التخلي عن السيطرة
«إن السلام أو الطمأنينة والأمن هي أشياء خرافية وليس لها وجود في الطبيعة ولا يتمتع بها الأطفال. إن تجنب الخطر ليس بالشيء الباعث على الأمان على المدى البعيد، وليست الحياة سوى مغامرة جريئة أو لا شيء على الإطلاق!»
***
أعتقد بأنني حين سأكون في الثالثة والثمانين بينما أقف وأنظر للوراء لرؤية الحياة التي انقضت وعملت بنجاح على تعرية بنية الحضارة النفسية والمادية، والروابط الإنسانية غير المتأصلة، ومثلها الروابط غير الإنسانية الناتجة عن العبودية، سأقول في ذلك العمر وأكرر القول للأطفال الصغار بأنهم سيعيشون في عالم مليء بأسماك السالمون المتوحشة وكثير من الطيور المغردة المهاجرة والفراشات الكبيرة، وحيث تنمو أسراب الثيران بسرعة كما تنمو كلاب المدن الجرداء، وكما تتضاعف مجتمعات الأراضي المليئة بالأعشاب، والتي تتسم بالتعقيد، بالإضافة إلى المستنقعات والغابات، حيث تنهار الطرق وناطحات السحاب وتنجرف السيارات بعيدًا، ربما سوف نجلس ونتحدث فوق رصيف عائم يحيطه المد والجزر من كل اتجاه، وبطريقة لم أشاهدها من قبل.
سأبدأ بالقول: إنني أتذكر كل شيء وكأنه حدث بالأمس، كنت أقوم بالتدريس لأحد الفصول المسائية في ذلك الوقت، وذات مساء بينما كنت أسير داخل الفصل رأيت ما كتبه شخص ما بحروف كبيرة فوق السبورة في جانب الحجرة: «ضع المقاعد في صفوف منتظمة كما كانت.»
سيقول أحد الأطفال: يا له من شيء سخيف!
تركت الكلمات فوق السبورة وكتبت تحتها بحروف أصغر: من الذي تقدم بهذا الطلب؟ إذا كنت حارسًا وأمينًا على المكان فإنني سأسعد بعمل ذلك، أما إذا لم تكن كذلك فسأعقد معك اتفاقًا يتمثل في أن تضع لنا المقاعد في دائرة ونضعها نحن لك في صفوف.
سيقول طفل آخر: يبدو ذلك اتفاقًا عادلًا بالنسبة لي.
سأضيف أنا عندئذٍ: منذ سنتين كتب الشخص نفسه ملاحظة فوق السبورة يقول فيها بأن وضع المقاعد على شكل دائرة يجعل مساحة الفراغ أصعب، عدنا بعد ذلك بالطبع فوضعنا المقاعد في صفوف، وتم تسريح طاقم البوابين وأصبح العمل من الباطن، لاحظت بعد أشهر قليلة عدم وجود مساحة من الفراغ بعد أن تلاشت تمامًا، وانتشرت لفافات من الحلوى وأعقاب الأقلام الرصاص وقطع من الورق ورقائق من الطين في أرجاء المكان، وكان ذلك بمثابة النهاية لعودة المقاعد في صفوف. في المساء التالي تم إضافة رسالة أخرى فوق السبورة مكتوبة بحروف كبيرة وواضحة: «لا تكن فجًّا قليل الخبرة وإنما عليك أن تنضج وتسارع بوضع المقاعد في الأماكن المخصصة لها.»
كتبت بدوري وقلت: «أيها الطلبة، يجب ألا تصيروا عبيدًا للصفوف والسلطة والتقاليد، ولكن يجب الانتباه للمشاعر والسعادة النفسية، إذا لم نتعلم شيئًا من فظائع الهولوكوست، ومما حدث في فيتنام، والتدمير المتواصل للكرة الأرضية، علينا أن نخضع لتلك الطاعة العمياء للسلطة أو للتقاليد، وبذلك تكون المشكلة أكبر بكثير من أي تساؤلات قد يطرحها أي شخص، ألا تعتقدون ذلك؟»
وصل الكثير من طلبتي مبكرين في الليلة التالية، وكانوا شغوفين ومتلهفين لقراءة الحلقة القادمة، لكن الأستاذ الغامض لم يُصَب بالإخفاق، وقال: دعكم من ذلك الهراء، نحن هنا في مدرسة وأنا هنا أحاول أن أقوم بتعليم شيء ما.
كتبت بعد ذلك: وأنا أيضًا، ولهذا السبب أنا أفعل ذلك.
ويصبح السؤال عندئذٍ: ما الشيء الذي تقوم بتدريسه؟
تصورت أن يأتي الطلبة طوال اليوم إلى فصولهم لمشاهدة هذا النقاش المتواصل، وتمنيت أن أبث فيهم ولو قليلًا من التمرد، وإلا فسوف يعتقدون بأنني لا أفعل شيئًا، لكنني أعلم بأن كثيرًا من طلبتي يحبون طريقتي، وقد استفادوا كثيرًا من تلك الطريقة.
ربما يسأل أحد الأطفال قائلًا: لماذا تعتقد بأنهم استفادوا كثيرًا؟
سأجيب عندئذٍ: لقد أخبروني.
وسيسأل الطفل: لماذا تهتم بإثارة روح التمرد داخل الطلبة إذا لم تكن ستقابلهم بعد ذلك أبدًا؟
لسببين؛ أولهما: أن الثقافة قضت على الكوكب وسببت الأذى لكثير من البشر، ولا أستطيع إخبارك كم هو جميل أن تشعر باستخدام الزمن الماضي في مثل تلك الحالة. أما السبب الثاني: فهو سبب شخصي أكثر من سابقه وهو أن معظم الناس ليسوا سعداء ولا يتبعون قلوبهم ومشاعرهم، وذلك من ناحية لأن مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا كلها، إلى جانب نوعية الثقافة المنتشرة، تؤدي بالناس في النهاية إلى البعد عن ذواتهم، وتكرس للطاعة والامتثال، وتعلمهم الخوف من التساؤل. أعلم بأنني حين كنت في المدرسة كنت تلميذًا بائسًا، وكنت أتطلع لوسيلة إنقاذ أو أي علامة إرشادية، ولم أكن مجنونًا حين رغبت في اتباع قلبي وأحاسيسي، بل إنني أستطيع القول بأن الثقافة السائدة هي التي كانت ثقافة مجنونة لأنها منعتني من تحقيق رغبتي. إن رؤية التغير ومعرفته، كذلك الذي كان مكتوبًا فوق السبورة، قد ساعدني حين التحقت بالكلية، وإذا ما استطعت مساعدة أولئك الطلبة في تعليمهم القدرة على التساؤل عن أشياء بسيطة كترتيب المقاعد في صفوف، وتمكنت من مساعدتهم على رؤية شخص يستطيع مواجهة الأفكار بجرأة، والوقوف ضد ذلك النوع من العبث، وضد السلطة التي لا تستخدم العقل، فقد يتبع بعضهم ذلك السلوك حيثما وُجِد، وسيكون ذلك شيئًا جميلًا لأن السؤال حين يبدأ فإنه لا ينتهي.
سوف يتوجه أحد الأطفال بالسؤال قائلًا: لماذا يحاول الوالدان والأساتذة أو أي شخص آخر أن يجبروا الأطفال على فعل أشياء لا يشعرون معها بالسعادة؟
سأقول عندئذٍ: آه، أنت تلعب لعبة الطفل المزعج، أليس كذلك؟
سيضحك الأطفال بعد ذلك، ثم سأقول مستطردًا: في الليلة التالية كانت توجد رسالة أخرى: «لن أبدد مزيدًا من الوقت في النقاش مع الحمقى، وإذا لم تعد المقاعد كما كانت في صفوف حتى الغد صباحًا فسوف أتوجه مباشرة إلى رئيسك.»
قال أحد طلبتي: تلك أعمال قتالية يا ديريك، هل ستقوم باستدعائه؟
طلب مني قليلون منهم ألا أستجيب للأمر برمته لأنهم لا يريدونني أن أدخل في دائرة المتاعب، فأخبرتهم بأنه من المبكر التحدث إلى رئيسي عن شيء آخر، ولمزيد من الدقة عن الصيد مثلًا، قد أذكر حرب السبورة. وسألني رئيسي إذا كنت أرغب في مراجعة جدول الفصل للتأكد من أنني لم أكن أتصرف بطريقة خاطئة فقلت له حينئذٍ بأن الأمر لا يهم.
لم أكن متأكدًا بما يجب أن أفعله، وبدا أن الجدل الذي حدث فوق السبورة كان يتحرك من مجرد مناقشات للأفكار إلى مناقشات عقيمة، وذلك لم يجذب انتباهي على الإطلاق، وكنت أعتقد بأنني أصل بطريقتي إلى هدفي، غير أن الأمر لم يكن يسيرًا وإنما كان عصيبًا، وعلى أية حال لم أكن قد توقفت عن محاضراتي حتى تلك اللحظة؛ لأنني لم أشأ أن يفكر طلبتي — وبخاصة أولئك الذين يتابعون دروسهم في الخارج بمزيد من الاطلاع — أن تهديده بامتلاك القوة قد يؤثر بشكلٍ من الأشكال، أو يكون على وجه التحديد ملحوظة خاطئة لإنهاء الدرس، فكرت لمدة دقيقتين ثم أدركت وجود طريقة أخرى أو هدف آخر كنت أريد تحقيقه مع طلبتي أثناء المحاضرات.
كتبت قائلًا: إذا غيرت، للحظة، النقاش من الحديث حول القضايا والمسائل المتداولة إلى تلك المناقشات التقليدية المنظمة، فذلك يعني ضعفًا في قدرتي على المناقشة، ويُعَد الوقت نفسه ترسيخًا للتقاليد والأفكار التقليدية.
في الكتابة، حين تصف شخصًا ما بالحمق أو الجنون فإنك عندئذٍ لا تُعَد كاتبًا جيدًا، ولكن دع القارئ يقرأ ما كتبته، سواء كانت كتابة أحد المقالات، أو كتابة كتاب، أو حتى كتابة فوق السبورة، وحين يقول القارئ بأن الشخص الذي وصفه الكاتب شخص مجنون تكون عندئذٍ كاتبًا جيدًا.
في اليوم التالي مسحوا كل الكتابات من فوق السبورة، وحتى بقية ربع العام الدراسي كنا نضع المقاعد في صفوف.
•••
لم أقترح ولم أشأ أن يمارس أي شخص طريقتي نفسها في إدارة الفصل أو القيام بطريقتي نفسها في التدريس؛ لأن ذلك يعني عدم تقدير للطلبة الذين يقبلون بنظام دون آخر، ولا شك أنهم يريدون أن يكونوا ما هم عليه. في النموذج الصناعي نحاول أن نقولب كل شخص ونجبره على المضي قدمًا في الطريق نفسه والأخذ بالشكل نفسه، وقد يكون ذلك جيدًا بالنسبة للمنتج الصناعي لكنه يمثل جحيمًا نفسيًّا للأشخاص، وأيضًا للكرة الأرضية، فعلى سبيل المثال أنا لا أستطيع كتابة نشرات إخبارية، لمدة سنوات في «سبوكن» أنجزت كثيرًا من الكتابات، وقمت بنشر العديد من الموضوعات عن منظمة البيئة، لكنهم عندما طلبوا مني كتابة نشرات إخبارية ظللت لساعات في حالة من العجز ولم تسعفني اللغة، كما وجدت صعوبة في صياغة الكلمات المناسبة، ورغم ذلك كانت تجربتي في كتابة النشرات الإخبارية جيدة بالمقارنة بما حدث في تلك الليلة التي طلبوا مني فيها المساعدة في عمود التليفون، انتابني إحساس عميق بأنني لست أنا الذي يجب تكليفه بمثل تلك المهمة، وبالتالي لم أستطع، وجلست هناك حوالي ساعتين وأنا أضغط على الأرقام الستة الأولى من رقم تليفون شخص ما، ثم توقفت ووجدت نفسي غير قادر على إنهاء المكالمة.
إذا قررت وكالة الاستخبارات الأمريكية أن تعتقلني لعملي ضد النظام، وإذا أرادوا تعذيبي فإنهم لن يكونوا في حاجة لتوصيل الكهرباء إلى أعضائي التناسلية، وإنما يكفيهم إجباري على مهاتفة الغرباء.
إن المهمة التي نواجهها جميعًا كآدميين (وأنا متأكد بأن الأشجار تواجهها أيضًا، وكذلك الضفادع والصخور والنجوم والحرائق وهبوب الرياح العاتية، وأيضًا القبلات والملاطفات والعناق وأنواع مختلفة من الفن) هي كيفية اكتشاف ذواتنا، ثم القدرة على أن نصبح الشيء الذي اكتشفناه، إن المهمة التي يواجهها المدرسون هي أهمية اكتشافهم لطريقتهم الخاصة في القيام بعملية التدريس، والقدرة على تعريف الطلبة بمكنون شخصياتهم، وهذا يعني بالطبع أنهم أولًا يجب أن يتفهموا ذلك الشخص الذي يسكن داخل بشرتهم.
عند حوالي منتصف الربع الأول من العام الدراسي بالمنطقة الشرقية قال لي رئيسي في العمل: في البداية أنا قلق منك وأتساءل عن الطريقة التي ستعمل بها في الفصل، لقد أحببت ما قلته لكنني لست متأكدًا من أنك تقول الحقيقة، وكنت أعرف بأنك إذا لم تفعل ما تتحدث عنه فإن الطلبة سيرفضون كل ما تتحدث عنه بسرعة، وستصبح أنت والطلبة في موقف صعب، نحن لا نستطيع الضحك عليهم وربما نفكر أحيانًا بأننا نستطيع لكنهم أكثر ذكاء مما نعتقد.
ها هو اقتراحي إذن ويتمثل في أهمية أن يفكر المدرسون فيما يقومون به وفي المعاني الشخصية والسياسية للمواد التي يقومون بتدريسها، كما يجب عليهم أن يحاولوا فهم أنفسهم وماهية الشخصية التي هم عليها، ولا بد أن يحاولوا اتباع أحاسيسهم وما يدور في داخل أرواحهم حين يدخلون إلى فصولهم ويبدءون الدرس، كما أقترح أيضًا عدم الاهتمام بالمواضيع الظاهرية أو المزعومة أو غير الحقيقية الموجودة في المناهج المختلفة، فالموضوع الأهم هو مساعدة الطلبة على اكتشاف ذواتهم ومعرفة انفعالاتهم وأهوائهم، وأي شيء آخر إنما يقودهم إلى الضلال ويعرضهم للأذى.
•••
كنت ما أزال أملك الكثير من القدرة على التحكم والسيطرة في الفصل، وكنت أكتب بشكل أفضل وبطريقة جيدة حين كنت أتخلى عن تلك السيطرة تاركًا الموضوع يقودني حيث يريد، لا … إن كلمة يقود هي كلمة جامدة، وكأن التأمل يسير بتؤدة ورزانة ويخطو أمامي خطوات ثابتة وهو ممسك بيدي ثم يشدها برفق.
إن فعل الكتابة ورغبتي في القيام بها على أفضل شكل ممكن يذكرني بأن لا شيء أحب منها إلى قلبي، وأنني حتى في مراحل طفولتي ومراهقتي لم أقع في مثل ذلك العشق الذي يمكِّنني من تحريك الجبال الصخرية بأسرع مما أستطيع، وكأنني أبدأ بقمة الجبل ثم أسارع بالهرولة متأثرًا بالجاذبية الأرضية، حتى أجد جسدي يتحرك بسرعة أكبر كثيرًا من قدمي التي تتسم تحركاتها بالاضطراب، وبالتأكيد أسرع من قدرتي على التقاط مكان أهبط عليه فوق الأرض، لكنني تعلمت الهبوط بدون أن أُلحِق بنفسي الكثير من الأذى، كنت أتدحرج وأعاود الإحساس بقدمي، وأبدأ بحركة سريعة، وبالعودة قليلًا أستطيع أن أتذكر حين كنت طفلًا في الخامسة والسادسة والسابعة من عمري تلالًا من الرمال في الجزء الجنوبي من كلورادو، وقد ارتفعت لمئات من الأقدام، حين صعِدْت إلى القمة ورحت أجري بسرعة ثم بسرعة أكبر حتى لم تعد قدمي قادرة على الحيلولة بيني وبين السقوط، فرُحت أتشقلب فوق تلال الرمال وأهوي بسرعة نحو الهاوية (أستطيع القول بصراحة تامة إن مجرد التفكير في تلك الواقعة يصيبني بالغثيان، لا بد أن معدتي كانت أكبر قوة في طفولتي عما هي عليه الآن)، عندما صرت بعيدًا عن قمة التل كانت عيناي أكثر يقظة وانتباهًا من كل أعضاء جسدي الأخرى، وكانتا مفتوحتين عن آخرهما من كثرة الرعب والبهجة في وقت واحد. ذلك الإحساس بعيدًا عن حالة الغثيان هو ما أحلم به وأتمناه في كتاباتي، وهو أيضًا ما أريده في حياتي، وما أرغب في حدوثه في فصلي.
كيف أفعل ذلك؟
قمت مؤخرًا بتقسيم الطلبة إلى مجموعات، وطلبت من كل مجموعة أن تقوم بإدارة الفصل لمدة ساعة أو ساعتين، وقد استطاعوا في كثير من الوقت أن يفعلوا كل ما أرادوا أن يفعلوه. رغبت إحدى المجموعات في ممارسة لعبة الفوز بالعَلَم ففكرت قائلًا: وما الفائدة التي تعود على الكتابة من تلك اللعبة؟
قمنا بممارسة اللعبة ثم كتبنا عنها، وشعرت بحميمية تجاه ذلك الفصل بعد ذلك النشاط البدني أكثر مما كنت أشعر بعد المناقشات المثيرة للعواطف، وأثناء فترة الفصل التالي تحدثنا عن العلاقة بين المشاركة في الأنشطة البدنية والإحساس بالألفة والمودة.
راحت جماعة أخرى تأكل الذرة المشوية وتشاهد أفلام الكرتون ثم بدءوا في رسم صور خاصة بأيام طفولتهم، ولقد تأثرت كثيرًا عندما قام أحدهم بمشاركة الفصل فيما قام به حين قال: هذا هو أبي حين اصطحبني معه إلى الغابات؛ كي أحتسي من قنينة النبيذ. وفي المجموعة نفسها لعبنا معًا لعبة الاستُغُمَّاية فوق رصيف المبنى الشاغر، وبالنظر إلى الوراء أجد نفسي غير قادر على معرفة الكيفية التي نجح بها كل شخص في إدارة درس الكتابة في الفصل بدون أن يلعب الاستغماية.
اقترحَتْ مجموعة أخرى كثيرًا من الاقتراحات، وقاموا بعرض كثير من الأسئلة والقضايا وسارعوا بطرحها علينا، وكان كل شخص يجيب على السؤال المعروض عليه، ثم رحنا نتجول في أرجاء الحجرة ونحن نتقدم بأجوبتنا إليهم واحدًا بعد الآخر، كانت الأسئلة رائعة ومهمة وكان سؤالي أنا: كيف تريد أن تموت؟
كان الطبيب البيطري الفيتنامي واحدًا من مجموعة أخرى، فكتب مع طالب آخر فوق السبورة تلك الكلمات: «حب الوطن، البطولة، الحرب، القنبلة، الدفاع القومي، المصلحة القومية، القذائف، الدبابات، البنادق، الطائرات المروحية، الجنود، الجنرالات.»
وكتبت مجموعتان أخريان على سبورة أخرى مجاورة للسبورة الأولى بعض الكلمات الخليعة والموحية بالإشارات الجنسية، مشينا حول الحجرة وقد بدت على وجوهنا ردود أفعال مختلفة من المكتوب فوق السبورتين، وأصبح الأمر واضحًا: لماذا يعتبرون الكلمات فوق السبورة الثانية كلمات فاحشة وقذرة بينما الكلمات الأولى ليست كذلك؟
شكلنا مجموعة أخرى وجلسنا على شكل دائرة، ثم رحنا نتبادل القول والحكايات عن الأشياء الأكثر خجلًا التي حدثت في حياتنا، وكان من اليسير أن يشارك الناس بعضهم البعض الأفعال الظاهرية فقط، فقال أحدهم بأن طفله الذي كان يتسم بالمزاح وكثرة الهزل ربط حبلًا حول رقبة قطة صغيرة ذات يوم، ثم انشغل بأمور أخرى، ولم يعد يتذكر ما فعله مع القطة الصغيرة، وحين عاد بعد نصف ساعة اكتشف أن الحبل مثبت عند حافة الأريكة، وعندما حاولت القطة أن تقفز اختنقت وماتت على الفور. وحدثنا أحد الرجال عن خيانته لزوجته، وبعد ذلك صمت الجميع وظللنا وسط الدائرة نقاوم دموعنا.
قامت مجموعة منا بتعليمنا كيفية القيام برقصة الريف والرقصات الغربية، وكان ذلك صعبًا بالنسبة لي لأن الحجرة كانت صغيرة جدًّا، فذهبنا إلى فناء المبنى المركزي للقيام بتلك الرقصات، وأثناء منتصف محاولاتنا على الرقص مضى بجانبنا اثنان من العاملين بالإدارة فابتسمت ولوحت لهما بذراعي، وأستطيع القول بأنني تعلمت كثيرًا من هذا الفصل، وظللت لسنوات وأنا أحاول الزج بتلك الأحداث في كتاباتي، وكان الإحباط يصيبني أحيانًا. كنا نقوم في فصل آخر بعمل أشكال مختلفة من الحلوى تعبر عن أمنياتنا وأحلامنا، فقام أحد الزملاء بعمل شكل كبير لكلب ذي ظهر أحدب ويخرج من صدره سهم كبير من عود الأسنان المصنوع من قرن الوعل، أما أنا فقد رسمت سدًّا عند النهر حيث تسبح أسماك السالمون، كذلك لعبنا في الفصل لعبة كرة القدم بعد أن ربطنا أعيننا حتى لا نرى، وكان الآخرون يشيرون لنا بالاتجاه الصحيح يقولون لنا: «شمال، يمين، لا، الاتجاه الآخر.»
انقسمنا إلى مجموعات، وكان على مجموعتنا أن تهبط من فوق قمة الجبل؛ لتكتشف أن كل الناس قد اختفت، وقمنا بتمثيل بعض الأدوار التي مثلت في أحدها دور الممثلة «شارون ستون»، ورحنا نقص الحكايات عن الأشباح والعفاريت. أما عن يوم عيد الحب فقد كتبنا قصصًا عن الحب الأول وعن ذكريات القلب المنكسرة أو الذكريات الجياشة، لقد استمتعنا إلى حد كبير.
•••
طلبوا مني في القسم أن أقوم بوضع امتحان نصف العام، ولم يكن القانون على أية حال يشمل شيئًا عن تقييم الامتحان مما ساعدني في اختيار ما أريد ومحاولة إضفاء بعض البهجة، وقبل يومين من امتحان نصف العام طلبت من الطلبة أن يكتبوا الأسئلة التي يرغبون في معرفة إجاباتها، وفي الفترة التالية قمت بتفريغ صندوق الأوراق الذي وضعوا فيه أسئلتهم ثم رحت أمشي حوله على شكل دائرة، لقد وضعوا أسئلتهم في الصندوق فقمت بهزه وإعادة تدويره مرة أخرى.
جاءوا في الحصة التالية وهم مستعدون للكتابة فأخبرتهم بأنني سأراقبهم بعناية حتى لا يسرقوا كتابات بعضهم البعض، وبعد انتهاء الحصة قرأت مقتطفات من كل ورقة.
كانت نوعية الأسئلة تدور حول الأفكار العميقة والمثيرة، والتي تحث على التحريض والاستفزاز، وكثير منها كان أسئلة شخصية مثل: ما ذكرياتك الأولى؟ هل كنت سعيدًا في طفولتك؟ متى شعرت بأسعد لحظات حياتك؟ هل عرفت شخصًا ما قبل أن يموت؟ هل شاهدت حالة ولادة من قبل؟ متى شعرت بخوف شديد؟
وكانت بعض الأسئلة ذات طابع سياسي مثل: هل نظام الولايات المتحدة السياسي قابل للإنقاذ؟ هل سيغزو بوش والولايات المتحدة العراق؟ (إنه لمن المثير أن يطرح أحدهم مثل ذلك السؤال داخل الفصل عام ١٩٩١م. وأنا متأكد بأنني لو كنت ما أزال أقوم بالتدريس في الغرب في العام ٢٠٠٣م لكان أحدهم سأل السؤال نفسه).
كان الكثير من الأسئلة قد اتسم بالطابع الروحاني والديني مثل: هل تؤمن بالله؟ من الله؟ هل هناك علاقة بين إيمانك أو عدم إيمانك بالله وإدراكك الشخصي للمبادئ الأخلاقية؟
كانت أسئلتهم في الغالب أسئلة واقعية وتعبر عن هواجسهم، وكذا كانت الإجابات في كثير من الأحيان واقعية، وأتذكر حين سألني أحد الطلبة يومًا ما ذلك السؤال المثير: أيهما أولًا، الدجاجة أم البيضة؟
فاجأني ذلك الطالب بإجابته على السؤال إجابة متعمقة فكتب يقول: لأن الدجاج من سلالة الديناصورات فمن الواضح أن البيض هو الذي جاء أولًا.
كان ذلك هو اكتشافه غير العادي لطبيعة الوجود والقضاء والقدر والإرادة الحرة والمصير فهل الدجاج حاضر وموجود في الديناصورات حقًّا؟ وبالمثل نستطيع طرح السؤال التالي: هل أفعال ذلك الطالب وتساؤلاته الآن وهو مراهق حاضرة وموجودة فيه منذ الطفولة؟ وما العلاقة بين ما هو عليه الآن وما سيكون عليه غدًا؟ ومن منهما سيبقى ويواصل حياته يومًا بعد يوم؟ وهنا يتحول السؤال إلى: من أكون؟
كل ذلك مثير جدًّا ومهم جدًّا وذو مغزى على ما أعتقد من القوالب الجامدة والمقالات والكتابات التقليدية مثل التي يكتبون فيها لمدة ساعتين في موضوعات عن التدخين السلبي أو عن متعة التسوق في المتاجر.