الوضوح
كيف لي أن أعرف عن اقتناع بأنني سأنجو بشخصيتي خارج الأبواب إلا إذا عرفت نوع مقبض الباب الذي يلف أصابعه حوله.
***
إن القاعدة السابعة في الكتابة هي أنك تريد للقارئ أن يفكر فيما تريد أنت له أن يفكر، ولا تريد أن يفكر القارئ فيما لا تريد له أن يفكر.
في أبسط المستويات فإن ذلك يعني أنك تتطلع إلى الوضوح؛ أي أنك تريد أن تكون واضحًا، بمعنى أنك لا تريد على سبيل المثال أن تكتب: «إن «جيم» و«بوب» يتبادلان الحديث ثم قال «جيم» …»
أنت تريد للقراء أن يفكروا فيما قد يقوله «جيم» و«بوب»، ولا تريدهم أن يتساءلوا عن هوية المتحدث إلا إذا أردت أنت ذلك، وهذا المستوى يعني الدقة.
دعنا الآن ننتقل إلى مستوى آخر، عندما كنت أصغر سنًّا كانت أمي تعمل في القسم الأمريكي الهندي في متحف دينيفر للفن، وكانت أيضًا تعمل لبعض الوقت وكيلًا للفنانين الهنود، وهكذا تعلمت كثيرًا عن ثقافة الشعوب، ونتيجة لذلك فإنني عندما كنت أرى الغربيين أثناء طفولتي لم أكن أفكر إذا ما كان سلاح الفرسان سيقبل الهنود إلى صفوفه، وكانت أمي تقول: إن الهنود البسطاء لا يرتدون الملابس المبهرجة، وكان ارتداؤهم لبعض القلادات المصنوعة من فك الدب وبعض الأشياء الأخرى المثيرة يُعَد ضربًا من الجنون، أما أولئك الهنود في غرب مونتانا فكانوا مختلفين ومثيرين للضحك. إذا كنت في طريقك لإنفاق ملايين الدولارات لعمل فيلم سينمائي يصور الحياة في الأقاليم الغربية من الولايات المتحدة الأمريكية فإنك لا شك ستقوم بعمل بعض الأبحاث، ويحدث الشيء نفسه حين تفكر في الكتابة فتبدأ بعمل الأبحاث الأساسية.
إذا شاهدتُ فيلمًا عن الحياة الغربية هذه الأيام فإنني لا أفكر فيما يريدني المخرج أن أفكر فيه، لكنني أفكر في الإبادة الجماعية وما ستكون عليه تلك الأفلام السينمائية التي يقوم بكتابتها وإنتاجها وإخراجها والتمثيل فيها أولئك النازيون، إنهم ليسوا غربيين فقط. وعندما أشاهد فيلمًا بوليسيًّا فإنني أفكر في الدعاية للدولة البوليسية، ومثال على ذلك ما سمعته من أن هناك فيلمًا جديدًا سيتم عرضه قريبًا عن خبراء شجعان في مقاومة الإرهاب يحاولون إيقاف الفوضويين والثوار عن وضع السم في مصادر تمويل المياه، وحينما ذهبت لمشاهدته لم أفكر في الخدع السينمائية، لكنني رحت أفكر في حقيقة أن الفوضويين والثوار لن يضعوا السم أبدًا في مصادر تمويل المياه؛ لأن الثوار الذين أعرفهم أو قرأت عنهم لا يفعلون مثل تلك الأفعال، كان من الممكن أن يكون الفيلم أكثر دقة وإثارة بالنسبة لي إذا قاموا بتغيير طفيف في السيناريو وجعلوا الثوار الشجعان يتصدون للرأسماليين وهم يقومون بوضع السم في المياه، جعلني ذلك الفيلم أعض أظافري.
كان المخرج «جورج روي هيل» مدركًا لهذه القاعدة عندما أخرج فيلمين كان يعرف من خلالهما أن المشهد الأخير الذي أراده لبطلي الفيلمين هو أن يقوما بإطلاق أكثر من ست طلقات نارية بدون إعادة شحن المسدس، لقد أراد أن يخدع لكنه لم يشأ أن يفكر المشاهدون في ذلك، كيف إذن فعل ذلك؟ لقد كرر مشهد البطلين وهما يقومان بإعادة شحن أسلحتهما، كان يريدنا أن نفكر في حقيقة أنه لا يقوم بالخداع، ولقد استطاع فعلًا أن ينجح في ذلك، إنه نوع مقبول من الخداع والمكر.
كتبت رواية منذ عامين لم تكتمل، وسوف أعاود العمل على إنجازها، وتدور الرواية حول إحدى الجرائم، استدعيت زوج إحدى صديقاتي الذي يعمل طبيبًا للطوارئ (كان صديق أحد أصدقائي الكتَّاب يؤكد على أن يكون لكل كاتب صديق من أطباء الطوارئ، وأنا لا أختلف معه في الرأي لكنني لم أجد ذلك الصديق حتى الآن).
سألت قائلًا: إذا كنت في طريقك لإطلاق النار على شخص ما من مسافة قريبة، لكنك لم تكن تريد للرصاصة أن تنفذ من الخلف فما نوع السلاح الذي ستستخدمه؟ وإذا أصابت الطلقة قلب هذا الشخص فما المدة الزمنية التي سيستغرقها حتى يموت؟ وماذا سيحدث في تلك الأثناء؟ إنه يعرفني جيدًا، فكان يفكر فيما أود له أن يفكر فيه ولا يفكر فيما لا أريد له أن يفكر فيه، لقد كان وقتًا عصيبًا أن يتجول أحد أصدقاء القاتل داخل الحجرة قبل عملية القتل، ولم يكن يعرف ذلك الصديق شيئًا عن الجريمة، طلبت من طلبتي في السجن أن يفكروا في أشخاص يعرفونهم قاموا بعملية القتل، ماذا كانوا سيفعلون في مثل ذلك الموقف؟ هل كانوا سيعملون على إيقاف عملية القتل؟ أم سيشتركون فيها؟ وهل كانوا سيقتلون الشاهد أيضًا؟
قال غالبيتهم بأنهم كانوا سيقتلون الشاهد، لكن أحدهم قال: لكن الأمر مختلف بين القاتل المتعمد وذلك الذي لديه شيء ما يريد إنجازه.
تم الحكم بالسجن على كثير من الناس؛ لأنهم لم يقتلوا الشهود، مع أن المنطق يحتم قتلهم. يجب أن ينشغل القارئ بالخطة ولا يردد بينه وبين نفسه قائلًا: أوه، لا يمكن أن يتم الأمر بتلك الطريقة.
لم تكن كل تلك التطبيقات عن حقائق مادية وعن بعض الأنشطة والممارسات التي تحدث من حولنا، ولكنها كانت من أجل النقاش وإعمال العقل، فأنت تريد للقارئ أن يكون معك وأنت تصنع الحدث، ولا تتمنى للقارئ أن يعترض أو يتساءل عن أشياء لا تستطيع الإجابة عليها.
سأل شخص ما ذات يوم الرئيس «ناثان بدفورد فوريست» عن الكيفية التي استطاع بموجبها أن يكسب كثيرًا من المعارك، فأجاب: أن تصل إلى ما يريده معظم الناس.
الإجابة نفسها تنطبق على الكتابة، فدائمًا ما أقول لطلبتي إن عليهم ككتَّاب أن يشعروا بقرائهم ويتواصلوا معهم، وعليهم أن يطرحوا الأسئلة ويقدموا اعتراضاتهم قبل أن يقوم القارئ بذلك، على أن يفعلوا ذلك بطريقة بسيطة.
•••
القاعدة الثامنة في الكتابة هي أن يقف صديقان فوق الرصيف المواجه للمطعم أثناء ذهابهما لتناول العشاء، فيقول أحدهما للآخر: ماذا تريد أن تأكل؟
يجيب الآخر قائلًا: لا يهم ما دمت لست مضطرًّا لتناول مرق الماشية، إنني أكره مرق الماشية.
– لم أعرف من قبل أنك تكره مرق الماشية.
– إنني أكرهه.
دخلا المطعم وجلسا وسألهما الجرسون عن الطعام الذي يرغبان في تناوله.
قال الشخص الثاني: لا يهم بالنسبة لي ما دمت لن أتناول مرق الماشية، إنني لا أحب مرق الماشية.
قال الجرسون: لا أعتقد أن هناك مشكلة فلدينا قائمة طويلة من مختلف أصناف الطعام الأخرى.
وعندما جاءوا لهما بالسَّلَطات كان مرق الماشية يغطي الأوراق الخضراء.
قال الرجل: لا أستطيع تناول ذلك النوع من السَّلَطات فأنا لا أحب مرق الماشية.
قال الجرسون: معذرة، سأحضر لك نوعًا آخر بدون مرق الماشية بما أنك لا تحبه.
بعد الانتهاء من تناول الوجبة سأل الرجل الأول صديقه: هل استمتعت بالطعام؟
قال صديقه: جدًّا، لقد استمتعت كثيرًا، إنها حقًّا وجبة رائعة، خاصة وأنني لم أكن مضطرًّا لتناول مرق الماشية لأنك تعرف أو ربما لا تعرف أنني أكره مرق الماشية.
تلك كانت نهاية قصة الصديقين، وها هو الآن الدرس المستخلص من تلك القصة: بعد قراءة تلك القصة فإن أول شيء سيقوله كثير من القراء هو أنهم لا يفهمون شيئًا، وسيتساءلون عن الذي يريد الكاتب أن يقوله بالضبط.
ليس مهمًّا درجة الوضوح التي ينبغي أن تكون عليها، إن الفرص جيدة لكنك لست كذلك، ولا يهم أن تلف وتدور مع القارئ في حوار وجدل واضحين، إن الفرص جيدة لكنك لا تمتلكها، وليس ذلك لأن القارئ غبي، تلك الصعوبة في التواصل هي شيء متأصل وطبيعي في الفن، فأنا لا أستطيع إخبارك بعدد كبير من الصور المؤثرة في كثير من الأفلام السينمائية، والتي فشلت في اجتذابي والسيطرة على مشاعري؛ لأنني كنت أحاول أثناء المشاهدة أن أتذكر الشخصية التي شاهدتها منذ ثلاثة مشاهد سابقة والشخصية التي ماتت في العشر دقائق الأولى من الفيلم، ثم فجأة وفي تلك الأوضاع أستطيع أن أفهم — بعيدًا عن العنصرية في اختيار الألوان — السبب في امتلاك أولئك الغربيين السفهاء للأولاد الذين يرتدون القبعات السوداء.
قرأ الطلبة حديثًا قصته في السجن فقلت: أنا أحب الطريقة التي تفاعلت بها الشخصيتان لكنني أجد نفسي في موضع التساؤل طوال الوقت عن طبيعة علاقتهما، إنهما يبدوان صديقين حميمين رغم الفارق الكبير في عمريهما فكيف تقابلا؟
أجاب واحد من طلبتي: لقد قلت في الصفحة الثانية بأنه ينظر إلى أبيه …
إنني آسف فلم أسمع ذلك.
وفي الصفحة السابعة نادى شخص ما على الآخر مستخدمًا كلمة الابن.
كنت أعتقد أن تلك هي لغة الخطاب بين الكبار من الرجال والأصغر منهم.
نظر كلٌّ منا إلى الآخر وقلنا معًا، وكأننا نمثل دورًا في مسرحية: مرق الماشية.
ثمة أمر أكثر أهمية من رؤيتي المتواضعة مع أي من أنواع التواصل، إن أشكال الدافع البدائي داخل الأحاسيس التي تتشابه لكنها لا تماثل الدافع الأصلي لكثافة الحلم، ذلك الإحساس والشعور يوضح نفسه لكن الكلمات في أفضل أحوالها ليست سوى ظل لذلك الإحساس، إنني أتحدث أو أكتب تلك الكلمات، وبالطبع فإن الشخص الذي يستقبل تلك الكلمات يستحضر، مع استقباله ذلك، مفهومه الخاص، فالقرفة على سبيل المثال قد تستدعي ذكريات مختلفة، أو قد تعني لك شيئًا مختلفًا عما تعنيه لي أنا، والشيء نفسه يمكن قوله عن الجنس والحضارة وعن سمك السالمون، تلك الكلمات قد تستقر داخل الشعور وتؤدي ربما في النهاية إلى تشكيل دوافعك، ومع التفسيرات العديدة المختلفة لا عجب في أننا غالبًا نسيء فهم كلٍّ منا للآخر، ويحدث ذلك بين شخصين يتحدثان اللغة نفسها، يا له من سوء فهم كبير ومعقد! عندما لا يتشارك الناس في الخلفية الثقافية العامة أو في التحدث بلغة مشتركة فما المدى الذي قد نصل إليه حين نسمع كلبًا يتحدث أو شجرة أو حجرًا؟
في سنوات العشرين من عمري، عندما كنت في بداية تعلمي الكتابة، كان عدم مقدرتي على جعل كتاباتي ملائمة من حيث الجمال وقوة العالم الطبيعي لأحلامي الخاصة تؤرقني، غير أن ذلك العجز ظل ملازمًا لي حتى هذه اللحظة ولم أستطع التعبير بالوصف في كتاباتي، ثم فجأة، وفي يوم من أحد الأيام، أدركت بأنني كنت أحمق، لقد رأيت علامة توقف السيارات وفكرت بأن لا أحد يتوقع لتلك العلامة أن تكون سببًا في توقف سيارته، وبالمثل فإنه لا ينبغي أن أتوقع للكلمات أن تكون عوضًا عن الخبرة والتجربة، إذ ليس من وظيفة الكلمات أن تقوم بذلك الدور، على الرغم من التأكيد على إمكانية إساءة استخدام الكلمات، إن وظيفة الكلمات هي أن ترشدنا إلى الخبرة، وتساعدنا في الالتفاف حولها ومحاولة الاستفادة منها، كما تعمل الكلمات على تبسيط تلك الخبرة وتوضيح الطرق لنا للمشاركة، ولو بجزء ضئيل من تلك الخبرة والتجربة، مع من نحب، إن وظيفة الكلمات تتمثل أيضًا في مساعدتنا على تعلم كيفية العيش والتصرف كآدميين.
•••
لم يحدث أن قبَّلتُ صديقتي القديمة قط، وكنا غالبًا ما نتحدث عن السبب الذي لم يجعلنا في حالة من الترابط العاطفي في أواخر العشرينيات من عمرنا، وكان أحد الأسباب هو عدم قدرتنا على قراءة إيماءات وإشارات كلٍّ منا للآخر، كنا كثيرًا ما نتبادل الأحاديث العاطفية والمبهجة، ولم تكن تتوقف عن التحديق في وجهي بعينيها الواسعتين، وكان ذلك يصيبني بالارتباك، كنت أعرف تمامًا من خلال مشاهداتي للأفلام السينمائية أن القبلات تأتي من النظرات المرتعشة والإشارات المبهمة والنظرات الجائعة إلى الشفاه، وهذا ما لم يحدث أبدًا معي، وقد اكتشفت مؤخرًا أن صديقتي تتحدث بلغة مختلفة، وفي النهاية كان كلانا يذهب للنوم وحيدًا، إنه مثال عملي من درس مرق الماشية.
•••
قاعدة أخرى للكتابة كنت أطلق عليها أنا وأحد طلبتي: السباق أو التسلسل أو اقتفاء الأثر، ولقد أطلقنا عليها ذلك الاسم لأنها تحاول التأكد من أن القارئ وهو ينتقل من كلمة إلى أخرى، ومن صورة إلى أخرى، ومن حوار إلى آخر، فإنه يتنقل بنعومة (إلا إذا أردت أنت ألا يفعل ذلك). إنني أستطيع مثلًا أن أقرأ وصفًا لوجه امرأة قام «ريموند شاندلر» بكتابته، ثم حين أعاود قراءة الوصف نفسه يمكنني أن أدرك أن طريقته في الوصف كانت جزافية ولم تخضع لأي نوع من التوجيه، بدءًا من وصف الشعر إلى الوجنتين إلى الشفاه والذقن والرقبة وحتى الأثداء، إنه يمضي في الوصف بطريقة سلسة وناعمة، ويتنقل من الشعر إلى الأثداء ثم يعود إلى الوجه.
قد يكون أسهل الأمثلة على ما أطلقت عليه أنا وأحد طلبتي بالسباق أو التسلسل أو اقتفاء الأثر، هو ما يبدو في الأفلام السينمائية، فلنقل مثلًا بأنك تتبادل معي الحديث الآن، وأن الكاميرا تعرض أولًا وجهك حين تتحدث، ثم تنتقل إلى وجهي وأنا أتحدث، وبعد ذلك تعاود التركيز على وجهك حين تبدأ بالكلام … وهكذا، عندئذٍ سيكون انتباه المشاهد موزعًا بيننا، وبعد لحظة معينة أثناء قيامي بالحديث تبدأ الكاميرا في إظهار شخص ما وهو يتسلل عبر الباب ويحمل سكينًا بين يديه، إذا كانت تلك كل ما يريد صانعو الفيلم من توصيله إلى المشاهدين فلن يكون لديهم أي فكرة عما يجب أن يشعروا به، كان بمقدور الرجل الذي يحمل سكينًا أن يقسم العالم إلى نصفين، ومن ناحية أخرى يمكننا القول: إذا كنت أحدق في وجهك مثلًا ثم رحت أحدق في مكان ما خلف كتفك الأيسر فإن تركيز المشاهدين سيكون مع تحركات عيني، وفي أكثر الاحتمالات سيأمل المشاهدون في رؤية الرجل الذي يحمل السكين وهو يتسلل خلفك.
لقد تعلمت من تسلسل الأحداث عند «ألفريد هيتشكوك» و«جون كيبل»، إن أحد المشاهد النفسية عند «هيتشكوك» تمثلت في تصوير بطلة الرواية «ماريون» وهي تسرق ٤٠٠٠٠ دولار من الرجل الذي تعمل عنده، وكنا نرغب حينها ألا يكتشفها أحد وتنعم بتلك النقود، وحين همت بمغادرة المدينة شاهدت رئيسها وهو يعبر الطريق، وتمنينا وقتها أيضًا ألا يتوقف عن العبور، وفيما بعد نامت «ماريون» في عُرض الطريق، وراح رجل الشرطة ينظر من خلال نافذتها، وانتابتنا رغبة كبيرة في ألا يرى النقود في محفظتها. ذهبت إلى الفندق وتم قتلها في الحمام.
كانت اللقطة الثانية هي التي تعلمت منها كيفية تسلسل الأحداث، فقد راحت الكاميرا تتنقل بين عينيها المغلقتين وبين النقود الملفوفة في الجريدة، ثم عبر الحجرة وصولًا إلى النافذة المفتوحة، ثم باتجاه المنزل الذي يقيم فيه «نورمان بيتس» مع أمه، سمعنا بعد ذلك «نورمان» وهو يصيح قائلًا: أوه، يا إلهى، أمي، الدم، الدم.
اندفع بعد ذلك عبر رَدَهات الفندق وبدأ في إزالة آثار حادثة القتل، ووضع جثة «ماريون» في صندوق سيارتها الخلفي، وبينما كان يضع أجزاء الجسد الذي قام بتنظيفه أيضًا كانت ثمة سيارة تمر بجواره، كنا نحن جماعة المشاهدين قلقين بشأن «نورمان» الذي مضى بعد ذلك بسيارتها بعيدًا، واتجه نحو المستنقع خلف أحد الفنادق الصغيرة على الطريق العام وغطاها بأوراق الشجر، بدأت السيارة تغوص في الأرض حتى لم يعد يظهر منها إلا السقف العلوي، لقد رأيت مثل تلك الأعمال مرات كثيرة في المسرح، وفي كل مرة كان المشاهدون يلهثون ويشعرون باضطراب في التنفس ثم يعبرون عن ارتياحهم عندما تغرق السيارة عن آخرها.
ولكن ما الذي حدث بالضبط؟
قبل ذلك بعشر دقائق تعاطفنا نحن المشاهدين مع «ماريون»، لكننا — فجأة — تمنينا لو أن «نورمان» يقوم بالهرب بعد جريمته، كانت تلك معالجة فنية رائعة، كيف فعل «هيتشكوك» ذلك؟
أما درس «جون كيبل» فقد كان شخصيًّا أكثر، لقد كان أستاذي الذي علمني الكتابة عندما تخرجت، وكان عندما يقرأ قصصي كان غالبًا ما يسألني بعض الأسئلة التي كنت أتصور في البداية أنها أسئلة تتسم بالغباء، فقد كتبت ذات مرة على سبيل المثال عن امرأة تقف في مطبخها ثم همت بالخروج إلى الشارع، فسألني عندئذٍ وقال: كيف دخلَتْ إلى هناك؟
اتسمت نغمات صوتي بقليل من القلق، وأجبت بنفاد صبر: لقد ذهبَتْ من خلال حجرة المعيشة وخرجَتْ من الباب الأمامي بعد أن هبطت السلالم واتجهت للبوابة الرئيسية ثم مضت عبر الرصيف.
قال: لم تخبرني بذلك.
قلت: إنه لأمر واضح ولا يتطلب القول.
قال: ليس بالنسبة للقراء.
أدركت بعد وقت قصير أن أسئلته لم تكن تتسم بالغباء على الإطلاق، لكنها ساعدتني كثيرًا في إجباري على التفكير بطريقة نقدية، كما أنني تمكنت من خلالها، وبشكل محدد، من الانتباه لتتابع الأحداث، والعمل على ذلك من خلال رؤية القراء وكيفية مشاهداتهم للأحداث، والعمل على مد جسور منطقية بين كل حدث والحدث الذي يليه، وبين كل جملة والجملة التي تليها، وبين كل حوار والحوار الذي يليه، ولم يمض وقت طويل بعد ذلك إلا وأصبحَتْ أسئلته هادئة ومرشدة لي، وعندئذٍ لم يعد يطرح مزيدًا من الأسئلة.
لم يكن يهم حقًّا إذا ما كنا نتحدث عن الأفلام السينمائية، أو الروايات، أو عن فن الجدل ومهاجمة آراء وأفكار الآخرين، أو تطبيق دروس المسلسلات، أنت تريد لمشاهديك أن يتبعوا الطريق الذي تريد لهم أن يتبعوه (إلا إذا كنت لا تريد)، كما تريد لمنطقك أن يكون واضحًا وشفافًا وسهلًا، فيما عدا بالطبع لو أنك لا تريد.
•••
ثمة درس أخير في فن الكتابة، لقد اعتدت تعليم طلبتي كيفية كتابة حوار جيد، والعمل من أجل تحقيق ذلك يُعَد أمرًا بسيطًا، وهو ألا تجبر الطلبة على أن يجيب كلٌّ منهم على أسئلة الآخر.
يمكنني القول بشكل أكثر وضوحًا إن الحوار الرديء هو أن يسأل شخص ما مثلًا شخصًا آخر ويقول: كيف حالك؟
– ليس على ما يرام.
– لماذا؟ وماذا بك؟
– خسرت خمسين دولارًا بالأمس.
– كيف؟
– أنا واثق أن ذلك ما حدث في الرِّهان.
– هل بدأت تقامر من جديد؟
إن ما لم يتم ذكره في الحوار السابق هو الحقيقة القائلة بأن المراهنات لا تعتبر عادةً نوعًا من أنواع المقامرة، وإنما هي مجرد مساعدة خيرية لوكيل المراهنات.
وفي رأيي أن الحوار التالي أفضل كثيرًا:
يسأل شخص ما شخصًا آخر قائلًا: كيف حالك؟
– اللعنة على المقامرة.
– هل بدأت تقامر من جديد؟
هكذا تم نقل المعلومات نفسها بكلمات أقل.
يتحدث الناس غالبًا عن رغبتهم في أن يكون الحوار واقعيًّا، غير أن ذلك هو آخر شيء يريده القارئ، وإذا تبادلت أنت معي الحديث مثلًا فإنك ستقول ما تريد أن تقوله، وستكون متأكدًا من أنني فهمت رسالتك، ثم سأعيد أنا استئناف ما قلته لتعرف أنني سمعتك.
قال الرجل للمرأة أثناء لقائهما في موعد غرامي: لقد سئمت الحديث عن نفسي فلماذا لا تتحدثين أنت عني بعض الوقت؟ ولكننا سنتجاهل ذلك الاحتمال الآن؛ لأننا لا نتحدث عن المونولوج وإنما عن الحوار، بعد ذلك سأقدم إجابتي على تعليقاتك، ثم سأستخدم كلمات أقل في الحوار معك، وتفعل أنت معي الشيء نفسه، وبذلك نعمل معًا على إثراء المناقشة والحوار، وتمضي المحادثة بيني وبينك حتى تصل إلى هدفها النهائي. قد يجعل ذلك القراءة مملة ولا يمكن التسامح من أجلها، وتذكر أن كثيرًا من الأفلام السينمائية أقصر من معظم المحادثات والحوارات الحقيقية الجيدة التي كنت طرفًا فيها.
إن الإجابة عن كل ذلك سهلة وبسيطة، وتتمثل في كيفية الإيجاز وتمديد الفراغات بين السطور. أحيانًا أرى أن كتابة الحوار شبيهة بوضع ما يكفي من الأحجار وسط جدول من الماء للعبور دون أن تبتل الأقدام، فإذا وضعت الأحجار قريبة جدًّا من بعضها البعض فإنك تستطيع أن تخطو بأمان وتكفي خطوات طفل صغير للعبور، أما إذا كانت الأحجار بعيدة عن بعضها البعض فإنك معرض للسقوط، والشيء نفسه يحدث في الحوار عندما ترغب في أن يخطو القارئ خطوات الطفل، لأنك لم تضع مسافات كافية بين التعليقات.
إن التدريب الأول على الحوار الذي أعلمه لطلبتي هو التدريب نفسه، فغالبًا ما أطلب منهم أن يكتبوا قصة وأقول لهم بأن كتابة القصة لن تكون جيدة إلا من خلال الحوار، وأن القيام بعملية الوصف ليس مسموحًا به، لكنني أريد تصويرًا للمشهد، ومعنًى إذا كنت تريد للقارئ أن يعرف، عليك إدراك الطريق الطبيعي لشخصية واحدة لتقول ذلك لشخصية أخرى؛ كأن تقول مثلًا: تلك السيارات اللعينة دائمًا ما تجعل حالة الربو التي أعاني منها أسوأ مما هي عليه.
لديك شخصيتان يريد أحدهما أن يحقق هدفًا ما، ولن يتوانى عن فعل أي شيء لتحقيق ذلك الهدف، أما الآخر فإنه لا يريد ولا يرغب في تحقيق ذلك الهدف، ولن يتوانى أيضًا في عمل أي شيء للحيلولة دون تحقيقه، وأنت هنا لا تستطيع الحديث صراحة عن ذلك الهدف أبدًا، ولكن يجب أن يفهمه القارئ من خلال الشخصيتين.
لم يوافق بعض طلبتي في السجن واعترضوا كثيرًا. كان اثنان في طريقهما للسطو على مخزن للخمور، وكان أحدهما مريضًا بداء السرقة. أو أن اثنين من المدمنين كانا يتعاطيان الهيروين، وكان كلاهما يعتقد بأن الآخر لا يريد مشاركته، وكان مروج المخدرات يرغب في أن تشاركه صديقته في البيع وتسليم المخدرات لتكون بمثابة العين التي تحميه وتراقب من حوله. كل أولئك كانت شخصيات درامية تفوق في مأساتها عدم الموافقة من قبل طلبة الكلية أو من قبل الجالسين في ورش الكتابة.
•••
لقد تحدثت عن قواعد الكتابة لكنني لم أذكر شيئًا بعد عن القاعدة الأولى للتعليم التي يجب الإعداد لها عشر مرات على الأقل أكثر من المناقشات والأسئلة التي تعتقد بأنك تحتاجها، وليس في ذلك أي نوع من الغلو.
لقد وصفت في هذا الكتاب المناقشات التي تدور داخل الفصل، والتي تتم على أكمل وجه، غير أنني لم أتناول في حديثي شيئًا عن تقليب الصفحات المفاجئ. هناك قليل من المشاعر أسوأ من انشغالك بالأسئلة ومحاولة الإجابة عليها.
يقودنا ذلك إلى جانب آخر، وهو تعليقي على شغف الطلبة لمعرفة المعنى الذي لم يستجيبوا له، وكنت أعرف منذ البداية أن ذلك ليس خطئي، لأنني كنت أترك الفرصة لكل قسم في التحدث كل ليلة حتى نهاية الوقت وحتى الانتهاء من موضوع المناقشة.
كانت بعض الفصول التي لا تريد التحدث معي ومناقشتي تتحدث عادة حين يحل أحد الطلبة مكاني في قيادة الفصل. لم يهتموا بمحاولاتي في حثهم على الكلام، وكانوا يكرهون رؤية واحد منهم في حالة من الارتباك، وذات ليلة كانت لديهم سلسلة من الأسئلة عن الله والدين ورؤًى مختلفة عما يمكن أن يحدث بعد الموت، وكانت الطريقة التي تشكلت بها آراؤهم طريقة مثيرة حقًّا، ولم تكن الأسئلة في حد ذاتها أمرًا مهمًّا، لأن أحدًا سواي لم يجب على أسئلتهم. وبعد أن ساد بعض الهدوء انتقلت من حالة الارتباك والحرج إلى حالة الألم، ثم من حالة الألم إلى الارتباك، وفي النهاية قال أحد أعضاء المجموعة في غضب: ألا يحب أحدكم أن يفكر؟
أجاب أحد الرجال قائلًا: لا، أنا لا أحب فعلًا أن أفكر.
نظر إليه أعضاء المجموعة نظرات استياء، لكنني سارعت طالبًا منهم أن أتولى الأمر قبل أن يقول شيئًا ردًّا على نظراتهم المستاءة، فرحبت المجموعة، وشعرتُ بالسعادة لذلك.
قلت وقد ملأتني الإثارة: لا توجد أحكام على الأسئلة التي سأطرحها عليكم، إنني حقًّا مهتم، وإذن كم منكم لا يحب التفكير؟
رفع حوالي ثلث الفصل أياديهم، وكان هو الثلث الذي خمنت أنه سيفعل، وشعرت بطريقة ما ببعض الارتياح لرؤية تلك الأيادي المرفوعة، لقد ساعدتني تلك الأيادي المرفوعة على إدراك شيء ما وإلا كان الأمر سيظل مستعصيًا على الفهم بالنسبة لي، وظللت أسأل نفسي عما إذا كان الساسة والصحفيون يقومون بعمل الشر أم أنهم لم يفكروا أبدًا فيما يقومون به، ورحت أتساءل بيني وبين نفسي أيضًا عن اعتياد الناس على ذلك.
كنت أعرف بأنهم لا يُعملون عقولهم ولا يفكرون، لكنني أردت أن أتأكد فقلت متسائلًا: ماذا تفعل وأنت تستحم، أو وأنت تقود السيارة، أو عندما تذهب إلى الفصل؟
قال أحدهم: أنا أستمع إلى المذياع.
وقال آخر: إنني أضحك على برامج التليفزيون التي شاهدتها في الليلة السابقة.
وقالت الأغلبية: نحن لا نفعل شيئًا، أو بمعنى آخر نحن لا نعرف.
سألت واحدًا ممن يحبون الرياضة: هل حدث وفكرت في كرة القدم؟
– لا.
– لكنك تشاهد مباريات الكرة طوال الوقت.
– وليكن.
– ألا تفكر في نتيجة المباراة؟
– لا، إنني فقط أستمتع بالمشاهدة.
أريد القول بأمانة بأني لا أعرف كيفية التصرف حيال ذلك، لقد مضى على تلك المناقشة حوالي عشر سنوات ولم أزل أفكر فيها، وما زلت غير قادر على إدراك وفهم إجاباتهم، وخاصة مضمون تلك الإجابات.