أهم التدريبات على الكتابة
«إنه مصيرنا، إذا لم نمتلك الفرصة للتمرد والعيش بعبثية لم نجربها أبدًا من قبل.»
«إذا هم أملوا عليك ما تكتبه، عليك أن تكتب بطريقة أخرى مختلفة.» هل هو «برادبوري» أو «وليام كارولز» أو «خوان رامون» أول من قال هذه العبارة؟ لست أدري!
***
قلت: إن القاعدة السادسة للكتابة مختلفة بعض الشيء، إنها تبين ولا تقول.
تحركت الأقلام فوق الورق، فأضفت متسائلًا: كم واحدًا منكم صرخ أو هتف أو تهلل أثناء قراءته لكتاب ما؟
رفع عدد كبير أياديهم بما فيهم أولئك الذين أصابتهم الدهشة.
سألت: وما الكتب التي جعلتكم تصرخون؟
انخفضت الأيادي، فقلت: وما ذلك الشيء الذي تصرخون من أجله؟ إن الكتب ليست أكثر من خربشة بالحبر فوق الورق، ويحاول الكُتَّاب إثارتنا والعمل على إضحاكنا أو التأثير فينا حتى البكاء، وينجحون أحيانًا في تغيير حياتنا، كيف يقومون بفعل ذلك؟
لم أتوقع سماع إجابة من أحد، فأضفت قائلًا: وكيف تفعل الأفلام الشيء نفسه؟ أنت ترى مثلًا «بروس ويليز» وهو معلق في أحد المنحدرات الصخرية، فينتابك الخوف اعتقادًا منك بأنه سيموت، لكنك تعرف الآن أنهم يضعون فراشًا من القطن تحته بحوالي خمسة أقدام، وتعلم أيضًا بأن «بروس ويليز» لن يموت وأنه يعمل في سبعة أفلام أخرى في هذا العام نفسه، لكنك ما زلت خائفًا وما زال القلق يسيطر عليك … كيف يحدث ذلك إذن؟
قبل الإجابة على هذا السؤال نحتاج للدخول في جزء آخر من اللغز، والتفكير بعمق أكثر، والنظر بعين الاعتبار إلى أفضل مدرس؛ ألا وهو التجرِبة، لقد تعلمت كثيرًا من أخطائي أكثر من الآخرين، ولكن بالتحديد عند قراءتك لكتاب، أو عندما تشاهد فيلمًا سينمائيًّا، فأنت لا تختبر أو تجرب ذلك بنفسك، وإنما تفعل ذلك بديلًا عن الآخرين من خلال المشاركة بالقراءة أو بالمشاهدة، ولذلك فكيف أصابك صانعو الفيلم بالخوف عندما علقوا «بروس ويليز» في المنحدر؟ وكيف جعلوك تتوحد معه وكأن كلاكما شخص واحد؟ لقد نجحوا في إجبارك على المشاركة في تجربته، فكيف فعلوا ذلك؟ لقد رسموا تلك التجارب بطريقتهم وبدقة شديدة وكأنها حقيقة، وجعلوك تشعر وكأنك مكانه أو كأنه ليس «بروس ويليز» وإنما هو أنت.
كانوا معي في كل ما قلت، فأضفت قائلًا: دعونا نَقُم بتدريب، فلنفترض أنني من كوكب المريخ.
لم يعترضوا على الافتراض، ولم تكن لديهم أي مشكلة، فقلت: نحن سكان كوكب المريخ ليست لدينا أية عواطف من أي نوع، إننا نشعر بالأشياء نفسها التي تشعرون بها، ولكنه شعور مادي فقط ولا يحمل أي قدر من العواطف، أستطيع أن أشعر بالضغط فوق جلدي لكنني لا أشعر بالحب. والآن، ومن أجل أن تساعدوني في فهم طبيعتكم أنتم الذين تعيشون فوق كوكب الأرض، فإنني أرغب في أن تخبروني على سبيل المثال عن الغضب، ماذا يشبه شعور الغضب؟
ساد صمت لبضع لحظات، تطوع بعدها شخص ما وقال: إنه يشعرني بالجنون.
لم أفهم ذلك أيضًا.
حسنًا، الغضب.
الشيء نفسه.
قال آخر: إنه يشعرني وكأنني على وشك الانفجار.
وكأنك تناولت كثيرًا من الطعام، أو كأن جلد بشرتك قد تمدد مثل البالون، أو كأنك سألت سؤالًا في حين لم يتبق سوى ثلاث دقائق على الانصراف.
قال شخص ثالث: إن الغضب يدفعني للإحساس بالرغبة في تسديد اللكمات لشخص ما.
وماذا يشبه ذلك الإحساس؟ وأين بالتحديد تشعر به؟ وبأي شيء يجعلك الغضب تشعر داخل جسدك وفي رقبتك وفي أكتافك وخلف مقلة عينيك وفيما وراء ركبتيك؟
عرفت من عيونهم أنهم فهموا ما أرمي إليه، ثم قالت امرأة: إن أكتافي محدودبة والعضلات في الأعلى مشدودة.
قال آخر: إنني أطبق فمي وتبدأ أسناني في الاحتكاك بعضها بالبعض.
وقال ثالث: تنحرف عيناي وكأنني أصبت بالحول وأشعر بثقل ما خلفهما.
وأضاف رابع: يتصبب جسدي بالعرق.
سألت قائلًا: أين؟
تتساقط قطرات العرق من كل أجزاء جسدي.
قلت: أوه، كل ذلك جيد وأستطيع أن أتفهمه.
إننا نصنع طريقنا القادم من خلال الخوف ثم من خلال الحب.
طلبوا مني تحديد نوع الحب؛ لأنهم يقولون بأن شعور الوقوع في الحب في أول الأمر مختلف عنه بعد فترة من الوقت، وهل يكون ذلك الحب أقوى من حب الوالدين؟ وهل حب الوالدين أقوى من حب الكلب؟ وهل حب الكلب أقوى من حب الوطن؟
شعرت بسعادة لأنهم أجبروني على الدقة في تعريفي، فقلت: إن الحب للرفيق أو الرفيقة يكون في المرحلة التي تتعرفون فيها على العواطف وتبادل المجاملات، ولكنكم لا تستقرون على شكل نهائي للعلاقة.
قال أحدهم وقد نسي كل شيء تعلمناه وتناقشنا حوله حتى الآن: إنه الإحساس بالسير فوق السحاب.
– هل تستطيع أن تفعل ذلك فوق الأرض؟ نحن لا نستطيع في كوكب المريخ، أعتقد أنه كانت توجد بعض السحب في السماء، دعنا نخرج من هنا لتريني.
– إنه احساس مثل كل شيء عظيم في العالم.
– وماذا يشبه ذلك الإحساس؟
أدركت مرة أخرى ما يدور في عيونهم، إنهم يصفون الأحاسيس المادية والجسدية، وأحيانًا الشذوذ، على أنها أشياء يجب القبول بها باعتبارها أشياء خاصة، مما جعلني أشعر بالخجل، كما أنهم يصفون أحيانًا الحب بكلمات ومصطلحات متطابقة مع ما يمكن أن نصف به الفزع والخوف.
قلت: دعونا نتحدث بطريقة أخرى أو فلنذهب في اتجاه آخر، أريدكم أن تصفوا لي الغضب مرة أخرى، ولكنني أريدكم الآن أن تتخيلوا أنكم تقومون بعمل فيلم سينمائي؛ بما يعني أنكم لا تستطيعون الدخول إلى أعماق الشخص لتصفوا إحساسه بالغضب، وإنما عليكم إبراز أفعاله من الخارج.
نظروا ناحيتي باندهاش، فضربت بيدي فوق المكتب، ثم بصقت وقلت: اللعنة!
أصابني العبوس، ورحت أمشى حول منتصف الحجرة، فتراجعوا في أماكنهم وشعروا بالندم الشديد رغم عدم تأكدهم من الخطأ الذي ارتكبوه.
قلت: لا، ذلك ما أعنيه، العمل على إبراز ردود أفعالهم من الخارج، لقد كنت على علاقة بامرأة منذ سنوات مضت، وكانت تتشاجر معي بشكل ثابت، لم يكن الأمر مقلقًا بما فيه الكفاية إلا إذا كانت امرأة مجنونة بالفعل، كيف كانت تُظهر ذلك؟ تعلمت بسرعة بأنني أعاني من ورطة، وبأنني أواجه مشكلة كبيرة، حين كانت تعض شفتها السفلي وتهز رأسها، وحين كانت تتجه ببصرها إلى الجانب الآخر.
قال شخص ما: عندما أُصاب بالجنون أصبح هادئًا ويصير صوتي قويًّا.
وقال آخر: يبدأ جسدي كله في الارتعاش وأبدأ في ضم قبضتَي يدَيَّ.
استطردوا في التعبير عن أحاسيسهم ومشاعرهم ووصف ما ينتابهم في اللحظة التي يصابون فيها بالجنون، ولقد لاحظت اختلافًا مثيرًا بين طلبتي في السجن وطلبتي في الجامعة، كانت الأمثلة التي يختارها طلبة السجن أمثلة علنية وأكثر صراحة، كانوا يلقون بالمقاعد في مقابل النظرات العِدائية، لكنني لم أنته إلى فكرة بعينها ولم أصل إلى انطباع معين، لقد لاحظت ذلك فقط.
تمنيت أثناء أحد التدريبات أن ينتبه طلبتي إلى التفاصيل، فالاهتمام الكامل بالتفاصيل يُعَد درسًا أساسيًّا من دروس الحياة (جرب مثلًا قيادة السيارة وسط زحام المرور الشديد بدون أن تدرك التفاصيل المهمة وغير المهمة)، وربما يكون درس الكتابة الأساسي هو أنك تحتاج بشكل ثابت أن تختار التفاصيل التي ينبغي عليك الكتابة فيها حتى تتمكن من جذب القارئ، وأهمية الانتباه إلى التفاصيل التي يجب أن تتجاهلها؛ كي لا يصاب القارئ بالملل، إن معظم الناس مثلًا يقضون حاجتهم مرة واحدة في اليوم على الأقل، وإذن فلا يوجد سبب قهري لكي توضح ذلك للقراء.
إنني أطلب من طلبتي أن يكتبوا وصفًا لشيء ما أو شخص ما، أريد لهم أن يتحدثوا عن حجرة مظلمة، عن قليل من الضوء، عن آلة موسيقية، وعن أشياء أخرى تافهة، وفي حقيقة الأمر إنني أحب أن أقول إن تلك الأشياء هي نتاج طبيعي لتفكير عميق تساعدهم في التنافس على الكتابة بأفضل طريقة ممكنة. طلبت منهم أن يكتبوا عن كل الحواس الخمس، وهل يستطيعون التعبير عنها في شكل حبكة روائية أم لا.
بدءوا في الكتابة، وفي النهاية كانت القصص التي كتبوها جيدة، فشعرت بالسرور.
•••
يقودنا ذلك إلى نتيجة «ستيفن كينج» الطبيعية وهي عدم تحديد قاعدة للكتابة، وإنما يمكن القول بأنها جاءت على هذا النحو فقط، إن «ستيفن كينج» هو واحد من أفضل من تبنوا فكرة التحديد والدقة والوضوح في التعبير بديلًا عن التفاصيل المجردة، ولقد استخدم تلك التفاصيل الواضحة في جذب القارئ، إنه نادرًا ما استخدم أي سيارة قديمة في كتبه إلا إذا كانت ماركة سيتروين سيدان، كما أن أي رجل أعمال متمرس لا يذهب لتناول الغداء في أي مطعم شهير إلا إذا كان أحد فروع مطاعم سالم.
يحدث أحيانًا أن يقول الطلبة ردًّا على تلك النتيجة: لكننا نرغب أن تكون كتاباتنا عالمية وشاملة، نحن نريد لها أن تصل إلى كل الناس.
أقول لهم، في تلك الحالة، إنه أولًا: يستحيل أن تصل كلماتكم إلى كل الناس، وثانيا: إن أفضل الطرق للوصول إلى أكبر عدد من القراء هو أن تشاركهم مرة ثانية فيما تكتبه، وأفضل الطرق لفعل ذلك أن ترسم لهم صورًا يتمسكون بها ويرفضون التخلي عنها؛ كأن تقول مثلًا: «كنت جالسًا في المقهى الجميل مع «لورنس» وأنا أحدِّق بشغف في ساقَي «باولين».»
هناك نقطة أعمق لفعل ذلك، العمل على تحديد كل شيء، إن أكبر فشل في ثقافتنا هو الاعتقاد العام بإمكانية جعل أي شيء عالميًّا وشاملًا، إن ثقافتنا تتبنى طريقة العيش نفسها في أجمل الأماكن كما تتبناها نفسها في سياتل وميامي، نحن نعتقد بأنه يمكن تلقين الطلبة دروسًا وقواعد واختبارات ثابتة يطبقونها في كل أرجاء العالم، إننا نحول حياة الأشجار البرية إلى شيء يمكن قياسه بالمعادلات الرياضية، ونحول الأسماك إلى أسماك عاجزة عن الحركة، ونحول الجَزَر إلى مجرد مجموعة من العصي رغم أن كل قطعة من الجَزَر تختلف عن الأخرى، كما أن كل سمكة تختلف عن السمكة الأخرى، وكل شجرة لا تشبه أي شجرة أخرى، وهكذا فإن كل طالب يختلف عن الطالب الآخر، وكل مكان يختلف عن أي مكان آخر. وإذا كان علينا أن نتذكر ما يجب أن تكون عليه الإنسانية، وكان علينا أن نأمل في بداية قوية للحياة في مكان ما، حيث نتمتع بالمؤازرة، فلا بد أن نتذكر بأن التحديد والوضوح والتميز هو كل شيء، وهو الشيء الوحيد الذي نمتلكه.
في هذه اللحظة أنا لا أكتب كتابة تجريدية أو نظرية، ولكنني أكتب تلك الكلمات المحددة فوق تلك القطعة المحددة من الورق مستخدمًا ذلك القلم المحدد وأنا راقد فوق ذلك السرير المحدد بالقرب من تلك القطعة المحددة، لا شيء بمعزل عن الخصوصية، وكل شيء يستلزم الدقة، والآن فإنني أستطيع بالتأكيد أن أبتكر أفكارًا مجردة للكتابة عن الإنسانية أو المدن أو الطبيعة أو العالم، لكنها أفكار غير حقيقية، إن الشيء الحقيقي هو الشيء المباشر والحاضر والخاص والمتميز، تلك الأشياء هي الحقيقة في الحياة والحقيقة في الكتابة، والبدء في الكتابة حينئذٍ يصبح شيئًا جميلًا.
•••
لقد وصف طلبتي الآلات الموسيقية وصفًا دقيقًا في الأماكن التي يعيشون فيها؛ الهارمونيكا المهربة داخل زنزانة السجن، والبيانو في الكنيسة، والكمان في الدور الأرضي من بيت الطفولة. ثم طلبت منهم اصطحابي إلى الشاطئ، ولم أبال وقتها بأي شيء، لكنني قلت: إلا إذا كان جو الشاطئ حارًّا، فإنني أريد أن أشعر بألم في قدمي عندما أسمعكم تقرءون القصة بصوتٍ عالٍ، وإذا كان الشاطئ في جنوب كاليفورنيا فإنني أتمنى أن أشم رائحة زيت جوز الهند، أما إذا كان في ألاسكا فإنني أرغب في أن أشم رائحة السمك الميت. وعندئذٍ راحوا يكتبون فكانت إبداعاتهم جيدة، لقد برعوا في وصف الشواطئ التي شاهدوها وتلك التي جلسوا فوق ترابها والتي لعبوا فيها كرة القدم.
قلت: الكتابة ليست عملية شاقة، عليكم فقط أن تتذكروا الأماكن التي كنتم فيها والأشياء التي قمتم بعملها، ثم محاولة وصف ذلك في كلمات، إنني حقًّا أريد أن أسمعكم.
راق لهم الأمر، وبدا أنهم أحبوا سماع ذلك، وكانت لدى كلٍّ منهم بالتأكيد قصص وحكايات يمكن سردها وأشياء يمكن قولها.
•••
كان يومًا أثيرًا لديَّ عندما دخلت الفصل مبكرًا في الأسبوع الثاني من الدراسة، كان اثنان من الطلبة قد حضروا من فصول أخرى قمت فيها بالتدريس سابقًا، أما الطلبة الجدد فكانوا يتوقعون حدوث شيء ما. كنت قد أحضرت معي جهازًا لتشغيل الأسطوانات وعددًا لا بأس به من الأسطوانات وكمية من الكتب، ثم قلت: عندما أتوجه إليكم بسؤال فإنني عادةً لا أنتظر إجابة محددة، وإنما أريد فقط معرفة ما تفكرون به، لكنني سأسألكم سؤالًا الآن وأطمع في التواصل، هل أنتم جاهزون؟
هزوا جميعًا رءوسهم بالموافقة، فقلت: ما الشيء الجذاب في رقصة الروك أند رول؟
أصابتهم الدهشة من السؤال، وراحوا يحاولون قراءة أفكاري لمعرفة ما أعنيه بالسؤال بدلًا من التفكير في إجابات خاصة بهم.
سألت: هل هم الرجال ذَوو الشعر الطويل بسراويلهم الجلدية الضيقة؟ أم هي تلك الأساور الخضراء المتلألئة؟ وماذا عن المشي فوق تقيؤ شخص ما؟ ربما يكون هو الاقتناع بفكرة الأغنية.
وافقْنا جميعًا على أن لا شيء من ذلك كله هو الجذاب في الرقصة، فقلت متسائلًا: فما الشيء الجذاب إذن؟ هل هي تلك القوة التي يتمتع بها الراقصون، أم هي العاطفة وذلك الانفعال الذي ينتابهم، أم أنه ذلك النشاط المفعم بالحماسة؟
عندما حطم «جيمي هندريكس» الجيتار لم يقتلع كل وتر بحذر شديد ولكنه حطمه إلى قطع صغيرة، وعندما راح «بيت تاونسيند» يدور في الهواء كالطاحونة لم يهتز خصره وإنما نجح في تجميع جسده كله داخل خصره، وأيضًا حين دمر «كيت مون» الطبلة فإنه لم يقلبها في يده بعناية.
انحنيت بدقة فوق مقعد المكتب فارتطم بالأرض، وبدلًا من أن يتحطم سحبته وقذفت به في حركة دائرية إلى السقف، لكنه عاد وارتطم بالأرض.
قلت: مئات من الناس يستطيعون الكتابة، الرجل العجوز الذي يشعر بالأسى والمرارة، المرأة العجوز التي تقتلها الوحدة. لقد سئم الرجل العجوز السعيد والمرأة العجوز السعيدة من الحياة، لكنهما يشعران بالرضا تجاهها. الرجل الشاب المبتهج والمفعم بالنشوة، والفتاة الشابة المرحة الطروب، والمرأة الغاضبة، كلهم لديهم الكثير من قوة الآراء والمعتقدات وكلهم موجودون بداخل كلٍّ منا، ومن سوء الحظ أن الشيء الوحيد غير القادر على الكتابة هو الشيء الذي نرتديه فوق وجوهنا طوال الوقت، ذلك الشيء المهذب اللطيف والرقيق، ذلك الشيء الذي ينشد القبول والاستحسان ويرغب في اكتساب درجة أو منزلة معينة، أو هو الإنسان الذي يقف عائقًا ضد أي رأي صائب وقوي وضد أي نزوة أو حافز، ذلك الشخص لا يستطيع أن يكتب سوى التفاهات.
توقفت لحظة لالتقاط أنفاسي ثم استطردت قائلًا: إن الكتابة في الحقيقة شيء يسيرٌ وفي غاية السهولة، عليك فقط بوضع الورقة البيضاء أمامك والسير فوقها بالقلم، وكل شيء بعد ذلك لا يعدو كونه تكنيكًا فنيًّا، وإذا لم تكن راغبًا في عمل ذلك فإنك تستطيع (كما كتب «جين فاولر») أن تحدِّق في قطعة بيضاء من الورق وخالية من الكلمات حتى تتكون قطرات من الدم فوق جبهتك.
سارعت بالتقاط قطعة من الطباشير، وكتبت بحروف كبيرة وواضحة: «هيا بنا!»
ثم مضيت ببطء وكبرياء نحو أداة تشغيل الأسطوانات وقمت بتشغيلها، فانبعثت من الأسطوانة موسيقى «تومي بولينز»، وعدت مرة أخرى للإمساك بالطباشير حيث كتبت: «لا، حقًّا دعونا نبدأ!»
توجهت مرة ثانية إلى مشغل الأسطوانات لتشغيله من جديد، ثم كتبت فوق السبورة: «لا، دعونا نبدأ بالفعل!»
•••
قمت بتخفيض صوت مشغل الأسطوانات حتى يتمكنوا من سماعي، ثم بدأت في القراءة من كتاب «ناسك الصحراء» للكاتب «إدوارد آبي»: «لا تصعد إلى سيارتك في يونيو القادم وتنطلق إلى الوادي الضيق على أمل أن ترى بعضًا من تلك التي حاولت أن أكتب عنها في تلك الصفحات، لا تستطيع في مثل هذه الحالة أن ترى أي شيء من السيارة، وإنما عليك بالخروج من ذلك الشيء الملعون وتبدأ في السير على قدميك، ومن الأفضل فيما بعد أن تزحف على يديك وركبتيك فوق رمال الأحجار، ومن خلال أشواك الشجيرات وأوراق الصبار، وعندما تبدأ آثار الدماء في الظهور والانتشار فوق يديك وبعض أجزاء من جسدك فإنك عندئذٍ سترى شيئًا ما، ربما تستطيع رؤية شيء ما وربما لا تستطيع! أما في الحالة الثانية فإن معظم الأشياء التي أكتب عنها في هذا الكتاب قد انتهت بالفعل أو أنها في الطريق إلى الزوال، ذلك ليس مرشدًا سياحيًّا أو دليلًا للسفر وإنما هو مجرد عمل يدعو للرثاء أو مجرد نُصُب تذكاري، أنت تمسك تمثالًا في يديك أو صخرة دامية، أفلا تلقي بها فوق قدميك، وماذا ستخسر عندئذٍ؟»
أحيانًا يجب أن أتوقف عن القراءة، خاصة حين يتحشرج صوتي وتملؤني الانفعالات، فقلت: إن الأمر لا يشكل إهانة وإنما من الممكن أن يكون شيئًا جميلًا.
قرأت وصفًا ﻟ «تيري تيمبست وليامز» من رباعية الصحراء: الأرض، الصخور، الصحراء، إنني أسير حافي القدمين فوق الرمال المليئة بالأحجار، والجسد يستجيب للجسد، كان الجو حارًّا بشدة وقد أوشك باطن قدمي على الاحتراق فوق الصخرة المتصلبة، وكان لا بد من الإسراع بخطواتي والسير بأسرع ما أستطيع مع مراعاة الحذر في كل خطوة، وكان أقصى ما استطعت رؤيته هو جنوب ذلك الوادي الضيق لقرية «أوته» الممتدة في كل الاتجاهات، لم أكن أملك بوصلة ترشدني وإنما فقط كنت قد أخذت عهدًا على نفسي بمواصلة السير في ذلك الطريق الوعر والمخيف، إن ما أخشاه وأتمناه أكثر من أي شيء في العالم هو الولع والشغف، إنني أخشى الولع لأنه يجعلك طبيعيًّا ولا تملك السيطرة على مشاعرك ولا تستطيع التعرف على نفسك ويساعدك في الخروج من ذاتيتك، إنني أرغب به لأن له لونًا مثل تلك الأرض الفضاء التي أمامي، إنه ليس شاحبًا وليس محايدًا، إنه يكشف خفايا القلب.
تسلقت الصخرة الملساء وأنا أتشبث بجوانبها الأربعة بكلتا يدي وقدمي فلفحتني الحرارة، وكان إحساسًا جيدًا أن تشعر بالعرق والانخراط في مواصلة التسلق، وكان جميلًا أن أسكن جسدي الحيواني.
قرأت ﻟ «سوزان جريفين» أوصافًا جميلة ومتقدة بالعاطفة، فسارعت بإخراج الأسطوانة لتشغيل الموسيقى الافتتاحية لسيمفونية بيتهوفن الخامسة، ثم توجهت صوب طباشير السبورة والتقطت واحدة طويلة وقذفتها نحو صندوق الطباشير؛ كي تتكسر إلى قطعتين، وعندئذٍ أمسكت بواحدة منهما كانت هي الأطول وكتبت وأنا أضغط بقوة كبيرة على الطباشير متعمدًا: دع الطفل يخرج من المرحاض.
استدرت وألقيت بما تبقى في يدي من الطباشير فوق الحائط الخلفي، ثم أمسكت مزيدًا من الطباشير وألقيت به في كل مكان بالفصل بكل ما استطعت من قوة، انتشر الطباشير فوق كل الجدران فكتبت: حرروا الحيوان وأطلقوا عِنانه.
وكتبت أيضًا: من أنتم؟ فلتستمتعوا بوقتكم … دعونا نَمضِ.
ثم رميت بعيدًا كل ما تبقى من الطباشير.
خفتت حدة الموسيقى وتساقطت قطرات من العرق من جدائل الشعر حتى استقرت فوق وجهي، وضعت الأسطوانة في النهاية وطلبت من أحدهم أن يطفئ النور فأظلمت الحجرة وأصبح مؤشر الضوء الأحمر واضحًا، كانت الأغنية بعنوان «الزمن» بصوت «بينك فلويد»:
جلسنا في الظلام بضع لحظات، ولم يتفوه أي شخص بأي شيء، وفي النهاية أضاء أحدهم الأنوار فجأة فقلت: أعتقد أن ذلك كافٍ ليوم واحد، فلتستمتعوا بأمسية جميلة.
•••
في الفصل الثاني بدأت قائلًا: أود أن أبدأ معكم بعمل أهم تدريب للكتابة، إنه تدريب الإصبع، فالكتابة عمل شاق وتشبه الجري في حلقة السباق أو ممارسة أي رياضة أخرى، عليكم بالاسترخاء قبل القيام بفعل الكتابة، ولكن قبل ذلك لا بد من عمل الحِمية اللازمة.
راحوا يحدِّقون بنظرات ملؤها الدهشة، ورفعوا أياديهم إلى الأمام وظلوا يهزونها يمينًا ويسارًا فقلت: والآن ارفعوا أياديكم إلى أعلى على أن تكون راحة اليد في مواجهتكم.
قاموا بتنفيذ ما قلته لهم، فأضفت قائلًا: يجب أولًا الوصول بإصبع الإبهام إلى أسفل الإصبع الأصغر، ومحاولة الوصول مرات عديدة، ثم اطْوِ الإصبع الأصغر فوق ظُفر الإبهام لإخفائه، هل تفهمون؟
قلت مستطردًا: ثم عليكم بالوصول بالإصبع الأول حتى يغطي مفصل الإبهام، إنه شيء صعب ولكن يجب في النهاية تغطية مفصل الإبهام.
لم يستغرقوا وقتًا طويلًا حتى فهموا كل شيء، فقلت: ذلك هو أهم تدريب للكتابة يمكنكم القيام به، وعليكم القيام به كثيرًا عند كتابة أي من النصوص، وبخاصة في النقد الذاتي.
كانوا حتى آخر لحظة لا يعرفون بأنني جاد فيما أقول فراحوا يضحكون.