الاختيارات
يحب الطلبة نظام الدرجات لأنهم دائمًا يعرفون المكان الذي يقفون عنده، شيء ما لم أستطع أن أحبه أبدًا، خاصة في الجامعة، وهو أنني غالبًا لم أكن أملك أدني فكرة عن الدرجات التي كنت أحصل عليها قبل أن يرسلوها لي بالبريد، وفي أكثر من مرة كنت أقضي نهايات أسبوع قلقة قبل ملء الدماغ بالاختبارات النهائية التي تمكنك من تحديد أي من تلك الاختبارات التي يمكنك الاهتمام بها ووضعها في الاعتبار، ثم الانتظار لمدة أسبوعين لمعرفة مصيري.
(يجب أن أعترف أن تلك الحلقات الدراسية كانت بمثابة ألعاب الماراثون.) جربنا جميعًا الاختبارات حيث كانت غالبية الأسئلة تأتي من المنهج، فما الداعي للدهشة إذن ما دمنا نعتمد نظام الدرجات؟
ذلك لا يعني أننا لا نضطرب من النظام لأننا غالبًا ما نشعر بالاضطراب، إن أحد التغيرات الأولية هو أنني قمت بتحديد عدد الأوراق التي يستطيع الطلبة تقديمها كل أسبوع، كانت نسبة الدرجة في منتصف الربع الأول ٧ تقريبًا، وفي الأسبوع التاسع من الأسابيع الاثني عشر كانت ۱٫۷، ثم ساد الهلع وراحوا يسلمونني كُومة ضخمة من الأوراق كل أسبوع كي يرفعوا درجاتهم بسرعة، لم تَرُقْني تلك الأوراق بالطبع، ليس فقط لأن الطلبة لم يستفيدوا من الكتابة، ولكن لعدم قدرتهم على تقديم أكثر من فكرتين أو ثلاث في الأسبوع، وما هو أكثر أهمية من كل شيء هو أن الكتابة كانت في معزل عن الحياة، كنت راغبًا في قراءة كتابات عن الحياة وعن عملية الاكتشاف، لكنهم كانوا يفعلون أي شيء للحصول فقط على الدرجات، فأخبرتهم بعدم تقديم أكثر من ثلاث ورقات في الأسبوع، وقوبل اقتراحي هذا بالرضا.
قررنا بعد ذلك أن يستقبل الطلبة درجاتهم عن أشكال التعبير المختلفة، حتى لو كانت الحصة عن الكتابة. صنع لنا الطباخ الكويتي بعض الوجبات التقليدية، وقدم لنا عرضًا مرئيًّا لمنزله، بينما أحضر شخص آخر جهاز الفيديو لنراه وهو يتسلق الصخور، في حين بادرت أخرى بالرقص أمامنا (كانت توجد فتاة نصف عارية بأحد الفصول التي أقوم فيها بالتدريس، لكنها لم تكن هي التي ترقص)، وعلاوة على ذلك أحضر شخص آخر شريطًا صوتيًّا مسجلًا وهو يعزف لحنًا منفردًا على البيانو، وكانت امرأة ما تعزف على الكمان، وقد أحضرت امرأة أخرى — بعد موافقة الفصل — طفليها البالغين عشرة واثني عشر عامًا، وجاء أحد الرجال بالفاكهة معه بعد أن قطفها من بستانه الخاص، وكذلك الخضراوات من حديقته، جاء كثير من الطلبة بالرسومات التي كنت أشجعهم على تقديمها بتعبيرات مختلفة.
أدركنا بسرعة أن الأمر يُعَد ضربًا من الجنون لو أننا فكرنا بأن التعليم برمته يأتي فقط من وضع القلم فوق الورقة، أو حتى من وضع العجينة في الفرن لعمل كعكة لذيذة كي تقدمها لزملائك، ماذا إذن عن الحياة نفسها؟ كيف تتعلم من الحياة؟ إن الطريقة الأمثل التي أعرفها هي عمل الأشياء التي لم أفعلها من قبل، وهكذا قررنا أن يقوم الطلبة في كل مرة بعمل شيء جديد ثم كتابة فقرة عن ذلك الشيء، ذلك هو النجاح الساحق والسريع. اتجه خبراء موسيقى الروك إلى الموسيقى الكلاسيكية واتجه الفرسان إلى مشاهدة الأفلام الأجنبية. شارك رجل الشرطة المحافظ في التصدي لمظاهرات الغضب وأمسكوا برجال العصيان المدني. أصابتني الدهشة من عدد أولئك البالغين سن العشرين والذين لم يتذوقوا الطعام الهندي. حاول أحد الطلبة أن يستدين لطلب شيء مختلف، بينما ظل أحد الزملاء أربعة أيام في انتظار ما سوف يحدث حتى تورمت عيناه قبل نهاية الأيام الأربعة، وبدأ يضحك على أشياء لم يستطع أن يدركها أحد سواه، وربما لم يسمع بها أحد من قبل. قليل من الناس من تواعدوا للمرة الأولى في حياتهم. كان لزامًا عليَّ وضع حد لخمس عشرة درجة لكل شخص بعد أن كتب شخص ما ورقة واحدة وتعرض لتسع وثلاثين تجربة جديدة خلال اثني عشر أسبوعًا أثارت إعجابي بإبداعاتها الرائعة.
كنت ما أزال أعاني من مشكلة فنية بسيطة، في التقليد قوة وشيوع وأداة من أدوات التعلم، حين كنت طفلًا، وأثناء مشاركتي في الدوري، كنت أضع قدمي بعد قدم «جوان ماريشال» وكان زملائي — لسوء الحظ — يضعون أقدامهم بعد قدم «بوب جيبسون»، وفيما بعد كنت أقفز قفزات عالية وأراقب قفزات الآخرين في الواقع وفي السينما، وذلك في محاولة مني لاكتساب المزيد من خبراتهم ووسائلهم الفنية، كنت أفعل الشيء نفسه في الحياة، وعندما كنت أرى شخصًا ما يتمتع بشخصية تشدني إليها، من حيث كرمها أو ضراوتها أو رقتها، كنت أحاول التحلي بتلك الصفات، ذلك شيء حقيقي في الفن بالطبع، فالرسامون يعرفون ذلك للأبد، وكذلك الموسيقيون، ألم يكن هو «ت. س. إليوت» الذي كتب: «الشعراء قليلو الخبرة والنضج هم الذين يقلدون، أما الناضجون منهم فهم الذين يسرقون.»
عندما كنت أعلم نفسي كيفية الكتابة كنت أكتب صفحات كاملة من بعض الكتب التي أحبها، وكنت أضغط على نفسي كي لا أتسرع، وأحاول تمرير الكلمات من خلال جسدي، ومن عيني إلى عقلي، مرورًا بالدم المتدفق داخلي، ومن خلال أحشائي وقلبي ورئتي، قبل أن يقع اختياري على الفقرة التي يجب أن أكتبها، ثم أنتقل مرة أخرى من خلال عيني وعقلي حتى تصل الفكرة من بصمات أصابعي وتنتقل إلى ذراعي، وهكذا تتجاوز الكلمات الورق وأشعر بها في كل جزء من أجزاء جسدي. تعلمت من ذلك كيف تكون البداية الجيدة والنهاية الجيدة ووصف الشخصيات وتصويرها بشكل جيد، تعلمت أيضًا كيف يحرك الكتَّاب الكبار شخصًا ما داخل الحجرة، وكيف يظهرون الألم ويعبرون عن الحب، وحتى الآن، وقبل أن أبدأ في كتابة قصة أو مقالة، فإنني غالبًا ما أجلس فوق الأرض وأحيط نفسي بخمسة عشر أو عشرين كتابًا وأواصل قراءة الخطوط العريضة لكل كتاب على حدة.
قليلة هي الكتب التي يمكن تجاهلها اليوم، عندما كان أخي «جيم» في الثالثة عشرة من عمره تعرض لكسر كبير في ذراعه عند الكوع، وكان الرد الطبيعي لتجنب الألم هو إبعاده عن الوعي، إنني أتذكر الأسماء التي كنت أطلقها في طفولتي على الحشائش والزهور الغامضة، وأتذكر الأماكن التي يمكن للضفادع الطينية أن تعيش فيها، وتلك الأوقات التي تستيقظ فيها الطيور في فصل الصيف. كما أنني لا أنسى رائحة الأشجار والمواسم وأتذكر جيدًا ما كان يبدو عليه الناس، وكيف كانوا يسيرون، وحتى الطريقة التي كانوا يشمون بها.
كنت في الثانية عشرة وعلى وشك بلوغ الثالثة عشرة عندما رأيت للمرة الأولى جثة رجل ميت، حدث في العام ١٩٦٠م منذ زمن بعيد، رغم أنني أحيانًا لا أرى أنه زمن بعيد، خاصة في الليالي التي أصحو فيها من أحلامي.
إن التطور الإنساني قد يتبعه أحد طريقين: طريق الحب أو طريق القوة، إن الحضارة تبدأ بالخضوع للعالم والقمع في المنزل، إنني أسمح لجوهر وبنية هذه السطور أن تنفذ إلى أعماقي وتتخلل كل أجزاء جسدي كي تنتقل مني إلى كتاباتي.
تمنيت أن يحدث الشيء نفسه لطلبتي، وبذلك تنحصر المشكلة في كيفية حثهم على القراءة، فحاولت في البداية أن أطلب منهم قراءة أربعين صفحة فقط في الأسبوع عن أي شيء يريدون قراءته، وأخبرتهم أنه من الأفضل أن يغيروا من نوعية ما يقرءون، كما يفعلون مع طعامهم ووسائل الترفيه التي يحبونها، لكنه لم يمض وقت طويل حتى بدا واضحًا أن غالبيتهم لم يقرأ شيئًا على الإطلاق، وبدوري لم أتوجه باللوم لهم.
•••
نملك جميعًا القدرة على الاختيار، في كل لحظة من كل يوم وحتى الآن فإنني أستطيع كتابة هذه الجملة، أو إنني أستطيع كتابة جملة مختلفة، إنني أستطيع إطفاء النور والتوجه للنوم، كما يمكنني ممارسة أحد الألعاب على الكمبيوتر، أو تدليل ومعانقة الكلاب والقطط، وأستطيع الاتصال بأحد الأصدقاء، أو ركوب سيارتي والتوجه إلى أقرب سد أو خزان، ويمكنني أن أهاجم أسماك السالمون بالمجرفة والمعول، كما يمكنني محاولة السباحة إلى سيبيريا رغم أن تلك المحاولة ستنتهي غالبًا بموتي.
إن كل مدرس يصنع اختياراته، كل لحظة من كل يوم، إنها تختار ما تقوم بتدريسه، كما تختار الطريقة التي تقوم فيها بالتدريس واختيار مادة التدريس نفسها، وذلك لأنها ببساطة تتبع نوع وظيفتها وتتبع التقاليد وما يمكن أن يطلبه منها رئيسها لكي تقوم بتنفيذه، غير أن ذلك لا يعني أنها لا تصنع اختياراتها. إن الاختيارات التي لا تأتي منك مباشرة يمكن اعتبارها — مع ذلك — اختيارات.
كل طالب يصنع اختياراته أيضًا في كل لحظة من كل يوم، إنه يختار ما يتعلمه، وكيف يتعلمه، وما إذا كان يريد التعلم أم لا، وذلك ببساطة لأنه يتبع نوعية المطلوب منه، ويتبع التقاليد، وما يمكن أن يطلبه منه أو يتوقعه والداه أو أستاذه أو أصدقاؤه، وذلك كله لا يعني أنه لا يصنع اختياراته.
إن كل موظف بيروقراطي يساهم في جعل القطارات تتوجه برفق نحو معسكرات الموت إنما هو يصنع اختياراته، وكل جندي أمريكي أو غير أمريكي يعمل على إسقاط القنابل فوق أهداف مدنية فإنما أيضًا يصنع اختياراته، وكل رجل يعمل بالسياسة أو الشئون العامة ويخبرهم بإلقاء تلك القنابل فإنه كذلك يصنع اختياراته، كما أن كل شخص يعمل في صناعة تلك القنابل ويصنع الألومنيوم أو الوقود للطائرات التي تحمل تلك القنابل يصنع أيضًا اختياراته كل ثانية.
اليوم فقط بعد كتابة هذه الفقرة تلقيت رسالة عبر البريد تخبرني بضرورة أن أراجع الضرائب عن العام السابق، ربما كنت مدينًا للضرائب وأنا لا أعرف، وهكذا فإنني الآن أملك الاختيار، أستطيع أن أدفع الضرائب وبذلك أسهم في دعم الجريمة وفي الاستغلال الاقتصادي للبشر ولغير البشر، وأستطيع ألا أدفع وأرى ما يمكن أن يحدث، وذلك ببساطة أيضًا لأن معاقبتنا على قيامنا باختيارات معينة لا يعني أننا لم نقم بتلك الاختيارات، في الحقيقة إن الطريقة المركزية التي تتوجه إليها ثقافتنا قدمًا هي صناعة الاختيارات التدميرية، والتي تبدو أنها أفضل اختيار في حينها.
كل شخص يافع وكل طفل يصنع اختياراته، وكل فرد يسبب الأذى لرفيقه إنما يصنع اختياراته، وتلك الطريقة التي يفهم بها الناس العالم، والتي قد تكون متأثرة بتعرضهم لعنف سابق، لا تغير من حقيقة أنهم يصنعون اختياراتهم، إن الوجود الكلي المنتشر لذلك الرعب المتمثل في نسبة اﻟ ٢٥٪ من النساء المغتصبات في ثقافتنا، و١٩٪ من اللواتي نجون من محاولات الاغتصاب، و٥٦٥٠٠٠ طفل أمريكي تم قتلهم أو إصابتهم بجروح وعاهات من قبل والديهم، أو من قبل الرهبان أو الأوصياء عليهم، كل ذلك يشير إلى أن كثيرًا من الناس يصنعون اختياراتهم، مما يعني أن شروط الإطار الاجتماعي تتسبب في إدراك كثير من الناس لاختياراتهم التي يرونها قابلة للتطبيق والعمل بها كأسلوب حياة، كما يرونها الأفضل وربما الأمثل.
الكل يصنع اختياراته، كل مهندس يقوم بتصميم السدود أو يساعد في حفر آبار البترول إنما هو يصنع اختياره، كل مهندس يعمل في مجال الوراثة هو أيضًا يصنع اختياره، وحين يقوم نظامنا الاقتصادي بتقديم الجوائز لتلك الاختيارات فإنه لا يقلل من قيمة تلك الاختيارات ولا يتبرأ من أولئك الذين قاموا بتلك الاختيارات.
إن كل شخص يبيع حياته بالعمل في وظيفة لا يحبها فإنه يفعل ذلك باختياره، ومهما كان النظام الاقتصادي هو الذي يجبره أحيانًا على القبول بتلك الوظيفة فذلك لا يعني عدم اختياره.
نحن نصنع اختياراتنا حسب رؤيتنا للعالم، فإذا ما رأيت العالم بطريقة خاصة فإن بمقدورك عندئذٍ أن ترى مبررًا لقبولك بالعمل في وظيفة لا تحبها، وإلا فلن تجد من يقوم بتلك الوظيفة، وبالمنطق نفسه تستطيع أن تنظر من خلال عدسات تساعدك في رؤية الأشياء بشكل معقول، كذلك توجد طرق عديدة لتقبل مساوئ الأطفال ومفاسد المغتصبين، وهناك كثير من الأسباب التي تجعل الناس يقبلون على اختياراتهم، من الممكن رؤية العالم الذي قبلت العيش فيه وهو يقذف بالقنابل فوق الناس من ارتفاع ۳۰۰۰۰ قدم، كما أنه بمقدورك إدراك القيمة التي يدفعها العالم ثمنًا لتلك القنابل، ومن السهل إدراك وسائل الخنق بالغاز وغيرها من الوسائل الإجرامية داخل معسكرات الاعتقال، من الممكن أن تدرك أنت والآخرون الكيفية التي يبررون بها لأنفسهم تدمير الكوكب من أجل جمع المال والحصول على مزيد من النفوذ والقوة، ومن أجل تقوية النظام الاقتصادي، لا شيء من ذلك كله يمكننا اعتباره اختيارًا حكيمًا، وإنما يمكن القول بأنه مجرد اختيار، إن ادعاءاتنا غير المبررة هي التي تحدد الإطارات التي نبني عليها اختياراتنا، وإذا رغبنا في صنع اختيارات مختلفة يجب علينا تحطيم تلك الإطارات التي تقيدنا والتي يفرضونها علينا، إذا كان لدينا اهتمام بحياتنا وحياة الكوكب الذي نعيش فيه فإنه يجب علينا أن نبدأ بضرورة وأهمية التفكير النقدي، ولنتعلم كيفية التفكير في أنفسنا.
•••
لحظات «فورتينو سامانو» قبل إعدامه عام ١٩١٦م، «فورتينو سامانو» ذلك القائد المتمرد أثناء الثورة المكسيكية، والذي قتلته القوات الفيدرالية عام ١٩١٦م، أصبح شخصًا شهيرًا لأنه وقف أمام قاتليه وتصدى لهم ثم أمرهم بإطلاق النار، كان يتمتع بهدوء شديد، حتى إنه كان يدخن السيجار بثقة وثبات، كان الرجل يقف في مواجهة الحائط واضعًا كلتا يديه في جيوبه ويضع قدمه اليمنى فوق حجر، بينما كانت ركبته اليمنى تنحني قليلًا، أما وجهه فلم يكن يدل على أي نوع من الخوف وإنما بعض التحدي، كانت شفتاه مشققتين وتكشفان عن أسنان مشدودة فوق السيجار.
عرضت صورة «فورتينو سامانو» على طلبتي وقرأت لهم العنوان، كان الأسبوع الرابع حين أصبحوا يكتبون قصصهم الخاصة بشكل أفضل، وكان الوقت مناسبًا لهم للبدء في محاولة رؤية العالم من منظور آخر وبطريقة مختلفة.
قلت لهم: أريدكم أن تكتبوا عن هذه الصورة من وجهة نظر شخص آخر، ولا يهمني من يكون ذلك الشخص، تستطيعون أن تتقمصوا شخصية «فورتينو سامانو»، ويمكنكم أن تصيروا طائرًا يحط فوق الحائط الواقع خلفه، ويمكنكم أن تكونوا أعضاء في الفرقة المكلفة بإطلاق النيران، وتستطيعون أن تكونوا المصور الذي التقط تلك الصورة، أو الكاميرا نفسها، أو أي شخص قروي يشاهد عملية تنفيذ الإعدام، قد تكونون كلبًا في الطريق، وذلك أيضًا لا يعنيني، أما ما يهمني فعلًا فهو كيفية أن تتحلوا بالأمانة والدقة في نقل ما تشاهدون، وعليكم أن تتقمصوا الشخصية التي تكتبون عنها، لا تكتبوا عن شخص ما وإنما اكتبوا كأنكم شخص ما. هل من أسئلة؟
عرضت عليهم الصورة مرة أخرى وأنا أتجول حاملًا إياها في أرجاء الفصل، وقرأت عليهم مرارًا عنوان الصورة، فراحوا يفكرون ثم بدءوا يحدِّقون، وأغلق البعض أعينهم، ثم وقف بعضهم بعد تشجيعي لهم ومضوا نحو الحائط، ووضع أحدهم قلمًا من الرَّصاص في فمه، بينما قام آخر بوضع قلم من الحبر، ووضع ثالث سيجارة في فمه، وحاولوا جميعًا أن يضعوا أنفسهم مكان «فورتينو سامانو» في محاولة منهم لمعرفة ما سوف تخبرهم به أجسادهم لينقلوه كتابة على الورق، وراح آخرون يقفون وكأنهم أعضاء في الفرقة المكلفة بإطلاق النار، في الوقت نفسه الذي كان البعض الآخر ما يزال جالسًا ومواصلًا التحديق، وعندئذٍ بدءوا في الكتابة.
واجه البعض وقتًا عصيبًا أثناء الكتابة، فراحوا يعبِّرون وكأنهم يلقون خُطبًا مستخدمين لغة لا تتناسب بما يكفي مع ظروف الحدث ولم يتركوا لأنفسهم فرصة الإحساس بما تشعر به الشخصية المحورية، وراحوا بدلًا من ذلك يصفون المشاعر والأحاسيس من مسافة بعيدة دون الدخول في أعماق الشخصية، ولم ينجحوا في الغوص في العالم المحيط بالحدث.
كتب البعض الآخر نوعًا من الكتابة جعلني أبكي على الملأ داخل الفصل. أما الشاب الإسباني فقد كتب بشكل جميل: «دعنا لا نبدد مزيدًا من الوقت فلدي قطار يجب أن ألحق به، إذا أخذني إلى الجنة فسوف أنعم برؤية عائلتي وأصدقائي، أما إذا وصل بي إلى المكان الآخر فسوف أجد كثيرًا من الأصدقاء أيضًا.»
كتبت امرأة ما أيضًا عن «فورتينو سامانو» ووصفته وهو يركز على يده الموضوعة في جيبه ويدعك إبهامه في سبابته، لم يستطع إصدار الأمر بإطلاق النار حتى تذكر أذن كلبه حين كان طفلًا، وذلك الطالب المكسيكي.
عرضت عليهم صورة أخرى لبعض المواطنين الروس وهم يفحصون حوالي ١٧٦٠٠٠ من جثث المواطنين الذين ذبحهم النازيون في مدينة «كيرش»، فكتبوا قصصًا جيدة أيضًا، وتقمص الكثير منهم شخصية امرأة وهي تتعرف على وجه ابنها، بينما عبر البعض الآخر بطريقة توحي وكأن الابن الميت يعيد الطمأنينة إلى أمه، وكتب آخر عن شعاع ضوء الشمس الرمادي وهو ينعكس فوق الطين بينما يملأ الدم البركة الصغيرة.
سأل أحد الطلبة قائلًا: هل لديك ما تقوله عن الموت؟
– لا أعتقد أن لدي ما أقوله عن الموت ولكن لماذا تسأل؟
توقفت لحظة ثم استطردت: لا، إنني أمزح.
فكرت برهة قليلة ثم قلت: إن الكتابة في الحقيقة تعبر عن لحظات التحول؛ الانتقال من الحياة إلى الموت؛ التغيرات التي تطرأ على العلاقات بين الناس، والتغيرات التي تحدث في طريقة الفهم، إن التحولات والتغيرات الكبيرة هي المادة التي تصنع كتابات عظيمة.
– وإذن فلماذا لم تعرض علينا شخصًا ما وهو يتخرج؟
– أولًا لأنني لا أعتقد أن ذلك يُعَد تحولًا كبيرًا كما أتصور، إن التحولات الكبيرة تجعل الكتابة أكثر يسرًا من التحولات الأقل دراماتيكية، ولكنْ هناك شيء آخر أيضًا وهو أنني أعتقد أن ثقافتنا مرتبطة بالموت الذي نتصرف وكأنه ليس جزءًا من حياتنا اليومية، إننا نخاف من الموت ونتنكر له ونتصور بأنه لن يحدث لنا، ثم نعيش حياتنا وكأن الموت يحدث فقط للآخرين ولأشخاص لا نعرفهم، ونحيا وكأن الغد قادم دائمًا، ونهيئ أنفسنا للتأقلم مع أشياء تافهة ومقززة لم نعتد عليها أبدًا من قبل، ونتجاهل حقيقة الموت الذي يمكن حدوثه في أي لحظة، في الوقت نفسه فإننا لا نقف كثيرًا أمام الموت ولا نقدم له الاحترام الذي يستحقه. فحين نفكر بما يحدث في الأفلام السينمائية نجد أن الناس يموتون ويُقتلون طوال الوقت، ونادرًا ما يضعون القيمة الشخصية في الاعتبار. وهنا أتذكر مشهدًا في أحد الأفلام التي يموت أو يستسلم فيها البطل بعد نضال مرير، عندما كان «ميل جيبسون» مع امرأة وطفل وتوقفوا أمام طريق القطار، حين كان بعض الأولاد السيئين يوبخونهم وهم واقفون وراءهم، وانتهى الأمر بأن حطم القطار الأولاد، ومن خلال المشهد كله ظللت أفكر قائلًا لنفسي: ذلك الطفل سيعاني من الكوابيس طيلة حياته وسيتعرض للعلاج النفسي لمدة سنوات غير قليلة، لا يهم المرأة ولا يهم عائلات الأطفال، ومن المؤكد أنه لا يهم شخصية «ميل جيبسون» الذي هو في الحقيقة يلعب دور البطل في كل أفلامه السينمائية.
قال الطالب: أتريد لنا أن نفكر في الموت بطرق مختلفة؟
قلت: أنا لا يهمني الطريقة التي تفكر فيها بالموت، وإنما أريد القول بأن الموت يحوم في كل مكان، ويتجول في كل الأركان، وأعتقد أنه شيء يستحق التفكير.