من أنت؟
«رغبت فقط أن أعيش متصالحًا مع معتقداتي الشخصية، ولكن لماذا كان ذلك أمرًا بالغ الصعوبة؟»
***
تنطوي الحياة — في الحقيقة — على تساؤل واحد، وتحمل درسًا واحدًا، ولا ينفك ذلك التساؤل في مهاجمتنا برفق وبشكل متكرر وأينما ذهبنا، إن القمر ينطق بالتساؤل نفسه كل ليلة، وكذلك تفعل النجوم، كما يظل التساؤل في الإلحاح عندما تتساقط قطرات من المطر وتتعانق مع أوراق شجرة الأرز الطرية، وكذلك عندما تتجمع قطرات من المياه بين ثنيات أنفك أو عند جوانب فمك … الضفادع، الزهور، الأحجار، قطع البلاستيك الجامدة، كل تلك الأشياء تؤدي إلى التساؤل نفسه.
التساؤل هو: من أنت؟
أما الدرس فهو تساؤل آخر عما إذا كنا قد وُلدنا، أم أننا جئنا نتيجة بذور تم غرسها في الأرض، أم نتيجة لبيضة مفقوسة، أم أننا خرجنا من الحجارة، أم أننا سقطنا من السماء، وربما نكون قد عشنا ثم وافتنا المنية، أو تلاشينا أو تحطمنا وتكسرنا، أم أنهم قاموا بإلقائنا أشلاء في النهر أو البحيرة أو في أعماق البحر، إن الأمواج تتدفق نحو الخارج كي ترتد مرة أخرى من الشاطئ البعيد. وإذن ما الذي سوف تفعله في تلك الأثناء وأثناء حدوث كل ذلك؟ وما الذي ستحاول اكتشافه؟ وما الذي ستريد أن تكون عليه؟ من تكون أنت؟ ومن أنت تكون؟ وكيف ستتصرف حيال ذلك؟
إذا تطلب التعليم الصناعي الحديث والحضارة الصناعية بشكل عام، تعريفًا عامًّا للفرد، وتحويله من إنسان نابض بالحياة إلى إنسان آلي، وإلى قوًى عاملة مطيعة ولينة، فإن أقصى ما يمكننا فعله هو أن نتبع قلوبنا لإظهار حقيقتنا ومعرفة من نكون. نحن في حاجة ماسة للثورة بكل أشكالها المختلفة؛ من الشخصي جدًّا إلى العالمي، من الهادئ جدًّا إلى الصاخب الموجع، نحن نقضي على الحياة فوق كوكب الأرض ويقتل بعضنا البعض، إننا نقتل أنفسنا.
وما زال جيراننا وإخوتنا في الإنسانية، والطيور الطنانة، وأشجار التوت، والانفجار الحاد للزلزال الذي يوقظك من نومك ويسألنا: من أنتم؟ وماذا تمثلون بالنسبة لنا وبالنسبة لأنفسكم؟
إن نظامنا الحالي يفصلنا عن وجداننا وعن أجسادنا، ويباعد بيننا وبين جيراننا، ويخلع عنا إنسانيتنا، ويقتل الحيوان بداخلنا، ويحصرنا داخل دائرة العالم الذي نعيش فيه، كما يباعد بيننا وبين الأخلاقيات السوية، ويحرمنا من التفكير البدائي (كم هو رائع أن تدمر مكان إقامتك؟ ومن العبقري الذي ابتكر فكرة وضع السم في طعامنا وفي الماء الذي نشربه والهواء الذي نتنفسه؟)
لقد سمعت المدافعين عن ذلك النظام يقولون بأن اتباع الإنسان لعاطفته ووجدانه ليس كافيًا من الناحية الأخلاقية، وضربوا مثالًا على ذلك بهتلر الذي كان منقادًا لعاطفته ووجدانه عندما حاول أن يقهر العالم كله ويتخلص من أولئك الذين كان يراهم غير جديرين بالحياة، لكن هتلر لم يعد يتبع قلبه أكثر من أي منا نحن الذين نساهم بطريقة عمياء في الثقافة التي أنجزت ما أراده هتلر، ولم تستطع أن تصل به إلى الكمال. إن الحقيقة تتمثل في — كما بينتها في مكان آخر — أنها كلمة مطاطة وكثيرًا ما تتسبب في المتاعب، وذلك فقط من خلال الانتهاكات المخزية التي تحدث لقلوبنا وعقولنا وأجسادنا، والتي نغرسها نحن ونضعها في نظام حيث تصبح جزءًا من نفوسنا المشوهة والممزقة؛ كي نضفي نوعًا من الخلود على الطريقة القائمة على الاستغلال والتخلص من كل شخص وكل شيء يمكن أن نمسك به في أيادينا.
من خلال هذا السياق فإن السؤال الذي يسأله العالم كله في كل لحظة يصبح بلا قيمة، ولكنه يجعل الأمر أكثر خطورة، من أنت؟ من أنت حقيقة؟ من أنت في ظل ذلك الحصار وتلك الصدمات التي تثير الفوضى في حياتنا وتساهم في تشكيلها؟ وماذا تريد أن تفعل بتلك الحياة القصيرة جدًّا التي يُشاء لك أن تحياها؟ إننا لا نستطيع العيش بالطريقة التي نعيش بها إلا إذا لم نسأل أنفسنا ذلك السؤال وقمنا بتدريب أنفسنا والآخرين على اجتناب ذلك السؤال، بالإضافة إلى إجبار الآخرين على عدم طرح ذلك السؤال أمامنا، ومحاولة النيل من أولئك الذين يفعلون.
•••
كنا على وشك الانتهاء من الأسبوع الدراسي الأول حين توجهت بالسؤال التالي: إذا حصلتَ فجأة على مبلغ من المال أكثر مما تتخيل، أو فلنقل مليونًا من الدولارات مثلًا، فهل ستواصل دراستك؟
قال شخص ما: أفترض مبلغًا أكثر من المليون.
– حسنًا، ثلاثة ملايين.
– أكثر.
– لا تكن جشعًا وأجب عن السؤال، هل ستستمر في الدراسة؟
قال آخر: لا بد أنك تهذي، لا أحد في الفصل كله سيواصل المجيء إلى هنا لمواصلة الدراسة إذا امتلك مثل هذا المبلغ الكبير من المال.
لقد سألت السؤال نفسه على مدى سنوات عديدة حتى الآن، وكانت إجابات كل الطلبة تؤكد ترك الدراسة، فيما عدا خمسة أو ستة من الطلبة فقط هم الذين رغبوا في الاستمرار.
وتناقشنا حول ما يمكن أن يعملوه عند حصولهم على تلك النقود وترك الدراسة، فأخبرني الكثير برغبتهم في السفر، بينما قال البعض بأنهم سيبقون في بلدهم ويجلسون في البيت لمتابعة التليفزيون، كما عبر البعض الآخر عن رغبتهم في إقامة حفلات صاخبة، وأكد كثير من الطلبة على أهمية عدم مشاركة الوالدين والأقرباء والأصدقاء في شئونهم الاقتصادية، وقد سارع كثيرون أيضًا بالتعبير عن رغبتهم في شراء بيوت لذويهم، أما القليلون منهم، وبخاصة الأكبر سنًّا وأولئك الذين عادوا لاستئناف الدراسة بعد طول انقطاع، فقالوا بأنهم فيما عدا ترك المدرسة فإنهم لن يغيروا كثيرًا من طريقة حياتهم.
قلت متسائلًا: هل ستحصلون على وظيفة وتحافظون عليها؟
ضحكوا جميعًا، ولم يُجب أحد منهم بالإيجاب.
ثم أضفت مخاطبًا أحدهم: حسنًا، لقد حصلتَ على كل تلك النقود، وفي اليوم التالي ذهبتَ للطبيب لعمل فحوصات كالتي تقوم بعملها من وقت لآخر، وعندئذٍ اكتشفتَ بأنك مصاب بمرض لعين، وأنك ستبقى حيًّا لمدة عام دون إحساس بأي من أعراض ذلك المرض اللعين، وأنك ستبدو أمام الناس في حالة جيدة طوال الوقت، لكنك في نهاية تلك المدة ستموت فجأة، ماذا ستفعل عندئذٍ؟
– أمهلنا بعض الوقت للتفكير.
ضحكت قائلًا: إنه السؤال نفسه ولا يحتاج لمزيد من التفكير.
راحوا يفكرون، فقاطعتهم وقلت: هل ستواصلون المجيء إلى المدرسة؟
– بالطبع لا.
– إذا كانت فرصتكم في العيش على قيد الحياة محدودة فهل ستتقدمون للحصول على وظيفة؟
– بالطبع لا.
راح الكثير منهم يعبر مرة أخرى عن رغبته في السفر، بينما قرر آخرون البقاء وتمضية الوقت مع عائلاتهم، وقال عدد لا بأس به بأنهم سيُفْرِطون في ممارسة الجنس، وأعلنت واحدة عن رغبتها في أن يكون لها طفل، لكن بعضهم اعترض على رغبتها تلك؛ لأن الطفل سرعان ما سيصبح بلا أم، غير أن آخرين وقفوا إلى صفها وأيدوا فكرتها، أما القليلون فقالوا بأنهم سيتعلمون التحليق في الهواء، وفي اليوم الأخير سيقفزون بالمظلة، وقال أحدهم بأنه سيمشي في اليوم الأخير فوق جناح طائرة متحركة لينتهي نهاية مأساوية، وفي الأخير قال اثنان بأنهما سيقضيان أيامهما الأخيرة في المستشفى أملًا في الشفاء.
عندما بدأت ردود الأفعال والإجابات تتوقف سأل واحد من الطلبة باهتمام شديد: وما الهدف من مثل هذا السؤال؟
فكرت لحظة ثم هززت كتفي قائلًا: لمجرد اللهو والمزاح.
بدا أنه اقتنع بإجابتي، فسأل شخص آخر قائلًا: وماذا لو كان الأمر مختلفًا؛ بمعنى أنني امتلكت كل تلك النقود دون أن أعاني من أي مرض؟
قلت: ليس شيئًا سيئًا.
لا شيء؟
قد أخرج لأتناول مزيدًا من الطعام فأنا لا أجيد طهي الطعام، وإذا امتلكت مزيدًا من النقود فسوف أشتري أرضًا.
رفعت امرأة يدها بخجل، فنظرت إليها وأومأت لها برأسي، ثم قالت بهدوء: ألا تعتقد عندئذٍ أنه بمقدورك شراء سترة جديدة تكون مناسبة لك؟
وأضاف آخر: ولتفعل شيئًا بخصوص تلك القمصان التي ترتديها، من أين تُشترى تلك القمصان؟
حسنًا، في الحقيقة …
اتفقوا جميعًا على شراء ملابس حديثة من أجلي في حال امتلاكهم النقود، وتحدثوا في كل التفاصيل التي تجعلني في النهاية لائقًا من حيث المظهر، ثم سأل أحدهم: وماذا لو أنك ستعيش سنة واحدة فقط؟
أجبت: سوف أكتب بلا توقف، فبداخلي قائمة طويلة من الأشياء التي ينبغي كتابتها، ولا أريد أن أموت دون الانتهاء من كتابتها.
هل ستقوم بعمل شيء خاص في اليوم الأخير؟
أجبت قائلًا: أوه، سأطوق نفسي بحزامٍ ناسف، وأسارع إلى أقرب سد أو خزان، وذلك أقل ما يمكنني عمله للنهر ولأسماك السلمون.
•••
سألتني امرأة أثناء إحدى محاضراتي الأخيرة عما يجب أن تفعله مع ابنها ذي الخمسة عشر عامًا، والذي هو على الرغم من أنه شخص جميل ورائع، فإنه يكره المدرسة ويكره التدبير والثقافة، وقالت بأنها لا ترغب في إجباره على العمل، ولقد بذلت أوقاتًا عصيبة من أجل إقناع نفسها بضرورة حثه على البقاء في المدرسة.
عجزتُ عن التفكير ولم أستطع أفضل من القول: إنه لموقف صعب. حقًّا، أنت تريدين تعليم الأولاد كيفية تحمل المسئولية، ولكن المسئولية طبقًا لثقافتنا هي الذهاب إلى المدرسة والحصول على وظيفة، وكيفية أن تكون عبدًا، ولكن كيف تستطيعين تعريف المسئولية وتعليمها للأولاد في ظل كل تلك القيود والمعوقات؟ أنا لا أعرف!
تنفستُ بعمق، وقبل أن أتمكن من الاستمرار ظهرت امرأة أخرى من بين الحضور، وكانت هي صديقتي القديمة «كارولين رافينسبيرجر» ثم تساءلَتْ عما إذا كان بمقدورها المحاولة رغم القيود.
أومأت برأسي، فقالت: أحد أهم الأشياء التي يمكننا القيام بها هو مساعدة الشباب لمعرفة طريقهم الصحيح، والذي يستطيعون من خلاله أن يكونوا في خدمة شيء أكبر من ذواتهم، إن السبب الوحيد الذي يجعل الأطفال في العادة يذهبون إلى المدارس والكليات هو الرغبة الأزلية في التحرك إلى الأمام، لكننا نفشل في تعليم أطفالنا العمل على خدمة شيء أكبر من ذواتهم مما قد يقودهم إلى حياة سعيدة ومرحة، ويؤدي بهم إلى الشعور بالرضا، وإلى العيش في ظل حياة ثرية وبيئة طبيعية.
نظرت المرأة إليها باهتمام، كما فعل كثير من الموجودين في الحجرة، فاستطردت «كارولين» قائلة: كل ذلك يبدأ بالسؤال عن أكبر المشاكل وأهمها التي أستطيع القيام بحلها باستخدام مواهبي ومهاراتي، وحتى يمكنني الإجابة بشكل مبدئي على ذلك السؤال يجب أن أبدأ بتحديد المسار المناسب والبسيط.
ذلك ما جعلني أفكر في ما كان فلاسفة الإغريق يطلقون عليه فلسفة السعادة، لكنني أعتقد — إذا التزمنا مزيدًا من الدقة — بأنه التوافق والتطابق، وعندئذٍ يمكن طرح السؤال التالي: كيف تتوافق أفعالك مع مواهبك؟ وكيف تتوافق مع شخصيتك؟
إن مفهومي لذلك هو أننا بعد الموت نعيش مئات المرات التي نتعامل فيها كما كنا نتعامل مع الآخرين قبل أن نموت، وعندما يأتي دورنا في البعث من جديد فإننا نقرر من سيتولون رعايتنا ويصبحون آباء وأمهات لنا، وكذلك نقرر ما ستكون عليه مواهبنا وأهدافنا، وقبل أن نأمل في العودة إلى هذا الجانب فإننا نتناول شرابًا ما يجعلنا ننسى كل شيء، وبعد أن نصبح أحياءً مرة أخرى يصبح لزامًا علينا أن نتذكر مواهبنا وقدراتنا، والمهام التي ينبغي القيام بها ويتحتم علينا إدراكها بمساعدة الأرواح التي تقوم بتوجيهنا، أو بتوجيه من الأرواح التي تحرسنا. وهكذا فإن فلسفة السعادة التي تبناها فلاسفة الإغريق تعني ببساطة أن تمتلك روحًا حارسة تكون بمثابة الوصي.
أضافت «كارولين»: بعد انتهائي من الجامعة والدراسات العليا لم أكن أعرف شيئًا عما يجب أن أفعله بحياتي، ففكرت أن أدرس القانون على أمل مزيد من التقدم، لكنني فشلت في البداية، وربما كان ذلك شيئًا جيدًا؛ لأنني لو لم أفشل لكان من المحتمل أن أصبح موضوعًا شائقًا للمزاح، غير أنني بعد ذلك استشعرت ضرورة الالتحاق بمدرسة القانون بهدف تحقيق رغبتي في العمل في مجال حماية البيئة، وعندئذٍ حققت نجاحًا ملحوظًا، لقد كنتُ الشخص نفسه في المرتين، لكن غياب الهدف في المرة الأولى هو ما أدى إلى الفشل، بينما كان الحافز في المرة الثانية هو سبب النجاح. عندما يعرف الناس نوع المشكلة التي يرغبون في حلها، ويستخدمون في ذلك مهاراتهم التي يتفردون بها، فإنهم غالبًا ما يعرفون ما يحتاجونه للقيام بالخطوة التالية.
•••
طلبوا مني إلقاء محاضرة لطلبة المرحلة الثامنة حتى المرحلة الثانية عشرة، فاعتراني الخوف أكثر مما كان يحدث لي في السجن، وأخبرت الأولاد عن مخاوفي وعن أسبابها قائلًا: عندما كنت في السنوات الأولى من التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي، وكانوا يجبرونني على حضور كل الدروس، كنت أجلس في آخر صف من الفصل واضعًا يديَّ في جيوبي.
ثم طلبت منهم أن أرى أياديهم فرفعوها عاليًا وهم يضحكون.
بذلت مجهودًا كبيرًا في التفكير فيما يمكنني قوله لهم، وفي كيفية شرح وتوضيح القاعدة الأولى التي يجب مراعاتها أثناء الكتابة أو الحديث، وفكرت بشكل خاص فيما يمكنني أن أقدمه لهم ويكون مساويًا للوقت الذي منحوني إياه، وفي النهاية قررت كالعادة أنني يجب أن أقول الحقيقة عندما يفشل الجميع، فقلت لنفسي بأنني سأخبرهم عن بعض الأشياء التي كنت أرغب أن يخبرني بها أحدٌ عندما كنت في مثل أعمارهم، وعندئذٍ قلت: أعتقد أن أول شيء كنت أرغب في معرفته عن طريق شخص ما هو القول بأن كراهية المدرسة شيء عادي، وأنه من الجنون حقًّا أن تتوقع جلوس الناس بلا حراك وهم يتظاهرون بالاهتمام، والأمر الأكثر جنونًا هو أن تتوقع تعاطفهم وحبهم. يبتهج الأولاد بعد فترة من الخمود، فهل المديرون باستثنائي أنا يعتقدون أو يظنون في أسباب مختلفة.
الشيء الثاني الذي تمنيت أن يخبرني به أي شخص هو أن الأشياء ستمضي إلى الأفضل إذا قام كل فرد بواجبه. قال أحد الطلبة في حفل تخرجنا من المدرسة العليا بأننا في يوم ما سنشتاق كثيرًا لأيامنا هذه، وسوف ننظر لها على أنها أفضل أيام حياتنا، وكان أول شيء فكرت فيه حينئذٍ أن المرحلة كلها سوف تتلاشى وتتحول إلى آلاف من الذكريات المتناثرة، لكنني بعد ذلك مباشرة فكرت لو أن ذلك هو ما سيحدث بالفعل لسارعت بقتل نفسي، لكن الأشياء تتجه للأفضل. كانت سنوات العشرين صعبة وربما كريهة مثل سنوات المدرسة، لأنك تستنزف وقتًا طويلًا حتى يمكنك الشفاء منها لتبدأ بعد ذلك في الفهم والتفكير والإحساس بنفسك، وهي سنوات صعبة أيضًا لأنك تتعلم خلالها كيفية التفكير، وتكتشف حينها أنك جزء من العالم. أما سنوات الثلاثينيات فهي سنوات ممتعة لأنني أدرك خلالها مَن أكون، وتكتمل أثناءها فكرة معرفة الذات، وأبدأ فعلًا في معايشة نفسي. والشيء نفسه بالنسبة لسنوات الأربعينيات فهي أيضًا سنوات ممتعة وعظيمة.
الشيء الثالث الذي كنت أتمنى أن يخبرني به شخص ما هو ألَّا ينبغي أن أكون ضعيفًا، وأنه يجب أن أمضي في طريقي لتحقيق النجاح، وأن أطلب من الآخرين إفساح الطريق.
أدركت من نظراتهم المرتسمة فوق وجوههم أنهم فهموا كلامي على أنه نصيحة، فأخبرتهم بأن آخر ما قالته لي أمي، أثناء صعودي للطائرة المتجهة إلى كاليفورنيا في فترة الصيف، قبل انتقالي إلى المرحلة النهائية من المدرسة الثانوية، هو قولها: «تأكد أنها في الثامنة عشرة من عمرها»!
ثم قلت لهم: إن ما قالته أمي كان أفضل شيء تقوله لشاب خجول جدًّا ليست له خبرة مع الفتيات، مثلي مثل كثير من أصدقائي وربما مثل جميع أصدقائي. تمنيت أن أخبرهم بشيء آخر لكنني لم أفعل، ربما لأن اللغة لم تسعفني، ولقد ندمت بسبب خجلي أكثر مما ندمت على تهوري وطيشي في بعض الأحيان. كانت الأحداث التي لم يتم إنجازها أكثر من تلك التي حدثت بالفعل، ولم يحدث الندم أبدًا مع الانقياد لقلبي وعواطفي، ومع الالتزام بالمودة والألفة مهما ترتب على ذلك من ألم، لكن — بسبب الخوف — كان الندم يجتاحني عندما كنت لا أشارك في الوقت الذي يجب أن أشارك فيه، وكذلك لم أكن أنصرف في الوقت المناسب، لقد اعتراني الندم عندما تملكني الخوف، وتمنيت لو أنني أخبرتهم أن ذلك ما حدث بالفعل، وليس مع امرأة وإنما مع كل شيء.
حكيت لهم عن الوثب العالي، وقلت لهم إنني كنت أخاف التنافس في مسابقات الوثب العالي — رغم حبي الدائم له — حتى أصبحت في السنة الثانية من دراستي الجامعية حيث لاحظني المدرب وأنا أقفز حول الملعب وأقنعني بضرورة الاشتراك في المنافسة، وفي النهاية استطعت تحطيم الرقم القياسي وحصلت على البطولة، لكنني بعد التخرج أصبحت خارج المنافسة، وحين تملكني خوف البداية من جديد أضفت قائلًا لهم: كم كان جيدًا وجميلًا كل ما استطعت الحصول عليه والقيام به.
ثم استطردت قائلًا: أخذت عهدًا على نفسي بأن أفعل ما أريد وما أستطيع القيام به في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان.
قلت لهم أيضًا: أحيانًا أفكر بأن الجبن والخجل يعملان على تدمير كوكب الأرض، مثلهما مثل الجشع والحياة العسكرية والضغينة، ولقد عرَفت الآن أن تلك الأشياء جميعها هي أشكال مختلفة للمشكلة نفسها، إن أصحاب النفوذ وأولئك الذين يملكون القوة لا يقدرون على ارتكاب الأعمال الوحشية الكثيرة، والتي يفعلونها بطريقة روتينية، إذا لم نكن نحن في الأساس مدربين على الخضوع والاستسلام، إنهم يقتلون كوكب الأرض، وعندما يحين موعد موتي لا أرغب في النظر للخلف وفيما فعلت، وإنما أتمنى لو أنني قمت بعمل المزيد، ولو أنني كنت راديكاليًّا وميالًا إلى التغيير أكثر وأكثر اشتباكًا مع الواقع، إنني أريد أن أحيا حياتي وكأنها حياة مهمة فعلًا، أن أعيش حياتي وكأنني أحيا بالفعل، أن أعيش حياتي وكأنها شيء حقيقي.
أخذت نفسًا عميقًا ثم استطردت: وأريد أن أعتذر، كما ينبغي للأجيال السابقة أن تعتذر لي، عن الخراب الذي يسود العالم، والذي نصنعه نحن ونتركه لكم. إن جيلي من الناس قدم لكم النماذج والبنية الاجتماعية وفرض عليكم طريقة العيش والتفكير، وصنعوا أشياء تعمل على ثلوث البيئة ودمار الكرة الأرضية، لا شك أنكم ستعانون من كل ما نصنعه نحن، وأنا آسف جدًّا.
ما جعلني أنتقل إلى الشيء الثاني هو أنني كنت أرغب لو أن شخصًا ما كان قد قال لي ذلك، عندئذٍ كان سينقذني من عناء وقلق سنوات طويلة، أنتم لستم بمجانين وإنما الثقافة هي المجنونة، وإذا بدت لكم كذلك، لدرجة أن ثقافتنا تعمل على تعرية بيئة الأرض وتفكيكها، بالإضافة إلى أننا نبدي اهتمامًا أقل لأمر البيئة من اهتمامنا بممارسة الرياضة والعمل على احترافها، مما يؤكد أنها ثقافة مجنونة، وإذا بدت لكم ثقافتنا غريبة وبلا معنًى، وتعلي من قيمة النقود والناتج الاقتصادي على حساب الحياة الإنسانية وغير الإنسانية، فذلك لأنها بلا معنًى، وإذا رأيتم أنها ثقافة مهووسة يقضي فيها معظم الناس أكثر أوقاتهم وساعات عملهم في عمل أشياء من الأفضل عدم القيام بها، فذلك لأنها ثقافة مهووسة، ليس من الخطأ أن تفكروا في مثل تلك الأشياء، وإنما ذلك يعني في الحقيقة أنكم ما زلتم أحياء.
أتمنى أيضًا لو أن أحدهم قد سألني مئات المرات عما إذا كان مناسبًا أن يكون المرء سعيدًا، أو أن يعيش حياته بالطريقة نفسها التي يرغب فيها، وهل يكون الأمر حسنًا إذا لم يحصل المرء على وظيفة، أو إذا لم يعمل أبدًا، هل هو شيء جميل أن تعرف الأسباب التي تجعلك سعيدًا ثم تناضل من أجل تحقيقها، وهل هو شيء حسن أن تكرس حياتك لاكتشاف نفسك.
انتهى وقت المحاضرة، وبدأ الأولاد في الهتاف، واندفع بعضهم ناحية المنصة، وتقدم ناحيتي ولد طويل ونحيل ثم سألني بشغف: هل يعني كل ذلك أننا لسنا مضطرين لعمل أي شيء لا نرغب فيه أو لا نريده؟ وهل يعني ذلك أن كل شيء سيكون سهلًا؟
قلت: لا، سيكون الأمر صعبًا جدًّا، سوف ترتكبون ملايين الأخطاء، وسوف تدفعون ثمن كل تلك الأخطاء بطريقة أو بأخرى، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي ستتعلمون من خلالها، وربما هي الطريقة الوحيدة التي تعلمت أنا بها، أما الأجزاء الصعبة فستبقى هي أخطاءكم الصعبة، ولن تكون أخطاء خاصة بآخرين قد فرضوا أفكارهم عليكم لأسباب تتعلق بمدى ثقافتهم، أو ربما بدون أسباب على الإطلاق، إن امتلاككم للأسباب ومسئولياتكم تجاهها هو ما يتسبب في كل الفروق والاختلافات التي تسود العالم.