– لم يعُد يُثير فضولهم شيء.
– حسنٌ.
– وظلَّ مجهولًا كاللُّغز.
– تعني في نظر نفسه؟
– طبعًا.
– وكيف مضت القصة؟
– ظهر الحب.
– من جديد؟
– أجل، وفي الوقت نفسه تطلَّع الأب إلى نقوده!
– يعزُّ على اللص أن يُسرَق!
– إنه من رجال الأعمال يا سيدي.
– وهل يُوجَد فرق هناك بين اللص ورجل الأعمال؟
– إنهم هناك يُفرقون بينهما.
– وبعد؟
– اشترك الفتى بماله في الفندق وتزوَّج من الفتاة.
– طريفة جدًّا هذه اللعبة.
– الحب والعمل يبتسمان.
– والبحث عن المجهول من ذاته؟
– لا يكاد يخطر له على بال إلا إذا انفرد بنفسه.
– وهل ينفرِد بنفسه كثيرًا؟
– زوجته لا تُحب ذلك.
– ماكرة مثل أبيها.
– الحق أنها تُحبه وتُحب الفندق.
– الأمور تتعقَّد والأمل يتضاءل.
– ولكنه موجود.
– كن يقظًا وسجِّل كل شيء.
– سمعًا وطاعة.
٥
اجتمعت الأسرة حول مائدة في الحديقة الصغيرة، الأب والزوج والزوجة. تلقَّت وجوههم ظلال المغيب وقد غيَّرها على تفاوتٍ تقدُّمُ الزمن. وكان الأب يقول: لن أشهد الصيف القادم، هذا ما أشعر به.
فقالت الزوجة: ربنا يُطوِّل عمرك يا أبي.
وقال الزوج: ستتحسَّن صحتك.
فقال العجوز: السعيد مَن يذهب في هذا الزمن.
فقالت الزوجة: ليست الأحوال بذاك القدْر من السوء.
فتساءل الزوج: أيمكن أن يُوجَد ما هو أسوأ؟
فقالت الزوجة مُحتجَّة: يُوجَد دائمًا ما هو أسوأ.
فقال الزوج مُتهكمًا: ما أجمل حكمتك.
وقال الأب: كانت الحياة على أيامنا أبسط وأهنأ.
فقال الزوج: ثمة شكوى دائمًا من الحاضر والحسرة على الماضي ولكن الماضي كان حاضرًا يومًا ما.
فقالت الزوجة: لا نكاد ننعم بلقاء، نحن نركض كأنَّ سياطًا تُلهِب ظهورنا.
فقال الزوج: الويل لمَن يستسلِم لساعةٍ من الراحة.
– إني أعمل معكَ بقوة عشرة رجال.
– وأنا أعمل بقوة عشرات من الخيل.
فقال الأب: كان العمل أمتع والثمرة أشهى!
فقال الزوج: نحن نحمِل فوق أكتافنا سبعةً من الأبناء.
– حمَلْنا أكثر وسعِدنا بهم.
– ألا تدري ماذا يعني ابنٌ واحد في هذه الأيام؟
فقالت الزوجة: هكذا حال الناس جميعًا.
– كلُّنا في الهمِّ شخص واحد.
فقال الأب: كم حسَدَنا الناس من أجل هذا الفندق!
فقال الزوج: اليوم هم ينظرون لنا برثاء.
وقالت الزوجة وهي تتنهَّد: امتلأ طريق الخلاء بالفنادق.
– وكلها قامت على طراز حديث.
فسأله الأب: أليس لدَيك احتياطي كافٍ لتجديد الفندق؟
– لم يعُد التجديد بالحل الناجع!
– فما الحل إذن؟
– أن يُهدَم ويُبنى من جديد!
– ومن أين لك المال اللازم لذلك؟
– لا خيار لنا وإلا تحوَّل الفندق على أيدينا إلى وكالة.
– فيمَ تُفكر؟
– في الاقتراض إن أمكن.
فقالت الزوجة: لا تكن مُتشائمًا.
– لا وقت عندي للتشاؤم.
– إنك تنسى أشياء هامة.
– حقًّا؟
فقال الأب: ينقُصكم شيء هام كان مُتوفرًا لدَينا.
– ما هو يا سيدي؟
– الإيمان.
– حتَّى هذا لا ينقصنا.
– لا وقتَ لدَيك للإيمان، أتدري ماذا فعل الإيمان لنا؟
– ماذا فعل؟
– عثر جدي الفقير ذات يوم في صحن داره على كنزٍ مدفون!
– كنز مدفون؟
– كان يدعو الله أن يرزُقه فرزَقَه، وشيَّد بمال الكنز أول فندقٍ في هذه البقعة.
– كان عليه أن يبحث عن صاحبه فيُسلِّمه له!
– كان الكنز هديةً من الله إليه.
– القانون اليوم يَعتبر قَبول مثل هذه الهدية نوعًا من النهب!
– اللعنة، إنكم تُمارسون النهب بألف وسيلةٍ ووسيلة.
– معذرةً يا سيدي، أتُريدني على أن أسأل الله الرزقَ حتَّى أعثر على كنزٍ مدفون؟
– ولن تعثُر عليه مهما فعلت.
– حقًّا!
– لأن الإيمان لا يُفتَعَل.
فنظر الزوج إلى زوجته وسألها: أهذا ما تعقدين به الأمل؟
فأجابت ببرود: ذاك مجد لم نعُد له أهلًا.
– حسنٌ.
– ولكنَّا نملك ثروةً أخرى.
– حقًّا؟
– أبناءنا!
– إنهم الهمُّ الذي قصم ظهري.
– ولكنهم غدًا سيسعون إلى أصحاب الفنادق الجديدة بأسباب النَّسَب والعمل!
– يا له من خيال!
– سيتجسَّد حقيقة صلبة.
– يا له من خيالٍ طموح!
– بل علينا أن نُيسِّر لهم سبيل العلم في أعلى درجاته.
– أخشى أن نموت في أثناء ذلك جوعًا.
– إنَّه سِباق مرير ولكن الفوز فيه للصابرين.
فقال الأب: ينقصكما الإيمان.
فقال الزوج: لا مجال اليوم للحلم بالكنوز المدفونة.
– لن أشهد الصيف القادم، هذا ما أشعر به.
وقام بصعوبة، ثم مضى إلى الداخل وهو يقول: السعيد حقًّا مَن يرحل عن هذه الدنيا.
وما لبثت الزوجة أن ذهبت أيضًا ولكنها رجعت بعد دقائق بزجاجة بيرة مُثلجة وقدحَين. ملأتهما والظلام يتجسَّد مُتمتِمة: أنعش فؤادك.
ولكنه قال: لن يكفي الاحتياطي كله لبناء دورٍ واحدٍ جديد.
– أنعش فؤادك يا عزيزي.
– وماذا يعني دور جديد واحد في فندقٍ قديم؟
– أنعش فؤادك، ألا تسمعني؟
– والأساس القديم لن يحتمِل مزيدًا من الأدوار.
– ألا تريد أن تُنعِش فؤادك؟
– أرى الفنادق الجديدة فتقتلني الحسرة.
– يلزمك قدْر من الاسترخاء فأنعِش فؤادك.
– كيف تقدَّمَهم الحظ وتخلَّف عنا؟
– لا تُريد أن تُصغي إليَّ!
– إمَّا فندق جديد وإمَّا الجوع.
– لدَينا الإرادة ولدَينا الأبناء.
– أنتِ تحلُمين مثل أبيك.
– لدَينا كنوز غير مدفونة.
وأرادت أن تُداعب يدَه ولكنه نهض قائمًا وهو يقول: آن لي أن أذهب لمقابلة الرجل.
وذهب.
٦
لبثت الزوجة وحيدةً حتَّى رأت رجلًا قادمًا من باب الحديقة. انحنى لها بأدبٍ قائلًا: مساء الخير يا سيدتي.
– مساء الخير.
– اسمحي لي أن أُقدم لك نفسي، أنا صاحب الفندق الكبير.
– أهلًا وسهلًا، تفضَّل بالجلوس.
جلس الرجل وهو يرمق بعينَيه القدحَين المُترعَين ثم تساءل: هل ينضم إلينا أحد؟
– كلَّا، كان زوجي هنا ثم ذهب.
– ذهب لمقابلة صاحب فندق النور.
– كيف علمتَ بذلك؟
– نحن نعرف ما يُهمنا يا سيدتي.
– همَّة مشكورة!
– لعلَّه نسِيَ أن يشرب قدحه؟
– ما أهمية ذلك!
– رجال الأعمال ينسَون كثيرًا من الشئون السارة!
– أنت أدرى بذلك.
– ولكن الناجحِين منهم لا يُهمِلون شيئًا!
فقالت بشيءٍ من الانفعال: نحن أيضًا من الناجحين.
– يسرُّني أن أسمع ذلك.
– ولكن لِمَ شرفتنا بزيارتك ما دمتَ أنك تعلم أن زوجي غائب؟
– لأُقابلك أنت يا سيدتي.
– ولِمَ يا سيدي؟
– الحق إني أومن بتفوُّق حِكمة النساء.
– إن كنتَ تقصد المقارنة بيني وبين زوجي فإني أرفض ثناءك.
– لم أحضر لأُثير خلافًا.
ثم نظر إلى قدح البيرة وتساءل: أتسمحين لي بأن أحلَّ محلَّ زوجك.
– لا يَروقني تعبيرك!
– معذرةً، جميع رجال الحي يُعجَبون بك.
– أجئتَ يا سيدي لتُعرب لي عن إعجابك؟
– جئتُ يا سيدتي لأشتري الفندق.
– فندقنا؟
– إنه الفندق القديم الوحيد في المكان كله.
– يا له من اقتراحٍ لم أتوقَّعه أبدًا.
– زوجك يسعى إلى عقد قرضٍ ولن يُوفَّق في مسعاه.
– لِمَه؟
– لأن أحدًا لا يريد أن يخلق منه منافسًا له خطره.
– لا أُحب أن أناقش هذا الموضوع في غيابه.
– البيع أفضل، إني أُخاطب حِكمتك.
– لا أرى رأيك.
– إنه فندق قديم غير قابل للسُّكنى، ولا فائدة تُرجى من تجديده، أما ثمنه فيصلح للاستثمار.
– إنه حياتنا ومستقبلنا.
– مُمكن التفاهُم على إيجاد عملٍ لك ولزوجك في الفندق الجديد.
– لا تتكلَّم كما لو كان الاتفاق قد تم.
– إني أخاطب رأس الحِكمة.
– الفندق الجديد سيُقام بأيدينا وأموالنا.
– لا مال لكم، وأبناؤكم ما زالوا يتلقَّون العلم.
– دعنا وشأننا يا سيدي.
– تُوجَد مصالح مشتركة.
– لا أظن.
– كأنني أُخاطب زوجك العنيد.
– نحن شخص واحد يا سيدي.
– يحسُن بي أن أعترف لك بما في نفسي.
– تُرى ماذا في نفسك؟
– لا أهمية في الواقع للفندق.
– ولكنه رغم قِدَمه ذو موقع ممتاز.
– يُهمني أكثر أن أنشئ علاقات مودة إنسانية.
– حقًّا؟!
– صدِّقيني، المال لا ينقصني.
– حقًّا؟
– ما أنا في حاجةٍ إليه حقًّا هو الحب!
– انتظر رجوع زوجي لتُطارِحه الغرام.
– ولكني أومن بالمرأة.
– لا أشاركك رأيك يا سيدي.
– على أي حالٍ قد فهِم كلانا صاحبه، ولدينا من الوقت ما يكفي للتفكير واتخاذ القرارات.
وقف الرجل باسمًا. شرب قدح البيرة حتَّى الثمالة. وأحنى رأسه ثم ذهب.
٧
جرى الحديث في الظلام الذي يلفُّ شرفة الفيلَّا فوق الجبل. سأل الشبح الجالس فوق الكرسي الهزَّاز: ماذا وراءك؟
فأجاب الشبح الماثل بين يديه: تعقدت الأمور.
– ماذا يفعل صاحبنا؟
– يعمل بجنون، يُحارب في ألف ميدان.
– وامرأته؟
– تُشاركه في كل خطوة.
– والآخرون؟
– يعملون للاستيلاء على فندقه وامرأته.
– أتعلم هي بنواياهم؟
– بكلِّ وضوح، وبكل قوة ترفُضها.
– وهل يعلَم الزوج؟
– بذكائه علِم، وبصراحة زوجته.
– ولِمَ أخبَرَتْه؟
– لتؤكد له طُهرها ولتُحيي حُبها في قلبه.
– ألَم يعُد يُحبها؟
– لا وقتَ عنده للحُب.
– ألم يعُد للتفكير في ماضيه المجهول؟
– لا وقتَ عنده لذلك، غير أنه قال لزوجته مرةً إنه ربما لو عادت إليه ذاكرته لوجد نفسه ابنًا لمليونير! ولكنها سخرت منه قائلةً إنه يحلم بالكنز مثل أبيها!
– متى — في تقديرك — يرجع للتفكير في أصله؟
– أي أصلٍ تقصد يا سيدي؟
– يا لك من أحمق!
– حسن يا سيدي، إن ذلك يتوقف على نجاحه في مهمته.
– لا نهاية لشيءٍ هناك.
فأمسك الرجل عن التفوُّه بكلمةٍ حتَّى قال الجالس: كن يقظًا وسجِّل كلَّ شيء.
– سمعًا وطاعةً يا سيدي.
٨
في الحديقة الصغيرة جلس الزوجان وقد تقدَّم بهما العمر على حينِ وقف أمامهما شابٌّ مفعمًا حياةً وقلقًا. وكان الشاب يقول: انزعجتُ جدًّا لدى قراءة رسالتك.
فقالت الزوجة: قدرتُ ذلك يا بني.
– أخذتُ أول طائرة.
فقال الزوج: كان عليَّ أن أستطلِع رأيك.
وقالت الزوجة: رغم عِلمنا بأنك عاكف على تحضير رسالتك.
فسأل الشاب: هل الأمر سيئ لهذا الحدِّ يا أبي؟
– هو ذلك يا بني.
وقالت الزوجة بنبرةٍ باكية: كان الجوع ضمن الأسباب التي أدَّت بأُختك إلى الوفاة.
– ولكن الفندق لا يخلو من زبائن.
– فقال الزوج: اضطُررنا إلى تخفيض إيجار الحجرة، لا يفي الربح بالضرورات، الأمور تسير من سيئٍ إلى أسوأ.
– والاحتياطي يا أبي؟
– استُهلِك في سدِّ نفقات المعيشة.
وتبادل الزوجان نظرةً سريعة غير أن الزوج خاطب ابنه قائلًا: في غمار ذلك النزاع الأليم فقدْنا أخوَيك العزيزَين.
فهتف الشاب: شدَّ ما حزنتُ عليهما!
– الكلاب يُضيِّقون علينا الخناق مُستعمِلين أخسَّ الوسائل وأقساها.
وقالت الزوجة بنبرتها الباكية: وذات يومٍ عثرنا على جثة أخيك عند سفح الجبل.
– وماذا كشف التحقيق يا أُمَّاه؟
– قُيدت القضية ضد مجهول.
وقال الزوج: وقد مات جدُّك حزنًا.
وقالت الزوجة: وقُتل أخوك الآخر وهو يُحاول الانتقام لأخيه.
– الويل للقتلة!
فقال الزوج: هكذا نحن مُحاصرون بالجوع والموت.
وقالت الزوجة: لذلك فكَّر أبوك في بيع الفندق والهجرة إلى مكانٍ آخر.
فهتف الشاب: لن يحدُث ذلك أبدًا.
– والحل يا بُني؟
– لا أُصدق أنكما قررتما ذلك، لعلكما تطرحان الفكرة للمناقشة!
– حتَّى لو صحَّ ذلك لَما تغيرت النتيجة.
– يلزمنا المزيد من الصبر.
– العمر يتقدَّم بنا كما ترى.
وقال الزوج: وعليك أن تعرف كل شيءٍ فقد ورَّطَنا النزاع في أعمال عُنفٍ لم تجرِ لنا على بال.
– أعمال عنف؟
– أجل يا بني، لم نعُد أبرياء في نظر القانون، لا أنا ولا أمك!
وقالت الزوجة: قد ينكشف أمرُنا في أي لحظة.
– يا للعنة!
– هذه هي حياتنا بكل مرارتها.
وقال الزوج: وسيدفعنا الإصرار على البقاء إلى مزيدٍ من الجرائم.
وتساءلت الزوجة: فما رأيك الآن يا بُني؟
نفخ الشاب، تريَّث قليلًا، ثم قال: عليَّ أن أُكاشِفكما بأخطر نبأ في حياتي.
– ما هو يا بني؟
– إذا صبرنا بضعَ سنواتٍ فسوف يُمكنني إعادة بناء الفندق بلا تكاليف تُذكَر.
– أنت؟!
– أجل، وذلك هو موضوع رسالتي.
– لعلَّه أمَل، مجرد أمَل؟!
– بل أكثر من ذلك؛ فقد كشفتُ عن حقائق مؤكدة.
– وإذا أخطأ تقديرك؟
– علينا أن نقبل المُغامرة بأيِّ ثمن.
فنظرتِ الزوجة إلى زوجها وقالت: هذا عامل جديد لم يَجرِ في تقديرنا.
فقال الزوج: ولكنه كالحلم.
فقال الشاب: بل إنه أنجع في إعادة بناء الفندق من أعمال العُنف نفسها.
– سنضطر إلى ارتكاب المزيد منها ونحن ننتظِرك.
– إذن فعلينا بالصبر وارتكاب المزيد من العُنف.
– إنك تُذكرنا بحماس أخويك.
– ولكني آمُل في نهايةٍ أخرى.
فقالت الأم: هذا عامل جديد لم يجرِ في تقديرنا.
فقال الأب: أرى أنكِ تَميلين إلى رأيه.
– لا أُنكر ذلك.
فقال الشاب بحماس: يجب أن أعود غدًا بالطيارة.
فقالت الأم: سافِر بالسلامة.
– سأُسافر غدًا.
– لتصحبْك السلامة وليُكتَب لك التوفيق.
٩
بقي الزوجان جنبًا إلى جنب وساد الصمت. وجعلت المرأة تختلِس النظر إلى الرجل حتَّى خرقت الصمت قائلةً: علينا أن نصبر كما وعدناه.
فهزَّ رأسه بالإيجاب دون أن ينبس فعادت المرأة تقول: علينا أن نصبر كما وعدناه.
– أنت مُتحمسة لرسالته التي لا تعرفين عنها شيئًا.
– ولكني أعرفه وأومِن به.
– حسنٌ.
– ولكنك مُتردِّد فيما يبدو لي.
– خانتك الفراسة.
– لا أحد يعرفك كما أعرفك.
– هكذا كل زوجَين أمينَين.
– لا تسخر يا رجل.
– ولكني جادٌّ جدًّا.
– أنت مُتردِّد.
– لا عيب في ذلك إذا أُخِذ بمعنى التفكير.
– وتُضمِر غير ما تظهر.
– ماذا تعنين يا امرأة؟
– قلتُ إن الاحتياطي استُهلك في سدِّ نفقات المعيشة؟
– قلتُ ذلك حقًّا.
– ولكنه لم ينفد بعد!
– لم يبقَ منه ما ينفع لشيء.
– قد ينفع مَن يُفكر في الفرار!
– ماذا تعنين؟
– أنت تُدرك ما أعني.
– إني أفكر في شيءٍ واحد هو سلامة الأسرة.
– سلامة الأسرة جزء لا يتجزأ من سلامة الفندق.
– تحت هذا الشعار ضحيتُ بما ضحيتُ.
– وعليك أن تستوصي بالمزيد من الصبر.
– المزيد من الصبر.
– ولكنك تُضمر أمرًا آخر!
– أي أمرٍ يا امرأة؟
– لعلَّه الهرَب.
– الهرب؟!
– إني أستنتج مستقبلك من مقدمات ماضيك.
فسأل وهو يضحك: هل سبق لي الهرب؟
– نعم.
– جميل أن نضحك في غمرة هذا الغبار الدامي.
– من أين لي بالضحك!
– إذن فخير ما نفعله أن نُغيِّر الموضوع.
فرمته بنظرةٍ قاسية وقالت: يبدو أنه آن لي أن أُصارحك.
– بماذا؟
– دفاعًا عن أُسرتك، دفاعًا عن نفسك، سأُصارحك بما كتمتُه طيلة السنين.
– ألديكِ سرٌّ لم أعرفه؟
– بلى.
– وما هو يا تُرى؟
فقالت بهدوء رهيب: ماضيك المجهول.
فاشتعل اهتمامًا مُباغتًا وتساءل: ماضيَّ المجهول؟
– الذي نَسِيتَه، أو الذي تُصرُّ على أن تنساه.
– ماذا تعنين؟
– أنت تجهل ماضيك كما تجهل شخصك الحقيقي.
– ذاك تاريخ مشهور.
– ولكني أعرفه.
– أنتِ؟!
– كما كان أبي يعرفه!
– أأنتِ جادة؟
– كلَّ الجد.
– مُنذ متى؟
– منذ وجدناك في هذه الحديقة.
– يا له من عبث.
– بل هو الجد كل الجد.
– أتتوقَّعين أن أُصدقك؟
– أقسِم لك بروح ابني.
فهتف فيما يُشبه الفزع: ربَّاه!
– أجل.
– انتشليني من هذه الغيبوبة.
– سأفعل حتَّى لا تقع في الخطأ مرةً أخرى.
– مَن أنا؟
– أنت زوجي.
– إني أسألك مَن كنت؟
– كنتَ زوجي أيضًا قبل أن تفقد ذاكرتك.
نظر إليها بذهولٍ فقالت: كنتَ قبل ذلك ربيب أبي، وجدَكَ غلامًا ضالًا.
ظلَّ ينظر إليها بذهولٍ فقالت: ولم تكن لك فكرة عن والدَيك فربَّاك وشغَّلك في الفندق ثم تزوَّجنا.
ما لبث ينظر إليها ذاهلًا فقالت: وذات يومٍ سَرقتَ الخزانة وهربت مع راقصة.
– ماذا تقولين؟
– تذكَّر، تذكَّر، سَرقت الخزانة وهربتَ مع راقصة.
– رأسي يدور.
– وكنتَ كما تكون اليوم مزيجًا من التمرُّد والتمرُّد على التمرُّد فعذبتَها — الراقصة — بالقدْر الذي أردتَ أن تُعذِّب به نفسك.
– ربَّاه .. أي عالَم هذا!
– فاضطُرَّت هي إلى الهرَب وسرعان ما فقدتَ ذاكرتك.
– آه.
– وراقبك أبي من بعيدٍ ولم يُبلِّغ الشرطة عنك حتَّى رأيناك يومًا قادمًا.
– آه.
– ساقتك قدماك أو ضميرك إلى ضحاياك.
– أي حلم مُفزع!
– ما حدث بعد ذلك فأنت تذكُره.
– أجل، ولعبتُم معي تمثيلية مُتقنة!
آثرنا أن ننسى الماضي معك، حتَّى ذكَّرني تردُّدك بحالك قديمًا قُبيل الهرَب.
– أغمض عينَيه إعياءً فقالت بحزم: علينا أن نصبر كما وعدناه.
١٠
في شرفة الفيلَّا — فوق الجبل — وفي ظلام دامس جلس الشبح فوق الكرسي الهزاز ومثُل الآخر بين يدَيه. وسأل الشبح الجالس: ماذا وراءك؟
– الأسرة تُكافح في صبرٍ وعناء وعناد لا يعرف الهوادة.
– وما الجديد من أنباء الصراع؟
– العُنف يتراكم كالجبال.
– وكيف حال صاحبنا؟
– عرف — فيما يعتقد — ذاته وتعلم من ذلك درسًا لا يُنسى.
– وذاته الأولى ألا يُفكر فيها؟
– لا وقتَ لدَيه لذلك.
– أليس ثمة أمَل في يقظةٍ غير مُتوقعة؟
– لا أستبعِد حدوث معجزةٍ إذا تحقَّقت آمالُه في البناء.
فتفكر الشبح الجالس مليًّا ثم قال: دعْه وشأنه.
فقال الشبح الماثل بين يدَيه: سمعًا وطاعةً يا سيدي.