أمة من العبيد
«تقوم المدرسة — بطريقة بطيئة وتدريجية — بغرس ثقافة الخوف من الفشل داخل النفس والذهن، والعمل على تكريس الثقافة الكاملة لكل الأشياء السخيفة المنافية للعقل.»
***
إن كثيرًا من الناس الذين أعرفهم يعلمون عن يقين بأنني دائمًا ما أحببت المعرفة، وكثيرًا ما رغبت في التعلم، ومعظم أولئك يعرفون أيضًا الحقيقة المتمثلة في كراهيتي للمدرسة … كيف ولماذا؟
إن الإجابة واضحة بالنسبة لي الآن، وهي أنني لم أحب ما كنت أتعلمه، ولم تكن مشكلتي الأساسية تتمثل في المواد التي ندرسها، لقد تعلمت الأرقام بنفسي قبل التحاقي بالمرحلة الأولى من التعليم واستطعت بذلك متابعة نتائج مباريات البيسبول، وكنت — في المرحلة الثانية — أكتب المسرحيات القصيرة، إنه شيء ما مختلف وأكثر عمقًا!
واحدة من الصعوبات التي تواجهنا أثناء التفكير أو الحديث عن مشكلات نظامنا التعليمي هي أننا نفترض دائمًا أن الغرض الأساسي من المدرسة هو مساعدة الأطفال على تعلم القراءة والكتابة والقيام بفروض علم الحساب.
ذلك خطأ غير قابل للفهم، لكنه واحد من الأخطاء التي نعمل على تكرارها، وهكذا نجد أنفسنا مندفعين نحو الخطر. وفيما يتعلق بأساس العملية التعليمية أكثر من كونها مجرد تلقين للكتب، أو حتى مجرد تطوير للشخصية، فإنها تقدم للأطفال الأدوات التي يستطيعون استخدامها في الحياة بعد التخرج للاندماج داخل العالم الحقيقي، كما تعلمهم كيفية الاندماج في ثقافتنا ليصبحوا أعضاء فاعلين في تلك الثقافة. غير أن تلك العملية التعليمية لا تأبه بنوعية تلك الأدوات، ولا بالكيفية الصحيحة في تكوين أعضاء لتلك الثقافة. وبكلمات أخرى، قد يكون من الأجدر في عملية التعليم أن نتساءل ونبحث عن الطريقة التي نتعلم بها الخلق والابتكار.
كانت تجربتي الخاصة الأولى في المدرسة مملة للغاية، كنت أجلس — سنة بعد أخرى — في آخر مقعد بالفصل وأنا أراقب اليد الثانية وهي تتحرك ببطء شديد، ولا أستطيع أن أخبرك كم عدد المرات التي كنت أحسُب فيها الثواني حتى ينتهي اليوم الدراسي، ثم بقية الأسبوع، وهكذا حتى ينتهي العام الدراسي بأكمله، وهكذا انطبعت في ذهني أهمية علم الحساب، وعندما كان يصيبني الملل، وخوفًا من الانفجار في نوبة من الضحك لا أستطيع السيطرة عليها، كنت أتعمد السخرية بطريقتي الخاصة، كما كنت أفعل غالبًا حين أقرص فخذي بأصابع يدي حتى يصطبغ الجلد باللون الأحمر، وأحيانًا كنت أقرص خدي حتى ينسلخ الجلد عن عظام الخد، كنت أتنقل من العبث بخدي الأيمن إلى الأيسر مستندًا على أردافي في محاولة مني للإبقاء على يقظة قدمي خوفًا عليها من «التنميل»، وكنت أقوم بتسريب الكتب إلى داخل الفصول وأضعها فوق ركبتي لكي أقرأها. ثم علمت نفسي لغة الإشارة الأمريكية للتواصل — بطريقة صامتة — مع أحد الأصدقاء في صف آخر، حتى لو لم يكن هناك ما يستدعي القول سوى إخباره بأنه شخص تافه مثلًا. لقد عرفت الوقت الذي أستطيع فيه أن أتحكم في أنفاسي، وحساب عدد المرات التي يقول فيها المدرس خلال ساعة واحدة: «هاام» أو «أوكيه».
ما زلت أتذكر عدد المرات التي وصلت إلى مائتين وخمس عشرة مرة كرر فيهم المدرس بشكل لافت للنظر كلمتي «هاام» و«أوكيه»، كما لا أستطيع أن أنسى ذلك العالم المتمثل في الكتاب الذي وضعته فوق فخذي في ذلك اليوم. أما أحد أهم الأشياء التي تعلمتها فكان هو كيفية إضاعة الوقت.
تعلمت أيضًا أن أنسى حياتي، وأذكر ذات يوم من أيام الربيع، وأنا في المرحلة الثامنة، حين كنت واقفًا في ملعب الكرة مع صديق جديد لم أعد أتذكر اسمه، وأخبرته بأنني لم أستطع الانتظار حتى الشهر القادم للانتهاء من ذلك العام الدراسي وبداية إجازة الصيف.
نظر إلى وجهي بارتباك وقال لي كلامًا، من الواضح أنه سمعه من والديه: أنت تنسى الشيء الوحيد الذي حصلت عليه.
عرفت في الحال أنه كان على صواب، غير أن ذلك لم يغير من حقيقة ما كنت أتمناه.
وماذا أيضًا تعلمت؟ تعلمت ألا أتحدث بطريقة غير مُرتَّبة ويغلب عليها التشوش، وألا أتوجه بالأسئلة إلى أصحاب أي سلطة من السلطات إلا بطريقة مراوغة خوفًا — على الأقل — من حرماني من الاستمتاع بالفسحة ووقت الفراغ، أو من الحصول على بعض الدرجات فيما بعد. لقد تعلمت أن أتجنب البوح بكل الأسئلة الصعبة التي لا يتحملها المدرسون وتصيبهم بنفاد الصبر، وتعلمت بالتالي ألا أتوقع أبدًا الحصول على إجابات مناسبة. تعلمت أيضًا محاكاة المدرسين وهم يعبرون عن آرائهم ويشرحون وجهات نظرهم، وعرفت كيفية استنباط الحقائق وتفسيراتها من الكتب المدرسية، سواء راقتني تلك الحقائق وتفسيراتها أم لا. تعلمت قراءة صور السلطة المختلفة، وعرَفت بالتالي أن أقدم لهم ما يريدونه، وأن أتودد إليهم كلما كان في الأمر مصلحة لي، تعلمت باختصارٍ أن أخون نفسي وأقوم بتعريتها.
تحدثت مع بعض الأصدقاء، ممن كانوا يشعرون تجاه المدرسة بمثل ما أشعر، وكان الشعور المؤكد الذي يعانون منه هو القلق بديلًا عن الضجر والملل، فلم أكن أنا الشخص الوحيد الذي ظل طوال عشرين عامًا يحلم ويفكر بقلق وعمق — كما فعلت مرة أخرى منذ شهر مضى — في الأسبوع الأخير من العام الدراسي، وفي امتحان المواد التي لا أعرفها أو تلك التي لا أحبها أو أهتم بها.
ليس من الصواب أن نتحدث عن التعليم دون الحديث عن التنشئة الاجتماعية، كما أنه لا يمكن الكلام عن التنشئة الاجتماعية دون التطرق إلى ذكر المجتمع نفسه والقيم التي يتمتع بها ذلك المجتمع. نحن نسمع الكثير من الكلام الفارغ الذي لا معنى له؛ مثل الحديث عن مدى بشاعة الحقيقة المتمثلة في عجز طلاب المرحلة الثانوية عن تحديد موقع الولايات المتحدة على خريطة العالم (التي يجب أن تكون أمرًا غاية في السهولة)، أو تحديد القرن الصحيح الذي حدثت فيه الحرب الأهلية في أمريكا، أو ذكر أسماء أعضاء الإدارة الأمريكية. لقد أخبرونا أن الاختبار الموحد يجب أن يكون مفروضًا على الجميع للتأكد من تلقين الطلبة معايير موحدة يستطيعون من خلالها — فيما بعد — أن يكونوا مستعدين لمواجهة العالم الذي هو نفسه يتوجه إلى مزيد من التوحد. ولم يسألنا أحد بالطبع عن مدى صحة توحيد الأطفال (عفوًا، أقصد الطلاب) والمعرفة أو العالم الأكبر.
لا شيء من ذلك، لا الخرائط ولا التواريخ أو الأسماء، وليست الاختبارات في الحقيقة هي النقطة الجوهرية على الإطلاق، إن المدرسة تقع في مغالطات وأخطاء كبيرة حين يلقنون الطلبة بالمعلومات ولا يعلمونهم السلوكيات وحسن التصرف.
نسمع كثيرًا أو قليلًا وبشكل ثابت أن المدارس تفشل في مهمتها، ولا شيء يمكن أن يكون أكثر خطأ من ذلك التصور، فالمدارس تنجح في كل شيء بطريقة جيدة، وتقوم بإنجاز أهدافها بدقة، ولكن ما هدفها الأساسي؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد أن تسأل نفسك أولًا عن القيم التي تشكل المجتمع المطروح فيه السؤال، إننا لا نتحدث عن تلك القيم، غير أن الحقيقة هي أن المال يسمو فوق كل قيم المجتمع الأخرى؛ لأنه يمثل القوة، ولأنه أيضًا يمنحنا الوهم بأننا قادرون على الحصول على كل ما نستطيع، إن واحدة مما يتطلبه الحصول على المال هو كيفية اكتسابه.
غالبًا ما نُضطر إلى خيانة أنفسنا بأي شكلٍ من الأشكال وتقديمها إلى أي شخص يملك المال، في مقابل الاستفادة بالقليل منه؛ المؤسسات، الرجال من أصحاب السيارات الفارهة، السيدات اللاتي يرتدين أزياء تفوح منها رائحة القوة والنفوذ، وأولئك المدرسين الذين لا يملكون المال وإنما يملكون، في نطاق الفصل، القوة اللازمة المقابلة لقوة المال. نحن نعيش في ثقافة تعتمد على الوهم والضلال والمظاهر الخادعة، والتعليم هو السبب الرئيسي في تكريس ذلك الوهم، وفي التأكيد على أن السعادة تقع خارجنا، وأن أولئك الذين يملكون القوة هم وحدهم من يستأثرون بالسعادة.
كثير منا كان يتوقع — خلال فترة الرشد — أن يحصل على العمل المناسب في الوقت المحدد وليس قبل أن يدق جرس النهاية، كنا ننظر إلى الساعة ونحسُب الثواني حتى يحين موعد الانصراف في الخامسة، ونحسُب الوقت حتى يحين يوم الجمعة ويوم الحصول على الأجر، ثم نعاود حساب الوقت لمعرفة موعد يوم التقاعد؛ حيث يعود وقتنا مرة أخرى ليصبح ملكنا، كما كان من قبل ونحن في الحضانة أو في مرحلة ما قبل المدرسة. آه، كل هذا الانتظار! أين نتعلم كل هذا الانتظار؟
كان من المتوقع أيضًا أننا سنكون مواطنين صالحين، وأولادًا وبناتًا صالحين، وأن كل شيء سيكون على ما يرام، ولم نعترض، كما لم يساورنا أي شك حول مفهوم الوطن والله والرأسمالية والعلم والاقتصاد والتاريخ وسلطة القانون، ولم يحدث أن اختلفنا أو تجادلنا بشأن تلك المعاني، لكننا كنا نذعن ونستسلم — في كل تلك المجالات — إلى الخبراء والمختصين، وكنا نواصل الإذعان كما علمونا في جميع المراحل التعليمية.
وماذا عن المختصين والخبراء أنفسهم؟ كان من المتوقع أنهم سيلعبون دور الرقيب الذاتي بمهارة، وكان من المفترض أنهم يعرفون دائمًا نوعية الطلاب الذين يتوجهون إليهم بالأسئلة، ويفهمون المغزى من وراء كل سؤال، وما الأسئلة التي لا ينبغي طرحها، والأهم من ذلك ما الموضوعات التي يجب التطرق إليها على فترات متباعدة.
إذا ما سارت بنا الأمور على نحو جيد فإن أحدًا منا لن يسأل أبدًا كيف أن مجالات الدين والرأسمالية والعلم والتاريخ والقانون قد أضافت نوعًا من الزخارف على حياتنا الخاصة حتى لا نكشف عن أسرار حياتنا.
وهنا أود أن أطرح بعض الأسئلة التي راودتني مؤخرًا، ولعل أهمها: ما تأثير العملية التعليمية على الإبداع والابتكار؟ كيف تشجع العملية التعليمية التميز والتفرد الخاص بكل طفل ممن يملكون الموهبة؟ وهل يشعر الأطفال والتلاميذ والطلبة بالسعادة في ظل العملية التعليمية؟ وهل ثقافتنا ككلٍّ تساهم في توليد جيل جديد من الأطفال السعداء؟ ما الذي يتعلمه كل طفل جديد طوال سنوات التعليم حتى يستطيع في النهاية أن يقدم شيئًا للعملية التعليمية؟ كيف تساهم المدرسة في الحفاظ على كل طفل والحرص على تنمية مواهبه ومساعدته في أن تجعل منه ما يجب أن يكون عليه؟
كنت في مكتبة سبوكين بواشنطن منذ عامين، وكان أحد الزائرين يقود مجموعة متمردة من المراهقين، ودخل بهم من الباب الأمامي حتى وصلوا إلى لائحة برامج الكمبيوتر، حيث استدار بهم ناحية أكثر أمناء المكتبة شعبية (كما يعتقد هو)، كان شابًّا يرتدي قميصًا ذا نسيج صوفي خفيف مطبوع عليه أشكال مربعة، وكان الشاب يعقد شعره على شكل ذيل حصان، لكن مجموعة الأولاد عبروا عن استيائهم، فكان من الواضح أنهم قادمون من أحد السجون أو المعتقلات أو أي من مراكز التأهيل، وربما كانوا قادمين من أحد المدارس التي أرسلتهم إلى هنا كنوع من العقاب، بعد أن تسببوا في كثير من المشاكل.
أشار أمين المكتبة إلى نهاية الصف وقال: أخبروني بالموضوع الذي ترغبون في الاطلاع عليه.
لم يتكلم أحد، فقال الشاب: أي شيء، ما عليكم سوى إخباري بما تريدون قراءته وسوف أجد لكم ما تريدون.
استطعت أن أرى من مكاني المتميز في الناحية الأخرى من الصف واحدًا منهم وقد بدا عليه الاهتمام والرغبة في القراءة، وبدا أنه يفكر قائلًا لنفسه: أستطيع أن أبحث في أي موضوع.
كان الفتى يرتدي بنطالًا من الجينز الفضفاض، وبدا أنه من أصل إسباني، وكان يضع منديلًا كبيرًا مزدانًا بالرسوم فوق رأسه، وله لحية كلحية التيس، كما يفعل أمثاله ممن هم في عمر السادس عشر. بدأ يقول شيئًا ثم توقف، وكان الجميع ما زال صامتًا، وفي النهاية رفع يده وقال: هل لديك كتاب عن البنادق أو المسدسات أو أي نوع من الأسلحة النارية؟
نظر إليه الشاب ذو الشعر المتدلي كذيل الحصان، فكرر الفتى سؤاله بصوت واضح، وكأن أمين المكتبة الشاب لم يسمعه في المرة الأولى: نعم، أسلحة نارية!
ضحك الجميع، وراح الفتى يحدِّق للحظة قبل أن يخفض رأسه ويذهب بعيدًا. وهنا استطعت القول بأنه كان يرغب في امتلاك بندقية أو مسدس في ذلك الوقت لإحداث ثقب فوق شاشة الكمبيوتر، وتمنيت ساعتها لو أنني أمتلك أحد الأسلحة النارية لتقديمها له ومساعدته في تنفيذ رغبته.
شاهدت فتاة شقراء عند الجانب الآخر وهي ترفع يدها، ثم سمعتها وهي تقول: حيتان!
قال أمين المكتبة وهو يدون ما سمعه: حيتان!
وهكذا فإن الأطفال والفتيان يكنون كراهية كبيرة للمدرسة.
•••
لقد تعاملت طوال خبرتي في مجال التعليم بطريقة متحررة، وحين كنت أقوم بعملية التدريس في الجامعة وفي السجن (إن كلمة التدريس هنا ليست كلمة مناسبة؛ لأنني كنت أعتبر دائمًا أن ذلك هو دوري)، لم أكن معنيًّا بمجرد تحقيق رغبات الطلبة في تعليمهم ما يريدون، لقد كان الهدف الأساسي من هذا الكتاب، وخاصة من الفصل الذي يحمل عنوان «كيفية عدم القيام بعملية التدريس»، هو أن أستثمر خبراتي التي اكتسبتها في جامعة واشنطن الشرقية، وفي السجن الحكومي، تلك الخبرات المتشابهة إلى حد كبير، على عكس ما يتوقع المرء في المرة الأولى، والتي يحصل عليها شخص ما ويكتسبها من خلال شرحها مرات ومرات وبطرق مختلفة. لقد أدركت بسرعة أن الحديث عن خبرتي — دون أن تتضمن مناقشات حول البيئة الاجتماعية التي تخلق خبرة التعليم العادية — سيكون أمرًا اصطناعيًّا وزائفًا وأقل فائدة بكثير، وبطريقة أخرى يمكن القول بأنه قبل أن أسأل أنا أو أي شخص آخر عن مدى نجاحنا داخل الفصل، يجدر بنا أن نسأل أنفسنا أولًا عما نريد تحقيقه، على ألا نعول على إجاباتنا على هذا السؤال، نحن في حاجة لنسأل أنفسنا عن ماهية الدور الذي نقوم به فعلًا، وعن النتائج التي تحدثها العملية التعليمية؛ لأن إدراكنا وفهمنا لإجابة هذين السؤالين سيساعدنا — بعيدًا عن كل الكلمات الرنانة — في فهم ما نرغب فيه حقًّا، كما سيساهم أيضًا في تكوين شخصية الطلبة.
تظاهر بأنك تريد أمة من العبيد، أو فلنقل، بطريقة أخرى، بأنك تتمنى أن تحظى مصالح بلدك التجارية بعدد ثابت من العمالة، على أن يكون عدد السكان الأصليين كافيًا لعدم التصدي لمكاسبهم ولما يحصلون عليه. إن أبسط، بل وربما أكثر، وسائل التسهيلات شيوعًا، كعملية الإنتاج مثلًا، لا تكتمل إلا من خلال القوة المباشرة؛ أنت تستولي ببساطة على العمال وتسحبهم إلى مصانعك وإلى أماكن عملك وهم مقيدون بالسلاسل، وتستطيع ببساطة أن تقوم بطردهم في أية لحظة، كما أنك تمنحهم حرية الاختيار بين الجوع أو القبول براتب العبودية الضئيل. أنت تستطيع أن تجبرهم على الاختيار بين دفع الضرائب أو شراء منتجاتك، وبذلك ستضمن الانتعاش الاقتصادي، وفي النهاية سيُجبَرون على العمل في مصانعك أو في مشروعك التجاري للحصول على العملات النقدية الصغيرة.
إن العائق الأساسي لكل تلك الأعمال هو أن العبيد يعرفون دائمًا بأنهم مستعبدون، وأن آخر شيء يريده صاحب العمل هو إخماد أي محاولة للتمرد أو العصيان. من الأفضل لهم كثيرًا الاعتقاد بأنهم أحرار؛ لأن عدم شعورهم بالسعادة في مثل هذه الحالة يُحمِّلهم وحدهم مسئولية الخطأ دون أن يكون صاحب العمل سببًا في عدم سعادتهم.
كل شيء يبدأ من الصغر، وإذا لم تبدأ مبكرًا وأنت صغير بما يكفي، فلن تكون قادرًا أبدًا على التأثير فيهم بشكل كافٍ إلى الدرجة التي يكفرون فيها بالبدائل، وإذا كانوا يؤمنون فعلًا بالبدائل الأخرى التي لم تصنعها أنت فإنهم سيحاولون تحقيقها، وفي هذه الحالة سيبرز سؤال مهم: أين ستكون أنت؟
«يبدو لي أن أي شيء يمكن أن يعلِّمه شخص إلى آخر هو نسبيًّا شيء غير ذي أهمية، وليس له تأثير واضح على سلوك وتصرفات الأشخاص إلا فيما ندر، ولقد بدأت أشعر أن التعليم الوحيد الذي له تأثير واضح وقوي على السلوك هو تعلم الاكتشاف الذاتي والتعليم الحر المناسب للذات، مثل هذه الطريقة في تعلم اكتشاف الذات، والتي هي ملائمة لشخصية صاحبها وخاضعة لتجربته الخاصة، لا يمكن أن تتواصل بشكل مباشر مع الآخر ما دام أن الفرد يحاول التواصل مع هذه الخبرة مباشرة، والتي غالبًا ما يصاحبها (محاولة التواصل) حماس طبيعي، إنها طريقة في التدريس ذات نتائج غير منطقية وبلا أهمية. عندما أحاول أن أقوم بعملية التدريس، كما أفعل أحيانًا، فإن النتائج تصيبني بالرعب الذي يبدو أكثر قليلًا من المنطقي؛ لأن عملية التدريس تبدو ناجحة في بعض الأحيان، وعندما يحدث ذلك فإنني أكتشف أن النتائج غير مفيدة، وربما تكون ضارة في كثير من الأحيان، وبالتالي فإنها تدفع الفرد إلى الشك وعدم الثقة في تجربته وخبرته الشخصية، كما تشكل عائقًا بينه وبين التعليم المهم والمثمر. وهكذا بدأت أعرف أن نتائج التدريس لا تخرج عن كونها بلا أهمية على الإطلاق، أو أنها عملية غير مفيدة. عندما أنظر إلى نتائج عملي السابقة بالتدريس فإن النتائج الحقيقية تبدو أمامي هي النتائج نفسها التي تتسم بعدم الأهمية وعدم الفائدة، وبناءً على ذلك أدركت أنني مولع فقط بكوني معلمًا أميل إلى تعليم الأشياء المهمة والموضوعات الخلافية، والتي لها تأثير واضح ومؤثر على سلوكي. اكتشفت أن واحدة من أفضل الطرق بالنسبة لي أثناء قيامي بعملية التدريس هي نفسها أصعب الطرق؛ ألا وهي أن أتخلى عن كل دفاعاتي الشخصية بشكل مؤقت على الأقل، وأن أحاول فهم ما تبدو عليه تجربة الآخرين والمشاعر تجاه الآخر. كما اكتشفت وسيلة أخرى للتعليم تتعلق بضرورة أن أبوح بشكوكي وتساؤلاتي، في محاولة مني لتوضيح حيرتي وارتباكي، مما يساعدني على الاقتراب من المعنى الذي اكتسبته من خلال خبرتي. يعني ذلك على ما يبدو أن خبرتي هي التي تقودني وتساعدني في مواصلة عملي نحو الأمام، وصوب الأهداف التي أستطيع تحديدها بصعوبة، كما أنني أحاول أن أفهم على الأقل المعنى الشائع لتلك التجربة.»