عنبر لولو
قام الكشك في الوسط من طرف الحديقة الجنوبي. كشك مصنوع من جذوع الأشجار على هيئة هرَم تكتنِفه أغصان الياسمين. وقف في وسطه كهلٌ أبيض الشعر نَحيل القامة ما زال يجري في صفحة وجهه بقيَّةٌ من حيوية. جعل ينظر في ساعة يدِه ويمدُّ بصرَه إلى الحديقة المُترامية مستقبِلًا شعاعًا ذهبيًّا من الشمس المائلة فوق النيل نفذَ إلى باطن الكوخ من ثغرةٍ انحسرت عنها أوراق الياسمين. ولاحت الفتاة وهي تتَّجِه نحو الكشك سائرةً على فسيفساء المَمشى الرئيسي. أحنَتْ هامتها قليلًا وهي تمرُق من مدخل الكشك القصير، ومضت نحو الكهل بوجهها الأسمر وعينَيها الخضراوَين. تصافحا. ثم قالت بصوتٍ ناعم وبنبرة اعتذار: إني خَجِلة!
فقال الكهل برقَّة: يسرُّني أن ألقاك.
– لا يحقُّ لي أن أنهب وقتك.
– لا يُعَد ضائعًا وقتٌ نمنحه لعلاقةٍ إنسانية.
– شكرًا لطيبة قلبك.
أشار إلى الأريكة داعيًا إيَّاها للجلوس فجلست ثم جلس وقالت: لم تُسعفني الجرأة على طلَب مُقابلتك إلا لأني في مسيس الحاجة إلى رأيٍ حكيم.
– كل إنسان عُرضة لذلك، غير أن مَن يراكِ في الإدارة لا يتصوَّر أنكِ تحمِلين همًّا!
– دعك من المظاهر!
فهزَّ رأسه موافقًا فواصَلَت: وتساءلتُ طويلًا إلى مَن يحسُن بي أن ألجأ، حتَّى هداني التفكير إليك.
– أستغفِر الله.
وتريَّثَت لحظاتٍ ثم قالت: إنك لا تعرفني إلا كزميلةٍ في إدارة السكرتارية.
– بلى.
– فعليَّ أن أُقدِّم لك نفسي الحقيقية.
– أهلًا بها.
– هي نفسٌ مَقضيٌّ عليها بالسجن المؤبَّد في شقاءٍ دائم.
– أرجو أن تتكشَّف بعد تبادُل الرأي عن مُغالاةٍ عاطفية.
– بل هي حقيقة واقعية.
تجلَّى الاهتمام في عينَيه وهو يقول: إني مُصغٍ إليك.
فقالت وهي تتنهَّد: حسبي أن أعرض عليك الفصل الأخير من المأساة.
فتجلَّى الاهتمام بصورةٍ أوضح.
– إني يتيمة الأبوين، لي إخوة ثلاثة صغار، نُقيم في بيت زوج المرحومة أُمِّنا.
– وضع مُعقَّد.
– وأبعد ما يكون عن الراحة.
– لا يُمكن إنكار ذلك.
– وهو رجل عنيد مُتعجرف.
– زوج المرحومة؟
– دون غيره.
– أهو عجوز مِثلي؟
– بل أكبر، وهو لا يُحبُّنا!
– هل أنجب لكم إخوة؟
– كلَّا، إنه عقيم!
– ذلك مَدعاة لحُب الأطفال.
– ولكنه شاذٌّ، وقد أفهمني عقب وفاة والدتي بأنني المسئولة وحدي عن إخوتي.
وساد الصمت مليًّا حتَّى استطردَت قائلة: لعلَّه بقراره لم يُجاوز العقل!
– بلى ولكنه جاوز الرحمة.
– على أي حالٍ أنا لا أطمع في رحمته!
– مفهوم.
– وهو يمنُّ علينا بالمأوى وببعض المساعدات وإن يكن يحتسبها ديونًا مؤجلة.
هزَّ الكهل رأسَه دون أن ينبس فقالت مُتنهِّدة: لعلك تخيَّلت الصورة التي أعيش في إطارها، والحق أني لا أملك النقود اللازمة لملابس فتاة موظفة.
– وشابَّة في عزِّ شبابها!
– هكذا تمضي الأيام في قسوةٍ ومرارة، تحت رعايةٍ عنيفة لا تعرِف الرحمة، بلا أمل، أي أمَل في غدٍ أفضل!
فقال الكهل كالمُحتج: لا يجوز أن ننظُر إلى الحياة بهذه العين.
– ولو كانت بالحال التي ذكرتُ؟
– ولو كانت!
ثم تساءل وكأنه يُناجي نفسه: مَن ذا يقطع بما يُخبئه الغد؟!
فرفعت منكبَيها زهدًا في مناقشة فِكرته وقالت وهي تتنهَّد: وإذا بي أشعر بزحف الزمن، من خلال حياة التقشُّف والمرارة أخذَ الزمن يُطاردني.
– ولكنكِ ما زلتِ في مطلع الشباب!
– إني في الرابعة والعشرين من عمري.
– عزُّ الشباب!
– ولكنَّه في مثل حالتي يُعَد مرحلةً من الشيخوخة.
– لا داعي للمُبالغة، إن وضعك ليس الوحيد من نوعه في بلادنا، ما أكثر أشباهه وإن اختلفت الظروف والأسباب.
فرمته بنظرةٍ غامضة وقالت: ولكني لم أُحدِّثك بعد عن المشكلة الحقيقية!
– الحقيقية؟!
– التي تتحدَّاني في اليقظة والمنام!
– غير ما سبق ذكره؟
– ما حدَّثتُك عنه حال يمكن اعتيادها كما يعتاد المريض مرضه المزمن.
فرفع الكهل حاجِبَيه متسائلًا فقالت: أصبحتُ أشعر بشبابي لا كفترةٍ من العمر تتسرَّب في ضياع، ولكن كقوةٍ دافقة، قوة قاهرة، كهِبَة مُقدَّسة، وحقٍّ إلهي!
نظر الكهل في بريق عينَيها الخضراوَين كالمأخوذ فقالت بنشوةٍ وحماس: كم تُنازعني نفسي إلى أشياء وأشياء، إلى كل شيء، إلى الوجود كله!
ثم وهي تخفض عينَيها وبنبرةٍ مُعتصِرة بالحسرة والحزن: أودُّ أن أرقُص وأُغنِّي وأمرح!
اختبأ الكهل في صمته وهو يُطبق شفتَيه مُتفكرًا. ولمَّا طال انتظارها قالت: لعلِّي دهمتُك بصراحتي!
فأصرَّ على الاختفاء فقالت: لم تتوقَّع ذلك، أصبحت الأكاذيب وجباتٍ يومية متكررة، ولكن ما جدوى هذا اللقاء إذا لم أُكاشفك بدخيلة نفسي؟!
فتمتم الرجل بحذَر: صراحتُك مشكورة!
– كان عليَّ أن أعلن ما في نفسي أو أُجَنُّ، ولكن كان عليَّ أيضًا أن أختار الرجل المناسب، وكنتَ تخطُر على بالي دائمًا، رجل وقور ومحبوب وذو سمعة طيبة، له تاريخ مجيد قضى عليه بأن يكون ضحيةً فتعلَّقَت به قلوب الضحايا!
– أشكر لك إنسانِيَّتَك ولُطفك.
– لا أُنكر أن لي صديقتَين حميمتَين في المصلحة، ولكني لم أُفِد من رأيهما ما يُذكَر!
– هل كاشفتِهما بما كاشفتِني به؟
– كلَّا ولكني سألتُهما الرأي في مناسباتٍ حادة وخطيرة!
– بِمَ نصحتاك؟
– بدت لي إحداهما أبعد ما تكون عن الرحمة!
– زيديني إيضاحًا.
– ليس الآن مَوضعه.
– والأخرى؟
– إنها غاية في الغرابة، قالت لي: إن مشكلتي عامة وإن بدت خاصة، وأنها لا تُحَلُّ بالحلول الفردية، وأن علينا أن نُغيِّر تفكيرنا من جذوره لنُحقق تغييرًا عامًّا وشاملًا.
فابتسم قائلًا: ليس رأيها بالجديد على مسمعي، ولكن كيف كانت استجابتك لها؟
– لم يستمرَّ ما بيني وبينها طويلًا بعد ذلك فقد أُلقي القبض عليها فجأةً.
– عرفتُ المعنيةَ بحديثك، أليس هي زميلتنا السابقة بالحسابات؟
– بلى، وهكذا لم أجِد أحدًا سواك.
فقال بلهجةٍ أبوية: إنك تنظُرين إلى الأمور بمنظارٍ أسود، ونسيتِ أنكِ قد تُرزقين بابن الحلال غدًا أو بعد غدٍ!
– أبناء الحلال مُتوفِّرون.
– ألم يقع اختيارُك على أحدهم؟
– كلَّا، إنهم موظفون شبَّان في مستوًى مادي لا يختلف عن مستواي، وقبول يدِ أحدِهم يعني التخلِّي عن إخوتي، ودعنا من تكاليف الزواج ومشاكلها!
فقال الكهل بإصرار: عسى أن يَجيء عريس غني يقوم بكافة التكاليف ويسمح بالنزول عن مرتبك لإخوتك!
– هذا حلم وليس عريسًا!
– الأحلام تُوجَد كما تُوجَد الحقائق.
– أرفض أن أقيم ميزان حياتي على الأحلام، إني أعيش في جفافٍ قاتل وبلا أمل، ونفسي تتحرَّق إلى الحياة والسعادة، وفي كلمةٍ، أودُّ من أعماقي أن أرقُص وأُغني وأمرح.
رجع الكهل إلى حيرته وصمته فقالت بوضوح: هذه هي مشكلتي الحقيقية!
ولما وجدَتْه مُصرًّا على الصمت عادت تقول: يُسعدني أني وجدتُ أخيرًا الشجاعة لمُصارحتك بها!
فجعل يُغمغم بكلماتٍ مُبهمة؛ فقالت باسمة: وطبيعي أن أنتظر منك شيئًا غير الصمت!
فجمع عزمه وقال: إني بطبعي وتاريخي أرفض التسليم بوجود طرُقٍ مسدودة!
– ولكنَّ طريقي مسدودة!
– ما تزال.
– أرجو أن تعتبرها كذلك إكرامًا لي، أنا لم ألجأ إليك إلا مُطارَدةً بسياط الجزَع، وبعد كُفر بالأحلام والخوارق!
فقال بوضوح: لا رأيَ عندي دون مُراعاة كاملة للكرامة!
– الكرامة؟
– أعني السلوك الخليق بفتاةٍ مُحترمة.
فقالت بتحدٍّ: لقد جئتُك وأنا على عِلم غزير بالنصائح التقليدية!
– طيب، هل تتوقَّعين لديَّ رأيًا آخر؟
– نعم!
– أن أُسوِّغ لك السقوط؟
– نعم!
فتساءل الكهل بذهول: ألم تَجيئيني مدفوعةً بما ذكرتِ عن تاريخي وحُسن سُمعتي؟
– بلى!
– وتصوَّرتِ بعد ذلك أن أُبارك سقوطك؟
– نعم!
فضحك الكهل على رغمه وقال: الحق أني لا أفهمك.
– ولكنني واضحة كضوء الشمس!
– الرقص والغناء والمرح؟
– نعم!
– خبِّريني عما تتوقَّعين منِّي؟
– أن تُصرِّح لي بأن النَّهل من متعة الحياة ليس سقوطًا!
– ولكنَّه ينقلب كذلك أردْنا أم لم نُرِد!
– وإذن فما عليَّ إلا أن أصبر حتَّى أذوي وأذبل وأموت!
– بل حتَّى تُفرَج.
– كلام لن يُكلفك شيئًا ولكنَّه سيُكلفني حياتي.
فقال متحايلًا للهروب من حدَّة الموقف: حدِّثيني عن رأي صديقتك الأخرى، أعني التي لم تُعتقَل؟
– كان الحديث لمناسبة تقدُّم شاب لخطبتي، فطالبتني بأن أَقبَلَه دون تردُّدٍ، وأما عن إخوتي فقد قالت: إنه ليس من حقِّ أحدٍ أن يُضحي بحياة آخر في هذه الدنيا قصيرة لأجل!
فهزَّ الكهل رأسه في حيرةٍ صامتًا فقالت: ولكنِّي أرفض التضحية بإخوتي!
– يا لكِ من فتاةٍ نبيلة!
– ولكن من حقِّي أن أُحبَّ الحياة، وأن أستمتع بهذا الحُب.
– إذا فقدْنا الكرامة فإنَّه لا يَطيب لنا شيء.
– مَن الذي خلق الكرامة؟
– خلقتها السماء كما خلقتها الأرض.
– ألم تسمع عمَّا يُقال عن الفتاة الأوروبيَّة؟
– إنَّها تنتمي إلى حياةٍ أخرى في أوروبا، ولستُ أملك المعرفة الكافية للحُكم عليها.
– ولكنها أثبتت لنا أنه من المُمكن الاستهانة بالتقاليد الموروثة دون التضحية بقِيَم إنسانية باهرة!
– قلتُ إني لا أملك الحُكم عليها.
– هل تهرُب من مواجهة الحقيقة؟
– بل أتكلَّم بما أعلم.
– أخشى أن تَعُدَّني مسئوليةً ثقيلة اعترضت طريقك الهادئ؟
– بل أودُّ مساعدتك بكل قلبي.
فقالت برجاء: إذن قدِّم لي نصيحةً مُبتكرة.
– مبتكرة!
– أجل، لم أعُد أومِن بالماضي، لقد ورثتُ تعاستي عن الماضي، لذلك أكرَه كل ما يمتُّ إليه بِصِلَةٍ، هبْني نصيحةً مبتكرة ولو هزئت في النهاية بما سمَّيتَه بالكرامة!
– ولكنِّي صارحتُكِ بما أومِن به.
– إنك رجل غير عادي، لا بدَّ أن تنبع منك أفكار مُبتكرة، أفكار لا تَستمِدُّ سدادها من قول سلفٍ أو من عادةٍ أُثِرَت.
– مِن حقي، ومن واجبي، أن أكون مُخلصًا لطبعي أبدًا.
فقالت وهي تنظر في عينَيه بجرأة: أحيانًا يُخيَّل إليَّ أن شرًّا عصريًّا أفضل من خير بالٍ!
– أي ثورة تنطوي عليها جوانحك الرقيقة الجميلة!
– الحياة توشك أن تفلتَ من بين أصابعي تحت شعاراتٍ مُتهرِّئة تُردِّدها ألسنة مُحتضِرة.
– هذه انعكاسات أزمةٍ كفرَتْ بحكمة الصبر.
– صدقني فإن حياتنا وقفٌ قديم مُتهدِّم تتحكَّم فيه وصايا الأموات.
– كل ذلك لأنك تَودِّين أن ترقُصي وتُغني وتمرحي؟
– لأني أودُّ أن أعيش حياتي.
– وربما تودِّين غدًا أن تقتلي الأنفس وتشعلي الحرائق وتهدمي الجدران؟
فضحكت قائلةً في حبور: أودُّ حقًّا أن أقتُل زوج أُمي، وأن أحرق مَن يتطاول على رميي بالسقوط، وأن أهدم جدران الإدارة!
ابتسم الكهل وهو يرمقها بحنانٍ أبوي وقال: لعلَّه الحُب؟
– هه؟
– لعلَّه حبٌّ يائس الذي أضرم فيك نار الثورة!
– لا يُوجَد حُب مُعيَّن الآن، أحببتُ مراتٍ وخاب الحُب مرات، أما الآن فأنا أُحب الحُب وحدَه!
– لا شكَّ أن للحُب عندكِ قصة!
هزَّت منكبيها في استهانة وقالت: أنت تعرف حُب المراهقة ومصيره المحتوم .. ذاك واحد، وحلمت يومًا بحُب مُمثل، وكان كلما تقدَّم لي خاطب أبدي قلبي استعدادًا طيبًا للحُب لا يلبث أن يذهب بذهابه.
– لا قصة حُب الآن؟
– أكبر قصة حُب، حُب الحب نفسه!
وتبادلا نظرةً طويلة. ثم سألته: بِمَ تنصحني يا سيدي النبيل؟
فقال باسمًا: أنصحك بالرقص والغناء والمرح والقتل والتحريق والهدم.
– أتسخر منِّي يا سيدي؟
– معاذ الله، بل إنَّك تُغرينني بالتعلُّق بك!
– حقًّا؟
– ما أكثر أوجه الشبَه بيننا!
– فيمَ؟
– في التعاسة على الأقل!
فقالت باستطلاع: لقد سمعتُ عنك الكثير.
فلاحت في عينَيه نظرة حالِمة وقال: كنتُ يومًا ذا شبابٍ يافع ومُستقبل مرموق.
ثم وهو يبتسم: وذات يوم قررتُ الانضمام إلى الجموع الثائرة.
وسكت لحظة ثم تمتم: ولم أكتفِ بذلك فجازفتُ بالعمل في السراديب.
ثم واصل وهو يضحك ضحكةً موجزة: ثم قضيتُ من حياتي خمسةً وعشرين عامًا في السجن.
– أول ما لفتني إليكَ حديث بعض الزملاء في المصلحة عندما أشاروا إليك وقالوا هذا الرجل بطل من أبطالنا القُدامى!
– وقد خرج البطل من السجن بعد أن جاوز الخمسين، وبعطفٍ من البعض أُلحِقت بالوظيفة، بمرتَّب مُبتدئ، وعمَّا قليل سأترك الخدمة دون أن أستحقَّ معاشًا، وقد فاتني الحُب والزواج والأسرة، وإن امتدَّ بي العمر فلا مَفرَّ من التشرُّد والجوع.
– يا للبطولة!
– لذلك قلتُ إن بيننا أوجه شبه.
– ولكنك بطل!
– لا يَذكُرني اليوم أحد!
ترامت إليهما في الكشك ضحكات هامسة وهي تقترب. مرق إلى الداخل فتاةٌ وشابٌّ سرعان ما تبادلا عناقًا حارًّا. أسلمت الفتاة رأسها إلى كتف الشاب وأغمضت عينَيها. قلَّبَت رأسها، ولما فتحت عينيها وقع بصرُها على الكهل والفتاة السمراء ذات العينَين الخضراوين. ابتسمت بلا ارتباكٍ يُذكر ثم سحبت فتاها من يدِه وغادرا الكشك. ضحكت السمراء وابتسم الكهل. وسألته: لمَ اخترت هذه الحديقة مكانًا للقائنا؟
– كنتُ أتردَّد عليها في الزمان الأول.
– لا علم لك بما يدور فيها اليوم؟
– كلَّا، كنا نتَّخذها أحيانًا مخبأ ننقضُّ منه على أعدائنا.
فقامت برشاقةٍ آخِذة إيَّاه من ذراعه، فمضت به إلى جدار الكشك. مدَّت بصرَها من الثغرات بين أوراق الياسمين داعيةً إيَّاه إلى النظر. نظرا معًا وهما شِبه مُتلاصقَين حتَّى فغر الكهل فاه. وهمست في أذنه: انظر إلى الحديقة!
ثم وهي تكتم ضحكة: كم أنها مُرصَّعة بالعشاق!
– فوق ما يتصوَّر العقل.
– العقل يستطيع أن يتصوَّر كل شيءٍ لو تخلَّت عنه القبضة الخانقة.
فقال في انفعالٍ ظاهر: انظري إلى هذه الفاجرة!
– يا لها من سكرى بالحُب!
– أهذه حديقة عامة؟
– لا عيب فيها إلا أنها تُشبه الجنة.
– إنها في عمر الورد!
– الحديقة؟
– الفاجرة!
– يُخيَّل إليَّ أنه لا زوجَ أُمٍّ يُرهِبها ولا سجن يُهددها!
رجع الرجل إلى مجلسه وهو يلهث. تراجعت الفتاة إلى وسط الكشك. وقفت كأنما تستعرض جسمها الرشيق.
دارت حول نفسها مرَّتَين كأنما تشرع في الرقص. سألها وهو لا يتمالك نفسه: لِمَ وقع اختيارك عليَّ بالذات؟
– لأنك الرجل الذي قضى زهرة عمره في السجن.
– كيف ظننتِ أنكِ واجدةً رأيًا جنونيًّا عند رجلٍ مثلي؟!
– تخيلتُ أنه لن ينتشلني من الموت إلا رجل كان الموت لعبتَه!
– يا له من مزاح!
– قلتُ لنفسي سأجد عنده رأيًا جديرًا ببطل!
فتردَّد قليلًا ثم سألها: ألم تخشي أن أغازلك؟
– ليس ثمة ما أخشاه في ذلك!
هزَّ الكهل رأسه مغلوبًا على أمره فعادت إلى مجلسها إلى جانبه وهي تسأله: أليس في حياتك جانب لهو؟
فأجاب دون اكتراث: أقرأ بانتظام، وأذهب إلى السينما بين حينٍ وآخر.
– تعيش وحدك؟
– نعم، لا أقارِب لي في القاهرة.
– ولا أصدقاء لك؟
– منهم مَن قُتِل في الثورة ومنهم مَن تبوَّأ يومًا الوزارة فبَعُد ما بيني وبينه.
– والنساء، أليس في حياتك نساء؟
– ولَّى موسمهنَّ في عمري.
ففكَّرت قليلًا وقالت: أودُّ أن أعترف لك بسر!
في تلك اللحظة ترامى إلى سمعَيهما صوت رصاصٍ ينطلق بقوة وغزارة. فبُهِت الرجل وارتجفت الفتاة. تساءلت: ما هذا؟
– رصاص من بندقية سريعة الطلقات.
– كيف؟ .. لمَ؟
– لا أدري.
– غارة؟!
– ولكن صفارة الإنذار لم تنطلِق، لعلَّه تَمرين.
وسكت الضرب. لبثا يُرهفان السمع ولم يُزايلهما القلق. تساءلت: هل يعود؟
– لا علم لي.
– هل تُستأنف الحرب؟
– مَن يدري؟!
– الكلام عن ذلك لا ينقطع.
– وهو ينتهي حيث يبدأ.
– أتفكِّر في ذلك كثيرًا؟
– إنَّه ظِلُّنا ومصيرنا.
وفصل الصمت بينهما طويلًا. حتَّى قال: إن الرصاص يُحرك غرائز في أعماقي، لقد زلزل كياني في هذه اللحظة القصيرة.
– يؤسِفني أنني كدرتُ صفوك.
– لنعُد إلى ما كنا فيه، أكنتِ تتحدَّثين عن سرٍّ؟!
فابتسمت قائلة: أجل .. هناك سرٌّ.
فرمقها بنظرةٍ مُستطلعة فقالت: ثمة رجل في حياتي.
– حقًّا؟
– شابٌّ غني من طنطا!
– ها هو الحلم يتحقق.
– كلَّا، إنه مُتزوج.
– ما مهنته؟
– تاجر.
– أتقبلين أن تكوني الزوجة الثانية؟
– لكنه يمقت فكرة تعدُّد الزوجات.
– هل سيُطلِّق زوجته؟
– ويمقت فكرة الطلاق.
– وماذا يريد إذن؟
– إنه يُحبني!
– كذَّاب!
– أعتقد أنه صادق.
– هل .. هل؟
– تقابلنا في مشرب شايٍ مرتَين.
– ماذا يريد؟
– يريد أن أقابله مرة ثالثة.
– لا كرامة في ذلك.
– رجعنا إلى الكرامة!
– واضح أنه يُريد العبث بكِ.
– أو أن أعبث به!
– كُوني بريئةً بقدْر ما أنت صغيرة.
– وحدَّثني عرضًا عن شقةٍ يملكها في الهرم!
– الداعر!
– لم أقطع برأيٍ بعد.
فهتف بحدَّة: الرقص والغناء والمرح.
– لا أُحب لك أن تغضب.
ومالت نحوه فلثمت جبينَه. وجعل ينظر إليها باهتمامٍ وتوقُّد. سألته برجاء: ألا تُريد أن تمنَّ عليَّ برأي؟
– عليكِ أن تصبري حتَّى يجيء الفرج كما أن عليَّ أن أصبر حتَّى يجيء الموت!
فقامت وهي تقول: شكرًا، وإذن فيجب أن أذهب.
هتف باستنكار: تذهبين!
– لم أجئ لأقيم هنا.
– أنتِ ذاهبة إلى الشاب الغني من طنطا.
– كلَّا، ليس موعده اليوم.
– لا يمكن أن تذهبي.
– آن لي أن أذهب.
قام إلى جدار الكشك ورمى ببصره إلى الخارج ثم قال بعصبية: الحُب لا يتوقَّف لحظة واحدة.
– مَتِّع بصرَك.
تحوَّل إليها وهو يقول بانفعال: كأنكِ ابنتي!
ومال نحوَها فلثم جبينها وهو يقول: لا تذهبي إلى مشرب الشاي.
– ليس اليوم.
– إنه يريد عشيقة!
– لم يُصرح بذلك.
– أنت ساذجة؟ أنت ماكرة؟ .. ما أنت؟
– أنا مُصممة.
– أنت جميلة، أنت فاتنة، اصبري.
– يجب أن أذهب.
– إنه يرفض أن يُطلِّق، ويرفض أن يتزوَّج زوجة ثانية، لماذا؟ لعلَّ زوجته غنية، لعلَّها رأسماله الحقيقي، وغير بعيد أن تكون أكبر منه سنًّا، لذلك جهز شقةً للعبث، يجيء إلى القاهرة باسم التجارة ليُمارس الدعارة، هذه هي الحقيقة.
– أشكرك، ولكن آنَ لي أن أذهب.
قبض على يدِها، ثم على ساعدها، وقال وهو يزداد انفعالًا: لن تذهبي.
ابتسمت قائلةً: لقد تأثَّرتَ لحالي أكثر مما يجوز.
– لا حدود لما يجوز في ذلك.
– شدَّ ما أزعجتُك.
– أكثر من سبب يشدُّ أحدنا إلى الآخر.
– ولكن الوقت يسرقنا وزوج أمي رجل شرس.
– فلنسحق رأسه ولكن لا تذهبي إلى الشاب الغني من طنطا.
– إني راجعة إلى البيت.
ففرقع بأصابعه وقال: جاءتني فكرة طيبة.
– فكرة؟
– إنك مشغوفة بالحياة، ولا خوف عليك من كهلٍ مِثلي، فلنذهب سويًّا إلى عنبر لولو.
– عنبر لولو؟
– حديقة في صحراء سقارة، في المركز منها بركة مُترامية من ماء الورد، وتنتشر بها المقاصير المُغطاة بالأزهار، وشعارها غير المكتوب افعل ما تشاء.
فاتسعت عيناها دهشةً وقالت: أنت تدعوني إلى ذلك؟
– مع آمن رفيق!
– لا أُصدِّق!
– لا يعزُّ شيء على التصديق.
– ولكن .. ولكن ليس الوقت مناسبًا.
– كل وقت فهو مناسب لزيارة عنبر لولو!
– لم أسمع بها من قبل.
– إنَّها جنَّة الأحلام، كل حلمٍ فهو واقع في عنبر لولو.
– إنك تتكلم بصوتٍ جديد، وعيناك تنطقان بمعانٍ جديدة.
جذبها من يدِها إلى جدار الكشك فنظر من الثغرات داعيًا إياها إلى النظر وقال محمومًا: انظري، جميع هؤلاء حمقى لأنهم لم يعرفوا الطريق إلى عنبر لولو.
– تلك الحدائق النائية عُرضة للخطر!
– إنها ترقُد في حضن الأمان وآي ذلك أنه لا يُوجَد بها شرطي واحد!
– وماذا نفعل هناك؟
– كما تهوين، لا أحد يرى الآخر في عنبر لولو.
– انظر إلى هذه الفتاة الفاجرة!
– إنها فاجرة لأنها تلهو بعيدًا عن عنبر لولو.
– إنك تخيفني!
– لا ظِلَّ للخوف في عنبر لولو.
تراجعت عن الجدار فلحِق بها في نشاطٍ غير معهود وهو يشدُّ على يدِها. وتساءل: ألم تجيئي لتسمعي نصيحةً من كهل؟
– إني أمقُت النصائح!
– اذهبي معي إلى عنبر لولو.
– ربَّاه .. إني أتراجع، لعل حديثك الحكيم أثَّر فيَّ أكثر مما توقَّعت!
– حديث عنبر لولو؟
– حديث الصبر والكرامة!
– إنك لا تؤمنين بالألفاظ الصفراء.
– ولكنَّك تؤمن بها؟
– إن ربع قرن في السجن خليق بأن يُخلَّ الميزان.
– إنك تُخيفني.
– كلَّا، ولكنها حيلة نسائية بالية!
– اهدأ، فلنجلس، أودُّ أن أعترِف بسرٍّ جديد.
– اعتراف آخر؟!
عاد إلى مجلسهما وهو يلهث. وقبل أن تفتح فاها تدافعت أقدام مهرولة تندُّ بين وقعها ضحكات شابة مُتوثبة. اندفعت إلى الداخل فتاة يُطاردها شاب. لمحا وجود الكهل والفتاة ولكنهما لم يُلقِيا إلى ذلك بالًا. مضت تحاوره وهو يتحيَّن غفلة للانقضاض عليها. وفجأةً وثبت الفتاة فوق الأريكة الوحيدة التي يستقرُّ عليها الكهل وصاحِبته وتخطَّت الرجل فاختفى لحظةً بين ساقيها ثم قفزت إلى الباب، ومنه إلى الحديقة والشاب في أثرها. سوَّى الكهل هندامه وتمتم كأنما يُناجي نفسه: ما أجمل أن يذهبا إلى عنبر لولو!
ثم قال لفتاته بضيق: نحن نُضيع وقتًا ثمينًا لا يُعوَّض!
فقالت تُذكِّره: ولكن ثمة اعتراف جديد!
– لا قيمة الآن لأي اعتراف!
– أودُّ أن أعترف لك بأن حكاية الشاب الغني من طنطا مُختلَقةٌ من جذورها ولا أساس لها في الواقع!
– حقَّا؟
– بالصدق أعترف لك.
– ذاك يُعقِّد الأمور ولا يُبسِّطُها!
– وعليَّ أن أذهب الآن.
– كلَّا، لن تذهبي.
– لا شيء يدعونا للبقاء.
– بل علينا أن نفهم الأسباب التي دعتك إلى اختراع الحكاية.
– لا أهمية لذلك ألبتة.
– كلام غير علمي، فالحلم له أسبابه كالواقع سواءً بسواء.
– أُكرِّر، لا أهمية لذلك.
فهزَّ رأسه مُفكرًا وقال باهتمام: دعيني أفكِّر.
ومسح على جبينه واستطرد: شاب .. تاجر .. غني .. من طنطا .. شقة خاصة في الهرم.
– كدتُ أنسى تلك التفاصيل.
– لا يمكن أن تنسي.
– أنت ظريف ولكنَّك عنيد.
– أصغي إليَّ، شاب، تخيلته شابًّا، الشباب رمز الجنون بحُب الحياة، وأنت تهيمين بحبِّ الحياة لحدِّ الجنون.
– لكني تغيرت.
– كذبٌ، لم يمرَّ وقت يسمح بالتغيير.
– يُخيل إليَّ أني عاشرتك في هذا الكشك عمرًا.
– أصغي إليَّ يا عزيزتي، .. تاجر .. ما معنى تاجر؟ إنه نقيض الموظف، الموظف رمز الروتين، التاجر رمز الحركة، الموظف ظل الأخلاق التقليدية، التاجر ظل الانطلاق واللاأخلاقية.
فتساءلت ضاحكة: أتراني حلمت بقرصان؟
– وأكثر يا عزيزتي، إنك تدعيننا للإيمان بإبليس كما آمن إبليس بنفسه، إنك تنبذين آدم مخلوق الخطيئة والاستغفار، وتعشقين إبليس مخلوق الإبداع والكبرياء، إنك تُعيدِين للنار كرامتها حيال التراب.
– سامحك الله .. أنت خفيف الروح.
– وما معنى غني؟ الغني هو الذي يملك المال والقوة، ولكننا لم نعُد في عصر الأغنياء، أيُّ غني اليوم إنما هو كاللص الذي لم يُهتَد إلى أثره بعد، ستُطبق عليه يد العدالة في المساء أو عند منتصف الليل، فالحلم يريد شابًّا غنيًّا، لفترةٍ محددة، إنه يخشى المعاشرة الطويلة، يخشى أن يتكشَّف مع الزمن عن شخصٍ حقير شرس مثل زوج أمك، فأنت ترغبين فيه وتكرهين في الوقت نفسه فكرة دوامه، سوء ظنٍّ مكتسب من ماضٍ تعيس.
– أتقرأ الفنجان أيضًا؟
– من طنطا! .. ماذا يقول الحلم؟ طنطا هي مثوى السيد البدوي، صاحب الكرامات والمعجزات، الذي كان يجيء بالأسرى من الأعداء .. فهمتِ يا عزيزتي؟!
– فهمت يا سيدنا الشيخ.
– وشقة الهرم؟ .. الشقة مفهومة ولكن لماذا في الهرم؟ .. الهرم في ظاهِره قبر ولكنه في حقيقته يُشكِّل تحديًا للزمن .. للموت.
– تفسير مُسلٍّ وجميل، ولكن يجب أن تُفكر في الذهاب.
– ابصقي هذه النية من فيك وهلمِّي إلى عنبر لولو.
– بل إلى البيت.
– ماذا في البيت مما يُغريك بالعودة إليه؟
– هو بيتي على أي حال.
– سيتغير طعمه ومذاقه عقب زيارة لعنبر لولو.
رمقته بنظرة ارتيابٍ وسألته: ما علاقة كهل وقور مثلك بعنبر لولو؟
– فيه خلوة للعجزة، كل شيءٍ في عنبر لولو.
– تُرى .. ترى أأنت جدير بالسمعة الطيبة التي تتمتَّع بها؟
– أنسيتِ رأيك في الوقت القديم ووصايا الأموات؟
– لكني تعلمتُ أشياء جميلة من مُعاشرتك الطويلة هنا!
– لا تسخري من رجلٍ قضى زهرة عمره وراء القضبان.
– اغفر لي فإني لم أُجاوز الأربعة والعشرين ربيعًا من عمري!
– ولكنَّه في حالتك يُعتبر مرحلة من مراحل الشيخوخة!
وقامت مُتجهمة فقام في أثرها بحالٍ توحي بالاعتذار، وقال: لا معنى للغضب بعد أن تعارفنا على خير وجه!
فقالت بنبرة ساخرة: شيَّدتَ قصرًا ولكن على الرمال!
– حقًّا؟
– الشاب الغني من طنطا حقيقة من صميم الواقع!
– بل خيال في خيال!
– حقيقة من صميم الواقع.
فقبض على ساعدها بعُنف وهو يُطلق على عينَيها نظرةً من نار. وتوثَّب ليقذفها بسيلٍ من الكلمات التي انصهر بها شدقاه ولكنَّ شخصًا غريبًا اقتحم الكشك على غير توقُّع. اقتحمه وكأنما ألقي به إليه. مشعث الشعر، أغبر الوجه، يتصبَّب عرقًا. رفع بنطلونه وحبكه حول وسطه. ضرب الأرض بقدمَيه بشدة ليُزيل عن حذاءه ما يطوِّقه من طين. بادلهما النظر صامتًا دون أن ينبس. مضى إلى طرف الأريكة وارتمى عليها في إعياء. جعل صدره يرتفع وينخفض ورائحة عرقه تنتشر. حلَّ بالكشك صمت كالشلل. لكن الفتاة كانت أول من خرج منه. خلَّصت يدَها من قبضة الكهل وقالت: أستودعك الله، إني ذاهبة.
فقال الكهل برجاء: انتظري، يحسُن بك ألا تسيري وحدك في الطرقات الخالية في هذه الساعة من الأصيل!
– وإذا بالشابِّ الغريب يقول: ليست الطرقات بالخالية!
فرماه الكهل بنظرةٍ مغيظة مُتسائلة فقال الشاب: جميع الطرقات مطوقة برجال الشرطة!
فتحول غيظ الكهل إلى دهشة وسأله: لِمَ؟
فسأله الشاب بدوره: ألم تسمعوا طلقات الرصاص؟
– بلى، منذ وقت غير قصير، ظننتُه تدريبًا عسكريًّا.
– لم يكن تدريبًا عسكريًّا.
فسألته الفتاة: أكان غارة جوية؟
– لم يكن غارة جوية.
فسأله الكهل: هل بلغتك عنه أنباء صادقة؟
فهزَّ الشاب رأسه بالإيجاب، وأجاب النظرات المتسائلة قائلًا: صعد شخص إلى قمة البرج وأطلق الرصاص من بندقية سريعة الطلقات.
– ما هويته؟
– لا يدري أحد.
– وما الهدف الذي أطلق عليه الرصاص؟
– أطلقه على كافة الجهات، على جميع الناس!
– يا للخبر، وكم عدد الضحايا؟
– لم يُصَب أحد!
– غير معقول.
– يبدو أنه أراد أن يُطلق الرصاص لا أن يُصيب أحدًا!
– حادث غامض.
– إنَّه لكذلك.
– هيهات أن يثبت عدم الشروع في القتل.
– ذاك واضح، ولكن ربَّما صفحته خالية من السوابق!
فقال الكهل باستياءٍ: ليس خلو الصفحة من السوابق بالشهادة الطيبة دائمًا، ولا العكس بالصحيح.
– قول لا يخلو من حِكمة.
– أُهنئك على حُسن إدراكك.
– شكرًا.
– لكن لنَعُد إلى مُطلِق الرصاص، لعلَّه مجنون؟
– كلَّا.
– إنك تتحدَّث عنه بيقين!
– بل أُردِّد ما تناقله الناس في الطرق.
– ولكن لم يطلِق النار في جميع الجهات دون أن يقصد إصابة أحد!
– ذاك بعض السِّر الذي يسعى وراءه رجال الشرطة.
فقالت الفتاة: لعلَّه مجنون بالشهرة.
– لا يبدو كذلك.
فعادت تقول: لعلَّه كان في حاجة مُلحة إلى الترفيه!
فابتسم الشاب قائلًا: لا أظن الأمر كذلك.
وسأله الكهل: ماذا يقول الناس عنه أيضًا؟
– يقال: إنَّه كان ضمن وفدٍ دُعي إلى زيارة الجبهة ومعسكرات اللاجئين.
– حقًّا! .. لعلَّ أعصابه اهتزَّت فوق ما يَحتمِل.
– لكنَّه لم يفقد توازنه قطُّ وإلَّا لقتل الناس بالعشرات!
– أطلق النار وهو في كامل وعيه؟
– وكامل عقله!
– يا له من حادثٍ غامض!
وقالت الفتاة: كم أودُّ أن أراه!
فقال الكهل: سترَينه في جرائد الغد، كذلك تجري الأمور منذ قديم!
ثم التفت إلى الشاب وهو يقول كأنما يُقدِّم له نفسه: أنا أيضًا ولعتُ يومًا بإطلاق النار!
ثم بنبرة اعتزاز: ولكن الرصاص انصبَّ على الأعداء!
فقال الشاب بامتعاض: يقال: إن صاحب البندقية المجهول هتف قبل أن يختفي «ليستقر الرصاص في قلب العدو الأكبر.»
فقال الكهل في حيرة: حتَّى القتل أصبح غامضًا رغم أنَّه أوضح فعلٍ في الوجود!
– ليس ثمة غموض ألبتة.
فتساءل الكهل بغيظ: أكان العدو الأكبر يسير فوق رءوس المارة؟
– أو خلفهم أو أمامهم أو تحت أرجلهم!
فقالت الفتاة بانفعالٍ: واضح أو غامض، لا يهمُّ، كم أنَّه جميل أن يطوف إنسان بالجبهة وبمعسكرات اللاجئين ثم يصعد إلى برج القاهرة ليُطلق النار في جميع الجهات!
فسألها الكهل: هل وضح لك ما غمض عليَّ؟
– نعم.
– ولكن كيف؟
– إنِّي أفهم بطريقتي الخاصة!
وسادت لحظات من الصمت ارتفعت خلالها ضجَّة في الخارج. ثم تبيَّن على وجه اليقين أن ثمة ضجَّة تجتاح الحديقة.
هُرِعا إلى ثغرات الياسمين فرأيا العشَّاق يتجمَّعون في الممشى وقد تولَّاهم الوجوم والارتباك. ثم رأيا رجال الشرطة وهم يحتلون الأركان. قالت الفتاة بانفعال: أصبحنا في قلب الحدث.
فقال الكهل: وقد يقع صدام دامٍ.
والتفتت الفتاة نحو الشاب وقالت له: واضح أن رجال الشرطة يعتقدون أن صاحبك المجهول في الحديقة معنا!
فقال الشاب بهدوء: وهو فرض مُحتملٌ!
فقال الكهل: ولم يعُد ثمة مجال للهرب.
فقال الشاب: إنَّ مَن يُقدِم على ما أقدم عليه لا يمكن أن يركن إلى الهرب إلى ما لا نهاية.
فقال الكهل وهو يحدجه بمودَّة: وعليه فخير سبيل أن يذهب إليهم بنفسه.
– أتظن ذلك؟
وابتسم. ثم قام بهدوء. حيَّاهما بإحناءة من رأسه قائلًا: إلى اللقاء.
ومضى نحو باب الكشك فمرق منه إلى الحديقة وهما يردَّان وراءه: إلى اللقاء!
واقتربا من باب الكشك مُتلاصِقين وراحا يُراقبان ما يحدث في الخارج. لبثا وقتًا غير قصير ثم رجعا إلى مجلسهما فيما يُشبه الإعياء والحزن. وقال الكهل وكأنَّه يُناجي نفسه: فاتني أن أستوضِحه بعض الأمور، كان الوقت قصيرًا وحرجًا!
فقالت الفتاة: وفاتني أن أدعوه إلى شيءٍ من اللهو!
فقال لها معاتبًا: ما زلتِ قادرة على المزاح!
– أنسيتَ هيامي بالرقص والغناء والمرح؟
فقال بامتعاض: آن لكِ أن تذهبي إلى شابِّك الغني من طنطا!
فضحكت قائلةً: دعني أعترف لك بأنه حلم لا أساس له في الواقع!
فهتف بغضب: لقد أرهقتْني اعترافاتك المتضاربة.
فقالت بتسليم: هلمَّ بنا إلى عنبر لولو!
ونهضت قائمة. لكنَّه جذبها برقَّة من يدِها فأجلسها مرةً أخرى وقال وهو يحني رأسه: دعيني أعترف لك بأن عنبر لولو لم تُوجَد بعد.
فاتسعت عيناها دهشةً وتمتمت: ماذا قلت؟
– كانت مجرد مشروع!
– مشروع؟!
– أجل.
– ماذا تملك لتنفيذه؟
– رسمنا له خطة عظيمة في غيابات السجن!
– السجن؟!
– كان حياتنا الحقيقية، أنا وبعض الزملاء، وقد اشتققنا اسمه من عنبر السجن وأضفنا إليه «لولو» على مثال هونولولو.
– وماذا عن تمويله؟
– فكَّرنا في ذلك بطبيعة الحال، وبالإجماع اتفقنا على وسيلتَين لا ثالث لهما؛ وهما السرقة والقتل!
فضحكت مُتسائلةً: وماذا أخَّركم عن التنفيذ مُذ تمَّ الإفراج عنكم؟
– الخيانة!
– الخيانة؟
– إذا بالزملاء يتوبون إلى الله ويؤدُّون فريضة الحج في عامٍ واحد! هكذا تعطَّل مشروع عنبر لولو!
– يا للخسارة!
– العين بصيرة واليد قصيرة!
وفرق بينهما صمت واجمٌ ثقيل. حتَّى قال الكهل: آن لنا أن نذهب ولكن لا يجوز أن نفترق!
– حقًّا؟
– ألا تُرحبين بذلك؟
– من المؤسِف أنَّك لن تُحْسن الرقص ولا الغناء ولا المرح.
– ولكنِّي صاحب مشروع قيِّم!
– عنبر لولو؟!
– أجل.
– لكنَّه لا يمكن تنفيذه بمجهود فردي؟
– إذا اتفقنا أمكن أن نصنع شيئًا ذا بال.
– وماذا في وسعي أنا؟
– أصغي إليَّ، نحن نملك مواهب لا تُقدَّر بثمن.
– ما أريد إلا أن أرقص وأغني وأمرح.
– لن أطالبك بأكثر من ذلك.
– ماذا تعني؟
– عنبر لولو، جنة الأحلام، ما قيمتها بلا رقص وغناء ومرح.
فابتسمت الفتاة بأمل وتساءلت: وأنت؟
فقال بفخار: أنا مولع بالقتل منذ قديم الزمان.
قام فقامت. أعطاها ذراعه فتأبَّطتها. مضَيا نحو باب الكشك وهو يقول: سأُطلِق الرصاص في جميع الجهات وسنرقُص ونغني ونمرح.