الحب
إن المدارس الحديثة والجامعات تدفع الطلبة إلى تعلم العادات التي تسلب الشخصية، وتدفعهم للشعور بالاغتراب عن الطبيعة والحياة الجنسية، وتساهم في تعلمهم طاعة التسلسل الهرمي والخوف من السلطة، كما تدفعهم أيضًا إلى التشيُّؤ الذاتي وفقدان التنافسية، تلك الصفات الشخصية هي روح وجوهر العالم الصناعي الحديث، وهي بالتحديد الصفات الشخصية اللازمة للحفاظ على النظام الاجتماعي الذي هو بدوره خارج تمامًا عن الاتصال بالطبيعة ولا يبالي بالحياة الجنسية والاحتياجات البشرية الحقيقية، إنها مميزات الشخصية التي يحاولون طمسها؛ خوفًا من المطالبة بإصلاح النظام الاجتماعي الذي لا يتماشى مع الطبيعة ولا مع الاحتياج الجنسي وعموم الاحتياجات الإنسانية.
***
قلت لهم: فلتغلقوا أعينكم، إنها تحدِّق فيَّ.
أغلقوها، إنها فعلًا تحدِّق فيَّ.
تخيل أنك ذاهب إلى مؤتمر في الربيع القادم بالقرب من أتلانتا، حيث ستكون أزهار الخوخ قد تفتحت للتو وتستطيع أن تشمها في كل مكان، وأن موضوعات المؤتمر ستكون أقرب إلى قلبك، فإذا كنت تحب العلاج الطبيعي مثلًا فسيناقش المؤتمر العلاج الطبيعي، وإذا كنت من محبي لعبة البيسبول فسيكون هو الموضوع المطروح للمناقشة، وإذا كنت مسيحيًّا فإن مجموع الحاضرين سيكون من المسيحيين. أما بالنسبة لي فإنني أرى أن الموضوع برمته سيكون مجرد تجمع لحفنة من الناس يريدون إسقاط الحضارة الصناعية.
تصل إلى هناك يوم الجمعة حيث تقام المحاضرة الأولى مساءً، وتجلس بالقرب من الجهة الخلفية فوق مقعد يتيح لك رؤية جيدة، أنت شخص تعشق المناقشات وتهتم لتبادل الأحاديث، ويوجد مقعد شاغر إلى جوارك، وحين تنظر بزاوية عينك تلمح امرأة تقترب منك وتتساءل عن المقعد الشاغر إلى جوارك قائلة: هل يجلس أحد هنا؟
تبدأ في محاولة الوقوف لإتاحة الفرصة لها للمرور، لكن نظرة واحدة لذلك الوجه وإلى ركبتيك الملتويتين فوق بعضهما تجعلك تتردد، لكنك تحاول مرة أخرى حتى تستطيع أخيرًا أن تقف، فتسأل السيدة مرة ثانية: هل يجلس أحد هنا؟
تقول متلعثمًا: آمل أن يكون المقعد خاليًا.
لا تستطيع أن تصدق ما قلته لها، لكن ذلك ما حدث.
جلستَ ورحتَ تتبادل معها حديثًا وديًّا ولطيفًا قبل بدء المحاضرة، ولقد تأثرتَ بمعرفتها وحسن دعابتها وروحها المرحة وذكائها المدهش، كما أنها لفتت انتباهك بمفردات كلماتها البسيطة غير المتحذلقة رغم كونها مفردات قوية وحاسمة.
بدأت المحاضرة لكنك — لسبب ما — لم تستطع المتابعة أو التركيز، وبدلًا من التركيز على تحركات جارتك وانتقال جسدها كنت تعاني قلقًا وتوترًا بدا في فرك كف يدك اليسرى بكف يدك اليمنى، كما بدا أن قلبك قد توقف.
توقفت وأخذت نفسًا عميقًا، وكانت عيون الطلبة ما تزال مغلقة، لكن معظمهم كانوا يضحكون.
تجد نفسك مضطرًّا للتفكير في أشياء بعينها بعد تبادل بعض الأحاديث، وفجأة تجد لزامًا عليك أن تسألها قائلًا: ماذا ستفعلين في خلال الساعة القادمة؟
تجيب قائلة: سأكون في انتظار مكالمتك التليفونية.
تتصلان تليفونيًّا، تسيران معًا في الشوارع، تتحدثان حتى الثالثة صباحًا ثم يذهب كلٌّ منكما لينام في حجرته وحيدًا، وفي اليوم التالي تذهبان للمحاضرات معًا دون أن يهتم أحدكما بما يقال. تتحدثان مرة أخرى وتواصلان تبادل الأحاديث للمرة الثانية حتى الثالثة صباحًا، ثم يتوجه كلٌّ منكما للنوم في حجرته بعيدًا عن الآخر، وفي يوم الأحد لا تزعج نفسك بالذَّهاب إلى المحاضرة، وتخرج بدلًا من ذلك إلى ميدان القتال عند جبل «كينيسو»، وتمشي عبر الميدان الذي تَقاتل فيه الرجال وماتوا منذ مائة وأربعين عامًا، بينما أنت تتحدث عن الجمال، وفي وقت متأخر من اليوم، وعندما تكبر الشمس قريبًا من الأفق تقول لك: أعرف أنك يجب أن تعود إلى «سبوكن» غدًا، لكنني أرغب في قضاء الليلة معك لأننا مارسنا الحب معًا بالكلام طوال اليومين الماضيين، وأتمنى أن نشارك بجسدينا في الحديث.
أتوقف مرة أخرى، ثم أواصل الحديث الموجه إلى طلبتي مستطردًا: والآن ماذا تفعلون، وكيف ستكون ردة فعلكم؟ هذا هو السؤال الذي أريد أن أطرحه عليكم.
فتحوا عيونهم الناعسة وبدءوا في الكلام وامتلأت عيونهم بالحياة، ثم انقسموا إلى نصفين، نصف يؤيد الذهاب للبيت لممارسة الحب، والنصف الآخر يعترض على الفكرة، والنسبة نفسها كانت للإناث، لكن واحدة منهن قالت: لو كنت أنا مكانها لما انتظرت حتى الليلة الثالثة، لماذا أتسبب في ضياع الليلة الأولى والثانية؟!
قال آخر: ولماذا يفسد العلاقة بعرض فكرة الجنس؟
أجاب ثالث: كيف يكون الجنس سببًا في إفساد العلاقة؟
قال رجل: أنا من اليابان، وبالطبع سأقول نعم.
ضحكنا جميعًا دون أن نعرف ما يعنيه، وحين حاول أن يفسر كلامه لم تسعفه لغته الإنجليزية، كما أن عدم معرفتنا باللغة اليابانية لم يساعدنا في الفهم.
قالت امرأة من الحاضرات: ليس بدون تقديم خاتم.
اختلف بعض الرجال والنساء معها بينما اتفق معها آخرون، شعرت بالابتهاج من قلة الازدواجية، ولم يكن مطروحًا على الإطلاق اتهام الرجال بالضعف إذا هم قالوا: لا، أو اتهام النساء بالبغاء إذا قلن: نعم.
لكن ثلاثة من الحاضرين بدا أنهم غير مرتاحين للمناقشة، وكانت أحدهم امرأة مسيحية متعصبة سارعت بكتابة ملاحظة لاذعة تخبرني فيها بأن أشياء بعينها لا ينبغي الحديث عنها في الفصل، فكتبت لها أيضًا مؤكدًا لها موافقتي لما قالت، وأكدت لها على عدم الحديث عن القواعد النحوية أو أي شيء قد يجلب الملل. أما الاثنان الآخران؛ وهما رجل في العشرينيات من عمره وامرأة، فقد كانا أكثر إثارة بالنسبة لي، كانا قد تعرفا على بعضهما البعض منذ حوالي شهر، وكان بقية المتواجدين بالحجرة يتحدثون بحرية كاملة، غير أن أيًّا منهم كان قبل أن يتحدث يتحسس كلماته من أجل تأثيرها المحتمل على الآخرين، وأستطيع القول: إنه على وجه الخصوص يريد أن يعرب عن رغبته في ممارسة الحب معها في الخيال، لكنه يخاف أن ينتهي به الأمر إلى النوم بمفرده في الواقع. نهضوا جميعًا معبرين عن عدم ارتياحهم، واقترح شخص ما بأنه سيخرج من الفصل حتى لو كان أحدهم يتحدث عما يشعر به، وفي النهاية أشرقت عيناه وهو يهم بالخروج.
قال بصوت مزعوم، ولكن بشكل مباشر موجهًا كلامه للفصل، غير أننا جميعًا كنا نعرف أنه يقصدها هي بالكلام: أعرف الوقت الذي بدأنا فيه هذه العلاقة، ولقد مضينا في العلاقة ببطء، وذلك لأننا لم نشأ أن نقضي على الأشياء الجميلة، أعتقد رغم ذلك بأننا لو لم نلتق في مؤتمر كهذا لكنت نلت منك منذ الليلة الأولى.
نظر إليها، لكن وجهها لم يوح بأي شيء، فراح يستطرد قائلًا: ذلك لا يعني القول بأنني كنت سأسعى للنيل من أي واحدة أخرى بطريقة أسرع، لكن الأمر مختلف معك.
ابتسمَتْ، واستطاع هو عندئذٍ أن يتنفس من جديد.
سألني شخص ما: ماذا كنت أنت ستفعل؟
أجبت: في العشرينيات من عمري كان الخوف سيتملكني، وربما كنت سأقول لا، بسبب ذلك الخوف، أما الآن فإنني أتمنى أن أقول نعم، وفي الحقيقة كنت سأتمنى أن أعبر عن مشاعر اللحظة الحقيقية.
ومهما كانت الإجابة بالرفض أو القبول فإنني دائمًا أسأل عن السبب، إنني أسألهم عن ماهية العلاقة، وإذا كانت أي من تلك العلاقات تجمع بين الفكر والتقارب العاطفي، وبين الفكر والألفة الجسدية، كان من الواضح أنني لم أكن أهتم بما سوف تكون عليه إجاباتهم، وإنما بالطريقة والكيفية التي توصلوا بها إلى تلك الإجابات، فقلت لهم أخيرًا: دعونا الآن نبدأ في تغيير شروط السؤال، كيف ستتصرفون إذا كانت العلاقة على وشك الانتهاء ولم يحالفها النجاح عند اللقاء الأول، هل كان ذلك سيغير من تصرفاتكم؟
قالت امرأة: كنت سأقول للشخص الذي معي أنني أحب فعلًا قضاء الليلة معه، لكنني مضطرة لعمل مكالمة تليفونية أولًا.
من الواضح أن أولئك الذين قالوا لا لم يغيروا رأيهم، وكذلك أولئك الذين قالوا نعم ظلوا عند رأيهم.
قلت: حسنًا، ماذا لو أن العلاقة في البيت كانت جيدة وممتعة؟ كيف ستفكرون عندئذٍ وكيف ستسير الأشياء؟
قال شخص ما: إنه لا يمكن لإجازة نهاية الأسبوع أن تكوِّن علاقة، لا شيء يحدث بمثل هذه السرعة.
أخبرته عن ابن عم والدتي الذي كان في مستشفى الجيش أثناء الحرب العالمية الثانية بعد إصابته بطلق ناري في ركبته أثناء محاولته الهرب من بين مجموعة من الجند كانت في طريقها للهجوم على إحدى الجزر بالمحيط الهادي، كان داخل حجرة الطعام ذات يوم ودخلت عليه إحدى الممرضات، ثم ألقت عليه نظرة خاطفة، ووقفت إلى جواره وقالت: ذلك هو الرجل الذي سأتزوجه.
إنهما يعيشان معًا الآن ومنذ حوالي ستين عامًا.
سأل طالب آخر: لماذا لا نستطيع أن نسمح بنهاية هذا الأسبوع الجميل أن يكون جميلًا؟ من الذي يقول إن تلك ليست علاقة وإنما مجرد شيء صالح ومهم، مثلما يحدث منذ سنوات؟ لماذا لا يسعد الناس باللحظة؟
أخبرتهم عن مسلسل كوميدي كنت قد شاهدته ذات يوم، وكان المسلسل يتحدث عن امرأتين متشابهتين وجالستين فوق السرير بوجهين متجهمين، قالت المرأة الجالسة إلى اليسار إنها كانت تفكر ذات ليلة بأنها تنعم بعلاقة ممتدة، بينما قالت المرأة الأخرى إنها تفكر في علاقة ممتدة لليلة واحدة فقط.
قالت امرأة: إن الخدعة تتمثل في اكتشاف أيهما قبل حدوث الندم.
كان الطلبة يستمعون بشغف، وبدا أنهم سعداء، وراحوا جميعًا يتحدثون، فبادرت بتغيير الشروط أكثر من مرة وقلت: ماذا لو شاركتم في أحاديث شيقة ولكن مع شخص ليس جذابًا وليس فيه ما يثير؟ هل سيؤثر ذلك في الأمر؟ أو ماذا لو كان الشخص جميلًا وفاتنًا في الشكل لكنك سرعان ما تكتشف بأنك لا تجد شيئًا تقوله؟
أضفت قائلًا: لو أنك اكتشفت مثلًا بأن ذلك الشخص شبيه بالثلاثي المرح؟
أجاب أحدهم: هاي، أنا أحب الثلاثي المرح.
قلت بحسم: حسنًا، لا تسألني عندئذٍ أن أقوم بمضاجعتك، وهل ستتصرفون بطريقة مختلفة لو أنكم تعلمون بأنكم ستعيشون لفترة محدودة؟
انتهى الدرس وجاء وقت الرحيل، غير أن أحدًا لم يشأ أن يغادر فيما عدا تلك المتعصبة التي كانت تنظر في ذهول، لَمْلَمَت أشياءها ثم خرجت، لكننا جميعًا بقينا لمدة أطول قبل أن نخرج.
طوال الأيام القليلة التالية تلقيت العديد من المكالمات التليفونية التي تسأل عن إمكانية الانضمام للفصل.
عاد طلبتي إلى مساكنهم وراحوا يتحدثون مع زملائهم في الحجرة عن تلك الأسئلة، وراح زملاؤهم يتحدثون بدورهم مع آخرين من أصدقائهم في السكن نفسه وظلوا جميعًا يتبادلون الحديث حتى وقت متأخر من الليل في جو مليء بالإثارة.
في الحصة التالية سألني الشخص نفسه الذي تناقش معي عن فكرة الإصابة بمرض خطير، عن الرد، وفي هذه المرة هززت كتفي وابتسمت، لم أخبرهم، لكن ثمرة النقاش لم تكن أبدًا عن الجنس، ولا حتى من بعيد، كانت أهمية النقاش تتمحور حول تعلم كيفية التفكير وكيفية الاختلاف، وأهمية أن يتخذ المرء موقفًا بعينه، ولكن حتى كل ذلك لم يكن هو الهدف، كان الهدف هو مساعدتهم على أن يتذكروا بعد سنوات كثيرة من التجارب الصغيرة في المدرسة أن عملية التفكير ممكنة إلى جانب أنها ممتعة.
•••
في يوم آخر كنا نقيم احتفالًا في السجن، وكان واحدًا من الأيام الممتعة التي لم أعش مثلها منذ وقت طويل، كان احتفالًا بالكتابة وسبل نشرها، وكان من بين الحضور طالبان جديدان، أما بقية الطلبة فكان بعضهم مشاركًا في الفصل منذ ستة أشهر والبعض الآخر قد شارف على الانتهاء من عامه الثالث، وكانت مراقبتهم وهم يتعلمون كيفية نشر أعمالهم مثيرة للفرح، كنا نعمل ونناقش قصتين قديمتين، وكانت كلتا القصتين تتسمان بالبراعة والحبكة والإتقان، ومكتوبتان بقدرة فائقة، كانت القصة الأولى تتحدث عن رجل مهووس بالنزوات، مما كلفه ذلك فقدان زوجته التي قتلت نفسها، وابنته التي تم قتلها، كما فقد حريته وانتهى به المطاف إلى دخول السجن. أما القصة الأخرى فكانت عن فتاة صغيرة غير سعيدة؛ بسبب شجار والديها الدائم، والتي تذهب إلى مكانها المفضل عند شاطئ مهجور فيغلبها النعاس في كل مرة، ثم ترى بعد استيقاظها فتى كالضفدع، أو فتى قد تحول إلى ضفدع، فيصبحان صديقين، لكن العلماء الذين حولوه إلى ضفدع عن طريق إعطائه جرعة من الدواء قاموا أيضًا بتحويلها هي إلى يعسوب، ولا أستطيع أن أخبرك بما حدث بعد ذلك لأن صاحب القصة لم ينته منها بعد، لكنني أعرف عن يقين بأن تلك الأحداث هي التي أعادت الوفاق إلى والديها.
صورنا عددًا من النسخ لتلك الصفحات استعدادًا لنشرها، وقدمنا نسخة لكل الحاضرين، ثم استمعنا لها لمدة دقائق قليلة، وقام كل منا بالتعليق موجهًا كلامه إلى الكاتبين، وبعد ذلك جاء وقت التعمق في دراسة القصتين، فرحت أقرأ بصوت عالٍ وببطء، وكنت حريصًا على التوقف بعد الانتهاء من كل جملة لمعرفة مدى اهتمامهم، حتى وصلنا إلى مشهد الرجل وهو يمارس نزواته، فقلت لمؤلف القصة: أنت بارع في الوصف، لكنني لم أشعر بالقصة بعد، لقد أحببت إظهارك المبكر للحب بينه وبين زوجته، فهل تستطيع مساعدتي في إدراك كيفية فقدانه لعائلته بسبب تلك النزوات؟
قال لي: ينبغي أن أخبرك أنني عندما شرعت في الكتابة تراجعت قليلًا لأنني لم أشأ أن أصيب القارئ بانتكاسة ما.
قلت: ذلك هو الموت، أنت لا تستطيع أن تفكر بشأن القراء أو المشاهدين بهذه الطريقة وتتوقع أن تكون الكتابة طيبة ومبهجة فقط.
إن السؤال الأهم الذي لا يفارقني مع كل جملة أكتبها هو: هل هذه الجملة حقيقية، وهل تتسم بالواقعية، وهل يمكن تصديقها؟ ذلك هو الشيء الوحيد الذي يهم، وهذا السؤال هو الذي يعنيني، وهو الشيء الوحيد أيضًا الذي يجب أن يستولي على تفكيري.
قال طالب آخر: كنت أريد مزيدًا من التفاصيل، فقد رغبت مثلًا في معرفة شكل الحجرة التي كان سينطلق منها.
وقال آخر: هل تتذكر ذلك المشهد في قصة «المرض» (هي واحدة من القصص التي كتبها طلبتي) التي تحكي عن مدمن سابق حين شاهد ابنه وهو يشرع في تناول الحبوب بملعقة متقوسة، فاضطر الأب لبعثرة محتويات الملعقة لأنه لم يشأ لولده أن يكون مدمنًا؟ هل تستطيع تناول بعض التفاصيل كما حدث في تلك القصة؟
قلت: أنت تصف إحساسه بالنشوة الجنسية لحظة الجماع، فهل ذلك حقًّا هو الشعور الذي ينتاب المرء في حينها؟ وهل تشعر بكل ذلك في أعضائك التناسلية؟
قال الكاتب: يا إلهى، يحدث دائمًا ذلك الإحساس في لحظة القذف.
سألت قائلًا: حقًّا؟
استطرد: أحيانًا أجدني مضطرًّا للتوجه إلى الحمام لإفراغ ما في معدتي وينتابني شعور بالقرف.
وهل ذلك شيء جيد؟
قال أحد الطلبة: لقد سمعت عن البعض ممن يحدث لهم الشيء نفسه.
قلت: مهلًا، أخبرنا عن الذي يحدث.
أخبرنا بقليل من التفاصيل كيف أن العملية برمتها بكل تفاصيلها قد كلفته نقود العائلة التي كان ينبغي أن يشتري بها البقالة، كما أن شخصًا ما قد أخبره بأنه أنفق النقود الخاصة بشراء حذاء جديد لطفله.
قلت وكررت القول: تلك تفاصيل عظيمة ومهمة التي أخبرتنا بها للتو، لكنها ليست موجودة بالقصة فأرجوك أن تكتبها.
قرأنا القصة من جديد بعد إضافة التفاصيل، فضم أحد الطلبة ذراعيه، وهو الشخص السابق المدمن نفسه على المخدرات، وقال: لقد شعرت بالقشعريرة تسري في جسدي.
قلت: ذلك ما تريده، إذا أردت الكتابة عن المخدرات فعليك أن تجعل القارئ مدمنًا لذلك المشهد، وأن تجعلنا نفهم السبب الذي من أجله هجر عائلته، وأن تجعلنا نفكر في التخلي عن عائلاتنا، إنه الشيء نفسه مع أي شيء آخر، فإذا كنت تصف فتاة صغيرة تتحول إلى يعسوب فينبغي أن يرغب القراء في التحول إلى يعسوب، يجب أن يتوحد القارئ مع ما يقرأ.
تبادلنا مزيدًا من الأسئلة: هل يدعو راكبو الدراجات دراجاتهم بالجياد؟ هل يدوي جوادك كصوت الرعد عندما تبدأ في الانطلاق؟ أم أنه يبدو كالزورق؟ أم أنه يكون شيئًا آخر؟ وإذا كان الشخصية المحورية يحب زوجته ويشعر في الوقت نفسه باستلطاف وقبول نحو صديقته، فماذا تشبه صديقته تلك وماذا ترتدي؟
انتقلنا بعد ذلك إلى القصة الثانية، فقرأتها ببطء، وسمعت سؤالًا يتردد عبر أرجاء الفصل: بماذا تشعر عندما تبدأ الأجنحة في النمو؟
اقترح أحدهم قائلًا: أعتقد أنه قام بتقسيم السؤال إلى جملتين.
أجاب آخر بإصرار: لا.
كان اثنان من الطلبة في تلك الأثناء يحاولان اكتشاف ومعرفة ما فعلته سارة بأجنحتها الجديدة، بينما كان شخص آخر يتساءل عن الذي شاهدته أثناء التحول من شخص فرد إلى عيون مركبة.
قال أحد الحاضرين متسائلًا: هل ستصبح قادرة على الكلام؟
وتساءل آخر: ماذا سوف تأكل؟
راحوا يتحدثون في وقت واحد، ورحت بدوري أحدق في الطلبة الجدد، فاستطعت أن أبصر نظرات من الاضطراب فوق وجوههم مع اهتمام شديد لما يسمعون، أدركت فجأة ما يشعرون به تجاه الفصل فانفجرت ضاحكًا وعرفت أننا في حضور احتفال بالكتابة الإبداعية، ولم أكن متأكدًا من أي شيء يمكن أن يكون أكثر متعة وإثارة من ذلك.
•••
قلت للطلبة في جامعة واشنطن الشرقية: إن أول قاعدة للنشر هي ألا يكون مسموحًا للناشر أن يتدخل في العمل، ويستطيع الكاتب عندئذٍ أن يعبر عن استيائه كما يشاء، ولكن إذا قدم الناشر اقتراحًا ما لم يعجب الكاتب فتلك ليست مشكلة كبيرة، أتذكر ذات مرة منذ زمن بعيد أنني كنت على علاقة بامرأة، وقد اشتركنا في كتابة عمل ما، وحين قدَّمَت يومها اقتراحين لم أجد أهمية لهما قلت لها: لماذا؟
تنهدت بقوة وقالت: لماذا سألتني إبداء النصيحة والإفصاح عن رأيي ما دمت لم توافق؟
كنت أعرف حينها أننا نمضي ليلة فاتنة.
يمكنني القول بطريقة أخرى: إن الكاتب دائمًا هو الرئيس الأوحد لأي عمل، ولا ينبغي لأحد أيًّا كان أن يتدخل، وعلى الناشر طوال الوقت أن يكون يقظًا تمامًا لأفضل اهتمامات الكاتب، أما إذا لم يستطع الالتزام بذلك، حتى لو كان صديقًا، فعليه أن يصمت.
إن مهمة الناشر الوحيدة هي مساعدة الكاتب على كتابة ما يريد كتابته بشكل جيد، وبأفضل طريقة ممكنة، وليس من وظيفة الناشر أن يملي على الكاتب ما يريد هو كتابته، وذلك ما جعلني أرفض عقدين مع ناشرين مختلفين لأنهما أرادا فرض أفكارهما.
عندما أعمل مع شخص ما في أي عمل، يكون لدي إحساس قوي بأن ذلك الشخص يريد مساعدتي، وأن ما يقوله هو الشيء نفسه الذي أحتاج لقوله، وإذا ما حدث ذلك فإنني أصبح قابلًا لسماع أي نصيحة رغم أنني دائمًا لا أعمل بها، لكنني لا أغضب من سماعها. إن كل شيء قلته عن الناشرين ينطبق تمامًا على المدرسين، وهذا يعني — وقد تكون غير معتاد على سماع ذلك وبخاصة في المدرسة — أنك أنت الرئيس الأوحد.
نحن نعرف أن التسلسل الهرمي برمته في المدرسة هو عكس ما يجب أن يكون عليه، فأنت لست موجودًا هنا من أجلي، كما أنني لست موجودًا بالفصل للإشراف والمراقبة، والمشرف موجود لمساعدتي، والقائمون بالأعمال الإدارية لمساعدة المشرف، كل شيء مرسوم، وأنت السبب في وجودنا كلنا هنا، وإذن فماذا تريد أن تفعل؟
•••
أخبرني رئيسي في جامعة واشنطن الشرقية أن سياسة الحضور الرسمية في فصلي الدراسي يجب أن تنطوي على طرد أي طالب يتغيب أكثر من مرتين دون التنبيه عليه من أستاذه، بدا ذلك الأمر جنونيًّا بالنسبة لي، وفيما بعد — كما ذكرت سابقًا — بدا أن هناك حاجة لعقاب أولئك الذين يتغيبون بدون أسباب قوية، ولكن لمجرد أنهم مستهترون ولا يقدرون المسئولية.
جاء الحل من إحدى الطالبات حين أحضرت معها بعد غيابها ليوم واحد مذكرة طويلة موثقة ويصعب قراءتها، من الطبيب الذي يعالجها، وصادف أن اسمه «فرانكشتين»، وكان يصف فيها كيف أنها كانت في احتياج لعمل بعض التحاليل، وقال لي بأنني إذا حدث وذهبت إلى قسم البيولوجي، وحدث أن نظرت إلى مجموعة من العقول الإنسانية التي تصادف وجودها في ذلك الوقت، وحدث أن لاحظت أن أحد تلك العقول غير موجود فلا ينبغي أن يصيبني القلق لعدم وجوده، إن العقل موضوع في مكانه للقيام بوظيفة مهمة وجيدة.
كانت واحدة من الطرق الوحيدة التي ألزمت نفسي بها في المدرسة هي ألا أقرأ أبدًا أيًّا من النصوص المقررة، وكنت أفضل، ولا أزال، أسلوب الحوار والمناقشات بين الطلبة، وعكس ذلك كان يصيبني بالملل والضجر، وكان إنجازي الذي أفتخر به أن مدرس اللغة الإنجليزية في المدارس العليا قد عمل بأسلوبي نفسه، وقام بتطبيقه على ثلاثين من التراجيديات التي لم أقرأ سوى ثلاث منها فقط، ويجب القول إن سنوات عديدة قد مضت على العمل بتلك الطريقة. كان لي صديق أيضًا كتب تقارير كتابية بطريقة روتينية عن كتب لم تكن موجودة، وكان صديق آخر كثير الاطلاع مثلي ومثل بقية أصدقائي ممن كانت أوراقهم التاريخية تتكون في الغالب من أوصاف كاملة التفاصيل عن معارك مغمورة لم تأخذ نصيبها من التأريخ.
إنني أريد بالطبع تشجيع ذلك النوع.
توصلت مع طلبتي إلى أن أي وقت يتغيب فيه أي طالب يتم خصم درجة من درجاته.
•••
كان الأسبوع الرابع من الفصل الدراسي، وفي الأسبوع الماضي عندما كتبَتْ إحدى الطالبات قصة فرانكشتين أضافت إليها ورقة عبرت فيها عن اشمئزازها وشعورها بالقرف عندما شاهدت امرأتين تتبادلان القبل، تأثرت أنا من سرعة يأسها من الاشمئزاز فكتبت لها في الورقة الخاصة بها متسائلًا عن السبب وراء ما استبد بها من شعور بالضيق والقرف، ثم سألتني بدورها، ولكن داخل الفصل، قائلة: ألا تعتقد أن ممارسة الجنس بين امرأتين شيء مثير للاشمئزاز والقرف؟
قلت بمنتهى الأمانة: إنني في الغالب لم أفكر يومًا فيما يخص حياة الناس الجنسية، أنا لست متأكدًا من أنني أريد على وجه الخصوص أن أعرف شيئًا عن تفاصيل تلك الأنواع من الشذوذ الجنسي والتعلق بالجنس الآخر، وأولئك الذين يمارسون الحب معًا وهم من الجنس نفسه، ولكنني عندما أفكر جديًّا في الحياة الجنسية لشخص ما فإن استجابتي تتأثر في العموم بحقيقة أن الكثير مما أسمعه عن تلك الحياة وإدراكي لتعقيدات مختلف الناس في محاولاتهم البحث عن المتعة والتواصل من خلال مجتمع متصدع وخوف متصاعد، فإنني أكتشف ضرورة أن أحتكم للمحاولات غير الضارة وغير العنيفة نحو الآخر دون النظر لرغبتي في المشاركة بنفسي في ذلك التصرف أم لا.
قالت: ولكن ماذا لو أخبرت والديك بأنك شاذ؟ ما الذي سيفكران فيه عندئذٍ؟
قلت، وقد أدركت فجأة أهمية السؤال بالنسبة لها: أنا لست على اتصال بوالدي ولا أعرف شيئًا عنهما، ولكن بعيدًا عن حب الاستطلاع فقد سألت أمي ذات مرة السؤال نفسه فأعربت في البداية عن عدم اهتمامها بالموضوع، وقالت بأنه لا ينبغي لها أن تهتم بمثل تلك الأمور التي — من وجهة نظرها — هي أمور عادية يجب ألا نحملها أكثر مما تحتمل، وأضافت بأنها لو كانت كذلك فإن الأمر برمته لا يؤثر فيها ولا يعنيها، وإذا ما حدث وترك أثرًا ما فإنني سأظل الشخص نفسه الذي كنته قبل أن أخبرها بخمس دقائق، ثم استطردَتْ وقالت بأنها أحبتني من قبل فكيف لمثل تلك الأمور أن تقلل من حبها لي.
قالت بفم مفتوح عن آخره: هل قالت أمك ذلك؟
أجبت قائلًا: نعم.
وأضفت بيني وبين نفسي دون أن أقول لها: أعتقد بأنك تأملين ذات يوم أن يقول لك والداك الكلام نفسه.
•••
بعد ستة أشهر جاءت الطالبة نفسها إلى مكتبي، ورحنا نتحدث عن الدفعات الدراسية الجديدة، ثم قالت: أنا الآن في علاقة غرامية مع شخص ما.
تسلحت بالشجاعة الكافية وقلت متسائلًا وأنا أبتسم: ما اسمها؟
أجابت قائلة: إنها امرأة.
قلت: هل تشعران بالسعادة معًا؟
قالت: نعم، أوه، نعم.
قلت: وأنا كذلك.