الدرجات
«إن مهمة المدرسة الثانوية عندئذٍ لا تتبدى كثيرًا في توصيل المعرفة بقدر ما تُجبِر التلميذ في النهاية على قبول النظام المرحلي؛ أي التنقل من مرحلة إلى أخرى باعتباره نظامًا دالًّا على امتياز التلميذ الداخلي. أما مهمة عملية التدمير الذاتي عند أطفال أمريكا فتتمثل في عدم قبولهم لذواتهم، وإنما القبول باختلافات المستويات الأخرى، والقدرة على قبول أنفسهم مثلما يحدث في النظام المرحلي. وهكذا فإنه من الواضح أن طريقة الثقافة الأمريكية المتبعة الآن قد تتهاوى إذا لم ينتج عنها إحساس بالدونية وعدم الجدوى.»
***
كما كتبت في مكان ما بأن المراحل تمثل مشكلة ما، ففي المستوى الأكثر عمومية فإنها اعتراف صريح بأن ما تفعله ليس مهمًّا بما فيه الكفاية أو أنه مكافأة من أجلك للقيام به على مسئوليتك، إن أحدًا لا يمنحك درجة من أجل تعلم كيفية اللعب أو كيفية ركوب الدراجة أو تعلم مهارة التقبيل، إن واحدة من أفضل الطرق لتدمير الحب لأي من تلك الأنشطة يحدث من خلال استخدام المراحل والدرجات، ومن خلال الإجبار والأحكام التي تمثلها تلك المراحل، إن عملية المراحل والدرجات هي بمثابة الهراوة التي تُستخدم في ضرب المعارضة لعمل الأشياء التي لا يرغبون في فعلها، أداة مهمة لغرس نموذج الحياة الأبدية في نفوس الأطفال، وبث روح الخنوع والخضوع والتبعية لديهم، بصرف النظر عما تفرضه عليهم السلطة.
وفيما يتصل بالكتابة، ونحو مزيد من الدقة، فإنني أطلب من الناس أن يكتبوا من القلب، وبكل صدق، وألا يخافوا من اللامعقول ومن الفسق والخلاعة وكل الأشياء اللاأخلاقية، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة إعطاء الدرجات، هذه هي إعادة القول الشجاعة والعظيمة لتأثيرات طفولتك الجنسية بعيدة المدى التي تعرضت لها عن طريق والدك، يجب القول بأي حال بأن هذا الكلام ليس متأخرًا، وإنما أنت تنتمي إلى منظمة تفتقر إلى الشجاعة.
أدركت أيضًا رغم ذلك بأن شخصًا ما حين يحاول القيام بعمليات التحريض العقلي أو محاولة تفسير الأشياء وإخضاعها للمناقشة، فإن ثمة أوقاتًا تتسع لذلك ويكون الأمر مفيدًا. عندما كنت أعلِّم نفسي كيفية الكتابة في البداية، في منتصف وأواخر العشرينيات من عمري، لم تكن الكتابة وقتها ممتعة أو مسلية، وفي ذلك الوقت أخبرني أحد الكتاب بأنني لن أكون كاتبًا حقيقيًّا قبل أن أكتب مليونًا من الكلمات، بدأت أحسُب عدد الكلمات التي أكتبها، ومنذ أن عرفت أيضًا — كما قال لي كاتب آخر — أن الكتابة هي إعادة الكتابة، فقد بدأت أعتبر كل كلمة أسجلها في المسودة الأولى من القصة أو المقالة هي رقم واحد في الكلمات، وكل كلمة في الفقرة الثانية هي نصف كلمة، وفي الفقرة الثالثة هي ثلث الكلمة وهكذا، قررت بيني وبين نفسي أن أكتب ألف كلمة في اليوم، وبذلك المعدل أستطيع أن أكون كاتبًا، وهكذا مضيت في تنفيذ الخطة خلال أقل من ثلاث سنوات، لكنني لم أكن قادرًا على تنفيذ هدفي كل يوم مما جعلني أعاود كتابة ما لم أكتبه في يوم ما في اليوم التالي، غير أن كتابة خمسمائة كلمة في اليوم كان أمرًا بمقدوري إنجازه، ولطالما مارست ضغطًا على نفسي لإنجاز تلك المهمة، وهكذا كان العمل شاقًّا وغير مبهج على الإطلاق، كانت المشكلة تتمثل في أنني كنت أكتب برأسي ولم أكن قد اكتشفت قلبي بعد، فلم أكن قادرًا على اكتشاف ذلك الباب الذي يؤدي إلى حيث تعيش التأملات، الباب المؤدي إلى عوالم أخرى، ولذلك لم أستطع اكتشاف الباب المفتوح على العالم الذي أعيش فيه، وهكذا كانت تمضي كل الأشياء.
قرأت ذات يوم حديثًا صحفيًّا مع أحد الكتاب حيث سألوه: هل شعرت مرة واحدة بأن الكتابة قد صارت أسهل مما كانت عليه؟
أجاب الكاتب: لا، ولكنها تمضي نحو الأفضل.
أما بالنسبة لي فلقد أصبحت الكتابة أكثر سهولة، ولو أنها ما زالت تشكل صعوبة لي، كما كانت منذ خمسة عشر عامًا، لكنت توقفت عنها، إن الحياة قصيرة بما يكفي، وليس من الصواب أن تفعل شيئًا صعبًا ولا يشعرك بالراحة والابتهاج، لم تكن الكتابة بالنسبة لي هي جزء من الإحساس المبكر بالصعوبة وعدم الارتياح، وإنما هو الإحباط الذي أصابني لعدم توافق مهاراتي مع ما أتوق إليه، ويمكن القول بعبارة أخرى: إن الشعور بصعوبة الكتابة الذي ينتابني كثيرًا هو نتاج لعدم امتلاكي مهارة الكتابة، والمعلومات الكافية، ورؤية موضوع الكتابة من زواياه المختلفة، وافتقادي لرؤية الأشياء وفقا لعلاقاتها الصحيحة والمتنوعة، وعدم اكتمال المشهد برمته في مخيلتي، مما يمكنني من القدرة على التوصيف الدقيق على النحو الكافي والملائم، والذي يفي بالغرض في النهاية، يحدث ذلك حتى الآن، لكنني في هذه الأيام لا أضغط على نفسي، فلقد توقفت بالأمس مثلًا بعد الجملة الرابعة من هذه الفقرة، وبدلًا من الاستسلام لحالة الإحباط رحت أحدِّق في شاشة الكمبيوتر وشغلت نفسي بعمل أشياء أخرى حتى وقت متأخر من الليل، حيث قفزت الفقرة التالية إلى ذهني دون أن أضغط على نفسي.
لم أعد أفكر في أن التوقف عن العمل شيء سيئ، ولم يعد ذلك يصيبني بالإحباط، أما الآن فإنه يزودني بالمعلومات، تلك المعلومات التي لم أكن قد عرفتها من قبل عن الموضوع الذي أكتب عنه، وكنت حينها في حاجة لعمل مزيد من الأبحاث عن الموضوع نفسه. لا شيء أصعب من وصف شاطئ من شواطئ البحر إذا لم تكن قد ذهبت بنفسك إلى أحد تلك الشواطئ واستمتعت بقضاء يوم كامل متنقلًا بين رماله وأمواجه. ولا ينطبق الشيء نفسه على وصف الأشياء فقط، وإنما على المناقشات والمناظرات والاختلاف في وجهات النظر، إن أحد أعظم أسباب الفرح والابتهاج في حياتي هي أن أصطدم بأسئلة لا أفهمها ثم أجاهد لأجد طريقي في الوصول إليها، الكتابة تظل شاقة عندما تصطدم بتلك الأسئلة أول مرة إذا لم تكن مستحيلة في وقتها، ولكنك تستطيع مع الوقت أن تقف عندها وتستوعبها بعد أن تجتهد في تفسيرها حتى تتكشف أمامك، فتصبح الكتابة حينئذٍ سهلة نسبيًّا. ففي مقدمة كتابي «ثقافة الاعتقاد» مثلًا أمضيت أسبوعين ممتعين في بحث وتأمل العلاقة الدقيقة بين الكراهية والازدراء والألقاب وما قد يتبعها من تهديدات قبل أن تتضح لي الإجابة بشكل واضح من خلال قراءتي نصًّا لنيتشه يقول فيه: «إن المرء لا يكره عندما يستطيع أن يكره.» وما دام أنه يمكن المحافظة على ذلك اللقب بمساعدة التقاليد والفلسفة والاقتصاد ومن خلال أنظمة التعليم. وهكذا فإن أصحاب الألقاب يشعرون بالازدراء والكراهية نحو أولئك الذين يستغلونهم فيبدأ في الوقت نفسه تهديد تلك الألقاب، ويبدأ معها انتظار لحظة الإعدام، ربما نستطيع رؤية الشيء نفسه في كثير من الأمور الأخرى الأقل شأنًا في الفصل الدراسي كاختلاف التلاميذ طوال الوقت مع المدرس، لكنهم إذا ما قاموا بسؤال المدرس أو ممثلي الإدارة بشكل كامل الجدية فإن الابتسامة فوق الوجه الناتجة عن السيطرة الاجتماعية سرعان ما تزول.
ومن خلال الموضوع نفسه فإن التوقف عن الكتابة أحيانًا يعني بأنني مضيت في الطريق الخطأ، إنني غالبًا ما أجد تشابهًا بين الكتابة وبين الكلب الذي يقتفي أثر شيء ما، وأنني أفقد في بعض الأحيان ذلك الأثر، مما يجعلني أسترجع الجملة الأخيرة وأتساءل عما إذا كانت هي الجملة نفسها التي أوقفتني أم لا، ثم أعود فأسترجع جملة أخرى وأخرى حتى أجدني في الوضع الذي لا أشعر فيه بالفقد، وأنني نجحت في العثور على الأثر مرة ثانية، فأستطيع عندئذٍ مواصلة الكتابة.
في أوقات أخرى فإن الأمر لا يعني كثيرًا أنني مضيت في الاتجاه الخاطئ بقدر ما يعني أنني أكتب شيئًا لا أريد أو أرغب في كتابته، من الصعب جدًّا أن أضغط على نفسي لكتابة شيء أو فعل شيء لا أريده، ويصبح الأمر أكثر صعوبة كلما تقدمت في السن، فكلما اقتربت من الموت تقل فرص الوقت الذي يمكنك تبديده، وكذلك تتضاعف الصعوبة كلما أصبحت متصالحًا مع نفسي وكلما شعرت بالارتياح النفسي، إنني لست أول من أشار إلى أن الإحساس غير السار والمبهج بالعمل غالبًا ما ينشأ من الاحتكاك بين أجزاء مختلفة من النفس، إن تلك الأجزاء المختلفة من النفس حين تعمل معًا وفي اتجاه واحد يصبح العمل أكثر أو أقل تصادمًا، إن دخول أي شخص إلى ساحة ممارسة الرياضة يمكنه معرفة ذلك، والشيء نفسه ينطبق على الكتابة وعلى العلاقات بين البشر وعلى كل مناحي الحياة، حتى إنني أجد نفسي ملزمًا على القول بأن كثيرًا من قراراتي خاطئة لأنني عادة لا أكون قد عقدت العزم على عمل شيء ما عندما أتوجه إلى الاتجاه الصحيح، ومن المؤكد أن هناك بعض الاستثناءات الحيوية لذلك، مثلما أكون مضطرًّا مثلًا لترك وظيفة سيئة بالنسبة لي ولا تناسبني، أو الانتهاء من علاقة غير مريحة، لكنني لا أملك القدرة على اتخاذ القرار، عندئذٍ يحتاج الأمر لخطوة حاسمة وباترة لترك العمل أو الانتهاء من تلك العلاقة، ولكن يجب ملاحظة أن تلك المواقف لم تكن تصطدم بتفكيرك في البداية.
إن التوقف عن الكتابة أو التعثر في مواصلتها يعني في أحيان أخرى أنني لست مستعدًّا لكتابة ذلك الموضوع أو تلك القطعة الأدبية بعينها، لقد كتبت أول عشر صفحات من هذا الكتاب منذ عامين، ثم اكتشفت بأنني فقدت خطة العمل والأثر الذي يجب أن أقتفيه، وعندما حاولت معرفة تلك الخطة وذلك الأثر لم أستطع، فقررت التوقف عن الاستمرار في كتابة هذا الكتاب، ورحت أكتب كتابًا آخر بدلًا منه، ثم عدت إليه بعد أسابيع قليلة، وما إن استرجعت جملة واحدة حتى أصبح المشهد واضحًا، وقفزت إلى ذهني مرة أخرى خطة العمل والأثر الذي يجب أن أقتفيه، وأصبحت بدوري جاهزًا لمواصلة الكتابة التي لو لم أكن قد توقفت عن مواصلتها آنذاك لخرج الكتاب في ثوب آخر مختلف خالٍ من التشويق، وربما لكان كتابًا رديئًا.
كل ما أستطيع قوله إن أحد الأشياء القليلة التي تعلمتها طوال الخمسة عشر عامًا الماضية هي كيفية الحفاظ على ألا تفقد الفكرة أثناء الكتابة، وإلا يصبح الأمر محبِطًا ومخيبًا وعديم الجدوى، فأنا أكتب بعقلي وليس بجسدي.
إذا كان مسموحًا لي بتغيير التشبيه، فإنني أحيانًا أميل إلى تشبيه الكتابة بالصيد، أنا لا أستطيع أن أحمل سنارة الصيد وأضرب بها فوق الماء وأتوقع اصطياد سمك كثير، وهكذا أكون قاسيًا وعدوانيًّا مع نفسي إذا مارست الكتابة رغمًا عني دون أن تتدفق الكلمات وحدها من غير إجبار، إنني دائمًا في حاجة لأكون في خدمة العمل وأن أكون لصيقًا به، فعندما فقدت قدرتي على الكتابة بالأمس ورحت أفعل أشياء أخرى، ظللت أستعيد ذاكرتي للوقوف عند المكان الذي توقفت عنده لمعرفة ما إذا كانت أي تحركات أو نزعات أو أي علامة ومؤشر إلى ما يجب عليَّ فعله في الخطوة التالية.
أعتقد أن ذلك كله يحدث بشكل حقيقي مع أشياء أخرى كثيرة وليس فقط مع الكتابة.
لقد عشت أيضًا لحظات مرهقة طوال مدة كافية لتعلم مختلف منحنيات الكتابة ومعرفة متطلباتها وشروطها ووسائلها المتفردة قبل أن تصبح الأمور أكثر يسرًا، ولقد جربت الشيء نفسه وعشت اللحظات المرهقة نفسها مع العلم، وفي ممارسة لعبة كرة السلة، والقفز العالي، وفي التواصل مع الأشخاص، ومحاولة اكتشاف ما أريد أن أفعله في حياتي.
لا يزال الفرق موجودًا بين ما كنت أكتبه في الصفحات القليلة الماضية وبين المراحل، لا تدعني أتسلل إلى ذلك الفرق بواسطتك، إن الأهداف وموعد الانتهاء من العمل التي فكرت في تنفيذها هي أشياء ليست واجبة التنفيذ، وغالبًا لا يتم تحقيقها رغم أنني أنا الذي فكرت فيها وحددت موعد انتهائها، ولم يفرضها أحد من الخارج، أو أي شكلٍ من أشكال السلطة التي تعتقد بأنها تعرف خططي أكثر مني، ولا حتى من أي جهة خارجية من تلك التي أختلف معها بود؛ لأنها تملك الخبرة والمعرفة. وعلى سبيل المثال فإنني حيثما ذهبت للصيد أجدني مختلفًا مع كلٍّ من شريكَيَّ في الصيد؛ لأنهما أفضل مني بكثير ويملكان الخبرة الكافية اللازمة لعملية الصيد. وأتذكر ذات مرة بينما كنت أركب السيارة مع «جوني» عبر طريق شاقٍّ وقذر، حين رفع إحدى يديه فجأة من فوق عجلة القيادة وأشار قائلًا: إنني أكرهها حين يفعلون ذلك.
تابعت نظراته المحدِّقة ورأيت غرابًا واضعًا رأسه فوق الحشائش ورافعًا قدميه إلى أعلى، ثم أوقف «جوني» السيارة فخرجنا ومضينا نحو المكان الذي أشار إليه، شاهدنا مجموعة من الظباء مع أولادهم وكانوا يغوصون في الوحل ويتعثرون في السير، ورغم تركيزه في القيادة فإن «جوني» استطاع أن يرى أذنًا واحدة ملتصقة بالعشب، وعلى بعد أقدام قليلة كان الغراب واقفًا فبدا أطول كثيرًا من ولد الظبي، ولم أستطع أنا أن أرى سوى رأس طائر أسود عند جانب الطريق ولم توح لي رؤيته بأي شيء.
قمت بعمل مزيد من تمارين الكتابة وتجارِبها أكثر مما قام به تلاميذي، فلقد كتبت ملايين الكلمات رغم كل شيء، غير أن اختلاف الكلمات لم يكن اختياريًّا على الإطلاق، فبينما كنت أشارك أساتذتي الذين يستحقون احترامي داخل الفصول أو خارجها، وأولئك الذين كان مسموحًا لهم بتشجيعي وتحديد الأهداف والخطوط العريضة لي، كنت أيضًا أمتلك حصتي التي لا تستحق ذلك الاحترام، وفيما بعد وداخل الفصول كنت أتوقع الاختلاف معهم وأن أفعل بعض المهام والفروض التي طلبوا مني القيام بها، وكان عليَّ قبول الفرضيات التي يطلبون تطبيقها على تلك المهام والفروض، بصرف النظر عما يتمتعون به من تعصب أعمى وعجرفة وأنانية، كان الوضع مستحيلًا، ماذا عليك أن تفعل؟
تلقيت هذا المساء رسالة بالبريد الإلكتروني من إحدى معارفي خاصة بهذا الموضوع، قالت لي: أقوم الآن بالتدريس، لكنني أريد العمل بطريقة مختلفة تتبنى الأمثلة وطرح النماذج، ولا تتبنى فرض الآراء بالإكراه، لكنني بمجرد أن دخلت في أتون العمل اليومي، وكان الناس يحيطونني ويتهمونني بتأييد المدير والوقوف إلى جانب بقية المدرسين وأولياء الأمور وبعض الطلبة، حتى بدأت في الانسحاب ورحت أنسى السبب وراء وجودي هناك وما كان ينبغي فعله، وبدلًا من أن يصبح هدفي هو المضي قُدمًا فقد صوبوا نحوي سهام النقد وأصابني الإرهاق وبدأت عندئذٍ أكره وظيفتي؛ لأنني كنت دائمًا أحاول استخدام القوة التي لا أعتقد في جدواها لتنفيذ سياسات لا أعتقد فيها، وكنت أشعر بالضغط الشديد والإجهاد، حتى إنني لم أدرك أن ما يجري، وما يتبعه من أشياء سيئة، هو ما يجبرني على التوقف لإعادة تقييم الموقف، ثم حين عدت للعمل طلبًا للتغيير، وفي ذلك المناخ نفسه، أصابني التآكل مرة ثانية، وذكرني ذلك بقصيدة لشاعرة محلية أنصح بالتصدي لقراءتها، واسمها «كلوديو مورو» التي قالت:
إذا لم تستطع التفكير في جعل الكتابة أفضل وأجمل من ممارسة الجنس فثمة طريقة أخرى للتفكير.
قال الكاتب «تشارلز جونسون» في حوار معه بإحدى المَجلات: أعتقد أن الكاتب الحقيقي ينبغي أن يفكر ببساطة في مصطلحات وعبارات أخرى، وعليه أن يواصل عمله حتى لو صوبوا البندقية في اتجاه رأسه وراح شخص ما يقدح زناد البندقية بينما هو يكتب آخر كلمة في آخر فقرة وفي آخر صفحة، والآن إذا استطعت الكتابة عن إحساسك بأنك ستموت أثناء مواصلة الكتابة وقبل الانتهاء منها فإنك ستكتب بسرعة وتعجُّل، وبأمانة وشجاعة، وبدون إحجام أو خوف، كما لو أن ذلك آخر عهد بالكتابة وآخر كلام تستطيع النطق به أو البوح به لأي شخص، وإذا حدث ذلك فإنني ولا شك أرغب في قراءة ما قمت بكتابته، وإذا كتب أي شخص بذلك الإحساس فسوف أشهد بأنها كتابة جادة، وأن ذلك الشخص لا يبدد وقته هباء، وأن العمل لا يؤدي إلى نهاية غير التي يعنيها، ولا يعني الإشارة إلى أي أهداف سطحية وسخيفة، ذلك العمل هو الذي قال فيه الكاتب شيئًا شعر به ولم يكن ممكنًا قوله لو أنه لم يشعر به، ذلك النوع من الكتَّاب هم الذين أرغب في القراءة لهم، وأزعم أن القرن العشرين لا يحفل بالكثير من نوعية أولئك الكتاب.
التزم الطلبة الصمت بضع لحظات ثم قال أحدهم: إن شخصًا ما يضع البندقية في مواجهة رأسي ويخبرني بأنهم سيقتلونني عندما أكتب الكلمة الأخيرة، وأنا أقول لك الآن بأنني في طريقي لكتابة موضوع طويل.
•••
حاولت أن يشرف كل طالب من طلبتي على ما يكتبه الآخرون، لكنني تخليت عن محاولتي عندما حدثت أول كارثة، لم يكن لديهم أية فكرة للقيام بتلك المحاولة، ولم يكن ذلك بالأمر المدهش لأن قليلين جدًّا هم الذين يفعلون ذلك، حاولت أن أعلمهم بسرعة أن تعلم الإشراف على الكتابة هو مهارة تعادل الكتابة نفسها في الصعوبة وأنها عملية شاقة مثل الاحتفاظ بالهواجس التي تسيطر على الإنسان أو الكاتب، وهي أيضًا كميكانيكا السيارات المعقدة أو الاعتناء بالحديقة، ولكنها موقف من مواقف المشاركة وعدم الأنانية، وتتسم بقدر من العاطفة يظهر واضحًا في الموضوع نفسه ولا يخص المؤلف وحده، وذلك ما أعتبره شيئًا نادرًا في ثقافتنا.
عندما ذهبت إلى مدرسة عليا تلقيت عددًا وافرًا من وجهات النظر عن الكتابة، وحضرت سلسلة من الحلقات الدراسية حول الموضوع نفسه وكانت في غالبها مؤسفة، إن الكاتب بمقدوره أن يكتب نسخًا عديدة من قصة واحدة ويقدمها إلى كل الطلبة في الفصل، فيزعم الطلبة أنهم قرءوا كل النسخ ثم يعودون بعد أسبوع ليقولوا ملاحظاتهم الانتقادية، وفي بعض الأحيان يزأرون بالشكوى أيضًا لأن تلك القصص لم تساعدهم في شيء ولم تكن عونًا لهم لأنهم لم يتعلموا أبدًا كيفية التعلم، إن الصورة التي تقفز إلى ذهني أو ذهن أي شخص آخر عند كتابة القصة هي الدخول في عالم القصة، وإذا كان الجسد ميتًا، أو متألمًا بشدة ما بين الضلع الثالث والرابع، أو يعاني شدًّا خفيفا في باطن الركبة، وقد يكون الجسد يعاني من السرطان، أو في أحسن حال وفي أحسن صحة، وفي الفترة ما بين المرض والصحة فإن كلتا التجربتين تقومان بالتشخيص والتحليل، إن الدراسات الخاصة بالأورام الخبيثة ترى السرطان في كل مكان، بينما يتعقب طبيب الأقدام البشرية المرض في كل أجزاء الجسم، ويرى المعالج بالإبر الصينية أن الطاقة تتفجر في وقت الظهيرة، كما يرى طبيب العظام أن العمود الفقري قد انحرف عن مساره. أما المتخصص في أعمال السحر والشعوذة فإنه يرى الأمر على أنه إحدى ممارسات السحر، ولسوء الحظ فإن كل ذلك لا يرى الجسد الحقيقي؛ وذلك لأن المدرسين لم يعلمونا كيفية الرؤية، والأهم من ذلك أنهم لم يعلمونا الاهتمام بالكتَّاب الآخرين، وفي ذلك ضرر كبير.
لقد مررت بتجرِبتين عظيمتين في ورش العمل، كانت التجرِبة الأولى حين كتبت، بالمشاركة مع شخص آخر، بعض النماذج الأدبية، وكان ذلك الشخص هو الوحيد الذي تحدث في ذلك اليوم، وأتذكر أنه استهل كل كلامه واقتراحاته بتعليقات مثل: «إن كل مواهبك وقدراتك تبدو في هذه الكتابة الأدبية التي يبدو فيها الناس وكأنهم يتكلمون، والمشكلة أننا على الرغم من القول لأنفسنا بأننا نريد لما نكتبه أن يكون واقعيًّا فإننا لا نفعل، ودعونا نَرَ كيف يبدو ذلك الأثر الأدبي إذا حاولنا له أن يكون واقعيًّا.»
لقد تعلمت المزيد في ذلك اليوم عن كيفية الكتابة أكثر مما تعلمته من دراستي ومن الندوات الأدبية والحلقات الدراسية، رغم أنها كانت مفيدة في أوقات أخرى، وكان ذلك بسبب أنها غير منظمة بشكل كافٍ، أو لأن المدرس كان مريضًا في الأسابيع الستة الأولى من الدراسة، وهكذا كنا نحن الطلبة ندير الفصل ومواضيع الدراسة بأنفسنا. لا أعرف إذا كانت الحقيقة المتمثلة في أن قبولنا بالإكراه على تقبل تلك الظروف قد جعلنا نهتم ببعضنا البعض، أم أنه في حالة وجود تفسير آخر للنجاح، كانت جراحنا تلتئم بطريقةٍ ما أثناء العمل المشترك مع مجموعة من الأصدقاء، وكنا بذلك نستطيع أن نجد حلولًا للمشاكل الخاصة التي يأتي بها كل منا إلى الفصل.
أما التجربة الإيجابية التي تعلمتها من الكتابة مع الآخرين فهي أن شريكي كان يستطيع قراءة ما بذهني في كثير من الأحيان، وكان بالتالي يستجيب لما أحاول أن أقوله، وكان ذلك أكثر أهمية وفائدة من استخدام قدراته الفنية دون الوصول إلى ما يدور في رأسي. كانت لي صديقة منذ سنوات مضت لم تحصل على شهادتها العليا، وكان من النادر أن تقرأ لكنها كانت تمتلك القدرة على تحديد مكنونات كتابة القصص بدقة متناهية وبدون أن تخطئ، وكانت تساعدني في تصحيح بعض الأخطاء، تمثلت تلك القدرة لديها لأنها كانت تتعرف على درجات صوتي وأنا أقرأ بصوت عالٍ، فيمكنها عندئذٍ الإحساس بأدني تردد في الصوت أو ملاحظة أنني تسرعت في بعض المقاطع التي أعلم أنها مملة أو مثيرة للقرف، كما أن صديقًا آخر يلعب الآن دور المرأة بالنسبة لي مما يجعلني أعاود النظر أحيانًا فيما كتبت، إنه يعمل على توحيد ذلك الإحساس الجميل بتاريخ القراءة الطويل وتاريخ الكتابة والنشر، لقد علمني كل أولئك الأصدقاء كيفية الكتابة.
إن خدعة الكتابة التي لم يتعلمها طلبتي حتى الآن وأنصح بها بصدق، كما أنها تسري على كل نواحي الحياة، هي أن تكتشف المكان الذي يختبئ فيه قلب الشخص الآخر، ثم العمل على مساعدته للوصول إلى ذلك المكان.
•••
توصلنا بسرعة كافية إلى فكرة أن تعتمد الدرجات على أهمية الموضوع ومستوى كفاءته؛ لأنك تتعلم الكتابة بالممارسة، وهكذا تكون الدرجات طبقًا لعدد مرات الكتابة، ويمكن للطالب أن يأخذ درجة مقابل كل صفحة يكتبها ويتلقى عنها ملاحظة، ولأن إعادة الكتابة هي كتابة فإنه يأخذ درجة، ثم تتحول كل الدرجات مباشرة إلى مجموعة من النقاط، وإذا كتب شخص ما ورقة واحدة في كل الاثني عشر أسبوعًا التي يتكون منها الفصل الدراسي، وأعاد كتابة ثلثي الورق، فإنه يحصل على اثنتي عشرة درجة، بالإضافة إلى ثمان درجات، وذلك بعد أن أتفحص ما كتبه ذلك الشخص، على أن ينال إعجابي.
لقد تعجبت من كيفية مساعدتي للطلبة بمفردي على تعزيز قدراتهم، والتغلب على — أو تجنب — ضعفهم من خلال المسابقات داخل الفصل، ربما كان أحد الطلبة يمتلك إحساسًا مرهفًا بالأحداث وتسلسلها، لكنه يفتقر إلى فهم القواعد النحوية، مما يجعل القراء يتساءلون عما يريد أن يقوله بالضبط، وربما لم يستفد من الدروس عن الموضوع والأفعال والطريقة السليمة لاستخدام الفواصل، إن تلك الدروس غالبًا ما تكون مثيرة لضجر الطلبة إذا لم تتوافق مع عقولهم، وفي الغالب فإنك لا تجد طريقة لجعل محاضرة القواعد مثيرة للانتباه سوى ربطها بالحديث عن الجنس.
قلت لهم: هناك حل في الورقة التي أحببتموها بشكل خاص، تستطيعون وأنا معكم أن نعالجها سطرًا سطرًا، ثم نعمل على تجويدها والعمل على أن تصبح قطعة جميلة وبراقة، سوف نتداول بشأنها أكثر من مرة ونعاود كتابتها إلى أن تعجبنا في النهاية، حتى لو كان التشديد على بعض الكلمات أو المقاطع من أجل محاولة الانتهاء من الورقة، قمت بحثِّهم على تعقب ذلك، وقلت لهم إنه من خلال تلك العملية يستطيعون فعلا تعلم الكتابة، وكان الأكثر أهمية أنني قلت لهم أيضًا إن الأمر سيكون مجرد لهو.
كنت أعني أنني سأنفق كثيرًا من الوقت في التداول، ولكن لا بأس، إن التشجيع وإلقاء دروس عن الكتابة بشكل خاص يساعد الطلبة في الحديث عن أشياء أخرى مهمة كالحب مثلًا.